زبدة التّفاسير - ج ٥

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٥

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-07-8
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٥٩٦

ومعنى الكلّيّة : الكثرة ، كقوله : (وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ) (١). (رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا) فإذا خوّلهم الله ما خوّلهم من الأمن والرزق بحرمة البيت وهم كفرة ، فكيف يعرّضهم للخوف والتخطّف ، إذا ضمّوا إلى حرمة البيت حرمة التوحيد؟! (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) جهلة لا يتفطّنون له ، ولا يتفكّرون ليعلموا ذلك.

وقيل : إنّه متعلّق بقوله : «من لدنّا» أي : قليل منهم يتدبّرون ، فيعلمون أنّ ذلك رزق من عند الله ، إذ لو علموا لما خافوا غيره.

وانتصاب «رزقا» على المصدر من معنى : يجبى. كأنّه قيل : ويرزق ثمرات كلّ شيء رزقا. أو حال من الثمرات ، بمعنى مرزوقا ، لتخصّصها بالإضافة ، كما تنتصب عن النكرة المتخصّصة بالصفة. أو مفعول له.

ثمّ خوّفهم من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم ، من إنعام الله عليهم بالرقود في ظلال الأمن وخفض العيش ، فغمطوا (٢) النعمة ، وقابلوها بالأشر والبطر ، فقال : (وَكَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ) من أهل قرية (بَطِرَتْ مَعِيشَتَها) بأن أعرضوا عن الشكر وتكبّروا. يعني : أعطيناهم المعيشة الواسعة ، فلم يعرفوا حقّ النعمة وكفروا ، فأهلكناهم.

وانتصابها إمّا بحذف الجارّ وإيصال الفعل ، كقوله تعالى : (وَاخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ) (٣). وإمّا على الظرف بنفسها ، بدون حذف الجارّ ، كقولك : زيد ظنّي مقيم (٤).

__________________

(١) النمل : ٢٣.

(٢) غمط النعمة : لم يشكرها. والأشر والبطر : شدّة المرح ، والاستخفاف بالنعمة ، وصرفها إلى غير وجهها طغيانا.

(٣) الأعراف : ١٥٥.

(٤) أي : في ظنّي.

١٨١

أو بتقدير حذف المضاف ، أي : أيّام معيشتها. وإمّا بتضمين «بطرت» معنى : كفرت وغمطت. والبطر سوء احتمال الغنى ، وهو أن لا يحفظ حقّ الله فيه.

(فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ) إشارة إلى ما يعرفونه من ديار عاد وثمود وقوم لوط ، أي : صارت مساكنهم خاوية خالية عن أهلها ، وهي قريبة منكم ، فإنّ ديار عاد إنّما كانت بالأحقاف ، وهو موضع بين اليمن والشام ، وديار ثمود بوادي (١) القرى ، وديار قوم لوط بسدوم ، وكانوا هم يمرّون بهذه المواضع في تجاراتهم.

(لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ) من السكنى (إِلَّا قَلِيلاً) زمانا قليلا ، إذ لا يسكنها إلّا المارّة يوما أو بعض يوم. أو من شؤم معاصي المهلكين ، لم يبق من سكنها من أعقابهم إلّا قليلا. (وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ) المالكين لتلك المساكن من ساكنيها ، أي : تركناها على حال لا يسكنها أحد يتصرّف فيها.

(وَما كانَ رَبُّكَ) وما كانت عادته (مُهْلِكَ الْقُرى) في كلّ وقت (حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها) في القرية الّتي هي أصلها ، والقرى الّتي ما سواها من توابعها ، لأنّ أهلها تكون أفطن وأنبل. (رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا) لإلزام الحجّة وقطع المعذرة ، مع علمه أنّهم لا يؤمنون. أو وما كان في حكم الله وسابق قضائه ، أن يهلك القرى في الأرض حتّى يبعث في أمّ القرى ـ يعني : مكّة ـ رسولا ، وهو محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

(وَما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَأَهْلُها ظالِمُونَ) لنفوسهم ، بتكذيب الرسل ، والعتوّ في الكفر.

وهذا بيان لعدله وتقدّسه عن الظلم ، حيث أخبر بأنّه لا يهلكهم إلّا إذا استحقّوا الإهلاك بظلمهم ، ولا يهلكهم مع كونهم ظالمين إلّا بعد تأكيد الحجّة والإلزام ببعثة الرسل ، ولا يجعل علمه بأحوالهم حجّة عليهم. ونزّه ذاته أن يهلكهم

__________________

(١) وادي القرى : واد بين المدينة والشام ، من أعمال المدينة ، كثير القرى. وسدوم : بلدة من أعمال حلب ، ومن مدائن قوم لوط.

