زبدة التّفاسير - ج ٥

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٥

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-07-8
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٥٩٦

وعن مجاهد : إنّ الّذي عنده علم من الكتاب كان رجلا من الإنس ، يعلم اسم الله الأعظم ، اسمه بلخيا.

وعن قتادة : اسمه أسطوم. وقيل : هو الخضر.

وقيل : إنّ الّذي عنده علم من الكتاب جبرئيل عليه‌السلام ، أذن الله له في طاعة سليمان ، وأن يأتيه بالعرش الّذي طلبه.

وقيل : ملك أيّده الله به. وقيل : سليمان نفسه. فيكون التعبير عنه بذلك للدلالة على شرف العلم.

وروى الثعلبي (١) بإسناده مرفوعا إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : إنّ الّذي أتى بعرش بلقيس كان عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام.

وأمّا الكتاب المعرّف في الآية ، فقيل : إنّه اللوح المحفوظ. وقيل : المراد به جنس كتب الله المنزلة على أنبيائه ، أو علم الوحي والشرائع ، وليس المراد به كتابا بعينه.

وعلى القول بأنّ قائل هذا القول سليمان يكون الخطاب في قوله : (أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ) للعفريت. كأنّه استبطأه فقال له ذلك. و «آتيك» في الموضعين صالح للفعليّة والاسميّة.

والطرف : تحريك الأجفان للنظر ، فوضع موضع النظر. ولمّا كان الناظر يوصف بإرسال الطرف ، وصف بردّ الطرف ، ووصف الطرف بالارتداد. والمعنى : أنّك ترسل طرفك إلى شيء ، فقبل أن تردّه أبصرت العرش بين يديك. وهذا غاية في الإسراع ومثل فيه.

وعن قتادة : معناه : قبل أن يصل إليك من كان منك على قدر مدّ البصر.

__________________

(١) لم يتيسّر لنا مراجعة تفسير الثعلبي. ولم ينقله الطبرسي عنه في المجمع ، مع أنه ينقل عنه كثيرا.

١٠١

وقيل : قبل أن يبلغ طرفك مداه وغايته ويرجع إليك.

قال سعيد بن جبير : قال لسليمان : انظر إلى السماء ، فما طرف حتّى جاء به فوضعه بين يديه. والمعنى : حتّى يعود إليك طرفك بعد مدّه إلى السماء.

وعن مجاهد : ارتداد الطرف إدامة النظر حتّى يرتدّ طرفه خاسئا. يعني : أنّ سليمان مدّ بصره إلى أقصاه وهو يديم النظر.

قال الكلبي : قد خرّ آصف ساجدا ، ودعا باسم الله الأعظم ، فغار عرشها تحت الأرض بمأرب ، ثمّ نبغ (١) عند مجلس سليمان بالشام بقدرة الله سبحانه.

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : «أنّ الأرض طويت له ، فخرج منها العرش بين يدي سليمان».

(فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ) حاصلا بين يديه (قالَ) تلقّيا للنعمة بالشكر على شاكلة أبناء جنسه ، من أنبياء الله والمخلصين من عباده ، الّذين يتلقّون النعمة القادمة بحسن الشكر ، كما يشيّعون النعمة المودعة بجميل الصبر.

(هذا) أي : هذا التمكّن من إحضار العرش في مدّة ارتداد الطرف من مسيرة شهرين (مِنْ فَضْلِ رَبِّي) تفضّل به عليّ ، وإحسانه لديّ ، لأنّ تيسير ذلك وتسخيره ـ مع صعوبته وتعذّره ـ معجزة له عليه‌السلام ، ودلالة على علوّ قدره وجلالته ، وشرف منزلته عند الله تعالى.

(لِيَبْلُوَنِي) يختبرني (أَأَشْكُرُ) بأن أراه فضلا من الله ، بلا حول منّي ولا قوّة ، وأقوم بحقّه (أَمْ أَكْفُرُ) بأن أجد نفسي في البين ، أو أقصّر في أداء مواجبه. ومحلّها النصب على البدل من الياء.

(وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ) لأنّه به يستجلب لها دوام النعمة ومزيدها ، ويحطّ عنها عبء الواجب ، ويحفظها عن وصمة الكفران ، وترتبط به النعمة ،

__________________

(١) أي : ظهر.

١٠٢

ويستمدّ المزيد. وقيل : الشكر قيد للنعمة الموجودة ، وصيد للنعمة المفقودة.

(وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌ) عن شكره ، غير محتاج إليه (كَرِيمٌ) بالإنعام عليه ثانيا ، فإنّه متفضّل على جميع عباده ، شاكرهم وكافرهم ، عاصيهم ومطيعهم ، لا يمنعه كفرهم وعصيانهم من الإفضال عليهم ، والإحسان إليهم.

