زبدة التّفاسير - ج ٥

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٥

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-07-8
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٥٩٦

حيث أمرني ربّي (إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ) الّذي يمنعني من أعدائي (الْحَكِيمُ) الّذي لا يأمرني إلّا بما فيه صلاحي.

روي : أنّه هاجر من كوثى ـ وهي من سواد الكوفة ـ مع لوط وامرأته سارة ابنة عمّه إلى حرّان ، ثمّ منها إلى الشام ، فنزل فلسطين ، ونزل لوط سدوم. ومن ثمّ قالوا : لكلّ نبيّ هجرة ، ولإبراهيم هجرتان. وله حينئذ خمس وسبعون سنة.

(وَوَهَبْنا لَهُ) من بعد إسماعيل (إِسْحاقَ) ولدا (وَيَعْقُوبَ) نافلة ، حين أيس من الولادة ، ولذلك لم يذكر إسماعيل.

(وَجَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ) فكثر منهم الأنبياء (وَالْكِتابَ) يريد به الجنس ، ليتناول الكتب الأربعة.

(وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ) على هجرته إلينا (فِي الدُّنْيا) بإعطاء الولد في غير أوانه ، والذرّيّة الطيّبة ، واستمرار النبوّة فيهم ، وانتماء أهل الملل إليه ، والثناء والصلاة عليه إلى آخر الدهر. وفي هذا دلالة على أنّه يجوز أن يثيب الله في دار التكليف ببعض الثواب.

(وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) لفي عداد الكاملين في الصلاح ، مثل آدم ونوح.

(وَلُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (٢٨) أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (٢٩) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (٣٠))

(وَلُوطاً) عطف على إبراهيم ، أو على ما عطف عليه (إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ

٢٢١

إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ) الفعلة البالغة في القبح (ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ) جملة مستأنفة ، مقرّرة لفحاشة تلك الفعلة. كأنّ قائلا قال : لم كانت فاحشة؟ فقيل له : لأنّ أحدا قبلهم لم يقدم عليها ، اشمئزازا منها في طباعهم ، لإفراط قبحها ، حتّى أقدم عليها قوم لوط ، لخبث طينتهم ، وقذر طباعهم.

(أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ) وتتعرّضون للسابلة بالقتل وأخذ الأموال ، أو بالفاحشة ، حتّى انقطعت الطرق. أو تقطعون سبيل النسل بالإعراض عن النساء.

(وَتَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ) في مجالسكم الغاصّة بأهلها. ولا يقال : النادي إلّا ما دام فيه أهله ، فإذا قاموا عنه لم يبق ناديا. والمنكر هو : اللواط ، والتضارط ، وكشف العورات ، وحلّ الإزار من الأقبية (١) ، والخذف بالحصى ، والرمي بالبنادق ، والفرقعة ، والسباب ، والفحش في المزاح ، والسخريّة بمن مرّ بهم ، وضرب الدفوف والمزامير ، وغير ذلك من أنواع القبائح.

(فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) فيما تعدنا من نزول العذاب. أو في استقباح ذلك. أو في دعوى النبوّة المفهومة من التوبيخ.

(قالَ رَبِّ انْصُرْنِي) بإنزال العذاب (عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ) الّذين يفسدون الناس بحملهم على ما كانوا عليه من الفواحش وأنواع المعاصي طوعا وكرها.

ولأنّهم ابتدعوا الفاحشة ، وسنّوها فيمن بعدهم. وصفهم بذلك مبالغة في استنزال العذاب ، وإشعارا بأنّهم أحقّاء بأن يعجّل لهم العذاب.

__________________

(١) الأقبية جمع القباء. وهو ثوب يلبس فوق الثياب. والخذف بالحصاة : الرمي بها من بين سبّابتيه. وفرقع الأصابع فرقعة : أنقضها.

٢٢٢

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (٣١) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٢) وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (٣٣) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (٣٤) وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٣٥))

ثمّ بيّن سبحانه أنّه استجاب دعاء لوط ، وبعث جبرئيل ومعه الملائكة لتعذيب قومه ، فقال :

(وَلَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى) بالبشارة بالولد والنافلة (قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ) قرية سدوم. والإضافة لفظيّة ، لأنّ المعنى على الاستقبال. وإنّما قالوا هذا ، لأنّ قريتهم كانت قريبة من قرية قوم إبراهيم.

ثمّ علّلوا إهلاكهم بإصرارهم وتماديهم في ظلمهم الّذي هو الكفر وأنواع المعاصي ، فقالوا : (إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ) أي : الظلم قد استمرّ منهم في الأيّام السالفة ، وهم مصرّون عليه.

