زبدة التّفاسير - ج ٥

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٥

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-07-8
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٥٩٦

ولمّا تقدّم ذكر عباد الله المنيبين إليه ، وصله سبحانه بذكر داود وسليمان ، فإنّهما لإنابتهما إلى الله سبحانه فضّلهما على العالمين بالنبوّة والملك ، وأعطاهما ما أعطاهما من الأمور الدينيّة والسياسة الدنيويّة ، فقال :

(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً) أي : على سائر الأنبياء بما ذكر بعد. أو على سائر الناس ، فيندرج فيه النبوّة ، والحكومة ، والكتاب ، والملك ، والصوت الحسن ، وفصل الخطاب ، وغير ذلك من معجزاته.

(يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ) رجّعي معه التسبيح. من : آب إذا رجع. وذلك بأنّ الله يخلق فيها تسبيحا ، كما خلق الكلام في الشجرة ، فيسمع منها ما يسمع من المسبّح ، معجزة لداود.

وقيل : كان ينوح على ترك ندبه بترجيع وتحزين. وكانت الجبال تسعده على نوحه بأصدائها (١).

وقيل : معناه : سيري معه حيث سار. وهو بدل من «فضلا» أو من «آتينا» بإضمار : قولنا ، أو قلنا.

(وَالطَّيْرَ) عطف على محلّ الجبال. ويؤيّده قراءة يعقوب بالرفع عطفا على لفظها ، تشبيها للحركة البنائيّة العارضة بحركة الإعراب. أو على «فضلا» بمعنى : وسخّرنا له الطّير. ويجوز أن يكون مفعولا معه لـ «أوّبي». وكان أصل النظم : ولقد آتينا داود منّا فضلا ، تأويب الجبال والطير. فبدّل بهذا النظم. وكم فرق بين النظمين ، من الفخامة الّتي لا يخفى ، من الدلالة على عزّة الربوبيّة وكبرياء الإلهيّة ، حيث جعلت الجبال منزّلة منزلة العقلاء الّذين إذا أمرهم أطاعوا وأذعنوا ، وإذا دعاهم سمعوا وأجابوا ، إشعارا بأنّه ما من حيوان وجماد وناطق وصامت ، إلّا وهو منقاد لمشيئته ، غير ممتنع على إرادته ، بخلاف الأخير.

__________________

(١) الأصداء جمع الصدى ، وهو ما يردّه الجبل أو غيره إلى المصوّت مثل صوته.

٤٢١

(وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ) جعلناه في يده كالشمع والعجين ، يصرفه بيده كيف يشاء ، من غير إحماء وطرق بالآلة. وقيل : لان الحديد في يده لما أوتي من شدّة القوّة.

(أَنِ اعْمَلْ) أمرناه أن اعمل. و «أن» مفسّرة ، أو مصدريّة. (سابِغاتٍ) دروعا واسعات (وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ) وعدّل في نسجها ، بحيث يتناسب حلقها. ومن قال : إنّ معناه : قدّر مساميرها ، فلا تجعلها دقاقا فتقلق (١) ، ولا غلاظا فتنخرق. لا يخلو كلامه من ضعف ، لأنّ دروعه لم تكن مسمّرة. ويؤيّده قوله : (وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ).

وهو عليه‌السلام أوّل من اتّخذ الدروع ، وكانت قبل صفائح.

وقيل : كان يبيع الدرع بأربعة آلاف ، فينفق منها على نفسه وعياله ، ويتصدّق على الفقراء.

وقيل : كان يخرج من البيت وهو ملك بني إسرائيل متنكّرا ، فيسأل الناس عن نفسه ويقول لهم : ما تقولون في داود؟ فيثنون عليه. فقيّض الله له ملكا في صورة آدميّ ، فسأله على عادته ، فقال : نعم الرجل لولا خصلة فيه. فريع (٢) داود ، فسأله؟

فقال : لولا أنّه يطعم ويطعم عياله من بيت المال. فحزن لذلك ، فعلّمه الله صنعة الدروع.

وعن الصادق عليه‌السلام : «أنّ الله تعالى أوحى إلى داود : نعم العبد أنت لولا أنّك تأكل من بيت المال! فبكى داود أربعين صباحا ، فألان الله له الحديد. وكان يعمل كلّ يوم درعا ، فيبيعها بألف درهم. فعمل ثلاثمائة وستّين درعا ، فباعها بثلاثمائة وستّين ألفا ، فاستغنى عن بيت المال».

(وَاعْمَلُوا صالِحاً) الضمير لداود وأهله ، أي : اعمل أنت وأهلك الأعمال الصالحة ، شكرا لله على عظيم نعمه (إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) فأجازيكم عليه.

__________________

(١) أي : تتحرّك وتضطرب.

(٢) أي : فزع. يقال : ريع فلان : فزع. من : راع يروع روعا.

٤٢٢

(وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (١٢) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَتَماثِيلَ وَجِفانٍ كَالْجَوابِ وَقُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (١٣) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (١٤))

ثمّ ذكر سبحانه ما آتى سليمان من الفضل والكرامة ، فقال : (وَلِسُلَيْمانَ الرِّيحَ) أي : وسخّرنا له الريح (غُدُوُّها شَهْرٌ وَرَواحُها شَهْرٌ) أي : جريها بالغداة مسيرة شهر ، وبالعشيّ كذلك. والمعنى : أنّها كانت تسير في اليوم مسيرة شهرين.

