زبدة التّفاسير - ج ٥

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٥

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-07-8
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٥٩٦

أخر ، ثمّ استأذنه في العود إلى مصر ليزور ووالديه وأخاه ، فأذن له.

(وَسارَ بِأَهْلِهِ) فأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام ، وامرأته في شهرها. فسار في البرّيّة غير عارف بالطريق ، فألجأه المصير إلى جانب الطور الأيمن ، في ليلة شديدة البرودة ، وأخذ امرأته الطلق ، وضلّ الطريق ، وتفرّقت ماشيته ، وأصابه المطر ، فبقي لا يدري أين يتوجّه ، فبينا هو كذلك (آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً) أبصرها من الجهة الّتي تلي الطور.

(قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ) بخبر الطريق (أَوْ جَذْوَةٍ) عود غليظ ، سواء كان في رأسه نار أو لم يكن. ولهذا بيّنه بقوله : (مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ) تستدفئون بها. وقرأ عاصم بفتح الجيم ، وحمزة بالضمّ ، وغيرهما بالكسر. وكلّها لغات.

(فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ) أتاه النداء مبتدأ (مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ) من الجانب الأيمن للوادي (فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ) متّصل بالشاطئ ، أو صلة لـ «نودي». وهي البقعة الّتي قال الله تعالى فيها لموسى : (فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً) (١).

وإنّما كانت مباركة ، لأنّها معدن الوحي والرسالة وكلام الله تعالى. أو لكثرة الأشجار والأنهار والثمار والنعم بها. والأوّل أصحّ.

(مِنَ الشَّجَرَةِ) بدل من «شاطئ» بدل الاشتمال ، لأنّها كانت نابتة على الشاطئ.

(أَنْ يا مُوسى) أي : يا موسى (إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) هذا وإن خالف ما في طه (٢) والنمل (٣) لفظا ، فهو طبقه في المقصود ، أي : موجد الكلام لك هو الله مالك

__________________

(١) طه : ١٢.

(٢) طه : ١١ ـ ١٢.

(٣) النمل : ٨ ـ ٩.

١٦١

العالمين ، وخالق الخلائق أجمعين ، تعالى وتقدّس عن أن يحلّ في محلّ ، أو يكون في مكان ، لأنّه ليس بعرض ولا جسم.

(وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ) فألقاها من يده ، فصارت ثعبانا عظيما واهتزّت (فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ) في فرط السرعة مع عظم الجثّة ، فاغرة فاها ، ابتلعت كلّ ما أصابت من حجر وشجر (وَلَّى مُدْبِراً) منهزما من الخوف (وَلَمْ يُعَقِّبْ) ولم يرجع إلى ذلك الموضع. فنودي (يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ) عن المخاوف ، فإنّه لا يخاف لديّ المرسلون.

كرّر هذه القصّة في السور تقريرا للحجّة على أهل الكتاب ، واستمالة بهم إلى الحقّ. ومن أحبّ شيئا أحبّ ذكره. والقوم كانوا يدّعون محبّة موسى ، وكلّ من ادّعى اتّباع سيّده مال إلى من ذكره بالفضل. على أنّ كلّ موضع من مواضع التكرار لا تخلو من زيادة فائدة.

(اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ) أي : أدخلها فيه (تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ) أي : من غير عيب ، كالبرص.

روي : أنّه لمّا قلب الله العصا حيّة ، فزع موسى واضطرب فاتّقاها ببسط يديه ، كما يفعل الخائف من الشيء. فقيل له : إنّ اتّقاءك ببسط يدك فيه غضاضة (١) عند الأعداء ، فإذا ألقيتها فتنقلب حيّة لا تفزع (وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ) يديك المبسوطتين تتّقي بهما الحيّة كالخائف الفزع ، بإدخال اليمنى تحت عضد اليسرى وبالعكس.

(مِنَ الرَّهْبِ) من أجل الرهب ، أي : إذا عراك الخوف فافعل ذلك تجلّدا وضبطا لنفسك ، فإنّك آمن من ضررها. أو بإدخالهما في الجيب. فيكون التكرير لاختلاف الغرضين. وذلك لأنّ الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء ، وفي الثاني

__________________

(١) أى : ذلّة ومنقصة.

١٦٢

إخفاء الرهب وإظهار الجرأة على وجه العدوّ. وتسمية اليد بالجناح باعتبار أنّ يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر.

ويجوز أن يراد بالضمّ التجلّد والثبات وضبط النفس عند انقلاب العصا حيّة ، حتّى لا يضطرب ولا يرهب. استعارة من حال الطائر ، فإنّه إذا خاف نشر جناحيه ، وإذا أمن واطمأنّ ضمّهما إليه.

وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي وأبو بكر بضمّ الراء وسكون الهاء. وقرأ حفص بالفتح والسكون. وقرئ بضمّهما. والكلّ لغات.