ولمّا علّلوا إهلاك أهلها بظلمهم (قالَ) إبراهيم : (إِنَّ فِيها لُوطاً) فكيف تهلكونها؟ وليس هذا إخبارا لهم بكونه فيها ، وإنّما هو جدال في شأنه. والمعنى : أنّ إبراهيم لمّا سمع تعليلهم بإهلاك أهلها بسبب كفرهم ، اعترض عليهم بأنّ فيها من

٢٢٣

هو بريء من الظلم. وأراد بالجدال إظهار الشفقة عليه ، وما يجب للمؤمن من التحزّن لأخيه ، والتشمرّ في نصرته ، والخوف من أن يمسّه أذى وضرر.

(قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ) نحن أعلم منك وأخبر بحال لوط وحال قومه ، وامتيازه منهم الامتياز البيّن ، وأنّه لا يستأهل ما يستأهلون ، فهوّن على نفسك الخطب ، فإنّا نخلّصه بإخراجه وأهله منها ، ثمّ نهلك قومه. فهذا تسليم لقوله ، مع ادّعائهم مزيد العلم منهم بلوط ، وأنّهم ما كانوا غافلين عن حاله. وجواب عنه بتخصيص الأهل بمن عداه وأهله. وقرأ أهل الكوفة غير عاصم ويعقوب : لننجينّه ، خفيفة الجيم ، ساكنة النون. (إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) الباقين في العذاب لا تنجو منه ، أو في القرية.

(وَلَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ) جاءته المساءة والغمّ بسببهم ، مخافة أن يقصدهم قومه بسوء ، أي : ساء مجيئهم لمّا رآهم في أحسن صورة ، لما كان يعلمه من خبث فعل قومه. و «أن» مزيدة لتأكيد الفعلين واتّصالهما.

(وَضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً) وضاق لوط بشأن الملائكة وتدبير أمرهم ذرعه ، أي : طاقته. يعني : فقدت طاقته في صيانتهم عن قومه ، فإنّ ضيق الذرع عبارة عن فقد الطاقة. ومثل ذلك قولهم : ضاقت يده. وبإزائه : رحب ذرعه بكذا ، إذا كان مطيقا له.

والأصل فيه : أنّ الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير الذراع ، فضرب ذلك مثلا في العجز والقدرة.

ولمّا رأى الملائكة حزنه وضجرته ، وضيق ذرعه في دفع القوم عنهم (وَقالُوا لا تَخَفْ وَلا تَحْزَنْ) على تمكّنهم منك ومنّا (إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ) من العذاب (إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ) الباقين في العذاب. وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي : منجوك بالتخفيف. ووافقهم أبو بكر فيه. وموضع الكاف الجرّ على المختار. ونصب «أهلك» بإضمار فعل ، أو بالعطف على محلّها باعتبار الأصل.

(إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً) أي : عذابا (مِنَ السَّماءِ) سمّي

٢٢٤

العذاب رجزا ، لأنّه يقلق المعذّب. من قولهم : ارتجز وارتجس إذا اضطرب. وقرأ ابن عامر : منزّلون بالتشديد. (بِما كانُوا يَفْسُقُونَ) بسبب فسقهم ، وخروجهم عن طاعة الله.

(وَلَقَدْ تَرَكْنا مِنْها) من القرية (آيَةً بَيِّنَةً) عبرة واضحة ، ودلالة ظاهرة على قدرتنا. وهي الحكاية الشائعة ، أو آثار ديارهم الخربة. وقيل : بقيّة الحجارة الممطورة ، فإنّها كانت باقية بعد. وقيل : بقيّة أنهارها المسودّة على وجه الأرض.

(لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يستعملون عقولهم في الاستبصار والاعتبار. وهذا متعلّق بـ «تركنا» أو «بيّنة».

(وَإِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (٣٦) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٣٧) وَعاداً وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (٣٨) وَقارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ (٣٩) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (٤٠))

٢٢٥

ثمّ عطف سبحانه قصّة شعيب وقومه على ما تقدّم ، فقال : (وَإِلى مَدْيَنَ) أي : وأرسلنا إلى قبيلة مدين (أَخاهُمْ) في النسب (شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ) وافعلوا ما ترجون به ثوابه ، من فعل الطاعات وتجنّب السيّئات. فأقيم المسبّب مقام السبب. وقيل : إنّه من الرجاء بمعنى الخوف. (وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) مرّ معناه.

(فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ) الزلزلة الشديدة. وعن الضحّاك : هي صيحة جبرئيل ، لأنّ القلوب ترجف لها. (فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ) بلدهم ، أو دورهم. ولم يجمع لأمن اللبس. (جاثِمِينَ) باركين على ركبهم ميّتين.