روى العيّاشي في تفسيره بالإسناد ، قال : «التقى موسى بن محمد بن عليّ بن موسى ويحيى بن أكثم ، فسأله عن مسائل. قال : فدخلت على أخي عليّ بن محمّد عليه‌السلام بعد أن دار بيني وبينه من المواعظ ، حتّى انتهيت إلى طاعته ، فقلت له : جعلت فداك إنّ ابن أكثم سألني عن مسائل افتيه فيها؟

فضحك ثمّ قال : فهل أفتيته فيها؟

قلت : لا.

قال : ولم؟

قلت : لم أعرفها.

قال : وما هي؟

قلت : قال : أخبرني عن سليمان أكان محتاجا إلى علم آصف بن برخيا؟! ثمّ ذكر المسائل الأخر.

قال : أكتب يا أخي : بسم الله الرّحمن الرّحيم ، سألت عن قول الله في كتابه : (قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ) فهو آصف بن برخيا ، ولم يعجز سليمان عن معرفة ما عرف آصف ، لكنّه عليه‌السلام أحبّ أن تعرف أمّته من الجنّ والإنس أنّه الحجّة من بعده ، وذلك من علم سليمان ، أودعه آصف بأمر الله ، ففهّمه الله ذلك ، لئلّا يختلف في إمامته ودلالته ، كما فهّم سليمان في حياة داود ، ليعرف إمامته ونبوّته من بعده ، لتأكيد الحجّة على الخلق».

روي أنّ الجنّ خافوا أن يتزوّجها سليمان ، فتفضي إليه بأسرارهم ، لأنّها

١٠٣

كانت بنت جنّيّة.

وقيل : خافوا أن يولد له منها ولد تجتمع له فطنة الجنّ والإنس ، فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك من هو أشدّ وأفظع ، فقالوا له : إنّها سخيفة العقل ضعيفة الرأي ، وهي شعراء الساقين ، ورجلها كحافر الحمار. فاختبر سليمان أوّلا عقلها.

ولهذا (قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها) اجعلوه متنكّرا بتغيير هيئته وشكله ، كما يتنكّر الرجل للناس لئلّا يعرفوه.

قال ابن عبّاس : فنزع ما كان على العرش من الفصوص والجواهر.

وعن مجاهد : غيّر ما كان أحمر فجعله أخضر ، وما كان أخضر فجعله أحمر.

وعن عكرمة : زيد فيه شيء ، ونقص منه شيء. وروي : جعل مقدّمه مؤخّره ، وأعلاه أسفله.

(نَنْظُرْ) جواب الأمر (أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ) إلى معرفته ، أو إلى الجواب الصواب إذا سئلت عنه. وقيل : إلى الإيمان بالله ورسوله إذا رأت تلك المعجزة البيّنة ، من تقدّم عرشها ، وقد خلّفته وأغلقت عليه الأبواب ، موكّلة عليها الحرّاس.

(فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَهكَذا) أمثل هذا (عَرْشُكِ) أورد كاف التشبيه واسم الإشارة لئلّا يكون تلقينا ، وليكون زيادة في امتحان عقلها (قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ) لم تقل : هو هو ، لاحتمال أن يكون مثله. وذلك من كمال عقلها ، ورزانة رأيها ، حيث لم تقع في المحتمل.

وعن عكرمة : كانت بلقيس حكيمة ، قالت في نفسها : إن قلت : هو ، خشيت أن اكذّب ، وإن قلت : لا ، خشيت أن أكذب ، فقالت : كأنّه هو. فقيل لها : فإنّه عرشك ، فما أغنى عنك إغلاق الأبواب!! فقالت : (وَأُوتِينَا الْعِلْمَ) بكمال قدرة الله وصحّة نبوّتك (مِنْ قَبْلِها) من

١٠٤

قبل هذه الحالة ، أو المعجزة ، بما قد تقدّم من الآيات عند وفدة المنذر (وَكُنَّا مُسْلِمِينَ) طائعين لأمر سليمان.

وقيل : هو من كلام سليمان وقومه ، عطفوه على جوابها ، لما فيه من الدلالة على إيمانها بالله ورسوله ، حيث جوّزت أن يكون ذلك عرشها تجويزا غالبا ، وعلمت أن إحضاره من المعجزات الّتي لا يقدر عليها غير الله ، ولا تظهر إلّا على يد الأنبياء عليهم‌السلام ، أي : وأوتينا العلم بالله وقدرته ، وصحّة ما جاء به من عند الله قبل مجيئها طائعة ، أو قبل علمها بصحّة الإسلام ، وكنّا مخلصين لله بالتوحيد ، منقادين لحكمه ، ولم نزل على دين الإسلام. ويكون غرضهم فيه التحدّث بما أنعم الله عليهم من التقدّم في ذلك ، شكرا لله.

(وَصَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : ومنعها عبادتها الشمس عن التقدّم إلى الإسلام قبل ذلك. أو صدّها الله عن عبادتها بالتوفيق للإيمان ، أو سليمان عمّا كانت تعبد ، أي : عن عبادتها ، بتقدير حذف الجارّ وإيصال الفعل. وعلى الأوّل مرفوع المحلّ بالفاعليّة.