(فَذانِكَ) إشارة إلى العصا واليد. وشدّده ابن كثير وأبو عمرو ورويس.

(بُرْهانانِ) حجّتان بيّنتان باهرتان. والبرهان فعلان ، لقولهم : أبره الرجل ، إذا جاء بالبرهان. وبره الرجل ، إذا ابيضّ. ويقال : برهان وبرهرهة ، بتكرير العين واللام معا ، للمرأة البيضاء. ونظيره تسميتهم إيّاها سلطانا ، من السليط وهو الزيت ، لإنارتها. وقيل : فعلان من قولهم : برهن.

(مِنْ رَبِّكَ) على صدق نبوّتك ورسالتك (إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) خارجين من طاعة الله إلى أعظم المعاصي ، وهو الشرك. فكانوا أحقّاء بأن يرسل إليهم.

(قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ) بتلك النفس.

(وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً) وإنّما قال ذلك لعقدة كانت في لسانه.

وقد مضى (١) ذكر سببها وإزالتها بدعائه ، والتوفيق بينه وبين هذا القول.

(فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً) معينا على تبليغ رسالتك. يقال : ردأه إذا أعانه. وفي الأصل اسم مايعان به. فعل بمعنى مفعول ، كالدفء. وقرأ نافع : ردا بالتخفيف.

(يُصَدِّقُنِي) بتلخيص الحقّ ، وتقرير الحجّة ، وتزييف الشبهة. وقرأ عاصم

__________________

(١) راجع ج ٤ ص ٢٣٥ ، ذيل الآية ٢٧ من سورة طه ، وج ٥ ص ١٠ ، ذيل الآية ١٣ من سورة الشعراء.

١٦٣

وحمزة : يصدّقني (١) بالرفع ، على أنّه صفة. وعلى التقديرين ، ليس الغرض بتصديقه أن يقول له : صدقت ، أو يقول للناس : صدق موسى ، فإنّ سحبان وباقلا (٢) يستويان فيه ، بل إنّما هو أن يلخّص بلسانه الحقّ ، ويبسط القول فيه ، ويجادل به الكفّار ، فذلك جار مجرى التصديق المفيد ، كما يصدّق القول بالبرهان. ألا ترى إلى قوله : (وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً).

وقيل : المراد تصديق القوم لتقريره وتوضيحه ، ولكنّه أسند إليه إسناد الفعل إلى السبب. والدليل عليه قوله : (إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ) ولساني لا يطاوعني عند المحاجّة.

(قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ) سنقوّيك به ، فإنّ قوّة الشخص بشدّة اليد على مزاولة الأمور. ولذلك يعبّر عنها باليد ، وشدّتها بشدّة العضد ، فإنّ العضد قوام اليد ، وبشدّتها تشتدّ اليد. ومن هاهنا يقال في دعاء الخير : شدّ الله عضدك ، وفي ضدّه : فتّ (٣) الله في عضدك.

(وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً) غلبة وتسلّطا ، أو حجّة واضحة (فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما) إلى الإضرار بكما باستيلاء أو حجاج (بِآياتِنا) متعلّق بمحذوف ، أي : اذهبا بآياتنا. أو بـ «نجعل» أي : نسلّطكما بها. أو بمعنى «لا يصلون» ، أي : تمتنعون منهم بها. أو قسم جوابه «لا يصلون». أو بيان لـ «الغالبون» في قوله : (أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ). لا صلة ، لامتناع تقدّم الصلة على الموصول. أو صلة له ، على أنّ اللام فيه للتعريف ، لا بمعنى الّذي. ولو تأخّر لم يكن إلّا صلة.

__________________

(١) وفي قراءة اخرى : يصدّقني ، بالجزم جوابا لـ : فأرسله.

(٢) اسمان لرجلين يضرب بهما المثل ، فسحبان مثل في الفصاحة ، وباقل مثل في العيّ والبلاهة.

(٣) أي : كسر قوّتك ، وفرّق عنك أعوانك.

١٦٤

(فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (٣٦) وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (٣٧) وَقالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (٣٨) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (٤٠) وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (٤١) وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (٤٢))

روي عن أبي جعفر عليه‌السلام في حديث طويل قال : «فلمّا رجع موسى عليه‌السلام إلى امرأته قالت : من أين جئت؟ قال : من عند ربّ تلك النار ، أمرني أن أعود إلى فرعون ، فتوجّه مع أهله إلى مصر.

ثمّ قال عليه‌السلام : فو الله لكأنّي أنظر إليه طويل الباع ، ذو شعر ، آدم (١) ، عليه جبّة

__________________

(١) أدم أدما : اسمرّ. والآدم : الأسمر.

١٦٥

من صوف ، عصاه في كفّه ، مربوط حقوه بشريط (١) ، نعله من جلد حمار ، شراكها من ليف.

فقيل لفرعون : إنّ على الباب فتى يزعم أنّه رسول ربّ العالمين.