(وَعاداً وَثَمُودَ) منصوبان بإضمار : اذكر ، أو بفعل دلّ عليه ما قبله ، مثل : أهلكنا. وقرأ حمزة وحفص ويعقوب : وثمود غير منصرف ، على تأويل القبيلة.

(وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ) أي : بعض مساكنهم. أو إهلاكهم من جهة مساكنهم ، إذا نظرتم إليها عند مروركم بها. وكان أهل مكّة يمرّون عليها في أسفارهم فيبصرونها.

(وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ) من الكفر والمعاصي. (فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ) السويّ الّذي بيّنه الرسل عليهم‌السلام (وَكانُوا مُسْتَبْصِرِينَ) عقلاء متمكّنين من النظر والاستبصار ، ولكنّهم لم يفعلوا. أو متبيّنين أنّ العذاب لا حق بهم بإخبار الرسل لهم ، ولكنّهم لجّوا حتّى هلكوا.

(وَقارُونَ) عطف على «عادا». وتقديمه على قوله : (وَفِرْعَوْنَ) لشرف نسبه. (وَهامانَ وَلَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ) بالحجج الواضحات ، من قلب العصا حيّة ، واليد البيضاء ، وفلق البحر ، وغيرها (فَاسْتَكْبَرُوا) فطلبوا التجبّر ، ولم ينقادوا للحقّ (فِي الْأَرْضِ وَما كانُوا سابِقِينَ) فائتين ، بل أدركهم أمر الله تعالى ، فلم يفوتوه. من : سبق طالبه إذا فاته.

٢٢٦

(فَكُلًّا) من المذكورين (أَخَذْنا) عاقبنا (بِذَنْبِهِ) بتكذيبهم الرسل (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً) وهم قوم لوط. وقيل : عاد. وهي ريح عاصف فيها حصباء. وقيل : ملك كان يرميهم. (وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ) صيحة جبرئيل. وهم ثمود وقوم شعيب. (وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ) كقارون (وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) وهم قوم نوح وفرعون وقومه.

(وَما كانَ اللهُ لِيَظْلِمَهُمْ) ليعاملهم معاملة الظالم ، فيعاقبهم بغير جرم ، إذ هو قادح في العدالة الواجبة عليه (وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) بما يوجب العذاب ، من الكفر وتكذيبهم الرسل.

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (٤١) إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٤٢) وَتِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (٤٣))

ثمّ شبّه سبحانه ما اتّخذوه من دون الله متّكلا في دينهم ، ومعوّلا عليهم ، بما هو مثل عند الناس في الوهن والوهي (١) والضعف ، وهو نسج العنكبوت ، فقال :

(مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ أَوْلِياءَ) من الأصنام وغيرها (كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً) فكما أنّ بيت العنكبوت لا يغني عنها شيئا ، لكونه في غاية الوهن والضعف ، ولا يجدي نفعا ، كذلك الأصنام لا تملك لهم خيرا وشرّا ،

__________________

(١) الوهي : الضعف والاسترخاء.

٢٢٧

ونفعا وضرّا.

والوليّ : هو المتولّي للنصرة. وهو أبلغ من الناصر ، لأنّ الناصر قد يكون ناصرا بأن يأمر غيره بالنصرة ، والوليّ هو الّذي يتولّى النصرة بنفسه.

والعنكبوت : يقع على الواحد والجمع ، والمذكّر والمؤنّث. والتاء فيه كتاء طاغوت. ويجمع على : عناكب ، وعناكيب ، وعكاب ، وعكبة ، وأعكب.

(وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ) أضعفها (لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ) لا بيت أوهن وأقلّ وقاية للحرّ والبرد منه (لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) يرجعون إلى علم لعلموا أنّ هذا مثلهم ، وأنّ دينهم أوهن من ذلك. ويجوز أن يخرج الكلام بعد تصحيح التشبيه مخرج المجاز ، بأن يكون المراد ببيت العنكبوت دينهم ، سمّاه به تحقيقا للتمثيل. فكأنّه قال : وإنّ أوهن ما يعتمد عليه في الدين عبادة الأوثان.

وقل لهم : (إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ) وقرأ البصريّان ويعقوب بالياء ، حملا على ما قبله.

و «ما» استفهاميّة منصوبة بـ «يدعون». و «يعلم» معلّقة عنها ، و «من» للتبيين.

وهذا ما ذهب إليه سيبويه والخليل. أو نافية ، و «من» مزيدة ، و «شيء» مفعول «يدعون». وعلى التقديرين ؛ هذا الكلام تجهيل لهم ، حيث عبدوا ما ليس بشيء ، لأنّه جماد ليس معه مصحّح العلم والقدرة ، وتوكيد للمثل المذكور. أو «ما» مصدريّة ، و «شيء» مصدر ، أو موصولة مفعول لـ «يعلم». ومفعول «يدعون» عائدها المحذوف. وعلى هذين التقديرين وعيد لهم.