١٨٢

وهم غير ظالمين ، كما قال : (وَما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُها مُصْلِحُونَ) (١). فنصّ في قوله : «بظلم» أنّه لو أهلكهم وهم مصلحون لكان ذلك ظلما منه ، وأنّ حاله في غناه وحكمته منافية للظلم ، دلّ على ذلك بحرف النفي مع لامه ، كما قال : (وَما كانَ اللهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ) (٢).

(وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى أَفَلا تَعْقِلُونَ (٦٠) أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (٦١) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٦٢) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (٦٣) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (٦٤) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (٦٥) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (٦٦) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (٦٧))

__________________

(١) هود : ١١٧.

(٢) البقرة : ١٤٣.

١٨٣

ولمّا كانت الرغبة المفرطة في الزخارف الدنيويّة الفانية ، والتعلّق التامّ بها ، مانعة عن التوجّه إلى الله ، وإلى الأحكام الدينيّة ، والتزوّد للآخرة ، وموجبة للحرمان عن الوصول إلى الدرجات الباقية ، والمراتب السرمديّة ، رغّب الله تعالى عنها العباد بقوله : (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ) وأيّ شيء أصبتموه من أسباب الدنيا (فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها) فإنّما هو تمتّع وزينة تتمتّعون وتتزيّنون به أيّاما قلائل ، وهي مدّة الحياة المنقضية ، ومع ذلك متضمّن للتبعيض وأنواع الكدورات.

(وَما عِنْدَ اللهِ) وهو ثوابه الأبدي (خَيْرٌ) في نفسه من ذلك ، لأنّه خالص عن شوب التنغّص ، وبهجة كاملة. (وَأَبْقى) لأنّه أبديّ (أَفَلا تَعْقِلُونَ) فتستبدلون الّذي هو أدنى بالّذي هو خير. وقرأ أبو عمرو بالياء. وهو أبلغ في الموعظة.

وعن ابن عبّاس : إنّ الله تعالى خلق الدنيا وجعل أهلها ثلاثة أصناف : المؤمن ، والمنافق ، والكافر. فالمؤمن يتزوّد ، والمنافق يتزيّن ، والكافر يتمتّع.

ولمّا كانت الآية الّتي تلي هذه الآية كالنتيجة لها رتّبت عليها بالفاء ، فقال : (أَفَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً) أي : وعدا بالجنّة الّتي هي أحسن المحاسن وأنفع المنافع ، فإنّ حسن الوعد بحسن الموعود (فَهُوَ لاقِيهِ) فهو مدركه لا محالة ، لامتناع الخلف في وعده. ولذلك عطفه بالفاء المعطية معنى السببيّة.

(كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا) الّذي هو مشوب بالآلام ، مكدّر بالمتاعب ، مستعقب بالتحسّر على الانقطاع (ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) للحساب ، أو العذاب. ونحوه : (لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ) (١). (فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) (٢). و «ثمّ» للتراخي في الزمان أو الرتبة.

وقرأ نافع وابن عامر في رواية والكسائي : ثمّ هو بسكون الهاء ، تشبيها

__________________

(١) الصافّات : ٥٧ و ١٢٧.

(٢) الصافّات : ٥٧ و ١٢٧.

١٨٤

للمنفصل بالمتّصل.

قيل : نزلت في رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأبي جهل. وعن السدّي : نزلت في عليّ عليه‌السلام وأبي جهل. وقيل : في عمّار بن ياسر والوليد بن المغيرة. والأولى أن يكون عامّا فيمن كان بهذه الصفة.

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ) ينادي الله المشركين. عطف على (يَوْمَ الْقِيامَةِ). أو منصوب بـ : اذكر. (فَيَقُولُ) تقريعا وتبكيتا (أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) أي : تزعمونهم شركائي. فحذف المفعولان لدلالة الكلام عليهما. ويجوز حذف المفعولين في باب «ظننت» ، ولا يصحّ الاقتصار على أحدهما.

(قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ) بثبوت مقتضاه وحصول مؤدّاه. وهو قوله : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) (١). وغيره من آيات الوعيد. وهم الشياطين ، أو أئمّة الكفر ورؤوس الشرك.

(رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا) الّذين أضللناهم عن الدين. فحذف الراجع إلى الموصول. يعنون : أتباعهم. (أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا) أي : أغويناهم فغووا غيّا مثل ما غوينا. وهو استئناف للدلالة على أنّهم غووا باختيارهم ، فإنّهم لم يفعلوا بهم إلّا وسوسة وتسويلا ، لا قسرا وإلجاء. فلا فرق إذن بين غيّنا وغيّهم ، وإن كان تسويلنا داعيا لهم إلى الكفر ، فقد كان في مقابلته دعاء الله لهم إلى الإيمان ، بما وضع فيهم من أدلّة العقل ، وما بعث إليهم وأنزل عليهم من الرسل والكتب المشحونة بالوعد والوعيد ، والمواعظ والزواجر. وناهيك بذلك صارفا عن الكفر ، وداعيا إلى الإيمان.