وعن الحسن : كان يغدو فيقيل بإصطخر ، ثمّ يروح من إصطخر فيبيت بكابل ، وبينهما مسيرة شهر ، تحمله الريح مع جنوده.

(وَأَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ) النحاس المذاب. أساله له من معدنه ، فنبع منه نبوع الماء من الينبوع ، ولذلك سمّاه عين القطر. وكان ذلك باليمن. وقيل : كان يسيل في الشهر ثلاثة أيّام بلياليهنّ.

(وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ) عطف على الريح. والجارّ والمجرور حال متقدّمة ، أو جملة «من» مبتدأ وخبر (بَيْنَ يَدَيْهِ) بحضرته وأمام عينه ، ما يأمرهم به من الأعمال كما يعمل الآدمي بين يدي الآدمي. (بِإِذْنِ رَبِّهِ) بأمره. وعن ابن عبّاس : سخّرهم الله لسليمان ، وأمرهم بطاعته فيما يأمر ويمنع. فكان يكلّفهم الأعمال

٤٢٣

الشاقّة ، مثل عمل الطين وغيره. وفي هذا دلالة على أنّه قد كان من الجنّ من هو غير مسخّر له.

(وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ) ومن يعدل منهم (عَنْ أَمْرِنا) عمّا أمرناه من طاعة سليمان (نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ) وعن السدّي : كان معه ملك بيده سوط من نار ، كلّما استعصى عليه ضربه ضربة من حيث لا يراه الجنّي. وفيه دلالة على أنّهم كانوا مكلّفين.

(يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ) قصورا حصينة ، ومساكن شريفة.

سمّيت بها لأنّها يذبّ عنها ، ويحارب ويحامى عليها. وعن قتادة : هي المساجد يتعبّد فيها.

وكان ممّا عملوه بيت المقدس ، وقد كان الله عزّ اسمه سلّط على بني إسرائيل الطاعون ، فهلك خلق كثير في يوم واحد. فأمرهم داود ليغتسلوا ويبرزوا إلى الصعيد بالذراري والأهلين ، ويتضرّعوا إلى الله تعالى لعلّه يرحمهم.

وذلك صعيد بيت المقدس قبل بناء المسجد. وارتفع داود فوق الصخرة ، فخرّ ساجدا يبتهل إلى الله تعالى ، وسجدوا معه ، فلم يرفعوا رؤوسهم حتّى كشف الله عنهم الطاعون.

فلمّا أن شفّع الله تعالى داود في بني إسرائيل ، جمعهم داود بعد ثلاث وقال لهم : إنّ الله تعالى قد منّ عليكم ورحمكم ، فجدّدوا له شكرا ، بأن تتّخذوا من هذا الصعيد الّذي رحمكم فيه مسجدا. ففعلوا ، وأخذوا في بناء بيت المقدس ، وكان داود ينقل الحجارة لهم على عاتقه ، وكذلك خيار بني إسرائيل ، حتّى رفعوه قامة ، ولداود يومئذ سبع وعشرون ومائة سنة. فأوحى الله تعالى إلى داود : أنّ تمام بنائه يكون على يدي ابنه سليمان.

فلمّا صار داود ابن أربعين ومائة سنة توفّاه الله تعالى ، واستخلف سليمان ،

٤٢٤

فأحبّ إتمام بيت المقدس ، فجمع الجنّ والشياطين ، وقسّم عليهم الأعمال ، يخصّ كلّ طائفة منهم بعمل. فأرسل الجنّ والشياطين في تحصيل الرخام والمها (١) الأبيض الصافي من معادنه. وأمر ببناء المدينة من الرخام والصفّاح (٢) ، وجعلها اثني عشر ربضا ، وأنزل كلّ ربض منها سبطا من الأسباط.

ولمّا فرغ من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد ، فوجّه الشياطين فرقا ، فرقة يستخرجون الذهب واليواقيت من معادنها ، وفرقة يقلعون الجواهر والأحجار من أماكنها ، وفرقة يأتونه بالمسك والعنبر وسائر الطيب ، وفرقة يأتونه بالدرّ من البحار. فأتي من ذلك بشيء لا يحصيه إلّا الله تعالى. ثمّ أحضر الصنّاع ، وأمرهم بنحت تلك الأحجار حتّى صيّروها ألواحا ، وبمعالجة تلك الجواهر واللآلئ.

وبنى سليمان المسجد بالرخام الأبيض والأصفر والأخضر ، وعمده (٣) بأساطين المها الصافي ، وسقّفه بألواح الجواهر ، وفضّض (٤) سقوفه وحيطانه باللآلئ واليواقيت والجواهر ، وبسط أرضه بألواح الفيروزج. فلم يكن في الأرض بيت أبهى ولا أنور من ذلك المسجد ، كان يضيء في الظلمة كالقمر ليلة البدر.

قال سعيد بن المسيّب : لمّا فرغ سليمان من بناء بيت المقدّس ، تغلّقت أبوابه ، فعالجها سليمان فلم تنفتح ، حتّى قال في دعائه : بصلوات أبي داود إلّا فتحت

__________________

(١) المها جمع المهاة : البلّورة.