ثمّ علّل على ذلك بقوله : (وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) والمعنى : إنّ من فرط الغباوة إشراك ما لا يعدّ شيئا بمن هذا شأنه. وإنّ الجماد بالإضافة إلى القادر القاهر على كلّ شيء ، البالغ في العلم وإتقان الفعل الغاية ، كالمعدوم. وإنّ من هذا صفته قادر على مجازاتهم.

٢٢٨

روي : أنّ السفهاء من قريش كانوا يقولون : إنّ ربّ محمّد يضرب المثل بالذباب والعنكبوت ، ويضحكون من ذلك ، فردّ الله تعالى ذلك عليهم بقوله :

(وَتِلْكَ الْأَمْثالُ) يعني : هذا المثل ونظائره (نَضْرِبُها) نذكرها ونبيّنها (لِلنَّاسِ) تقريبا لما بعد من أفهامهم ، من حسن المعرفة والتوحيد ، وقبح ما هم فيه من عبادة الأصنام (وَما يَعْقِلُها) وما يعقل حسنها وصحّتها وفائدتها (إِلَّا الْعالِمُونَ) الّذين يتدبّرون الأشياء على ما ينبغي. فهم بالتدبّر الكامل يفهمون أنّ الأمثال والتشبيهات هي الطرق إلى المعاني المحتجبة في الأستار ، حتّى تبرزها وتكشف عنها وتصوّرها للأفهام ، كما صوّر هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك وحال الموحّد.

وروى الواحدي بالإسناد عن جابر قال : «إنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لمّا تلا هذه الآية قال : «العالم من عقل عن الله تعالى ، فعمل بطاعته ، واجتنب سخطه» (١).

(خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (٤٤) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَأَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (٤٥)) ثمّ بيّن سبحانه ما يدلّ على إلهيّته واستحقاقه العبادة ، فقال : (خَلَقَ اللهُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ) أخرجهما من العدم إلى الوجود (بِالْحَقِ) ملتبسا بالغرض الصحيح الّذي هو حقّ لا باطل ، فإنّ المقصود بالذات من خلقهما أن تكونا مساكن عباده ، ومواضع إفاضة الخير ، ودلائل على ذاته وصفاته ، كما

__________________

(١) تفسير الوسيط ٣ : ٤٢٠.

٢٢٩

أشار إليه بقوله : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ) لأنّهم المنتفعون بها.

ثمّ خاطب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : (اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ) اقرأ القرآن مرّة بعد اخرى على المكلّفين تقرّبا إلى الله بقراءته ، وتحفّظا لألفاظه ، واستكشافا لمعانيه ، فإنّ القارئ المتأمّل قد ينكشف له بالتكرار ما لم ينكشف له أوّل ما قرع سمعه.

(وَأَقِمِ الصَّلاةَ) الّتي هي المستحقّ بها الثواب عند الله ، وهي الّتي تكون مؤدّاة مع مراعاة شرائطها المعتبرة فيها ، ومحافظة أركانها وسائر واجباتها (إِنَّ الصَّلاةَ) المنعوتة (تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ) بأن تكون سببا للانتهاء عن المعاصي حال الاشتغال بها وغيرها ، من حيث إنّها تذكّر لله تعالى ، وتورث النفس خشية منه.

روي عن أنس : أنّ فتى من الأنصار كان يصلّي مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الصلوات الخمس ، ولا يدع شيئا من الفواحش إلّا ركبه ، فوصف له ، فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ الصّلاة ستنهاه يوما». فلم يلبث أن تاب.

وعن جابر : قال : قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّ فلانا يصلّي بالنهار ، يسرق بالليل. فقال : «إنّ صلاته لتردعه».

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «لا صلاة لمن لم يطع الصلاة ، وطاعة الصلاة أن ينتهي عن الفحشاء والمنكر».

ومعنى ذلك : أنّ الصلاة إذا كانت ناهية عن المعاصي ، فمن أقامها ثمّ لم ينته عن المعاصي ، لم تكن صلاته بالصفة الّتي وصفها الله تعالى بها. فإن تاب من بعد ذلك وترك المعاصي ، فقد تبيّن أنّ صلاته كانت نافعة له ناهية ، وإن لم ينته إلّا بعد زمان.

وروى أصحابنا عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من أحبّ أن يعلم أقبلت صلاته أم

٢٣٠

لم تقبل؟ فلينظر هل منعته صلاته عن الفحشاء والمنكر ، فبقدر ما منعته قبلت منه».

وعن ابن عبّاس : من لم تأمره صلاته بالمعروف ، ولم تنهه عن المنكر ، لم يزدد بصلاته من الله إلّا بعدا.