ويجوز أن يكون «الّذين» صفة لـ «هؤلاء» ، و «أغويناهم» خبره ، لأجل ما اتّصل به ، فأفاده زيادة على الصفة. وهو وإن كان فضلة لكنّه صار من اللوازم.

(تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) منهم وممّا اختاروه من الكفر هوى منهم. وهو تقرير للجملة

__________________

(١) هود : ١١٩.

١٨٥

المتقدّمة ، ولذلك خلت عن العاطف. وكذا قوله : (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) أي : لم يكونوا يعبدوننا ، وإنّما كانوا يعبدون أهواءهم. وقيل : «ما» مصدريّة متّصلة بـ «تبرّأنا» أي : تبرّأنا من عبادتهم إيّانا.

(وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ) ويقال للأتباع : أدعوا الّذين عبدتموهم من دون الله ، وزعمتم أنّهم شركائي ، لينصروكم ويدفعوا عنكم العذاب.

(فَدَعَوْهُمْ) من فرط الحيرة (فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ) لعجزهم عن الإجابة والنصرة (وَرَأَوُا الْعَذابَ) لازما بهم (لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ) لوجه من الحيل يدفعون به العذاب. أو إلى الحقّ ـ وهو الإيمان ـ لمّا رأوا العذاب. وقيل : «لو» للتمنّي ، أي : تمنّوا أنّهم كانوا مهتدين.

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ) عطف على الأوّل ، فإنّه تعالى يسأل أوّلا عن إشراكهم به ، ثمّ عن تكذيبهم الأنبياء. فإنّ الله سبحانه حكى أوّلا ما يوبّخهم به من اتّخاذهم له شركاء. ثمّ ما يقوله الشيطان أو أئمّتهم عند توبيخهم ، لأنّهم إذا وبّخوا بعبادة الآلهة ، اعتذروا بأنّ الشياطين هم الّذين استغووهم وزيّنوا لهم عبادتها. ثمّ ما يشبه الشماتة بهم ، من استغاثتهم آلهتهم ، وخذلانهم لهم ، وعجزهم عن نصرتهم. ثمّ ما يبكّتون به ، من الاحتجاج عليهم بإرسال الرسل وإزاحة العلل.

(فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ) فخفيت عليهم الأخبار عمّا أجابوا به رسلهم (يَوْمَئِذٍ) يوم القيامة. فصارت الأنباء كالعمى عليهم جميعا ، لا تهتدي إليهم.

وأصل الكلام : فعموا عن الأنباء ، أي : صاروا كالعمي ، لانسداد طرق الأخبار عليهم ، كما ينسدّ طرق الأرض على العمي ، لكنّه عكس مبالغة. وتعدية الفعل بـ «على» لتضمّنه معنى الخفاء. وسمّيت حججهم أنباء ، لأنّها أخبار يخبر بها ، فهم لا يحتجّون ولا ينطقون بحجّة.

وإذا كانت الرسل يتتعتعون في الجواب عن مثل ذلك من الهول ، ويفوّضون

١٨٦

إلى علم الله تعالى ، كما قال الله سبحانه : (يَوْمَ يَجْمَعُ اللهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) (١) فما ظنّك بالضّلال من أممهم؟! (فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ) لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب ، لفرط الدهشة. أو لعلمه بأنّه مثله في عدم علمه بالجواب.

ثمّ ذكر سبحانه أحوال التائبين منهم بقوله : (فَأَمَّا مَنْ تابَ) من الشرك (وَآمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) أي : جمع بين الإيمان والعمل الصالح (فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ) عند الله. و «عسى» تحقيق على عادة الكرام ، أو ترجّ من التائب ، بمعنى : فليتوقّع أن يفلح.

(وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللهِ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٦٨) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ (٦٩) وَهُوَ اللهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٧٠))

ولمّا كان المفلح مختار الله تعالى ذكر عقيبه : أنّ الاختيار إلى الله سبحانه ، والخلق والحكم له ، لكونه قادرا عالما على الكمال ، فقال : (وَرَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَيَخْتارُ) لا موجب عليه ، ولا مانع له (ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ) أي : التخيّر ، كالطيرة بمعنى التطيّر ، أي : ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه. فهذا بيان لقوله : «ويختار» ، ولهذا خلا عن العاطف. والمعنى : أنّ الخيرة لله في أفعاله ، وهو أعلم بوجوه الحكمة فيها ، فكيف يجوز لأحد أن يختار عليه.

وقيل : السبب فيه قول الوليد بن المغيرة : (لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ

__________________

(١) المائدة : ١٠٩.

١٨٧

الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) (١). يعني : لا يبعث الله الرسل باختيار المرسل إليهم.