ثمّ استأنف الكلام وقال : (إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ) من قوم يعبدون الشمس ، قد نشأت فيما بينهم ، فلم تعرف إلّا عبادة الشمس.

ولمّا اختبر سليمان رزانة عقلها ورجاحة فطانتها ، أراد أن يعرف ما قالت الجنّ من أنّها شعراء الساقين ، ورجلها كحافر الحمار ، فأمر قبل قدومها فبني له على طريقها قصر صحنه من زجاج أبيض ، وأجرى من تحته الماء ، وألقى فيه من دوابّ البحر السمك وغيره ، ليتعرّف ساقها ورجلها حين تكشف عنهما ، إذ تدخل فيه ظنّا منها أنّه ماء. ولمّا تمّ القصر على الطريق المذكور ، أمر أن يوضع سريره في صدره ، فجلس عليه ، وعكف عليه الطير والجنّ والإنس.

ولمّا جاءت بلقيس (قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ) القصر. وقيل : عرصة الدار.

١٠٥

(فَلَمَّا رَأَتْهُ) رأت بلقيس الصرح (حَسِبَتْهُ لُجَّةً) وهي معظم الماء (وَكَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها) لدخول الماء.

وعن ابن كثير : سأقيها بالهمز ، حملا على جمعيه : سئوق وأسؤق.

وقيل : إنّها لمّا رأت الصرح قالت : ما وجد ابن داود عذابا يقتلني به إلّا الغرق ، وأنفت أن تجبن فلا تدخل ، ولم يكن من عادتهم لبس الخفاف.

فلمّا كشفت عن ساقيها رأى سليمان رجلها ، فإذا هي أحسن الناس ساقا وقلما إلّا أنّها شعراء (قالَ) لها (إِنَّهُ) إنّ ما تظنّينه ماء (صَرْحٌ مُمَرَّدٌ) مملّس (مِنْ قَوارِيرَ) من زجاج ، وليس بماء.

ولمّا رأت سرير سليمان والصرح (قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) بالكفر الّذي كنت عليه ، من عبادة الشمس.

وقيل : حسبت أنّ سليمان يغرقها في اللجّة ، فقالت : ظلمت نفسي بسوء ظنّي بسليمان (وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ) فيما أمر به عباده ، فحسن إسلامها.

قيل : إنّها جلست عند سليمان ، فدعاها إلى الإسلام ، وكانت قد رأت الآيات الباهرة والمعجزات الظاهرة ، فأجابته وأسلمت.

وروي أن سليمان لمّا رأى ساقها شعراء أساءه ذلك ، فاستشار الجنّ فيه ، فعملوا الحمّامات ، وطبخوا له النورة والزرنيخ ، وكان أوّل ما صنعت له النورة ، فتزوّجها.

وقال بعض المؤرّخين : إنّه تزوّجها وأقرّها على ملكها ، وأمر الجنّ فبنوا لها سيلحين (١) وغمدان ، وكان يزورها في الشهر مرّة ، فيقيم عندها ثلاثة أيّام ، وولدت له.

__________________

(١) سيلحين أو سيلحون : قرية باليمن. وغمدان : قصر باليمن.

١٠٦

وقيل : بل زوّجها ذا تبّع (١) ملك همدان ، وسلّطه على اليمن ، وأمر زوبعة أمير جنّ اليمن أن يطيعه ، فبنى له المصانع (٢) ، ولم يزل أميرا حتّى مات سليمان.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (٤٥) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٦) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (٤٧) وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (٤٨) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصادِقُونَ (٤٩) وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٠) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (٥١) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٥٢) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكانُوا يَتَّقُونَ (٥٣))

ولمّا ذكر سبحانه قصّة سليمان ، بيّن قصّة صالح بعد ذلك ، فقال عطفا عليها :

__________________

(١) التبّع : لقب ملوك اليمن. وجمعه : التبابعة.

(٢) أي : الحصون.

١٠٧

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ) في النسب (صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللهَ) بأن اعبدوه (فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ) ففاجؤا التفرّق والاختصام ، فآمن فريق وكفر فريق ، ويقول كلّ فريق : الحقّ معي. والواو لمجموع الفريقين.

(قالَ) للفريق المكذّب (يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ) بالعقوبة الّتي تسوء صاحبها ، فتقولون : آتنا بما تعدنا من العذاب (١) (قَبْلَ الْحَسَنَةِ) قبل التوبة ، فتؤخّرونها إلى نزول العذاب ، فإنّهم كانوا يقولون لجهلهم : إنّ العقوبة الّتي يعدها صالح ، إن وقعت على زعمه وصدق إيعاده تبنا حينئذ واستغفرنا ، زاعمين أنّ التوبة من الشرك مقبولة في ذلك الوقت ، وإن لم تقع فنحن على ما نحن عليه.