(٢) الصفّاح : الحجارة العريضة الرقيقة. والربض : سور المدينة ، وكلّ ما يؤوى ويستراح إليه من أهل وقريب ومال وبيت ونحو ذلك ، أو ما حول المدينة من بيوت ومساكن.

(٣) عمد السقف : أقامه بعماد ودعمه.

(٤) فضّض الشيء : موّهه أو رصّعه بالفضّة.

٤٢٥

الأبواب ، ففتحت. ففرّغ له سليمان عشرة آلاف من قرّاء بني إسرائيل : خمسة آلاف بالليل ، وخمسة آلاف بالنهار ، فلا تأتي ساعة من ليل ولا نهار إلّا ويعبد الله فيها.

(وَتَماثِيلَ) وصور الملائكة والأنبياء ، من نحاس وصفر وزجاج ورخام.

وعن ابن عبّاس : كانوا يعملون صور الأنبياء والعبّاد في المساجد ، ليرى الناس فيقتدوا بهم ، ويعبدوا نحو عبادتهم.

وقيل : كانت صور الحيوانات. وقيل : كانوا يعملون صور السباع والبهائم ، ليكون أهيب له. ولم تكن يومئذ التصاوير محرّمة. وهي محظورة في شريعة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وقد بيّن الله سبحانه أنّ المسيح كان يصوّر بأمر الله من الطين كهيئة الطير.

وروي : أنّهم صوّروا أسدين في أسفل كرسيّه ، ونسرين فوقه ، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما ، وإذا قعد أظلّه النسران بأجنحتهما.

(وَجِفانٍ كَالْجَوابِ) وصحاف كالحياض الكبار الّتي يجبى فيها الماء ، أي : يجمع. جمع جابية ، من الجباية. وهي من الصفات الغالبة ، كالدابّة. وكان سليمان يصلح طعام جيشه في مثل هذه الجفان ، فإنّه لم يمكنه أن يطعمهم في مثل قصاع (١) الناس لكثرتهم. وقيل : إنّه كان يقعد على كلّ جفنة ألف رجل يأكلون بين يديه.

(وَقُدُورٍ راسِياتٍ) ثابتات على الأثافيّ (٢) لا يزلن عن أمكنتهنّ لعظمهنّ.

ثمّ نادى سبحانه آل داود ، وأمرهم بالشكر على ما أنعم به عليهم من هذه النعمة العجيبة ، لأنّ نعمته على سليمان نعمة عليهم ، فقال :

(اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً) نصب على العلّة ، أي : اعملوا له واعبدوه ، لأجل

__________________

(١) قصاع جمع قصعة ، وهي الصحفة. والجفنة : القصعة الكبيرة.

(٢) الأثافيّ جمع الاثفيّة : الحجر توضع عليه القدر.

٤٢٦

شكركم لله على ما آتاكم من النعم. أو على المصدر ، لأنّ العمل له شكر ، كأنّه قيل : اشكروا شكرا. أو الوصف له ، أي : اعملوا عملا شكرا. أو الحال ، بمعنى : شاكرين. أو المفعول به ، أي : افعلوا شكرا.

(وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) المتوفّر على أداء الشكر بقلبه ولسانه وجوارحه ، في أكثر أوقاته. ومع ذلك لا يوفّي حقّه ، لأنّ توفيقه للشكر نعمة تستدعي شكرا آخر لا إلى نهاية. ولذلك قيل : الشكور من يرى عجزه عن الشكر.

والفرق بين الشكور والشاكر : أنّ الشكور من تكرّر منه الشكر ، والشاكر من وقع منه الشكر.

قيل : جزّأ ساعات الليل والنهار على أهله ، فلم تكن تأتي ساعة من الساعات إلّا وإنسان من آل داود قائم يصلّي.

وروي : أنّ عمر سمع رجلا يقول : اللهمّ اجعلني من القليل. فقال عمر : ما هذا الدعاء؟ فقال الرجل : إنّي سمعت الله تعالى يقول : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) فأنا أدعوه أن يجعلني من ذلك القليل. فقال عمر : كلّ الناس أعلم من عمر.

(فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ) أي : على سليمان (ما دَلَّهُمْ) ما دلّ الجنّ.

وقيل : آله. (عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ) أي : إلّا الأرضة. أضيفت إلى فعلها. يقال : أرضت الخشبة أرضا ، إذا أكلتها الأرضة. (تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ) عصاه. من : نسأت البعير إذا طردته ، لأنّها تطرد بها.

(فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُ) ظهرت الجنّ. من : تبيّن الشيء إذا ظهر وتجلّى.

و «أن» مع صلتها بدل من «الجنّ» بدل الاشتمال ، كقولك : تبيّن زيد جهله. أو علمت الجنّ علما بيّنا بعد التباس الأمر عليهم. (أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ) كما يزعمون لعلموا موته. فلأجل ذلك (ما لَبِثُوا) بعده حولا (فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ) الّذي هو عمل البناء ، وحمل الصخر العظيم ، وغير ذلك من الأعمال الشاقّة إلى أن خرّ.

