زبدة التّفاسير - ج ٥

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٥

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-07-8
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٥٩٦

تركتم عبادته ، أو أشركتم به غيره ، أو أمنتم من عذابه. وقيل : معناه : ما تظنّون بربّكم أنّه على أيّ صفة ومن أيّ جنس من أجناس الأشياء حين شبّهتم به هذه الأصنام. وفيه إشارة إلى أنّه لا يشبه شيئا. والمراد إنكار ما يوجب ظنّا ـ فضلا عن قطع ـ يصدّ عن عبادته ، أو يجوّز الإشراك به ، أو يقتضي الأمن من عقابه ، على طريقة الإلزام. وهو كالحجّة على ما قبله.

(فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ) في مواقعها واتّصالها ، أو في علمها ، أو في كتابها ، كنظرهم ، لأنّهم كانوا يتعاطون علم النجوم ، فأوهمهم أنّه استدلّ بأمارة في علم النجوم على أنّه سيسقم ، لئلّا يخرجوه إلى معيّدهم حين سألوه أن يعيّد معهم (فَقالَ) عند ذلك (إِنِّي سَقِيمٌ) أي : مشارف للسقم. فتركوه ظنّا منهم أنّ نجمه يدلّ على سقمه.

وقيل : أراد أنّه عليه‌السلام نظر في النجوم ، فاستدلّ بها على وقت حمّى الغبّ (١) كانت تعتاده ، فقال : إنّي سقيم. أراد أنّه قد حضر وقت علّته وزمان نوبتها. كأنّه قال : إنّي سأسقم لا محالة ، وحان الوقت الّذي تعتريني فيه الحمّى. وقد يسمّى المشارف للشيء باسم الداخل فيه ، قال سبحانه : (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ) (٢). ولم يكن نظره حقيقة في النجوم على حسب ما ينظره المنجّمون طلبا للأحكام.

ويجوز أنّ الله أعلمه بالوحي أنّه سيسقمه في وقت مستقبل ، وجعل العلامة على ذلك طلوع نجم على وجه مخصوص ، أو اتّصاله بآخر على وجه مخصوص ، فلمّا راى إبراهيم تلك الأمارة قال : «إنّي سقيم» تصديقا بما أخبره الله تعالى. أو أراد : أنّي سقيم القلب لكفركم ، أو خارج المزاج عن المزاج المعتدل خروجا قلّ من يخلو منه.

__________________

(١) حمّى الغبّ : هي التي تنوب يوما بعد يوم.

(٢) الزمر : ٣٠.

٥٦١

ومارواه العيّاشي بإسناده عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام أنّهما قالا : «والله ما كان سقيما ، وما كذب».

فيمكن أن يحمل على أحد الوجوه الّتي ذكرناه. ويمكن أن يكون على وجه التعريض ، بمعنى أنّ كلّ من كتب عليه الموت هو سقيم وإن لم يكن به سقم في الحال.

وما روي أنّ إبراهيم عليه‌السلام كذب ثلاث كذبات : قوله : (إِنِّي سَقِيمٌ). وقوله : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا) (١). وقوله في سارة : إنّها أختي. فيمكن أن يكون محمولا على المعاريض ، أي : سأسقم ، وفعله كبيرهم على ما ذكرناه في موضعه ، وسارة أخته في الدين. وقد ورد في الخبر : إنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب.

والمعاريض : أن يقول الرجل شيئا يقصد به غيره ، فيفهم منه غير ما يقصده. ولا يكون ذلك كذبا ، فإنّ الكذب قبيح لا يجوز على الأنبياء ، لأنّه يرفع الثقة بقولهم ، فجلّ أمناء الله تعالى وأصفياؤه عن ذلك.

وروي : أنّ أكثر أسقامهم الطاعون ، وكانوا يخافون سرايته منه إليهم ، فهربوا منه إلى عيدهم ، وتركوه في بيت الأصنام ليس معه أحد ، ففعل بالأصنام ما فعل ، كما قال عزّ اسمه : (فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ) هاربين مخافة العدوى (فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ) فذهب إليها في خفية. من روغة الثعلب. وأصله الميل بحيلة. (فَقالَ) أي : للأصنام استهزاء (أَلا تَأْكُلُونَ) يعني : الطعام الّذي كان عندهم (ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ) بجوابي. وفيه تهجين بعبدتها ، وانحطاطها عن حالهم.