فخاطبهم صالح على حسب قولهم واعتقادهم. ثمّ قال لهم : (لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللهَ) هلّا تطلبون مغفرته من الشرك ، بأن تؤمنوا بالله وحده قبل نزول العذاب (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) بقبولها ، فإنّها لا تقبل حين نزول العقوبة ، فهذا تنبيه لهم على الخطأ فيما قالوه ، وتجهيل فيما اعتقدوه.

روي : أنّ الرجل منهم كان يخرج مسافرا ، فيمرّ بطائر فيزجره ، فإن مرّ سانحا (٢) تيمّن ، وإن مرّ بارحا تشاءم. ولهذا (قالُوا اطَّيَّرْنا) أي : تشاء منا (بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ) إذ تتابعت علينا الشدائد من القحط وغير ذلك ، أو وقع بيننا الافتراق مذ اخترعتم دينكم. فلمّا نسبوا الخير والشرّ إلى الطائر ، استعير لما كان سببهما من قدر الله وقسمته ، أو من عمل العبد الّذي هو السبب في الرحمة والنقمة.

ولمّا قالوا : اطّيّرنا بكم (قالَ) صالح مطابقا لكلامهم : (طائِرُكُمْ) أي : سببكم الّذي جاء منه شرّكم (عِنْدَ اللهِ) وهو قدره. ومنه قول العرب : طائر الله لا طائرك ، أي : قدر الله الغالب الّذي ينسب إليه الخير والشرّ ، لا طائرك الّذي تتشاءم

__________________

(١) إشارة إلى الآية (٧٧) من سورة الأعراف : (وَقالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ).

(٢) السانح : الّذي يأتي من جانب اليمين ، ويقابله البارح ، وهو الّذي يأتي من جانب اليسار. والعرب تتيمّن بالسانح ، وتتشاءم بالبارح.

١٠٨

به وتتيمّن. أو عملكم المكتوب عنده الّذي كان سبب نزول النقمة. ومنه قوله : (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) (١). (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) (٢).

(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ) تختبرون بتعاقب السرّاء والضرّاء. والإضراب من بيان طائرهم الّذي هو مبدأ ما يحيق بهم إلى ذكر ما هو الداعي إليه.

(وَكانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ) أي : تسعة أنفس. وإنّما وقع تمييزا للتسعة باعتبار المعنى. والفرق بينه وبين النفر : أنّه من الثلاثة أو السبعة إلى العشرة ، والنفر من الثلاثة إلى التسعة.

وأسماؤهم على رواية ابن عبّاس : قدار بن سالف ، ومصدع ، ودهمي ، ودهيم ، ودعمي ، ودعيم ، وأسلم ، وقتال ، وصداف. وعلى رواية وهب : الهذيل بن عبد ربّ ، وغنم بن غنم ، ورباب بن مهرج ، ومصدع بن مهرج ، وعمير بن كردبة ، وعاصم بن مخرمة ، وسبيط بن صدقة ، وسمعان بن صفي ، وقدار بن سالف.

(يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) أي : شأنهم الإفساد الخالص عن شوب الصلاح. وهم الّذين سعوا في عقر الناقة ، وكانوا عتاة قوم صالح ، وكانوا من أبناء أشرافهم.

(قالُوا) أي : قال بعضهم لبعض : (تَقاسَمُوا بِاللهِ) أمر مقول ، أو خبر وقع في محلّ الحال بإضمار «قد» أي : قالوا متقاسمين (لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ) لنباغتنّ صالحا وأهله ليلا ، من البيات ، بمعنى مباغتة العدوّ ليلا. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء ، على خطاب بعضهم لبعض.

(ثُمَّ لَنَقُولَنَ) فيه القراءتان المذكورتان (لِوَلِيِّهِ) لوليّ دمه (ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ) فضلا أن تولّينا إهلاكهم. وهو يحتمل المصدر والمكان والزمان. وكذا «مهلك» في قراءة حفص ، فإنّ مفعل قد جاء مصدرا ، كمرجع. وقرأ أبو بكر بالفتح ،

__________________

(١) يس : ١٩.

(٢) الإسراء : ١٣.

١٠٩

فيكون مصدرا.

(وَإِنَّا لَصادِقُونَ) ونحلف إنّا لصادقون. أو والحال إنّا لصادقون فيما ذكرنا ، لأنّ الشاهد للشيء غير المباشر له عرفا. أو لأنّا ما شهدنا مهلكهم وحده ، بل مهلكه ومهلكهم ، كقولك : ما رأيت رجلا بل رجلين.

(وَمَكَرُوا مَكْراً) بهذه المواضعة (وَمَكَرْنا مَكْراً) بأن جعلناها سببا لهلاكهم جزاء مكرهم (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بمكر الله بهم ، فإنّهم دخلوا على صالح شاهري سيوفهم ليقتلوه ، فأنزل الله سبحانه الملائكة ملء دار صالح ، فدمغوهم بالحجارة ، يرون الحجارة ولا يرون راميا ، فهلكوا ، وسلم صالح من مكرهم ، وهو ما أخفوه من تدبير الفتك به وأهله. ولمّا كان مكر الله من حيث لا يشعرون ، شبّه هلاكه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة.