٤٢٧

وفيه تهكّم بالجنّ ، كما تتهكّم بمدّعي الباطل إذا دحضت حجّته وظهر إبطاله ، بقولك : هل تبيّنت أنّك مبطل ، وأنت تعلم أنّه لم يزل كذلك متبيّنا؟

روي : أنّ داود أسّس بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليه‌السلام ، فمات داود عليه‌السلام قبل تمامه كما مرّ ، فوصّى به إلى سليمان ، فاستعمل الجنّ فيه ، فلم يتمّ بعد إذ دنا أجله.

وروي : أنّه كان من عادة سليمان عليه‌السلام أن يعتكف في مسجد بيت المقدس سنة وسنتين ، وشهرا وشهرين ، وأقلّ وأكثر ، يدخل فيه طعامه وشرابه. فلمّا دنا أجله لم يصبح إلّا راى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها الله تعالى ، فيسألها لأيّ شيء أنت؟ فتخبر عن اسمها ونفعها وضرّها. حتّى أصبح ذات يوم ، فرأى الخرّوبة (١) فسألها. فقالت : نبتّ لخراب هذا المسجد. فقال : ما كان الله ليخربه وأنا حيّ. أنت الّتي على وجهك هلاكي وخراب بيت المقدس. فنزعها وغرسها في حائط.

وقال : اللهمّ عمّ (٢) على الجنّ موتي ، ليتمّوا بناء بيت المقدس ، وليعلم الناس أنّ الجنّ لا يعلمون الغيب ، لأنّهم كانوا يسترقون السمع ، ويموّهون على الإنس أنّهم يعلمون الغيب.

وقال لملك الموت : إذا أمرت بي فأعلمني.

فقال : أمرت بك ، وقد بقيت من عمرك ساعة.

فدعا الشياطين ، فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب ، فقام يصلّي متّكئا على عصاه ، فقبض روحه وهو متّكئ عليها. وكان الجنّ يحسبونه حيّا ، لما كانوا

__________________

(١) الخرّوبة والخرنوبة : شجر مثمر من فصيلة القرنيّات ، دائم الورق ، منابته منطقة شرقيّ المتوسّط ، ثماره تستعمل لعلف الحيوان ، ويستخرج منه نوع من الدبس.

(٢) فعل أمر من : عمّى المعنى ، أي : أخفاه.

٤٢٨

يشاهدونه من طول قيامه قبل ذلك ، فيعملون البناء خشية منه ، حتّى يتمّ بيت المقدس.

وروي : أنّ الشياطين كانوا يجتمعون حول محرابه أينما صلّى ، فلم يكن شيطان ينظر إليه في صلاته إلّا احترق. فمرّ به شيطان فلم يسمع صوته ، ثم رجع فلم يسمع ، ثمّ رجع فلم يسمع صوته ، فنظر فإذا سليمان قد خرّ ميّتا. ففتحوا عنه ، فإذا العصا قد أكلتها الأرضة. ثمّ أرادوا أن يعرفوا وقت موته ، فوضعوا الأرضة على العصا ، فأكلت يوما وليلة مقدارا ، فحسبوا على ذلك النحو ، فوجدوه قد مات منذ سنة.

وذكر أهل التاريخ : أنّ عمره كان ثلاثا وخمسين سنة. وملك وهو ابن ثلاث عشرة سنة. وابتدأ عمارة بيت المقدس لأربع مضين من ملكه. ولم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان حتّى غزا بختنصّر بني إسرائيل ، فخرّب المدينة وهدمها ، ونقض المسجد ، وأخذ ما في سقوفه وحيطانه من الذهب والفضّة والدرّ واليواقيت وسائر الجواهر ، فحملها إلى دار مملكته من أرض العراق.

وقال في المجمع : «إنّ في إماتته قائما وبقائه كذلك أغراضا ، منها : إتمام البناء. ومنها : أن يعلم الإنس أنّ الجنّ لا يعلمون الغيب ، وأنّهم في ادّعاء ذلك كاذبون. ومنها : أن يعلم أنّ من حضر أجله فلا يتأخّر ، إذ لم يؤخّر سليمان مع جلالته» (١).

وروي : أنّه أطلعه الله على حضور وفاته ، فاغتسل وتحنّط وتكفّن ، والجنّ في عملهم.

وروى أبو بصير ، عن أبي جعفر عليه‌السلام قال : «إنّ سليمان أمر الشياطين فعملوا له قبّة من قوارير ، فبينا هو قائم متّكئ على عصاه في القبّة ، ينظر إلى الجنّ كيف

__________________

(١) مجمع البيان ٨ : ٣٨٣ ـ ٣٨٤.

٤٢٩

يعملون ، وهم ينظرون إليه ولا يصلون إليه ، إذا رجل معه في القبّة ، فقال : من أنت؟ قال : أنا الّذي لا أقبل الرشا ، ولا أهاب الملوك! فقبضه وهو قائم متّكئ على عصاه في القبّة. فمكثوا سنة يعملون له ، حتّى بعث الله الأرضة ، فأكلت منسأته».

وفي حديث آخر عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «فكان آصف يدبّر أمره حتّى دبّت الأرضة».

والوجه في عمل الجنّ تلك الأعمال العظيمة ، هو أنّ الله تعالى زاد في أجسامهم وقوّتهم ، وغيّر خلقهم عن خلق الجنّ الّذي لا يرون ، للطافتهم ورقّة أجسامهم ، على سبيل الإعجاز الدالّ على نبوّة سليمان. فكانوا بمنزلة الأسراء في يده. وكان يتهيّأ لهم الأعمال الّتي كان يكلّفها إيّاهم. ثمّ لمّا مات عليه‌السلام جعل الله خلقهم على ما كانوا عليه ، فلا يتهيّأ لهم في هذا الزمان شيء من ذلك.