وعن الحسن : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر ، فليست صلاته بصلاة ، وهي وبال عليه.

وفي الآية دلالة على أنّ فعل الصلاة لطف للمكلّف في ترك القبيح والمعاصي الّتي ينكرها العقل والشرع.

(وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ) وللصلاة أكبر من سائر الطاعات. وإنّما عبّر عنها بالذكر ، للتعليل بأنّ اشتمالها على ذكره هو العمدة في كونها مفضّلة على الحسنات ، ناهية عن السيّئات ، كأنّه قال : وللصلاة أكبر ، لأنّها ذكر الله.

وعن ابن عبّاس : معناه : ولذكر الله تعالى إيّاكم برحمته ، أكبر من ذكركم إيّاه بطاعته.

وروي عن عطاء بن السائب ، عن عبد الله بن ربيعة قال : قال ابن عبّاس : أرأيت قول الله تعالى : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ)؟ قال : قلت : ذكر الله بالقرآن حسن ، وذكره بالصلاة حسن ، وبالتسبيح والتكبير حسن ، وأفضل من ذلك أن يذكر الرجل ربّه عند المعصية فينحجز (١) عنها. فقال ابن عبّاس : لقد قلت قولا عجبا ، وهو كما قلت ، ولكن معنى الآية : ذكر الله إيّاكم أكبر من ذكركم إيّاه.

وقيل : معناه : ذكر العبد لربّه من التكبير والتهليل والتسبيح والتحميد وغيرها ، أكبر ممّا سواه ، وأفضل من جميع أفعاله.

روي عن ثابت البناني قال : إنّ رجلا أعتق أربع رقاب ، فقال رجل آخر : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر. ثمّ دخل المسجد ، فأتى حبيب بن

__________________

(١) أي : فيمتنع.

٢٣١

أوفى السلمي وأصحابه ، فقال : ما تقولون في رجل أعتق أربع رقاب ، وإنّي أقول : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلّا الله والله أكبر ، فأيّهما أفضل؟ فنظروا هنيهة ، فقالوا : ما نعلم شيئا أفضل من ذكر الله.

وعن معاذ بن جبل قال : ما عمل آدميّ عملا أنجى له من عذاب الله من ذكر الله عزوجل. قيل له : ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال : ولا الجهاد. قال : إنّ الله عزوجل يقول : (وَلَذِكْرُ اللهِ أَكْبَرُ).

وعنه قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّ الأعمال أحبّ إلى الله؟ قال : «أن تموت ولسانك رطب من ذكر الله عزوجل».

وقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من أحبّ أن يرتع في رياض الجنّة ، فليكثر ذكر الله عزوجل».

(وَاللهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ) منه ومن سائر الطاعات ، فيجازيكم به أحسن المجازاة.

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (٤٦) وَكَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (٤٧) وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (٤٨) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (٤٩) وَقالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ وَإِنَّما أَنَا

٢٣٢

نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٥١))

ولمّا تقدّم الأمر بالدعاء إلى الله سبحانه ، بيّن عقيبه كيف يدعونهم إلى الله؟ وكيف يجادلونهم؟ فقال :

(وَلا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي) بالخصلة الّتي (هِيَ أَحْسَنُ) كمعارضة الخشونة باللين ، والغضب بالكظم ، والمشاغبة بالنصح ، كما قال : (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) (١).

وفيه دلالة على وجوب الدعاء إلى الله تعالى على أحسن الوجوه وألطفها ، واستعمال القول الجميل في التنبيه على آيات الله وحججه.

وقيل : هو منسوخ بآية السيف (٢) ، وإذ لا مجادلة أشدّ منه. وجوابه : أنّه آخر الدواء. وقيل : المراد به ذوو العهد منهم.

(إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ) بالإفراط في الاعتداء والعناد ، أو بإثبات الولد ، وقولهم : (يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ) (٣). أو بنبذ العهد ومنع الجزية. فلم يقبلوا النصح ، ولم ينفع فيهم الرفق ، فاستعملوا معهم الغلظة.

وقيل : معناه : إلّا الّذين آذوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وكتموا صفاته بعد العلم به.

(وَقُولُوا) لهم في المجادلة ، وفي الدعوة إلى الدين (آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ) أي : بالكتاب الّذي أنزل إلينا ، وبالكتاب الّذي أنزل إليكم. وهو من جنس المجادلة بالّتي هي أحسن.

__________________

(١) المؤمنون : ٩٦.

(٢) التوبة : ٥ و ٢٩.

(٣) المائدة : ٦٤.

٢٣٣

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لا تصدّقوا أهل الكتاب ولا تكذّبوهم ، وقولوا : آمنّا بالله تعالى وبكتبه ورسله ، فإن قالوا باطلا لم تصدّقوهم ، وإن قالوا حقّا لم تكذّبوهم».