فقال فرعون لصاحب الأسد : خلّ سلاسلها. وكان إذا غضب على رجل خلّاها فقطعته. فخلّاها. فقرع موسى الباب الأوّل ، وكانت تسعة أبواب. فلمّا قرع الباب الأوّل انفتحت له الأبواب التسعة. فلمّا دخل جعلن يبصبصن (٢) تحت رجله ، كأنّهنّ جراء.

فلمّا رآه فرعون بعيدا قال لجلسائه استهزاء وسخريّة : أرأيتم مثل هذا قطّ.

فلمّا قرب منه عرفه ، فقال : (أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً) إلى قوله : (وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ) (٣).

فقال فرعون لرجل من أصحابه : قم فخذ بيده. وقال للآخر : اضرب عنقه.

فضرب جبرئيل بالسيف حتّى قتل ستّة من أصحابه. فقال : خلّوا عنه.

قال : فأخرج يده فإذا هي بيضاء قد حال شعاعها بينه وبين وجهه. وألقى العصا فإذا هي حيّة ، فالتقمت الإيوان (٤) بلحييها. فدعاه أن يا موسى أقلني إلى غد.

ثمّ كان من أمره ما كان ، كما قال جلّت عزّته : (فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ) بمعجزات ظاهرات الدلالة على صدق موسى (قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً) تختلقه ، لم يفعل قبله مثله. أو سحر تعمله

__________________

(١) الشريط : خوص مفتول يشدّ به السرير ونحوه.

(٢) بصبص الجرو : فتح عينيه. وبصبص الكلب : حرّك ذنبه. والجراء : أولاد السباع ، كالكلب والأسد. والواحدة : جرو.

(٣) الشعراء : ١٨ ـ ٢٠.

(٤) الإيوان : المكان المتّسع من البيت يحيط به ثلاثة حيطان واللحيان : جانبا الفم.

١٦٦

أنت ، ثمّ تفتريه على الله. أو سحر موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر ، وليس بمعجزة من عند الله.

(وَما سَمِعْنا بِهذا) يعنون السحر (فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ) حال منصوبة عن «هذا» ، أي : كائنا في أيّامهم.

يريدون : ما حدّثنا بكونه فيهم. ولا يخلو من أن يكونوا كاذبين في ذلك ، وقد سمعوا وعلموا بنحوه.

أو يريدوا أنّهم لم يسمعوا بمثله في فظاعته. أو ما كان الكهّان يخبرون أنّه يظهر أحد بهذه الطريقة. وهذا دليل على أنّهم حجّوا وبهتوا.

أو يعنون ادّعاء النبوّة ، مع اشتهار قصّة نوح وهود وصالح ، وغيرهم من النبيّين الّذين دعوا إلى توحيد الله وإخلاص عبادته. وذلك لأحد أمرين : إمّا للفترة الّتي دخلت بين الوقتين والزمان الطويل. وإمّا لأنّ آباءهم ما صدّقوا بشيء من ذلك ، ولا دانوا به. فيكون المعنى : ما سمعنا بآبائنا أنّهم صدّقوا الرسل فيما جاؤا به.

(وَقالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ) بحال من أهّله للفلاح الأعظم ، حيث جعله نبيّا ، وبعثه بالهدى ، ووعده حسن العقبى ، يعني : نفسه. ولو كان كما تزعمون كاذبا ساحرا مفتريا ، لما أهلّه لذلك ، لأنّه غنيّ حكيم ، لا يرسل الكاذبين ، ولا ينبئ الساحرين ، لأنّهم المبطلون الظالمون.

وقرأ ابن كثير : قال ، بغير واو ، لأنّه قال ما قاله جوابا لمقالهم. ووجه العطف : أنّ المراد حكاية القولين ، ليوازن الناظر بينهما ، فيميّز صحيحهما من الفاسد.

(وَمَنْ تَكُونُ) وأعلم بمن تكون (لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ) العاقبة المحمودة ، فإنّ المراد بالدار الدنيا وعاقبتها الأصليّة هي الجنّة. والدليل عليه قوله عزوجل : (أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ) (١). وقوله : (وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ) (٢). فخلقت

__________________

(١ ، ٢) الرعد : ٢٢ ـ ٢٣ و ٢٤.

١٦٧

الدنيا مجازا إلى الآخرة. والمقصود منها بالذات هو الثواب ، وأمّا العقاب فإنّما قصد بالعرض ، لأنّ عاقبة الشرّ لا اعتداد بها عند الله ، لأنّها من نتائج تحريف الفجّار الّذي هو خلاف ما وضع الله الآخرة له. فكان العاقبة الأصليّة إنّما هي عاقبة الخير ، ولهذا اختصّت خاتمتها بالخير بهذه التسمية ، دون خاتمتها بالشرّ.

وقرأ حمزة والكسائي : يكون بالياء ، لأنّ تأنيث العاقبة غير حقيقيّ.

(إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ) لا يفوزون بالهدى في الدنيا ، وحسن العاقبة في العقبى.

(وَقالَ فِرْعَوْنُ) منكرا لما أتى به موسى من آيات الله لمّا أعياه الجواب ، وعجز عن محاجّته (يا أَيُّهَا الْمَلَأُ) يريد أشراف قومه (ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي) نفى علمه بإله غيره ، دون وجوده ، إذ لم يكن عنده ما يقتضي الجزم بعدمه. ولذلك أمر ببناء الصرح ليصعد إليه ويتطّلع على الحال ، فقال : (فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ) فأجّج النار (عَلَى الطِّينِ) واتّخذ الآجرّ.

عن قتادة : أنّه أوّل من اتّخذ الآجرّ. ولذا لم يقل : اطبخ لي الآجرّ ، بل أمره باتّخاذه على وجه يتضمّن تعليم الصنعة. وأمر هامان ـ وهو وزيره ورديفه ـ بالإيقاد على الطين ، منادى باسمه بـ «يا» في وسط الكلام ، دليل التعظّم والتجبّر.

(فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً) قصرا وبناء عاليا (لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى) أي : أصعد إليه ، وأشرف عليه ، وأقف على حاله. وهذا تلبيس من فرعون ، وإيهام على العوام أنّ الّذي يدعو إليه موسى يجري مجراه في الحاجة إلى المكان والجهة. أو توهّم هو أنّه لو كان إله غيره لكان جسما في السماء ، يمكن الترقّي إليه.

ثمّ قال : (وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ) في ادّعائه إلها غيري ، وأنّه رسوله.

ويجوز أن يكون مراده بنفي علمه بإله غيره نفي وجوده. ومعناه : ما لكم من إله غيري ، كما قال عزّ وعلا : (قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَلا فِي

١٦٨

الْأَرْضِ) (١) فإنّ معناه : بما ليس فيهنّ. وذلك لأنّ العلم تابع للمعلوم ، لا يتعلّق به إلّا على ما هو عليه ، فإذا كان الشيء معدوما لم يتعلّق به موجود. ومن ثمّ كان انتفاء العلم بوجوده ، لا انتفاء وجوده. وعبّر عن انتفاء وجوده بانتفاء العلم بوجوده.

وعلى هذا يكون «لأظنّه» بمعنى : لأعلمه. ويكون بناء الصرح مناقضة لما ادّعاه من العلم واليقين ، وقد خفيت على قومه ، لغباوتهم وفرط جهلهم. أو لم تخف عليهم ، لكن كلّ واحد كان يخاف على نفسه من سوطه وسيفه.

روي : أنّه لمّا أمر ببناء الصرح ، جمع هامان العمّال حتّى اجتمع خمسون ألف بنّاء ، سوى الأتباع والأجراء. وأمر بطبخ الآجرّ والجصّ ، ونجر الخشب ، وضرب المسامير. فشيّدوه حتّى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق. وكان الباني لا يقدر أن يقوم على رأسه يبني ، فبعث الله جبرئيل عند غروب الشمس ، فضربه بجناحه فقطّعه ثلاث قطع ، وقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل ، ووقعت قطعة في البحر ، وقطعة في المغرب ، ولم يبق أحد من عمّاله إلّا قد هلك.

ويروى في هذه القصّة : أنّ فرعون ارتقى فوقه فرمى بنشّابة (٢) نحو السماء ، فأراد الله أن يفتنهم ، فردّت إليه وهي ملطوخة بالدم. فقال : قد قتلت إله موسى. فلأجل تلك الكلمة بعث الله جبرئيل لهدمه على الطريق المذكور.

(وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ) بغير استحقاق ، فإنّ الاستكبار بالحقّ إنّما هو لله عزوجل ، وهو المتكبّر على الحقيقة ، أي : المتبالغ في كبرياء الشأن. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيما حكى عن ربّه : «الكبرياء ردائي ، والعظمة إزاري ، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار». وكلّ مستكبر سواه فاستكباره بغير الحقّ.

__________________

(١) يونس : ١٨.

(٢) النشّابة : السهم.

١٦٩

وملخّص المعنى : أنّ فرعون وجنوده رفعوا أنفسهم في الأرض فوق مقدارها بالباطل والظلم ، وأنفوا وتعظّموا عن قبول الحقّ في اتّباع موسى.

(وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ) بالنشور.

وقرأ نافع وحمزة والكسائي بفتح الياء وكسر الجيم.

(فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ) فطرحناهم في البحر ، كما مرّ بيانه.

وفيه فخامة وتعظيم لشأن الآخذ ، واستحقار للمأخوذين. كأنّه أخذهم وإن كانوا الكثر الكثير والجمّ الغفير ، وطرحهم في اليمّ ، كما أخذ آخذ بحصيات في كفّه فطرحهنّ في البحر. ونظيره : (وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَالسَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) (١). وما هي إلّا تصويرات وتمثيلات لاقتداره ، وأنّ كلّ مقدور وإن عظم وجلّ فهو مستصغر إلى جنب قدرته.