روي : أنّه كان لصالح مسجد في الحجر في شعب يصلّي فيه ، فقالوا : زعم صالح أنّه يفرغ منّا إلى ثلاث ، فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث ، فخرجوا إلى الشعب وقالوا : إذا جاء يصلّي قتلناه ، ثمّ رجعنا إلى أهله فقتلناهم. فبعث الله صخرة من الهضب حيالهم ، فطبّقت عليهم فم الشعب.

وقيل : إنّ الله سبحانه أمر صالحا بالخروج من بينهم ، ثمّ استأصلهم بالعذاب.

وعن مقاتل : نزلوا في سفح جبل ينتظر بعضهم بعضا ليأتوا صالحا ، فخرّ عليهم الجبل فهلكوا ثمّة ، وهلك الباقون في أماكنهم ، كما أشار بقوله : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ) أهلكناهم بالعذاب المذكور (وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ) بالصيحة.

و «كان» إن جعلت ناقصة فخبرها «كيف» ، و «انّا دمّرناهم» استئناف. وإن جعلت تامّة فـ «كيف» حال. وقرأ الكوفيّون ويعقوب : أنّا بالفتح ، على أنّه خبر محذوف ، أو بدل من اسم «كان» ، أو خبر له ، و «كيف» حال.

(فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ) أي : فانظر إليها (خاوِيَةً) خالية ، من : خوى البطن إذا خلا. أو ساقطة منهدمة ، من : خوى النجم إذا سقط. وهي حال عمل فيها معنى

١١٠

الإشارة. (بِما ظَلَمُوا) بسبب ظلمهم. وهو الشرك والإفساد في الأرض. (إِنَّ فِي ذلِكَ) في إهلاكهم (لَآيَةً) لعبرة (لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فيتّعظون. وفي هذه الآية دلالة على أنّ الظلم يعقّب خراب الدور.

وروي عن ابن عبّاس أنّه قال : أجد في كتاب الله أنّ الظلم يخرّب البيوت ، وتلا هذه الآية.

وقيل : إنّ هذه البيوت بوادي القرى ، بين المدينة والشام.

(وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) صالحا ومن معه (وَكانُوا يَتَّقُونَ) الكفر والمعاصي ، ولذلك خصّوا بالنجاة. قالوا : إنّهم أربعة آلاف خرج بهم صالح إلى حضر موت ، ولمّا دخلها حضره الموت فمات.

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (٥٤) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (٥٥) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (٥٦) فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (٥٧) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (٥٨) قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (٥٩))

ثمّ ذكر سبحانه قصّة لوط ، عاطفا بها على ما تقدّم ، فقال : (وَلُوطاً) أي : أرسلنا لوطا ، لدلالة (وَلَقَدْ أَرْسَلْنا) (١) عليه. أو اذكر. (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ) ظرف على

__________________

(١) النمل : ٤٥.

١١١

الأوّل ، وبدل على الثاني (أَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) من بصر القلب ، أي : تعلمون أنّها فاحشة لم تسبقوا إليها ، وأنّ الله إنّما خلق الأنثى للذكر ، فهي مضادّة لله في حكمته وحكمه. وعلمكم بذلك أعظم لذنوبكم ، وأدخل في القبح والسماجة ، فيكون أفحش. أو تبصرون آثار العصاة قبلكم ، وما نزل بهم ، واقتراف القبائح من العالم بقبحها أقبح. أو يبصرها بعضكم من بعض ، لأنّهم كانوا في ناديهم يرتكبونها معلنين بها.

(أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً) بيان لإتيانهم الفاحشة. وتعليله بالشهوة للدلالة على قبحه ، والتنبيه على أنّ الحكمة في المواقعة طلب النسل لا قضاء الوطر. (مِنْ دُونِ النِّساءِ) اللّاتي خلقن لذلك (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ) تفعلون فعل من يجهل قبحها مع علمكم بذلك. أو تجهلون العاقبة. أو أراد بالجهل أن يكون كمن كان سفيها لا يميّز بين الحسن والقبيح. والتاء فيه لكون الموصوف به في معنى المخاطب.

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ) كلّهم (مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ) يتنزّهون عن إتيان الرجال في أدبارهم ، أو عن الأقذار ، فينكرون هذا العمل القذر ، ويغيظنا إنكارهم. أو يعدّون فعلنا قذرا. وعن ابن عبّاس : هو استهزاء منهم.

(فَأَنْجَيْناهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها) جعلناها (مِنَ الْغابِرِينَ) قدّرنا كونها من الباقين في العذاب.

(وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) وهو الحجارة (فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) الّذين أبلغهم لوط النذارة ، وأعلمهم بموضع المخافة ليتّقوها فخالفوها.