(وَإِلهُنا وَإِلهُكُمْ واحِدٌ) لا شريك له (وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ) مطيعون له خاصّة. وفيه تعريض باتّخاذهم أحبارهم ورهبانهم أربابا من دون الله.

(وَكَذلِكَ) ومثل إنزال الكتاب على موسى وعيسى (أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ) القرآن ، وحيا مصدّقا لسائر الكتب الإلهيّة. وهو تحقيق لقوله تعالى : (فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ) أي : علم الكتاب ، بحذف المضاف (يُؤْمِنُونَ بِهِ) وهم عبد الله بن سلام وأضرابه ، أو من تقدّم عهد الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من أهل الكتاب (وَمِنْ هؤُلاءِ) ومن العرب. أو أهل مكّة. أو ممّن في عهد الرسول من أهل الكتابين. (مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ) بالقرآن.

(وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا) مع ظهورها ، وقيام الحجّة عليها ، وزوال الشبهة عنها (إِلَّا الْكافِرُونَ) إلّا المتوغّلون في الكفر ، المصمّمون عليه ، ككعب بن الأشرف وأضرابه ، فإنّ توغّلهم في الكفر وتصميمهم عليه يمنعهم عن التأمّل فيما يفيد لهم صدقها ، لكونها معجزة بالإضافة إلى الرسول ، كما أشار إليه بقوله : (وَما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ) قبل أن يوحى إليك القرآن (وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ) فإنّ ظهور هذا الكتاب الجامع لأنواع العلوم الشريفة ، على أمّي لم يعرف بالقراءة والتعلّم ، خارق للعادة. وذكر اليمين زيادة تصوير لما نفى عنه من كونه كاتبا ، ونفي للتجوّز في الإسناد.

(إِذاً) أي : لو كنت ممّن يخطّ ويقرأ (لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ) لوجد المبطلون طريقا إلى اكتساب الشكّ في أمرك ، وإلقاء الريبة لضعفة الناس في نبوّتك. ولقالوا : إنّما تقرأ علينا ما جمعته من كتب الأوّلين وزبر الأقدمين ، فلمّا ساويتهم في المولد والمنشأ ، ثمّ أتيت بما عجزوا عنه ، وجب أن يعلموا أنّه من عند الله وليس من

٢٣٤

عندك ، إذ لم تجر العادة أن ينشأ الإنسان بين قوم يشاهدون أحواله من عند صغره إلى كبره ، ويرونه في حضره وسفره ، لا يتعلّم شيئا من غيره ، ثمّ يأتي من عنده بشيء يعجز الكلّ عنه وعن بعضه ، ويقرأ عليهم أقاصيص الأوّلين.

وإنّما سمّاهم مبطلين ، لأنّهم كفروا به وهو أمّيّ بعيد من الريب. فكأنّه قال : هؤلاء المبطلون في كفرهم به.

وأيضا لمّا كان الأنبياء لم يكونوا أمّيّين ، ووجب الإيمان بهم وبما جاؤا به ، لكونهم مصدّقين من جهة الحكيم بالمعجز ، فهب أنّه قارئ كاتب ، فما لهم لم يؤمنوا به من الوجه الّذي آمنوا منه بموسى وعيسى؟ على أنّ المنزلين ليسا بمعجزين ، وهذا المنزل معجز. فإذا هم مبطلون حيث لا يؤمنون به وهو أمّيّ.

قال الشريف الأجلّ المرتضى علم الهدى قدس‌سره : «هذه الآية تدلّ على أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما كان يحسن الكتابة قبل النبوّة. فأمّا بعدها فالّذي نعتقده في ذلك التجويز ، لكونه عالما بالقراءة والكتابة بعد ذلك ، لأنّ ظاهر الآية يقتضي أن النفي قد تعلّق بما قبل النبوّة ، دون ما بعدها. ولأنّ التعليل في الآية يقتضي اختصاص النفي بما قبل النبوّة ، لأنّ المبطلين إنّما يرتابون في نبوّته لو كان يحسن الكتابة قبل النبوّة ، فأمّا بعد النبوّة فلا تعلّق له بالريبة والتهمة ، فيجوز أن يكون قد تعلّمها من جبرئيل عليه‌السلام بعد النبوّة» (١).

ثمّ قال سبحانه : (بَلْ هُوَ) أي : القرآن (آياتٌ بَيِّناتٌ) دلالات واضحات (فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) في صدور العلماء به وحفّاظه. وهم النبيّ والمؤمنون به ، لأنّهم حفظوه ، فلا يقدر أحد على تحريفه. وعن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام : «الأئمّة من آل محمّد صلّى الله عليهم أجمعين».