وقيل : «ما» موصولة مفعول لـ «يختار» ، والراجع إليه محذوف. والمعنى : ويختار الّذي كان لهم فيه الخير والصلاح.

(سُبْحانَ اللهِ) تنزيه لله أن ينازعه أحد ، أو يزاحم اختياره اختيار (وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) عن إشراكهم ، أو مشاركة ما يشركونه به.

ثمّ برهن على صحّة اختياره ، وفساد اختيار غيره عليه ، بقوله : (وَرَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَما يُعْلِنُونَ) أي : ما يخفونه وما يظهرونه ، فإليه الاختيار ، ولا اختيار لغيره عليه.

وقيل : معناه : يعلم ما تخفي صدورهم من عداوة رسول الله ، وما يظهرون من الطعن فيه ، كقولهم : هلّا اختير عليه غيره في النبوّة.

(وَهُوَ اللهُ) المستحقّ للعبادة. ثمّ قرّر ذلك بقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) لا أحد يستحقّها إلّا هو. ومثل ذلك قولك : الكعبة القبلة ، لا قبلة إلّا هي.

(لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَالْآخِرَةِ) لأنّه المولي للنعم كلّها ، عاجلها وآجلها.

يحمده المؤمنون في الآخرة ابتهاجا بفضله ، والتذاذا بحمده. وهو قولهم : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ) (٢). (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ) (٣). كما يحمدونه في الدنيا تكليفا وتأدية لأداء شكره.

(وَلَهُ الْحُكْمُ) القضاء النافذ بين عباده ، بما يميّز به الحقّ من الباطل. قال ابن عبّاس : يحكم لأهل طاعته بالمغفرة والفضل ، ولأهل معصيته بالشقاء والويل. (وَإِلَيْهِ) وإلى جزائه وحكمه (تُرْجَعُونَ) يوم النشور.

__________________

(١) الزخرف : ٣١.

(٢) فاطر : ٣٤.

(٣) الزمر : ٧٤.

١٨٨

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَفَلا تَسْمَعُونَ (٧١) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلا تُبْصِرُونَ (٧٢) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٧٣) وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (٧٤) وَنَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (٧٥))

ثمّ بيّن سبحانه ما يدلّ على كمال قدرته الدالّ على توحيده ، فقال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (قُلْ) يا محمّد لأهل مكّة الّذين يعبدون آلهة غيري ، تنبيها على خطئهم : (أَرَأَيْتُمْ) أخبروني (إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً) دائما لا يكون معه نهار. واشتقاقه من السرد ، وهو المتابعة. والميم مزيدة ، على وزن فعمل ، كميم دلامص من الدلاص (١). (إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) بإسكان الشمس تحت الأرض ، أو تحريكها حول الأفق الغائر.

(مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ) كضياء النهار تبصرون فيه. كان حقّه : هل إله ، فذكر بـ «من» على زعمهم أنّ غيره آلهة. وعن ابن كثير : بضئاء بهمزتين. (أَفَلا تَسْمَعُونَ)

__________________

(١) الدلاص : اللين البراق.

١٨٩

ما يبيّنه الله تعالى من أدلّة توحيده ، سماع تدبّر واستبصار.

(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ) بإسكانها في وسط السماء ، أو تحريكها على مدار فوق الأفق (مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ) استراحة من متاعب الأشغال.

ولعلّه لم يصف الضياء بما يقابله ـ وهو : تتصرّفون فيه ـ لأنّ الضوء نعمة في ذاته مقصود بنفسه ، ولا كذلك اللّيل. ولأنّ منافع الضوء متكاثرة ، ليس التصرّف في المعاش وحده ، والظلّام ليس بتلك المنزلة. ولذلك قرن بالضياء (أَفَلا تَسْمَعُونَ) وبالليل (أَفَلا تُبْصِرُونَ) لأنّ استفادة العقل من السمع أكثر من استفادته من البصر ، فإنّ السمع يدرك ما لا يدرك البصر ، من ذكر منافعه ، ووصف فوائده.

(وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ) في الليل (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) في النهار بأنواع المكاسب (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ولكي تعرفوا نعمة الله في ذلك فتشكروه عليها.

ولمّا بيّن توحيده بالأدلّة المذكورة ، كرّر النداء للمشركين بـ «أين شركائي» تقريعا بعد تقريع ، وتبكيتا بعد تبكيت ، للإشعار بأنّه لا شيء أجلب لغضب الله تعالى من الإشراك ، كما لا شيء أدخل في مرضاته من توحيده ، فقال :

(وَيَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) قيل : النداء الأوّل (١) لتقرير إقرارهم على أنفسهم بالغيّ الّذي كانوا عليه وفساد رأيهم. والثاني للتعجيز عن إقامة البرهان على ما طولبوا به بحضرة الأشهاد ، وإنّما كان محض تشهّ وهوى.