(فَانْظُرْ) يا محمّد ، أي : تفكّر وتدبّر وانظر بعين قلبك (كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ) كيف أخرجناهم من ديارهم وأغرقناهم ، وحذّر قومك عن مثلها.

(وَجَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً) قدوة للضلال بالتخلية ومنع الألطاف الصارفة عنه ، حتّى صمّموا على الكفر ، وصاروا أئمّة فيه ، دعاة إلى الكفر وسوء عاقبته. أو بالتسمية والدعوة ، كقوله : (وَجَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً) (٢). والمعنى : دعوناهم أئمّة.

(يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ) دعاة على وجه الاستمرار إلى موجباتها من الكفر والمعاصي ، كما يدعى خلفاء الحقّ أئمّة دعاة إلى الجنّة. ومن ذلك قولك : جعله بخيلا وفاسقا ، إذا دعاه وقال : إنّه بخيل وفاسق.

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ) بدفع العذاب عنهم ، كما ينصر الأئمّة الدعاة إلى الجنّة.

(وَأَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً) طردا عن الرحمة. أو لعن اللاعنين ، بأن

__________________

(١) الزمر : ٦٧.

(٢) الزخرف : ١٩.

١٧٠

يلعنهم الملائكة والمؤمنون. (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ) من المطرودين ، أو ممّن قبح وجوههم.

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٣) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (٤٤) وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (٤٥) وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَلكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٤٦) وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (٤٨) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٩) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (٥٠))

١٧١

(وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) أقوام نوح وهود وصالح ولوط (بَصائِرَ لِلنَّاسِ) أنوارا لقلوبهم ، أي : حججا ساطعة وبراهين نيّرة ، تتبصّر بها الحقائق ، وتميّز بين الحقّ والباطل. ونصبه على الحال. والبصيرة : نور القلب الّذي يستبصر به ، كما أنّ البصر نور العين الّذي تبصر به.

(وَهُدىً) وإرشادا إلى الشرائع الّتي هي سبل الله (وَرَحْمَةً) لأنّهم لو عملوا بها نالوا رحمة الله (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) ليكونوا على حال يرجى منهم التذكّر والاتّعاظ ، أو إرادة أن يتذكّروا مشبّهين الإرادة بالترجّي ، فاستعير لها.

عن أبي سعيد الخدريّ ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «ما أهلك الله قوما ، ولا قرنا ، ولا أمّة ، ولا أهل قرية ، بعذاب من السماء ، منذ أنزل التوراة على وجه الأرض ، غير أهل القرية الّذين مسخوا قردة ، ألم تر أنّ الله تعالى قال : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى) الآية».

(وَما كُنْتَ) ما كنت حاضرا يا محمّد (بِجانِبِ الْغَرْبِيِ) يريد الطور أو الوادي ، فإنّه كان في شقّ الغرب. وهو المكان الّذي وقع فيه ميقات موسى ، وكتب الله له في الألواح. (إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ) إذ أوحينا إليه ـ الأمر ، أو عهدنا إليه ، وأحكمنا الأمر الّذي أردناه من الرسالة إلى فرعون وقومه.

(وَما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ) للوحي إليه ، أو على الوحي إليه وهم النقباء السبعون المختارون للميقات ـ حتّى تقف من جهة المشاهدة على ما جرى من أمر موسى عليه‌السلام في ميقاته ، وكتبة التوراة له في الألواح ، وغير ذلك ، فتخبر قومك به عن مشاهدة وعيان.

والمراد الدلالة على أنّ إخباره عن ذلك من قبيل الإخبار عن المغيّبات الّتي لا تعرف إلّا بالوحي ، ولذلك استدرك عنه بقوله : (وَلكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً) أي : ولكنّا أوحينا إليك ، لأنّا أنشأنا قرونا مختلفة بعد موسى (فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ) على القرن

١٧٢

الّذي أنت فيهم (المر) أمد انقطاع الوحي عنهم. فحرّمت الأخبار ، وتغيّرت الشرائع ، واندرست العلوم. فوجب إرسالك إليهم ، فأرسلناك وعلّمناك قصّة موسى عليه‌السلام ، وغيرها من قصص الأنبياء. كأنّه قال : وما كنت شاهدا لموسى وما جرى عليه ، ولكنّا أوحيناه إليك. فذكر سبب الوحي ـ الّذي هو إطالة الفترة ـ وأقامه مقام مسبّبه ، على عادة الله في اختصاراته.