قال قتادة : أعطي هذه الأمّة الحفظ ، ومن كان قبلها لا يقرءون الكتاب إلّا نظرا.

__________________

(١) رسائل الشريف المرتضى ١ : ١٠٧.

٢٣٥

(وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ) أي : المتوغّلون في الظلم بالمكابرة ، بعد وضوح دلائل إعجازها.

(وَقالُوا) أي : كفّار مكّة (لَوْ لا) هلّا (أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ) أي : آية مقترحة منه ، مثل ناقة صالح ، وعصا موسى ، ومائدة عيسى عليه‌السلام. وقرأ نافع وابن عامر والبصريّان وحفص : آيات.

(قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللهِ) ينزّلها كما يشاء على وفق مصالح عباده ، في كلّ عصر من أعصار أنبيائه ، ولست أملكها فآتيكم بما تقترحونه (وَإِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ) ليس من شأني إلّا الإنذار ، وإبانته بما أعطيت من الآيات ، وليس لي أن أتخيّر على الله آياته ، فأقول : أنزل عليّ آية كذا دون آية كذا ، مع علمي أنّ الغرض من آياته ثبوت الدلالة ، والآيات كلّها في حكم آية واحدة في ذلك.

ثمّ قال : (أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ) آية مغنية عمّا اقترحوه (أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) تدوم تلاوته في كلّ مكان وزمان عليهم متحدّين به ، فلا يزال معهم آية ثابتة لا تضمحلّ ، كما تزول كلّ آية بعد كونها. أو تكون في مكان دون مكان. أو أو لم يكف اليهود أنّا أنزلنا الكتاب يتلى عليهم ، بتحقيق ما في أيديهم من نعتك ونعت دينك.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) الكتاب الّذي هو آية مستمرّة وحجّة مبيّنة (لَرَحْمَةً) لنعمة عظيمة لا يطاق شكرها ، لأنّ من تبعه وعمل به نال الثواب وفاز بالجنّة (وَذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) وتذكرة لمن همّه الإيمان دون التعنّت.

وقيل : إنّ ناسا من المسلمين أتوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بكتف قد كتبوا فيها بعض ما يقول اليهود ، فلمّا أن نظر إليها ألقاها وقال : كفى بها ضلالة قوم أن يرغبوا عمّا جاءهم به نبيّهم إلى ما جاء به غير نبيّهم. فنزلت.

وفي هذه الآية دلالة على أنّ القرآن كاف في المعجز ، وأنّه في أعلى درجات

٢٣٦

الإعجاز ، لأنّه جعله كافيا عن جميع المعجزات.

(قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَكَفَرُوا بِاللهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (٥٢) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٥٣) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (٥٤) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٥))

روي : أنّ كعب بن الأشرف وأصحابه قالوا تعنّتا : يا محمّد من يشهد أنّك رسول الله؟ فنزلت : (قُلْ كَفى بِاللهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً) بصدقي ، فإنّه صدّقني بالمعجزات. أو بتبليغي ما أرسلت به إليكم ونصحي ، ومقابلتكم إيّاي بالتكذيب والتعنّت. (يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) فهو مطّلع على أمري وأمركم ، وعالم بحقّي وباطلكم.

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ) وهو ما تعبدون من دون الله تعالى (وَكَفَرُوا بِاللهِ) وبآياته منكم (أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ) المغبونون في صفقتهم ، حيث اشتروا الكفر بالإيمان.

(وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ) استهزاء منهم وتكذيبا. ومنهم النضر بن الحارث قال : اللهمّ أمطر علينا حجارة من السماء ، كما قال أصحاب الأيكة : فأسقط علينا كسفا من السماء.

(وَلَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى) قد سمّاه الله وبيّنه في اللوح لعذابهم ، وأوجبت الحكمة

٢٣٧

تأخيره إلى الأجل المسمّى (لَجاءَهُمُ الْعَذابُ) عاجلا (وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً) فجأة.

والمراد به الآخرة ، لما روي أنّ الله عزوجل وعد رسول الله أنّ قومه لا يستأصلهم ، وأن يؤخّر عذابهم إلى يوم القيامة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بإتيانه.

ثمّ ذكر أنّ موعد عذابهم النار ، فقال : (يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ) ستحيط بهم يوم يغشاهم العذاب. أو هي كالمحيطة بهم في الدنيا ، لأنّ الكفر والمعاصي الّتي توجبها محيطة بهم. أو لأنّها مآلهم ومرجعهم لا محالة ، فكأنّها الساعة محيطة بهم. واللام للعهد ، على وضع الظاهر موضع المضمر ، للدلالة على موجب الإحاطة. أو للجنس فيكون استدلالا بحكم الجنس على حكمهم.

(يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ) ظرف «لمحيطة». أو مقدّر بمثل : كان كيت وكيت.

(مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ) أي : من جميع جوانبهم ، كقوله : (لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ) (١). وقوله : (لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ) (٢). لا أنّه يصل إلى موضع منهم دون موضع ، فلا يبقى جزء منهم إلّا وهو معذّب في النّار.

(وَيَقُولُ) الله عزوجل ، أو بعض ملائكته بأمره. وقرأ ابن كثير وابن عامر والبصريّون بالنون. (ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ) أي : جزاءه.

(يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (٥٦) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (٥٧) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ

__________________

(١) الزمر : ١٦.

(٢) الأعراف : ٤١.

٢٣٨

لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (٥٨) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (٥٩) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٦٠))

ثمّ بيّن سبحانه أنّه لا عذر لعباده في ترك طاعته ، فقال : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ) أي : إذا لم يتسهّل لكم العبادة في بلدة ، ولم يتيسّر لكم إظهار دينكم ، فهاجروا عنها إلى بلد تقدّرون فيه أنّكم فيه أسلم قلبا ، وأصحّ دينا ، وأكثر عبادة ، وأحسن خشوعا ، واطرد للشيطان ، وأبعد من الفتن ، وأضبط للأمر الديني.

وعنه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض ولو كان شبرا استوجب الجنّة ، وكان رفيق إبراهيم ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم».

وقيل : نزلت في المستضعفين بمكّة. والفاء جواب شرط محذوف. وتقديم المفعول للاختصاص. والمعنى : إنّ ارضي واسعة ، فإن لم تخلصوا العبادة لي في أرض فأخلصوها في غيرها.

وعن أبي عبد الله عليه‌السلام معناه : «إذا عصي الله في أرض أنت فيها ، فاخرج منها إلى غيرها».

ثمّ خوّفهم بالموت ليهوّن عليهم الهجرة ، فقال : (كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ) واجدة مرارة الموت ، كما يجد الذائق طعم المذوق. والمراد : تناله الموت لا محالة.

(ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ) للجزاء. ومن كانت هذه عاقبته لم يكن له بدّ من التزوّد لها ، والاستعداد بجهده. وقرأ أبو بكر بالياء.

ثمّ ذكر ثواب من هاجر ، فقال : (وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ)

٢٣٩

لننزلنّهم (مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً) علالي (١) عاليات. وقرأ حمزة والكسائي : لنثوينّهم ، أي : لنقيمنّهم. من الثواء ، وهو النزول للإقامة. يقال : ثوى في المنزل ، وأثوى غيره ، فثوى غير متعدّ. وإذا تعدّى بزيادة همزة النقل لم يتجاوز مفعولا واحدا ، نحو : ذهبت وأذهبت. والوجه في تعديته إلى ضمير المؤمنين وإلى الغرف ، إمّا إجراؤه مجرى : لننزلنّهم. أو حذف الجارّ وإيصال الفعل. أو تشبيه الظرف الموقّت بالمبهم.

عن ابن عبّاس : لنسكننّهم غرف الدرّ والزبرجد والياقوت.

(تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها) يبقون فيها ببقاء الله (نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ) والمخصوص بالمدح محذوف ، دلّ عليه ما قبله ، أي : نعم أجر العاملين الغرف وجري الماء من تحتها على سبيل الخلود والتأبيد.

(الَّذِينَ صَبَرُوا) على أذيّة المشركين ، ومفارقة الأوطان والهجرة ، وغيرها من أنواع المحن والمشاقّ (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) تقديم الظرف للحصر ، أي : لا يتوكّلون إلّا على الله في مهمّات أمورهم ومهاجرة دورهم.

قيل : إنّهم لمّا أمروا بالهجرة ، قال بعضهم : كيف نقدم بلدة ليس لنا فيها معيشة؟ فنزلت : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ) وكم نفس دبّت على وجه الأرض (لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) لا تطيق حمل رزقها ، لضعفها عنه. أو لا تدّخره ، وإنّما تصبح ولا معيشة عندها.

عن ابن عبّاس : إنّ الحيوان أجمع ، من البهائم والطيور وغيرهما ممّا يدبّ على وجه الأرض ، لا تدّخر القوت لغدها ، إلّا ابن آدم والنملة والفأرة ، بل تأكل منه قدر كفايتها فقط.

(اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) أي : إنّها مع ضعفها وتوكّلها ، وإنّكم مع قوّتكم واجتهادكم ، سواء في أنّه لا يرزقها وإيّاكم إلّا الله ، لأنّ رزق الكلّ بأسباب ، هو

__________________

(١) علالي جمع العلّيّة. وهي : بيت منفصل عن الأرض ببيت ونحوه.

٢٤٠