(وَنَزَعْنا) وأخرجنا (مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً) وهو نبيّهم يشهد عليهم ، فإنّ أنبياء الأمم شهداء عليهم ، يشهدون بما كانوا عليه (فَقُلْنا) للأمم (هاتُوا

__________________

(١) في الآية : ٦٢ من هذه السورة.

١٩٠

بُرْهانَكُمْ) حجّتكم على صحّة ما كنتم تدينون به ، من الشرك ومخالفة الرسول.

(فَعَلِمُوا) حينئذ (أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ) في الألوهيّة ، لا يشاركه فيها أحد ، لا لهم ولشياطينهم. فلزمتهم الحجّة ، لأنّ المشهود عليه إذا لم يأت بمخلص عن بيّنة الخصم ، توجّهت القضيّة عليه ولزمه الحكم.

(وَضَلَّ عَنْهُمْ) وغاب عنهم غيبة الشيء الضائع (ما كانُوا يَفْتَرُونَ) من الباطل والكذب.

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (٧٦) وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (٧٧) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (٧٨))

ولمّا قال سبحانه : (وَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَزِينَتُها وَما عِنْدَ اللهِ خَيْرٌ وَأَبْقى) (١) أكّد ذلك بما أوتي قارون من النعم الفانية الّتي بها خسف في الأرض ، وحرم من النعم الباقية ، فقال :

__________________

(١) القصص : ٦٠.

١٩١

(إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى) فإنّه كان ابن عمّه يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب. وكان موسى بن عمران بن قاهث. وقيل : كان موسى ابن أخيه. فقارون كان عمّه. وعن أبي عبد الله عليه‌السلام : هو ابن خالته.

وهذا منقول عن عطا ، عن ابن عبّاس. وكان يسمّى المنوّر ، لحسن صورته. وكان أقرأ بني إسرائيل للتوراة ، ولكنّه نافق كما نافق السامريّ.

(فَبَغى عَلَيْهِمْ) فطلب الفضل عليهم ، وأن يكونوا تحت أمره. أو تكبّر عليهم ، أو ظلمهم.

قيل : وذلك حين ملّكه فرعون على بني إسرائيل ، أو حسدهم ، لما روي أنّه قال لموسى عليه‌السلام : لك الرّسالة ، ولهارون الحبورة (١) ، وأنا في غير شيء ، إلى متى أصبر؟ قال موسى عليه‌السلام : هذا صنع الله. قال : والله لا أصدّقك حتّى تأتي بآية. فأمر رؤساء بني إسرائيل أن يجيء كلّ واحد بعصاه ، فحزمها (٢) وألقاها في القبّة الّتي كان الوحي ينزل عليه فيها. وكانوا يحرسون عصيّهم بالليل ، فأصبحوا وإذا بعصا هارون تهتزّ ، ولها ورق أخضر ، وكانت من شجر اللوز. فقال قارون : ما هو بأعجب ممّا تصنع من السحر.

(وَآتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ) من الأموال المدّخرة (ما) أي : الّذي (إِنَّ مَفاتِحَهُ) مفاتيح صناديقه ، جمع مفتح بالكسر. وهو ما يفتح به الأبواب. وقيل : خزائنه.

وقياس واحدها : المفتح بالفتح. (لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ) خبر «إنّ» ، والجملة صلة «ما» ، وهو ثاني مفعولي «آتى». و «تنوء» من : ناء به الحمل ، إذا أثقله حتّى أماله. والعصبة والعصابة الجماعة الكثيرة. يقال : اعصوصبوا إذا اجتمعوا.

قيل : كانت تحمل مفاتيح خزائنه ستّون بغلا ، لكلّ خزانة مفتاح ، ولا يزيد

__________________

(١) الحبورة : الإمامة. مأخوذة من الحبر ، بمعنى : الرئيس في الدين.

(٢) أي : شدّها.

١٩٢

المفتاح على أصبع ، وكانت من جلود. وقال أبو رزين : يكفي الكوفة مفتاح ، أي : كنز واحد من كنوزه.

(إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ) منصوب بـ «تنوء» (لا تَفْرَحْ) لا تبطر ولا تمرح. والفرح بالدنيا مذموم مطلقا ، لأنّه نتيجة حبّها والرضا بها ، والذهول عن ذهابها ، فإنّ العلم بأنّ ما فيها من اللذّة مفارقة لا محالة يوجب الترح (١) ، كما قال (٢) :

أشدّ الغمّ عندي في سرور

تيقّن عنه صاحبه انتقالا

ولذلك قال سبحانه : (وَلا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ) (٣).

ولمّا كانت محبّة الدنيا وما فيها مانعة من محبّة الله تعالى قال عزوجل : (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ) أي : بزخارف الدنيا.