(وَما كُنْتَ ثاوِياً) مقيما (فِي أَهْلِ مَدْيَنَ) وهم شعيب والمؤمنون به (تَتْلُوا عَلَيْهِمْ) تقرأ عليهم تعلّما منهم. قال مقاتل : معناه : لم تشهد أهل مدين ، فتقرأ على أهل مكّة (آياتِنا) الّتي فيها قصّتهم (وَلكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ) ولكنّا أرسلناك ، وأخبرناك بها ، وعلّمناكها. فيدلّ ذلك على صحّة نبوّتك.

(وَما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا) قيل : المراد به وقت ما أعطاه التوراة ، وبالأوّل حينما استنبأه ، لأنّهما المذكوران في القصّة. وقيل : بالعكس.

(وَلكِنْ) علّمناك (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً) متعلّق بالفعل المحذوف (ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ) لوقوعهم في فترة بينك وبين عيسى. وهي خمسمائة وخمسون سنة. أو بينك وبين إسماعيل ، على أنّ دعوة موسى وعيسى كانت مختصّة ببني إسرائيل وما حواليهم. (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) لكي يتّعظوا ويتفكّروا ويعتبروا ، فيتنزّهوا عن المعاصي.

وفي هذا دلالة على وجوب فعل اللطف ، فإنّ الإنذار والدعوة لطف من الله تعالى مقرّب منه.

(وَلَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً) «لولا» الأولى امتناعيّة ، وجوابها محذوف ، وهو : ما أرسلناك. والثانية تحضيضيّة. والفاء الأولى للعطف ، والأخرى جواب «لولا» ، لكونها في حكم الأمر ، من قبل أنّ الأمر باعث على الفعل ، والباعث والمحضّض من واد واحد.

١٧٣

والمعنى : لو لا قولهم إذا أصابتهم عقوبة بسبب كفرهم ومعاصيهم : ربّنا هلّا أرسلت إلينا رسولا يبلّغنا آياتك (فَنَتَّبِعَ آياتِكَ) يعني : الرسول المصدّق بنوع من المعجزات (وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) من المصدّقين ، لمّا أرسلناك ، أي : إنّما أرسلناك قطعا لعذرهم ، وإلزاما للحجّة عليهم. وهو في معنى قوله : (لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ) (١).

إن قيل : كيف استقام هذا المعنى وقد جعلت العقوبة هي السبب في الإرسال لا القول ، لدخول حرف الامتناع عليها لا على القول؟

أجيب : أنّ القول هو المقصود بأن يكون سببا لإرسال الرسل ، لكن العقوبة لمّا كانت هي السبب للقول ، وكان وجوده بوجودها ، جعلت العقوبة كأنّها سبب الإرسال بواسطة القول ، فأدخلت عليها «لولا» ، وجيء بالقول معطوفا عليها بالفاء المعطية معنى السببيّة ، المنبّهة على أنّ القول هو المقصود بأن يكون سببا ، وأنّه لا يصدر عنهم حتّى تلجئهم العقوبة ، فيؤول معناه إلى ما فسّرناه.

(فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا) وهو الرسول المصدّق بالكتاب المعجز مع سائر المعجزات ، وقطعت معاذيرهم ، وسدّ طريق احتجاجهم (قالُوا) اقتراحا وتعنّتا (لَوْ لا أُوتِيَ) هل أوتي محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى) من نزول الكتاب جملة واحدة ، واليد ، والعصا ، وفلق البحر ، وغيرها من الآيات.

فاحتجّ عليهم بقوله : (أَوَلَمْ يَكْفُرُوا) يعني : أبناء جنسهم ، ومن مذهبهم مذهبهم وعنادهم عنادهم. وهم الكفرة في زمن موسى. (بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ) من قبل وجودك ونزول القرآن.

(قالُوا سِحْرانِ) أي : موسى وهارون. وعن ابن عبّاس : موسى

__________________

(١) النساء : ١٦٥.

١٧٤

ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (تَظاهَرا) تعاونا بإظهار تلك الخوارق ، أو بتوافق الكتابين.

وقرأ الكوفيّون : سحران ، بمعنى ذوا سحر. أو جعلهما سحرين مبالغة في وصفهما. أو المراد التوراة والقرآن.

(وَقالُوا إِنَّا بِكُلٍ) أي : بكلّ منهما ، أو بكلّ الأنبياء (كافِرُونَ).

(قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما) ممّا أنزل على موسى وعليّ.

وإضمارهما على قراءة «ساحران» لدلالة المعنى. وهو يؤيّد أنّ المراد بالساحرين موسى ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) إنّا ساحران مختلقان. وهذا من الشروط الّتي يراد بها الإلزام والتبكيت. والمجيء بحرف الشكّ للتهكّم بهم ، فإنّ امتناع الإتيان بكتاب أهدى من الكتابين ، أمر معلوم متحقّق لا مجال فيه للشكّ.