واعلم أنّ الله سبحانه لمّا قصّ قصص الأنبياء على رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، الدالّة على كمال قدرته وعظم شأنه ، وما خصّ به رسله من الآيات الكبرى ، والانتصار من الأعداء ، أمره بتحميده والسلام على المصطفين من عباده ، شكرا على ما أنعم

١١٢

عليهم ، وعلى ما علّمه من أحوالهم ، وعرّفه فضلهم ، فقال : (قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ) شكرا على ما أنعم ، بأن وفّقنا للإيمان والنصرة على الفجرة ، وعلى هلاك الأمم الكفرة (وَسَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى) اصطفاهم الله واجتباهم على بريّته. وهم الأنبياء.

وعن ابن عبّاس : هم أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وعن الحسن : هم أمّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ومعنى السلام عليهم أنّهم سلموا ممّا عذّب الله به الكفّار ، وعن عليّ بن إبراهيم (١) : هم آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقيل : هو خطاب بأن يحمده على هلاك كفرة قومه ، ويسلّم على من اصطفاه بالعصمة عن الفواحش والنجاة من الهلاك.

وقيل : هو متّصل بما قبله ، وأمر بالتحميد على الهالكين من كفّار الأمم ، والصلاة على الأنبياء وأشياعهم الناجين.

وفيه تعليم حسن ، وتوقيف على أدب جميل ، وبعث على التيمّن بالذكرين ، والتبرّك بهما ، والاستظهار بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين وإصغائهم إليه.

ولقد توارث العلماء والخطباء والوعّاظ كابرا عن كابر هذا الأدب ، فحمدوا الله عزوجل وصلّوا على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أمام كلّ علم مفاد ، وقبل كلّ عظة وتذكرة ، وفي مفتتح كلّ خطبة. وتبعهم المترسّلون ، فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح والتهاني ، وغير ذلك من الحوادث الّتي لها شأن.

ثمّ قال سبحانه مخاطبا للمشركين : (آللهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ) يا أهل مكّة! ءالله خير لمن عبده ، أم الأصنام لعابديها؟! وهذا إلزام للحجّة على المشركين بعد ذكر هلاك الكفّار ، وتهكّم بهم ، وتسفيه لرأيهم ، إذ من المعلوم أن لا خير فيما أشركوه أصلا ، حتّى يوازن بينه وبين من هو مبدأ كلّ خير ومالكه.

__________________

(١) تفسير عليّ بن إبراهيم ٢ : ١٢٩.

١١٣

والمعنى : أنّ الله تعالى نجّى من عبده من الهلاك ، والأصنام لم تغن شيئا عن عابديها عند نزول العذاب. وإنّما قال ذلك لأنّهم توهّموا في عبادة الأصنام خيرا.

وقرأ أبو عمرو وعاصم ويعقوب بالياء. وعن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه كان إذا قرأها يقول : «بل الله خير وأبقى ، وأجلّ وأكرم».

(أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (٦٠) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَجَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٦١) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (٦٢) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ تَعالَى اللهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٣) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ أَإِلهٌ مَعَ اللهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٦٤))

ثمّ عدّد سبحانه نعمه الشاملة لعبيده ، ومنافعه الّتي هي من آثار رحمته المخصوصة ، الدالّة على وحدانيّته وفردانيّته ، وقال : (أَمَّنْ خَلَقَ) بل من خلق

١١٤

(السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) الّتي هي أصول الكائنات ومبادئ المنافع (وَأَنْزَلَ لَكُمْ) لأجلكم (مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ) بساتين. من الإحداق ، وهو الإحاطة.

عدل به عن الغيبة إلى التكلّم ، لتأكيد اختصاص الفعل بذاته ، والإيذان بأنّ إنبات الحدائق البهيّة ، المتباعدة الطباع ، المختلفة الأنواع والألوان ، والطعوم والروائح والأشكال ، مع حسنها وبهجتها ، بماء واحد ، لا يقدر عليه إلّا هو وحده. ألا ترى كيف رشح معنى الاختصاص بقوله : (ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها).

(ذاتَ بَهْجَةٍ) أي : ذات منظر حسن ، لأنّ الناظر يبتهج به. ولم يقل : ذوات بهجة ، لأنّه أراد جماعة حدائق ذات بهجة ، كما قال : النساء ذهبت. ولو أريد تأنيث الأعيان لقال : ذوات.

(ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها) أي : لم تكونوا تقدرون على إنبات شجر الحدائق (أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) أغيره يقرن به ، ويجعل له شريكا ، وهو المنفرد بالخلق والتكوين؟! (بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) عن الحقّ الّذي هو التوحيد.

(أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً) بدل من (أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ). وجعلها قرارا : بإبداء بعضها من الماء وتسويتها ، بحيث يتأتّى استقرار الإنسان والدوابّ عليها.

(وَجَعَلَ خِلالَها) وسطها (أَنْهاراً) جارية ، ينبت بها الزرع ، ويحيا بها الخلق.

(وَجَعَلَ لَها رَواسِيَ) جبالا ثوابت ، تتكوّن فيها المعادن ، وتنبع من حضيضها المنابع.

(وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ) العذب والمالح ، أو خليجي فارس والروم (حاجِزاً) مانعا من قدرته ، بين العذب والملح ، فلا يختلط أحدهما بالآخر.

(أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) توحيد ربّهم وكمال قدرته وسلطانه ، فيشركون به.

١١٥

(أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ) المضطرّ : هو الّذي أحوجته شدّة ما به إلى اللجأ إلى الله. من الاضطرار ، وهو افتعال من الضرورة ، وهي الحالة المحوجة إلى اللجأ. واللام فيه للجنس مطلقا ، يصلح لكلّه ولبعضه ، لا للاستغراق ، فلا يلزم منه إجابة كلّ مضطرّ ، بل الّذي يكون إجابة دعائه مصلحة. وإنّما خصّ المضطرّ ، وإن كان قد يجيب غير المضطرّ ، لأنّ رغبته أقوى ، وسؤاله أخضع.

(وَيَكْشِفُ السُّوءَ) ويدفع عن الإنسان ما يسوءه (وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ) أي : خلفاء في الأرض ، بأن ورّثكم سكناها والتصرّف فيها قرنا بعد قرن ، فيهلك قرنا ، وينشئ قرنا. أو أراد بالخلافة الملك والتسلّط.

(أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) الّذي أعطاكم هذه النعم العامّة والخاصّة؟! (قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ) أي : تذكّرون آلاءه تذكّرا قليلا. و «ما» مزيدة. والمراد بالقلّة العدم ، فإنّها قد تستعمل في معنى النفي ، أو الحقارة المزيحة للفائدة.

وقرأ أبو عمرو وروح بالياء. وحمزة والكسائي وحفص بالتاء وتخفيف الذال.

(أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ) بالنجوم في السماء ، والعلامات في الأرض (فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) أي : ظلمات الليالي. وإضافتها إلى البرّ والبحر للملابسة. أو مشبّهات الطرق. يقال : طريقة ظلماء وعمياء للّتي لا منار بها. (وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ) يعني : المطر.

(أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) يقدر على مثل ذلك (تَعالَى اللهُ) القادر الخالق (عَمَّا يُشْرِكُونَ) عن مشاركة العاجز المخلوق ، كما يزعمه المشركون.

(أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ) وقد أزيح إنكار الكفرة للإعادة بالحجج الباهرة والبراهين عليها ، فهم محجوجون بها ، ولم يبق لهم عذر في الإنكار (وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ) بإنزال الأمطار (وَالْأَرْضِ) بإخراج النبات والثمار ، أو بأسباب

١١٦

سماويّة وأرضيّة.

(أَإِلهٌ مَعَ اللهِ) يقدر على مثل ذلك (قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ) حجّتكم على أنّ غيره يقدر على شيء من ذلك (إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) في إشراككم ، فإنّ كمال القدرة من لوازم الألوهيّة ، فإذا لم يقدروا على إقامة البرهان على ذلك فاعلموا أنّه لا إله معي ، ولا يستحقّ العبادة سواي.

(قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (٦٥) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (٦٦))

ولمّا بيّن اختصاصه بالقدرة التامّة الفائقة العامّة ، أتبعه ما هو كاللازم له ، وهو التفرّد بعلم الغيب ، فقال : (قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللهُ) الاستثناء منقطع. ورفع المستثنى على اللغة التميميّة.

وفي اختيار المذهب التميمي على الحجازي نكتة سريّة (١) ، حيث أخرج المستثنى مخرج قوله : إلّا اليعافير ، بعد قوله (٢) : ليس بها أنيس ، ليئول المعنى إلى قولك : إن كان الله ممّن في السماوات والأرض ، ففيهما من يعلم الغيب ، مبالغة في نفي العلم عنهم. يعني : أنّ علمهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون الله منهم ،

__________________

(١) لعلّها بزنة فعيلة ، فتكون بمعنى : شريفة ، من : سرا سروا : كان سريّا ، أي : صاحب مروءة وسخاء وشرف.

(٢) أي : في قول الشاعر :

وبلدة ليس بها أنيس

إلّا اليعافير وإلّا العيس

١١٧

كما أنّ معنى ما في البيت : إن كانت اليعافير أنيسا ففيها أنيس ، بتّا للقول بخلوّها عن الأنيس.

أو متّصل (١) ، على أنّ المراد ممّن في السماوات والأرض من تعلّق علمه بهما ، واطّلع عليهما اطّلاع الحاضر فيهما ، فإنّه يعمّ الله تعالى وأولي العلم من خلقه. وهو موصول أو موصوف.

(وَما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) متى يحشرون؟ مركّبة من «أيّ» و «آن».

والضمير لـ «من». وقيل : للكفرة.

قيل : نزلت هذه الآية في المشركين ، حين سألوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن وقت الساعة.