(وَابْتَغِ فِيما آتاكَ اللهُ) واطلب فيما أعطاك الله من الغنى (الدَّارَ الْآخِرَةَ) بأن تصرفه فيما يوجبها لك من وجوه البرّ وسبيل الخير ، فإنّ المقصود منه أن يكون وصلة إليها.

(وَلا تَنْسَ) ولا تترك ترك المنسيّ (نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا) وهو أن تحصّل بها آخرتك ، فإنّ حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا الّذي يعمل به للآخرة. وروي في معناه عن عليّ عليه‌السلام : «لا تنس قوّتك وشبابك ونشاطك وغناك أن تطلب بها الآخرة».

قيل : معناه خذ منها ما يكفيك ويصلحك. فإن كان قتورا شحيحا فقيل له : كل واشرب واستمتع بما آتاك الله من الوجه الّذي أباحه الله لك ، فإنّ ذلك غير محظور عليك.

(وَأَحْسِنْ) إلى عباد الله (كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ) فيما أنعم عليك. وقيل :

__________________

(١) التّرح : الحزن والهمّ.

(٢) لأبي الطيب. انظر ديوانه (طبعة دار صادر) : ١٤٠.

(٣) الحديد : ٢٣.

١٩٣

أحسن بالشكر والطاعة ، كما أحسن إليك بالإنعام.

(وَلا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ) نهي له عمّا كان عليه من الظلم والبغي (إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ) لسوء أفعالهم. قيل : إنّ القائل بذلك موسى عليه‌السلام.

(قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ) أعطيت هذا المال الكثير (عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) على استحقاق واستيجاب ، لما فيّ من العلم الّذي فضّلت به على الناس ، واستوجبت به التفوّق عليهم بالجاه والمال.

و «على علم» في موضع الحال. و «عندي» صفة له ، أو متعلّق بـ «أوتيته» ، كقولك : الأمر عندي كذا ، أي : في ظنّي واعتقادي. وهو علم التوراة ، فإنّه كان أعلم بني إسرائيل بالتوراة بعد موسى وهارون ويوشع وكالب عليهم‌السلام. وقيل : العلم بكنوز يوسف عليه‌السلام.

وعن سعيد بن المسيّب : كان موسى عليه‌السلام يعلم علم الكيمياء ، فأفاد يوشع بن نون ثلثه ، وكالب بن يوفنّا ثلثه ، وقارون ثلثه ، فخدعهما قارون حتّى أضاف علمهما إلى علمه ، فكان يأخذ الرصاص والنحاس فيجعلهما ذهبا.

وقيل : علّم الله موسى الكيمياء ، فعلّمه موسى أخته ، فعلّمته أخته قارون.

وقيل : هو بصّره بأنواع التجارة والدهقنة ، وسائر المكاسب.

ثمّ قال سبحانه على وجه التوبيخ : (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً) أي : قد قرأ قارون في التوراة ، وسمع من موسى وحفّاظ التواريخ ، أن الله تعالى قد أهلك القرون الخالية الّذين هم أقوى منه ، وأغنى وأكثر جماعة وعددا ، أو أكثر جمعا للمال ، كقوم عاد وثمود وقوم لوط.

وقيل : هذا ردّ لعلمه بذلك ، لأنّه لمّا قال : (أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي) فترفّع بالعلم وتعظّم به ، قيل : أعنده مثل ذلك العلم الّذي ادّعاه ، ورأى نفسه به مستوجبة لكلّ نعمة ، ولم يعلم هذا العلم النافع ، حتّى يقي به نفسه مصارع الهالكين؟

١٩٤

ولمّا ذكر قارون من أهلك من قبله من القرون الّذين كانوا أقوى منه وأغنى ، أكّد ذلك بقوله :

(وَلا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) سؤال استعلام ، فإنّه تعالى مطّلع عليها ، فلا يحتاج إلى سؤالهم عنها. أو سؤال معاتبة ، فإنّهم يعذّبون بها بغتة.

وملخّص المعنى : أنّ الله تعالى مطّلع على ذنوب المجرمين كلّهم ، فيعاقبهم عليها لا محالة. وهذا كقوله : (فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلا جَانٌ) (١). وأمّا قوله : (فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ) (٢) فإنّما هو سؤال توبيخ وتقريع.

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (٧٩) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً وَلا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (٨٠) فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (٨١) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (٨٢))

(فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ) روي : أنّه خرج على بغلة شهباء عليه

__________________

(١) الرحمن : ٣٩.

(٢) الحجر : ٩٢.

١٩٥

الأرجوان (١) ، وعليها سرج من ذهب ، ومعه أربعة آلاف على زيّه. وقيل : عليهم وعلى خيولهم الديباج الأحمر ، وعن يمينه ثلاثمائة غلام ، وعن يساره ثلاثمائة جارية بيض ، عليهنّ الحليّ والديباج. وقيل : في تسعين ألفا عليهم المعصفرات (٢) ، وهو أوّل يوم رؤي فيه المعصفر. وقال الحسن : خرج عليهم في الحمرة والصفرة.

(قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا) على ما هو عادة الناس من الرغبة (يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ) تمنّوا مثله الّذي يسمّى الغبطة ، لا عينه ، حذرا عن الحسد الّذي يتمنّى الرجل أن يكون نعمة صاحبه له دونه (إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ) نصيب وافر من أمر الدنيا (عَظِيمٍ). والحظّ ـ لغة ـ : الجدّ. وهو البخت والدولة. وصفوه بأنّه مجدود مبخوت. يقال : فلان ذو حظّ ، وحظيظ ، ومحظوظ.

(وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) بأحوال الآخرة من المؤمنين المصدّقين بوعد الله للمتمنّين (وَيْلَكُمْ) أصله الدعاء بالهلاك ، ثمّ استعمل في الزجر والردع والبعث على ترك ما لا يرتضى ، كما استعمل : لا أبالك ، في الحثّ على الفعل. وأصله الدعاء على الرجل المتّهم في النسب من جانب الأب. (ثَوابُ اللهِ) في الآخرة (خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً) ممّا أوتي قارون ، بل من الدنيا وما فيها.

(وَلا يُلَقَّاها) الضمير فيه للكلمة الّتي تكلّم بها العلماء. أو للثواب ، فإنّه بمعنى المثوبة أو الجنّة. أو للإيمان والعمل الصالح ، فإنّهما في معنى السيرة والطريقة (إِلَّا الصَّابِرُونَ) على الطاعات ، وعن المعاصي.

روي : أنّ قارون كان يؤذي موسى عليه‌السلام في كلّ وقت ، وهو يداريه للقرابة الّتي بينهما ، حتّى نزلت آية الزكاة ، فصالحه عن كلّ ألف دينار على دينار ، وعن كلّ ألف درهم على درهم. فحسبه فاستكثره ، فشحّت به نفسه. فجمع بني إسرائيل وقال : إنّ

__________________

(١) الأرجوان : قطيفة حمراء. والأرجوان : صبغ أحمر. وهو معرّب : أرغوان الفارسيّة.

(٢) المعصفر : الثوب المصبوغ بالعصفر. وهو صبغ أصفر اللون.

١٩٦

موسى يريد أن يأخذ أموالكم.

فقالوا : أنت كبيرنا وسيّدنا ، فمر بما شئت.

قال : نرشو فلانة البغيّ حتّى ترمي موسى بنفسها ، فتفضحه بين يدي بني إسرائيل ليرفضوه. فجعل لها ألف دينار. وقيل : طشتا من ذهب مملوءة ذهبا. وقيل : حكّمها في ماله. وقيل : أعطاها خريطتين عليهما خاتمه.

وقالت : يا ويلتي قد عملت كلّ فاحشة ، فما بقي إلّا أن افتري على نبيّ الله! فلمّا كان يوم عيد قام موسى خطيبا فقال : يا بني إسرائيل من سرق قطعناه ، ومن افترى جلدناه ، ومن زنا وهو غير محصن جلدناه ، وإن أحصن رجمناه.

فقال قارون : وإن كنت أنت؟

قال : وإن كنت أنا.

قال : فإنّ بني إسرائيل يزعمون أنّك فجرت بفلانة.

فأحضرت. فناشدها موسى بالّذي فلق البحر وأنزل التوراة أن تصدق.

فتداركها الله فقالت : كذبوا ، بل جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي.

فخرّ موسى ساجدا يبكي ، وقال : يا ربّ إن كنت رسولك فاغضب لي.

فأوحي إليه : أن مر الأرض بما شئت ، فإنّها مطيعة لك.

فقال : يا بني إسرائيل إنّ الله بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون ، فمن كان معه فليلزم مكانه ، ومن كان معي فليعتزل. فاعتزلوا جميعا غير رجلين. ثمّ قال : يا أرض خذيهم ، فأخذتهم إلى الركب. ثمّ قال : خذيهم ، فأخذتهم إلى الأوساط. ثمّ قال : خذيهم ، فأخذتهم إلى الأعناق. وقارون وأصحابه يتضرّعون إلى موسى ، ويناشدونه بالله والرحم ، وموسى لا يلتفت إليهم ، لشدّة غضبه. ثمّ قال : خذيهم ، فانطبقت عليهم.

١٩٧

وأوحى الله إلى موسى : ما أفظّك! استغاثوا بك مرارا فلم ترحمهم. أما وعزّتي لو إيّاي دعوا مرّة واحدة لوجدوني قريبا مجيبا.