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (١٥) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (١٦) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَهَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (١٧) وَجَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ (١٨) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ

٤٣٠

صَبَّارٍ شَكُورٍ (١٩) وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢٠) وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢١))

ثمّ أخبر سبحانه عن قصّة سبأ بما دلّ على حسن عاقبة الشكور ، وسوء عاقبة الكفور ، فقال :

(لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ) لأولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. ومنع الصرف عنه ابن كثير وأبو عمرو ، لأنّه صار اسم القبيلة. وعن ابن كثير : قلب همزته ألفا.

وهو أبو عرب اليمن كلّها. وقد يسمّى به القبيلة.

وفي الحديث عن فروة بن مسيك أنّه قال : سألت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن سبأ أرجل أم امرأة؟ فقال : «هو رجل من العرب ، ولد عشرة ، تيامن (١) منهم ستّة ، وتشاءم منهم أربعة. فأمّا الّذين تيامنوا : فالأزد ، وكندة ، ومذحج ، والأشعرون ، وأنمار ، وحمير. فقال رجل من القوم : ما أنمار؟ قال : الّذين منهم خثعم وبجيلة.

وأمّا الّذين تشاءموا : فعاملة ، وجذام ، ولخم ، وغسّان».

فالمعنى : لقد كان لقبيلة سبأ (فِي مَسْكَنِهِمْ) في مواضع سكناهم. وهي باليمن ، يقال لها : مأرب ، بينها وبين صنعاء مسيرة ثلاث. وقرأ حمزة وحفص بالإفراد والفتح (٢). والكسائي بالكسر ، حملا على ما شذّ من القياس ، كالمطلع

__________________

(١) تيامن : ذهب ذات اليمين ، أو أخذ ناحية اليمين ، أو أتى اليمن. وتشاءم وتشأّم : أخذ نحو شماله ، أو أتى الشام.

(٢) أي : فتح الكاف من : مسكنهم.

٤٣١

والمسجد. (آيَةٌ) علامة دالّة على وجود الصانع ، وأنّه قادر على ما يشاء من الأمور العجيبة ، مجاز للمحسن والمسيء ، معاضدة للبرهان السابق ، كما في قصّتي داود وسليمان.

(جَنَّتانِ) بدل من «آية». أو خبر محذوف. تقديره : الآية جنّتان ، أي : العلامة الدالّة على الله وعلى قدرته وإحسانه ووجوب شكره جنّتان. أو المراد أنّه سبحانه جعل أهلهما لمّا أعرضوا عن شكره سبحانه عليهما ، فأبدلهما بالخمط (١) والأثل آية وعبرة لهم ليعتبروا ، فلا يعودوا إلى ما كانوا عليه من الكفر وغمط (٢) النعم. والمراد بـ «جنّتان» جماعتان من البساتين.

(عَنْ يَمِينٍ) جماعة عن يمين بلدهم (وَشِمالٍ) وجماعة عن شماله. كلّ واحدة من الجماعتين في تقاربها وتضامّها ، كأنّها جنّة واحدة. أو بستانا كلّ رجل منهم عن يمين مسكنه وعن شماله. كما قال : (جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ) (٣).

(كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ) قيل : هذا حكاية لما قال لهم أنبياء الله المبعوثون إليهم. أو لما قال لهم لسان الحال ، أو هم كانوا أحقّاء بأن يقال لهم ذلك.

ثمّ دلّ على موجب الشكر بجملة مستأنفة ، هي «بلدة طيّبة» ، أي : هذه البلدة الّتي فيها رزقكم (بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ) وربّكم الّذي رزقكم ، وطلب شكركم ، ربّ غفور فرطات من يشكره.

وعن ابن عبّاس : كانت أخصب البلاد وأطيبها ، ليست سبخة ، ولم يكن لها

__________________

(١) الخمط : كلّ شجر ذي شوك ، أو شجر الأراك ، أو كلّ نبت أخذ طعما من مرارة. والأثل : شجر من فصيلة الطرفائيّات ، يكثر قرب المياه في الأراضي الرمليّة.

(٢) أي : لم يشكرها.

(٣) الكهف : ٣٢.

٤٣٢

عاهة ولا هامّة ، من البعوض والذباب والبراغيث والعقارب والحيّات.

وعن ابن زيد : كان الغريب إذا دخل بلدهم وفي ثيابه قمّل ودوابّ ماتت. وكانت تخرج المرأة وعلى رأسها المكتل ، فتعمل بيديها ، وتسير بين تلك الشجر ، ويمتلئ المكتل بما يتساقط فيه من الثمر ، من غير أن تمسّ بيدها شيئا.

وقيل : إنّما كانت ثلاث عشرة قرية ، في كلّ قرية نبيّ يدعوهم إلى الله سبحانه ، يقول لهم : (كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ) الآية.