ثمّ قال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ) دعاءك إلى الإتيان بكتاب أهدى. فحذف المفعول للعلم به. ولأنّ فعل الاستجابة يعدّى بنفسه إلى الدعاء ، فيقال : استجاب الله دعاءه ، وباللام إلى الداعي ، فإذا عدّي إليه حذف الدعاء غالبا ، فلا يكاد يقال : استجاب له دعاءه.

(فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ) أي : الزموا ، ولم تبق لهم حجّة إلّا اتّباع الهوى ، إذ لو اتّبعوا حجّة لأتوا بها.

ثمّ قال : (وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ) استفهام بمعنى النفي (بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ) في موضع الحال للتأكيد أو التقييد ، فإنّ هوى النفس قد يوافق الحقّ. والمعنى : مطبوعا على قلبه ، ممنوع الألطاف.

(إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) الّذين ظلموا أنفسهم بالانهماك في اتّباع الهوى ، فخلّاهم وأنفسهم. وقيل : معناه : لا يحكم بهدايتهم ، أو لا يهديهم إلى طريق الجنّة.

١٧٥

(وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (٥١) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (٥٢) وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (٥٣) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (٥٤) وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقالُوا لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (٥٥) إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (٥٦))

ثمّ بيّن سبحانه صفة القرآن ، فقال : (وَلَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ) أتبعنا في الإنزال بعضه بعضا متّصلا ، وعدا ووعيدا ، وقصصا وعبرا ، ومواعظ ونصائح. أو في النظم ، بأن أنزلنا عليهم إنزالا متّصلا بعضه في أثر بعض ، تقريرا للدعوة بالحجّة ، كقوله : (وَما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) (١). (لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) إرادة أن يتذكّروا فيؤمنوا ويطيعوا.

(الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) التوراة والإنجيل (مِنْ قَبْلِهِ) قبل القرآن (هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ) نزلت في مؤمني أهل الكتاب. وعن رفاعة بن قرظة : نزلت في عشرة أنا أحدهم. وقيل : في أربعين من أهل الإنجيل ، اثنان وثلاثون جاؤا مع جعفر رضي‌الله‌عنه من الحبشة ، وثمانية من الشام.

__________________

(١) الشعراء : ٥.

١٧٦

(وَإِذا يُتْلى) أي : القرآن (عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ) أي : بأنّه كلام الله (إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا) استئناف تعليلا للإيمان به ، لأنّ كونه حقّا من الله حقيق بأن يؤمن به.

(إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ) من قبل وجوده ونزوله (مُسْلِمِينَ) كائنين على دين الإسلام. استئناف آخر بيانا لقوله : «آمنّا به» ، لأنّه يحتمل أن يكون إيمانا قريب العهد وبعيده ، فأخبروا أنّ إيمانهم به متقادم ، لأنّ آباءهم القدماء ذكروه في الكتب المتقدّمة ، وكونهم على دين الإسلام قبل نزول القرآن ، أو تلاوته عليهم.

(أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ) مرّة على إيمانهم بكتابهم ، ومرّة على إيمانهم بالقرآن. (بِما صَبَرُوا) بصبرهم وثباتهم على الإيمانين. أو على الإيمان بالقرآن قبل النزول وبعده. أو على أذى المشركين وأهل الكتاب.

(وَيَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ) ويدفعون بالطاعة المعصية المتقدّمة ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أتبع الحسنة السيّئة تمحها».

أو بالحسن من الكلام الكلام القبيح الّذي يسمعونه من الكفّار. ويؤيّد هذا القول ما روي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّ معناه : يدفعون بالحلم جهل الجهلاء ، وبالمداراة مع الكفرة أذاهم عن أنفسهم. (وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ) في سبيل الخير.

(وَإِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ) السفه من الناس ، والقبيح من القول (أَعْرَضُوا عَنْهُ) تكرّما وتحلّما ، ولم يقابلوه بمثله (وَقالُوا) للّاغين (لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ) لا نسأل نحن عن أعمالكم ، ولا تسألون عن أعمالنا ، بل كلّ منّا يجازى على عمله. (سَلامٌ عَلَيْكُمْ) متاركة لهم وتوديعا. أو دعاء لهم بالسلامة عمّا هم فيه.

والمعنى : أمان منّا لكم أن نقابل لغوكم بمثله. وهي كلمة حلم. (لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ) لا نطلب صحبتهم ، ولا نريد مجالستهم ، وإنّما نبتغي الحكماء والعلماء. وقيل : معناه : لا نريد أن نكون من أهل الجهل أو السفه.

١٧٧

ولمّا تقدّم ذكر الرسول والقرآن ، وأنّه أنزل هدى للخلق ، بيّن سبحانه أنّه ليس عليه الاهتداء ، وإنّما عليه البلاغ والأداء ، فقال :

(إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ) هدايته ، أي : لا تقدر أن تدخل في الإسلام كلّ من أحببت أن يدخل فيه من قومك وغيرهم ، لأنّك عبد لا تعلم المطبوع على قلبه من غيره. وهم الّذين لا تنفع الألطاف فيهم ، لأنّهم رسخوا في الكفر ، وصمّموا عليه عنادا ولجاجا ، وإنكارا واستكبارا ، مع أنّهم عارفون بحقيقة الإسلام. وقيل : من أحببته لقرابته.