ولمّا ذكر أنّ العباد لا يعلمون الغيب ، ولا يشعرون بالبعث الكائن ووقته الّذي يكون فيه ، وكان هذا بيانا لعجزهم ، ووصفا لقصور علمهم ، وصل به الكلام الآخر ، وهو قوله : (بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ) دلالة على أنّ عندهم عجزا أبلغ منه ، وهو أنّهم يقولون للكائن الّذي لا بدّ أن يكون ـ وهو وقت جزاء أعمالهم ـ : لا يكون ، مع أنّ عندهم أسباب معرفة كونه واستحكام العلم به.

ويحتمل أن يكون وصفهم باستحكام العلم تهكّما بهم ، كما تقول لأجهل الناس : ما أعلمك! على سبيل الهزؤ.

وقيل : «أدرك» بمعنى : انتهى واضمحلّ ، من قولهم : أدركت الثمرة ، لأن تلك غايتها الّتي عندها تعدم.

ثمّ أكّد عدم علمهم رأسا بالإضراب الثاني والثالث ، وهو قوله : (بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها) كمن تحيّر في الأمر لا يجد عليه دليلا (بَلْ هُمْ مِنْها) عن معرفتها (عَمُونَ) من عمى القلب ، لزعمهم التدبّر والتفكّر. يعني : أنّهم شكّوا وعموا عن

__________________

(١) عطف على قوله : الاستثناء منقطع ، قبل سبعة أسطر.

١١٨

إثباته الّذي الطريق إلى علمه مسلوك ، فضلا أن يعرفوا وقت كونه الّذي لا طريق إلى معرفته. وهذا وإن اختصّ بالمشركين ممّن في السماوات والأرض ، نسب إلى جميعهم ، كما يسند فعل البعض إلى الكلّ.

وقرأ نافع وابن عامر وحمزة والكسائي وحفص : بل ادّراك ، بمعنى : تتابع حتّى استحكم ، أو تتابع حتّى انقطع ، من : تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك.

وأبو بكر : ادّرك. وأصلهما : تفاعل وافتعل.

والإضرابات الثلاث إنّما هي لتنزيل أحوالهم ، فإنّه وصفهم أوّلا بأنّهم لا يشعرون وقت البعث ، ثمّ بأنّهم لا يعلمون أنّ القيامة كائنة ، ثمّ بأنّهم يخبطون في شكّ ومرية فلا يزيلونه ، ثمّ بما هو أسوأ حالا ، وهو العمى ، وأن يكون مثل البهيمة ، قد عكف همّه على بطنه وفرجه ، لا يخطر بباله حقّا ولا باطلا ، ولا يفكّر في عاقبة. وقد جعل الآخرة مبدأ عماهم ومنشأه ، فلذلك عدّاه بـ «من» دون «عن» لأنّ الكفر بالعاقبة والجزاء هو الّذي جعلهم كالبهائم لا يتدبّرون ولا يتبصّرون.

وقيل : إنّ الآية إخبار عن ثلاث طوائف : طائفة أقرّت بالبعث ، وطائفة شكّت فيه ، وطائفة نفته ، كما قال : (فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ) (١).

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ (٦٧) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (٦٨) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (٦٩) وَلا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (٧٠) وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ

__________________

(١) ق : ٥.

١١٩

كُنْتُمْ صادِقِينَ (٧١) قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (٧٢) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (٧٣) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٧٤) وَما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَالْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (٧٥))

(وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بإنكارهم البعث (أَإِذا كُنَّا تُراباً وَآباؤُنا أَإِنَّا لَمُخْرَجُونَ) هذا كالبيان لعمههم. والعامل في «إذا» ما دلّ عليه «أإنّا لمخرجون» وهو : نخرج ، لا «مخرجون» لأنّ كلّا من الهمزة و «إن» واللام مانعة من العمل فيما قبلها ، فكيف إذا اجتمعن؟ وتكرير الهمزة للمبالغة في الإنكار. والمراد بالإخراج الإخراج من الأجداث ، أو من حال الفناء إلى حال الحياة.

وقرأ نافع : إذا كنّا ، بهمزة واحدة مكسورة. وابن عامر والكسائي : إنّنا لمخرجون ، بنونين على الخبر.

(لَقَدْ وُعِدْنا هذا) أي : هذا البعث (نَحْنُ) في ما مضى (وَآباؤُنا مِنْ قَبْلُ) من قبل وعد محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وتقديم «هذا» على «نحن» لأنّ المقصود بالذكر هو البعث ، وحيث أخّر فالمقصود به المبعوث. (إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أحاديثهم وأكاذيبهم الّتي كتبوها.

ثمّ هدّدهم على التكذيب ، وخوّفهم بأن ينزل بهم مثل ما نزل بالمكذّبين قبلهم ، فقال : (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ) أي : الكافرين. والتعبير عنهم بوصف الإجرام ، ليكون لطفا بالمؤمنين في ترك الجرائم وتخوّف عاقبتها. ولم تلحق علامة التأنيث بفعل العاقبة ، لأنّ تأنيثها غير حقيقيّ ،

١٢٠