(فَأَعْرَضُوا) عن الحقّ ، ولم يشكروا الله سبحانه ، ولم يقبلوا ممّن دعاهم إلى الله من الأنبياء (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ) سيل الأمر العرم ، أي : الصعب. من : عرم الرجل فهو عارم وعرم ، إذا شرس (١) خلقه وصعب. أو المطر الشديد. أو الجرذ (٢) الّذي نقب عليهم السكر. فأضاف إليه السيل من قبيل إضافة الشيء إلى سببه.

روي : أنّ بلقيس ضربت لهم بسدّ ما بين الجبلين بالصخر والقار ، فمنعت به ماء العيون والأمطار ، وتركت فيه خروقا على مقدار ما يحتاجون إليه من سقيهم. فلمّا طغوا وكذّبوا رسلهم ، سلّط الله على سدّهم الجرذ ، فنقبه من أسفله فغرّقهم. أو المسنّاة الّتي عقدت سكرا ، على أنّه جمع عرمة ، وهي الحجارة المركومة (٣).

وقيل : اسم واد جاء السيل من قبله ، وكان ذلك بين عيسى ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(وَبَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ) اللّتين فيهما أنواع الفواكه والخيرات والبركات (جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ) صاحبتي ثمر مرّ بشع ، فإنّ الخمط كلّ نبت أخذ طعما من مرارة ، حتّى لا يمكن أكله. وقيل : الأراك ، أو كلّ شجرة ذات شوك. وعلى

__________________

(١) أي : ساء خلقه.

(٢) الجرذ : نوع من الفار. والسكر : ما سدّ به النهر.

(٣) أي : المتراكمة بعضها فوق بعض.

٤٣٣

التقادير ؛ المضاف مقدّر ، تقديره : أكل أكل خمط ، فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه ، في كونه بدلا أو عطف بيان.

وقرأ أبو عمرو : أكل خمط ، مضافا غير منوّن. وقرأ الحرميّان بتخفيف أكل.

(وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ) معطوفا على «أكل» لا على «خمط» فإنّ الأثل شجر يشبه الطرفاء ، أعظم منه ، وأجود عودا. وقيل : الطرفاء نفسه ، ولا ثمر له. ووصف السدر بالقلّة ، لأنّ جناه هو النبق ممّا يطيب أكله ، ولذلك يغرس في البساتين. وتسمية البدل جنّتين للمشاكلة والتهكّم.

(ذلِكَ) أي : ما فعلنا بهم (جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا) بكفرانهم النعمة ، أو بكفرهم بالرسل ، إذ بعث إليهم ثلاثة عشر نبيّا فكذّبوهم. وتقديم المفعول للتعظيم لا للتخصيص. (وَهَلْ نُجازِي) بمثل ما فعلنا بهم (إِلَّا الْكَفُورَ) أي : مثل هذا الجزاء لا يستحقّه إلّا البليغ في الكفران أو الكفر. وهو العقاب العاجل.

وقيل : إنّ معناه : هل نجازي بجميع سيّئاته إلّا الكافر ، لأنّه يحبط عمله ، فيجازى بجميع ما يفعله من السوء.

وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وحفص : نجازي بالنون ، و «الكفور» بالنصب.

(وَجَعَلْنا) أي : وقد كان من قصصهم أنّا جعلنا (بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها) بالتوسعة على أهلها. وهي قرى الشام ، فإنّ متجرهم من أرض اليمن إلى الشام (قُرىً ظاهِرَةً) متواصلة يظهر بعضها من بعض ، لتقاربها ، فهي ظاهرة لأعين الناظرين. أو راكبة متن الطريق ، ظاهرة لأبناء السبيل ، لم تبعد عن مسالكهم حتّى تخفى عليهم.

(وَقَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ) بحيث يقيل الغادي في قرية ، ويبيت الرائح في قرية ، إلى أن يبلغ الشام (سِيرُوا فِيها) على إرادة القول بلسان المقال أو الحال كما مرّ

٤٣٤

(لَيالِيَ وَأَيَّاماً) متى شئتم من ليل أو نهار (آمِنِينَ) لا يختلف إلّا من فيها باختلاف الأوقات. أو سيروا فيها آمنين ، وإن طالت مدّة سفركم فيها ، وامتدّت أيّاما وليالي. أو سيروا ليالي أعماركم وأيّامها ، لا تلقون فيها إلّا الأمن. وفي هذا إشارة إلى تكامل نعمه عليهم‌السلام في السفر ، كما أنّه كذلك في الحضر.

ثمّ أخبر سبحانه أنّهم بطروا وأشروا النعمة وبغوا ، وما عرفوا قدر العافية ، كبني إسرائيل سألوا البصل والثوم ، فقال :

(فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا) سألوا الله أن يجعل بينهم وبين الشام مفاوز وفلوات ، ليتطاولوا فيها على الفقراء بركوب الرواحل وتزوّد الأزواد ، فعجّل الله لهم الإجابة بتخريب القرى المتوسّطة.

وقرأ ابن كثير وأبو عمرو : بعّد. ويعقوب «ربّنا» بالرفع ، و «باعد» بلفظ الخبر ، على أنّه شكوى منهم لبعد سفرهم ، إفراطا في الترفّه ، وعدم الاعتداد بما أنعم الله عليهم فيه.

(وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ) حيث بطروا النعمة ، ولم يعتدوا بها (فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ) يتحدّث الناس بهم تعجّبا.