والمراد بالهداية هنا اللطف الّذي يختار العبد عنده الإيمان ، فإنّه لا يقدر عليه إلّا الله تعالى.

وقيل : المراد بها الإجبار على الاهتداء ، أي : أنت لا تقدر على ذلك.

(وَلكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ) يدخل في الإسلام من يشاء. وهم الّذين علم أنّهم غير مطبوع على قلوبهم ، وأنّ الألطاف تنفعهم ، فيقرن بهم ألطافه حتّى تدعوهم إلى القبول. وهم الّذين استعدّوا له ، واسترشدوا الحقّ. قيل : يهدي به من يشاء على وجه الإجبار. (وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) بالمستعدّين لذلك.

واعلم أنّ أهل السنّة قالوا : إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يحبّ إسلام أبي طالب ، فنزلت هذه الآية. وكان يكره إسلام وحشي قاتل حمزة ، فنزل فيه (قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ) (١). فلم يسلم أبو طالب ، وأسلم وحشي.

وهذا كلام ضعيف ، وقول ركيك ، لأنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لا يجوز أن يخالف الله سبحانه في إرادته ، كما لا يجوز أن يخالفه في أوامره ونواهيه. وإذا كان الله تعالى

__________________

(١) الزمر : ٥٣.

١٧٨

على ما زعم القوم ، لم يرد إيمان أبي طالب ، بل أراد كفره ، وأراد النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إيمانه ، فقد حصل غاية الخلاف بين إرادتي المرسل والمرسل.

فكأنّه سبحانه يقول على مقتضى اعتقادهم : إنّك يا محمّد تريد إيمانه ، ولا أريد إيمانه ، ولا أخلق فيه الإيمان ، مع تكفّله بنصرتك ، وبذل مجهوده في إعانتك والذبّ عنك ، ومحبّته لك ، ونعمته عليك. وتكره أنت إيمان وحشي ، لقتله عمّك حمزة ، وأنا أريد إيمانه ، وأخلق في قلبه الإيمان.

وأيضا قالوا : إنّ أبا طالب قال عند موته : يا معشر بني هاشم أطيعوا محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وصدّقوه تفلحوا وترشدوا.

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا عمّ تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم ، وتدعها لنفسك؟ قال : فما تريد يا ابن أخي؟

قال : أريد منك كلمة واحدة ، فإنّك في آخر يوم من أيّام الدنيا ، أن تقول : لا إله إلّا الله ، أشهد لك بها عند الله.

قال : يا ابن أخي قد علمت أنّك لصادق ، ولكنّي أكره أن يقال : خرع (١) عند الموت. ولولا أن تكون عليك وعلى بني إسرائيل غضاضة ومسبّة بعدي لقلتها ، ولأقررت بها عينك عند الفراق ، لما أرى من شدّة وجدك ونصيحتك ، ولكنّي سوف أموت على ملّة الأشياخ : عبد المطّلب وهاشم وعبد مناف.

ونحن ذكرنا في سورة الأنعام (٢) أنّ أهل البيت عليهم‌السلام قد أجمعوا على أنّ أبا طالب مات مسلما ، وتظاهرت الروايات بذلك عنهم. وأوردنا هناك طرفا من أشعاره الدالّة على تصديقه للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتوحيده ، فإنّ استيفاء جميعه لا تتّسع له الطوامير.

__________________

(١) خرع الرجل : ضعف رأيه بعد قوّة.

(٢) راجع ج ٢ ص ٣٧٦.

١٧٩

(وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (٥٧) وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (٥٨) وَما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَأَهْلُها ظالِمُونَ (٥٩))

روي : أنّ الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف وأضرابه قالوا : نحن نعلم أنّك على الحقّ ، ولكنّا نخاف إن اتّبعناك وخالفنا العرب بذلك ـ وإنّما نحن أكلة رأس ، أي : قليلون ـ أن يتخطّفونا من أرضنا ، فنزلت : (وَقالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ) نستلب (مِنْ أَرْضِنا) ونخرج منها. يعنون أرض مكّة والحرم.

فردّ الله تعالى عليهم بقوله : (أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ) نجعل مكانهم (حَرَماً آمِناً) ذا أمن بحرمة البيت الّذي فيه يتناحر العرب حوله ، وهم آمنون في حرمهم. وإسناد أمن إلى أهل الحرم حقيقة ، وإلى الحرم مجاز.

(يُجْبى إِلَيْهِ) يحمل إليه ويجمع فيه. من : جبيت الماء في الحوض ، أي : جمعته. وقرأ نافع ويعقوب في رواية بالتاء. (ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ) من كلّ أوب.

١٨٠