فأصبحت بنو إسرائيل يتناجون بينهم : إنّما دعا موسى على قارون ليستبدّ بداره وكنوزه. فدعا الله حتّى خسف بداره وأمواله ، كما قال الله سبحانه : (فَخَسَفْنا بِهِ وَبِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ) أعوان. مشتقّة من : فأوت رأسه ، إذا ميّلته. (يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللهِ) فيدفعون عنه عذاب الله (وَما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ) من المنتقمين من موسى. أو الممتنعين من عذاب الله. من قولهم : نصره من عدوّه فانتصر ، إذا منعه منه فامتنع.

(وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ) منزلته من الدنيا (بِالْأَمْسِ) منذ زمان قريب ، حين خرج عليهم في زينته (يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللهَ) هذه كلمة تندّم وتنبّه على الخطأ.

مركّبة عند البصريّين من «وي» للتعجّب ، و «كأنّ» للتشبيه ، والضمير للشأن.

والمعنى : أنّ القوم تنبّهوا على خطئهم في تمنّيهم منزلة قارون وتندّموا ، ثمّ قالوا : كأنّ الله ، أي : ما أشبه الأمر أنّ الله (يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَيَقْدِرُ) لمن يشاء منهم ، أي : بمقتضى مشيئته وحكمته ، لا لكرامة تقتضي البسط ، ولا لهوان يوجب القبض.

وعند الكوفيّين مشتقّة من «ويك» بمعنى : ويلك ، وأنّ تقديره : ويك اعلم أنّ الله يبسط ... إلخ.

(لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللهُ عَلَيْنا) أنعم الله علينا بنعمه ، فلم يعطنا مثل ما أعطى قارون (لَخَسَفَ بِنا) لأجله. وقرأ حفص بفتح الخاء والسين.

(وَيْكَأَنَّهُ) وما أشبه الحال بأنّه (لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ) لا يفوز بثواب الله ، ولا ينجو من عقابه ، الجاحدون لنعمة الله. أو المكذّبون برسله ، وبما وعدوا لهم من ثواب الآخرة.

١٩٨

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلا فَساداً وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (٨٣) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (٨٤))

(تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ) إشارة تعظيم وتفخيم لشأنها ، كأنّه قال : تلك الّتي سمعت خبرها وبلغك وصفها. والدار صفة ، والخبر (نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ) غلبة وقهرا (وَلا فَساداً) ظلما على الناس ، كما أراد فرعون وقارون (وَالْعاقِبَةُ) المحمودة (لِلْمُتَّقِينَ) للّذين يجتنبون عمّا لا يرضاه الله. علّق الوعد بترك إرادة العلوّ والفساد ، ولم يقل : لا تعلو ولا تفسدوا ، كما علّق الوعيد بالركون في قوله : (وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) (١).

وروي عن عليّ عليه‌السلام : «أنّ الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه ، فيدخل تحتها».

وعن الفضيل أنّه قرأها ثمّ قال : ذهبت الأماني هاهنا.

ثمّ أكّد ذلك بقوله : (مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها) ذاتا وقدرا ووصفا (وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ) وضع فيه الظاهر موضع الضمير ، تهجينا لحالهم ، وزيادة تبغيض للسيّئة إلى قلوب السامعين (إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ) أي : إلّا مثل ما كانوا يعملون. فحذف المثل ، وأقيم (ما كانُوا يَعْمَلُونَ) مقامه ، مبالغة في المماثلة.

وهذا من فضله العظيم ، وكرمه الواسع ، أن لا يجزي السيّئة إلّا بمثلها ،

__________________

(١) هود : ١١٣.

١٩٩

ويجزي الحسنة بعشر أمثالها وبسبعمائة. وهو معنى قوله : (فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها).

(إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨٥) وَما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (٨٦) وَلا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٨٧) وَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٨٨))

ولمّا حكم بأنّ العاقبة الحسنى للمتّقين ، وأكّد ذلك بوعد المحسنين ووعيد المسيئين ، وعد رسوله بالعاقبة المحمودة ، فقال : (إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ) أوجب عليك تلاوته ، وتبليغه ، والعمل بما فيه (لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ) أيّ معاد ، أي : معاد ليس لغيرك من البشر. وتنكير المعاد لذلك.

وهو المقام المحمود الّذي وعدك أن يبعثك فيه.

وقيل : المراد به مكّة ، فإنّ الله سبحانه ردّه إليها يوم الفتح. ووجه تنكيره : أنّها كانت في ذلك اليوم معادا له شأن ، ومرجعا له اعتداد ، لغلبة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليها ، وقهره لأهلها ، ولظهور عزّ الإسلام وأهله ، وذلّ الشرك وحزبه. ولمّا كانت السورة مكّيّة ، فكأنّ الله وعده وهو بمكّة في أذى من أهلها : أنّه يجعله مهاجرا منها ، ثمّ يعيده إليها ظاهرا ظافرا.

٢٠٠