وسبب التفريق على رواية الكلبي ، عن أبي صالح قال : ألقت طريفة الكاهنة إلى عمرو بن عامر أنّ سدّ مأرب سيخرب ، وأنّه سيأتي سيل العرم ، فيخرب الجنّتين. وعرفت ذلك في كهانتها. فباع عمرو أمواله ، وسار هو وقومه حتّى انتهوا إلى مكّة ، فأقاموا بها وما حولها ، فأصابتهم الحمّى ، وكانوا ببلد لا يدرون فيه ما الحمّى. فدعوا طريفة ، فشكوا إليها الّذي أصابهم.

فقالت لهم : قد أصابني الّذي تشكون ، وهو مفرّق بيننا.

قالوا : فما ذا تأمرين؟

قالت : من كان منكم ذا همّ بعيد ، وجمل شديد ، ومزاد جديد ، فليلحق بقصر

٤٣٥

عمان المشيد. وكانت الأزد.

ثمّ قالت : من كان منكم ذا جلد وقسر ، وصبر على أزمات الدهر ، فعليه بالأراك من بطن مرّ. وكانت خزاعة.

ثمّ قالت : من كان منكم يريد الراسيات (١) في الوحل ، المطعمات في المحل ، فليلحق بيثرب ذات النخل. وكانت الأوس والخزرج.

ثمّ قالت : من كان منكم يريد الخمر والخمير ، والملك والتأمير ، وملابس التاج والحرير ، فليلحق ببصرى وغوير. وهما من أرض الشام. وكان الّذي سكنوها آل جفنة بن غسّان.

ثمّ قالت : من كان منكم يريد الثياب الرقاق ، والخيل العتاق ، وكنوز الأرزاق ، والدم المهراق ، فليلحق بأرض العراق. وكان الّذين سكنوها آل جذيمة الأبرش ، ومن كان بالحيرة وآل محرّق.

(وَمَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ) وفرّقناهم غاية التفريق ، حتّى لحق غسّان بالشام ، وأنمار بيثرب ، وجذام بتهامة ، والأزد بعمان.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) فيما ذكر (لَآياتٍ) وعبر (لِكُلِّ صَبَّارٍ) عن المعاصي (شَكُورٍ) على النعم.

(وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ) أي : صدق في ظنّه. أو صدق يظنّ ظنّه ، مثل : فعلته جهدك. ويجوز أن يعدّى الفعل إليه بنفسه ، كما في : صدق وعده ، لأنّه نوع من القول. وشدّد الكوفيّون ، بمعنى : حقّق ظنّه ، أو وجده صادقا.

وذلك إمّا ظنّه بأهل سبأ حين رأى انهماكهم في الشهوات. أو ببني آدم حين وجد آدم ضعيف العزم ، وقد أصغى إلى وسوسته ، فقال : إنّ ذرّيّته أضعف عزما منه ، فظنّ بهم اتّباعه فقال : لأضلّنّهم ولأغوينّهم. وقيل : ظنّ ذلك عند إخبار الله

__________________

(١) أي : النخل ، من : رسا رسوّا : ثبت ورسخ. والمحل : الشدّة والجدب والجوع الشديد.

٤٣٦

الملائكة أنّه يجعل فيها من يفسد فيها.

(فَاتَّبَعُوهُ) الضمير إمّا لأهل سبأ ، أو لبني آدم (إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) إلّا فريقا هم المؤمنون لم يتّبعوه. وتقليلهم بالإضافة إلى الكفّار ، كما قال : (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلاً) (١). (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ) (٢). أو إلّا فريقا من فرق المؤمنين لم يتّبعوه في العصيان. وهم المخلصون.

(وَما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ) على المتّبعين (مِنْ سُلْطانٍ) تسلّط واستيلاء بوسوسته واستغوائه ، لا بإجباره إيّاهم على الغيّ والضلال ، لقوله تعالى : (وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي) (٣).

(إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ) إلّا ليتعلّق علمنا بذلك تعلّقا يترتّب عليه الجزاء. أو ليتميّز المؤمن من الشاكّ ، فنعذّب من تابعه ، ونثيب من خالفه. فعبّر عن التمييز بين الفريقين بالعلم. وهذا التمييز متجدّد ، لأنّه لا يكون إلّا بعد وقوع ما يستحقّون به ذلك ، وأمّا العلم فبخلاف ذلك ، لأنّه سبحانه كان عالما بأحوالهم ، وبما يكون منهم فيما لم يزل. فعلّل التسلّط بالعلم ، والمراد ما تعلّق به العلم.

(وَرَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ) محافظ عليه ، لا يفوته شيء من أحوالهم. وفعيل ومفاعل متآخيان.

(قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ

__________________

(١) الإسراء : ٦٢.

(٢) الأعراف : ١٧.

(٣) إبراهيم : ٢٢.

٤٣٧

(٢٢) وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (٢٣) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَلا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٢٥) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (٢٦) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٧))

(قُلِ) للمشركين توبيخا وتهكّما واستخفافا (ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ) أي : زعمتموهم آلهة. وهما مفعولا «زعم». حذف الأوّل لطول الموصول بصلته. والثاني لقيام صفته مقامه. ولا يجوز أن يكون هو مفعوله الثاني ، لأنّه لا يلتئم مع الضمير كلاما. ولا «لا يملكون» لأنّهم لا يزعمونه ، وكيف يتكلّمون بما هو حجّة عليهم؟! والمعنى : ادعوهم فيما يهمّكم من جلب نفع أو دفع ضرّ ، ليستجيبوا لكم في ذلك ، إن صحّ دعواكم. ولمّا دعوتموهم فلم يستجيبوا لكم ، فكيف يصحّ أن يدعى كما يدعى الله ، ويرجى كما يرجى.

ثمّ أجاب عنهم إشعارا بتعيّن الجواب ، وأنّه لا يقبل المكابرة ، فقال :

(لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ) زنة ذرّة من خير أو شرّ (فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) أي : في أمرهما. وذكرهما للعموم العرفي. أو لأنّ آلهتهم بعضها سماويّة كالملائكة والكواكب ، وبعضها أرضيّة كالأصنام. أو لأنّ الأسباب القريبة للشرّ

٤٣٨

والخير سماويّة أو أرضيّة. والجملة استئناف لبيان حالهم.

(وَما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ) من شركة ، لا خلقا ولا ملكا (وَما لَهُ) ليس لله سبحانه (مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) معاون على خلق السماوات والأرض وتدبيرهما ، ولا على شيء من الأشياء السماويّة والأرضيّة.

(وَلا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ) فلا تنفعهم الشفاعة أيضا كما يزعمون ، إذ لا تنفع الشفاعة عند الله (إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ) أي : أذن له أن يشفع. واللام كاللام في قولك : الكرم لزيد ، على معنى أنّه الشافع ، وأنّه الكريم. أو أذن أنّه المشفوع له ، لعلوّ شأنه عنده. كأنّه قيل : إلّا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله. فاللام كاللام في : جئتك لزيد ، أي : لأجل زيد. وهذا تكذيب لقولهم : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) (١). وقولهم : (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) (٢).

وقرأ حمزة وأبو عمرو والكسائي على البناء للمفعول (٣).

وقوله : (حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ) غاية لما يفهم من هذا الكلام ، من أنّ ثمّ توقّفا وانتظارا للإذن ، أي : يتربّصون الشفاعة فزعين ، هل يؤذن لهم أو لا يؤذن؟ حتّى إذا كشف الفزع عن قلوب الشافعين والمشفوع لهم بالإذن.

وقرأ ابن عامر ويعقوب : فزع ، على البناء للفاعل ، وهو الله تعالى.

(قالُوا) قال بعضهم لبعض (ما ذا قالَ رَبُّكُمْ) في الشفاعة (قالُوا الْحَقَ) قالوا : قال القول الحقّ وهو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى. وهم المؤمنون. (وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ) ذو العلوّ والكبرياء ، ليس لملك ولا نبيّ أن يتكلّم ذلك اليوم إلّا بإذنه. ثمّ قال تقريرا لقوله : «لا يملكون» : (قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ

__________________

(١) يونس : ١٨.

(٢) الزمر : ٣.

(٣) أي : أذن.

٤٣٩

وَالْأَرْضِ).

ثمّ أمره بأن يتولّى الاجابة والإقرار عنهم ، فقال : (قُلِ اللهُ) أي : قل في الجواب : يرزقكم الله ، إذ لا جواب سواه.

وفيه إشعار بأنّهم إن سكتوا عنادا ، أو تلعثموا (١) في الجواب مخافة الإلزام ، فهم مقرّون به بقلوبهم. يعني : أنّهم مع علمهم بصحّة ذلك قد أبوا أن يتكلّموا به ، لأنّ الّذي تمكّن في صدورهم من العناد وحبّ الشرك ، قد ألجم أفواهم عن النطق بالحقّ. ولأنّهم إن تفوّهوا بأنّ الله رازقهم ، لزمهم أن يقال لهم : فما لكم لا تعبدون من يرزقكم ، وتؤثرون عليه من لا يقدر على الرزق؟! فكأنّهم كانوا يقرّون بألسنتهم مرّة ، ومرّة كانوا يتلعثمون عنادا ، وحذرا من إلزام الحجّة.

(وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ) وإنّ أحد الفريقين ، من الموحّدين المتوحّد بالرزق والقدرة الذاتيّة بالعباد ، والمشركين به الجماد النازل في أدنى المراتب الإمكانيّة (لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) لعلى أحد الأمرين ، من الهدى والضلال الواضح. وهو بعد ما تقدّم من التقرير البليغ الدالّ على من هو على الهدى ، ومن هو في الضلال ، أبلغ من التصريح ، لأنّ هذا في صورة كلام المنصف المسكت للخصم المشاغب. ونحوه قول الرجل لصاحبه : قد علم الله الصادق منّي ومنك ، وإن أحدنا لكاذب. ومنه بيت حسّان (٢) :

أتهجوه ولست له بكفء

فشرّكما لخيركما الفداء

وقيل : إنّه على اللفّ والنشر. وفيه نظر.

واختلاف الحرفين ، لأنّ صاحب الحقّ كأنّه مستعل على فرس جواد يركضه حيث يشاء ، أو صاعد على منار ينظر الأشياء ويتطّلع عليها. والضالّ كأنّه منغمس

__________________

(١) تلعثم في الجواب : توقّف فيه وتأنّى.

(٢) ديوان حسّان (طبعة دار صادر) : ٩.

٤٤٠