(فَراغَ عَلَيْهِمْ) فمال عليهم مستخفيا. والتعدية بـ «على» للاستعلاء وإيصال المكروه. (ضَرْباً بِالْيَمِينِ) مصدر لـ «راغ عليهم» لأنّه في معنى : ضربهم. أو لمضمر تقديره : فراغ عليهم يضربهم ضربا. وتقييده باليمين الّذي هو أقوى الجارحين وأشدّهما للدلالة على قوّته ، فإنّ قوّة الآلة تستدعي قوّة الفعل. وعن

__________________

(١) الأنبياء : ٦٣.

٥٦٢

الفرّاء : اليمين بمعنى القوّة والمتانة. وقيل : معناه : بسبب الحلف. وهو قوله : (وَتَاللهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ) (١).

(فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ) إلى إبراهيم بعد ما رجعوا من عيدهم ، فرأوا أصنامهم مكسّرة ، وبحثوا عن كاسرها ، فظنّوا أنّه كاسرها ، فقالوا : (أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ) (٢) (يَزِفُّونَ) يسرعون. من زفيف النعام. وقرأ حمزة على بناء المفعول ، من أزفّ إذا دخل في الزفيف ، أو من أزفّه إذا حمله على الزفيف ، أي : يحمل بعضهم بعضا على الزفيف.

(قالَ) على وجه الحجاج عليهم (أَتَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ) ما تنحتونه من الأصنام. والهمزة للإنكار والتوبيخ ، أي : كيف يصحّ أن يعبد الإنسان ما يعمله؟

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ) أي : ومادّة ما تعملونه ، فإنّ جوهرها بخلقه ، وإن كان شكلها بفعلهم. وهذا كما يقال : عمل النجّار الباب والكرسيّ ، وعمل الصائغ السوار والخلخال. والمراد عمل أشكال هذه الأشياء وصورها ، دون جوهرها ومادّتها.

فالله خالق جواهر الأصنام ، وهم عاملوا أشكالها ، أي : مصوّروها ومشكّلوها بنحتهم.

وليس لأهل الجبر تمسّك بهذه الآية على أنّ الله خالق لأفعال العباد ، فإنّ من المعلوم أنّ الكفّار لم يعبدوا نحتهم الّذي هو فعلهم ، وإنّما كانوا يعبدون الأصنام الّتي هي الأجسام. وقوله : «وما تعملون» ترجمة عن قوله : «ما تنحتون». فلأجل الطباق يجب أن يكون «ما» في «ما تعملون» أيضا موصولة ، فالعدول بها إلى المصدريّة ـ كما قالت المجبّرة ـ تعسّف. وأيضا قد أضاف العمل إليهم بقوله : «تعملون» ، فكيف يكون مضافا إلى الله تعالى؟ وهذا تناقض.

ولمّا لزمهم الحجّة (قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ) في النار

__________________

(١) الأنبياء ، ٥٧ و ٦٢.

(٢) الأنبياء ، ٥٧ و ٦٢.

٥٦٣

الشديدة. من الجحمة ، وهي شدّة التأجّج. وعن الزجّاج : كلّ نار بعضها فوق بعض فهي جحيم. واللام بدل الإضافة ، أي : جحيم ذلك البنيان. وعن ابن عبّاس : بنوا حائطا من حجارة طوله في السماء ثلاثون ذراعا ، وعرضه عشرون ذراعا ، وملؤه نارا وطرحوه فيها.

(فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً) قصدوا حيلة وتدبيرا في إحراقه بالنار وإهلاكه ، حين قهرهم بالحجّة ، لئلّا يظهر للعامّة عجزهم (فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ) الأذلّين ، بإبطال كيدهم ، وجعله برهانا نيّرا على علوّ شأنه ، حيث صيّرنا النار عليه بردا وسلاما ، فنجّيناه وأخرجناه منها سالما.

(وَقالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي) إلى حيث أمرني ربّي. وهو الشام ، أو حيث أتجرّد فيه لعبادته. (سَيَهْدِينِ) سيرشدني إلى ما فيه صلاح ديني. أو إلى مقصدي.

وإنّما بتّ القول لسبق وعده ، أو لفرط توكّله ، أو البناء على عادته معه في هدايته وإرشاده. ولم يكن كذلك حال موسى عليه‌السلام حين قال : (عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ) (١). فلذلك ذكر بصيغة التوقّع.

وعن مقاتل : إبراهيم أوّل من هاجر ـ ومعه لوط وسارة ـ إلى الشام ، ولمّا قدم الأرض المقدّسة الّتي هي من الشام سأل ربّه الولد ، فقال :

(رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ) بعض الصالحين ، يعينني على الدعوة والطاعة ، ويؤنسني في الغربة. يعني : الولد ، لأنّ لفظ الهبة غالب فيه. قال تعالى : (وَوَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ) (٢) (وَوَهَبْنا لَهُ يَحْيى) (٣) ، وإن كان قد جاء في الأخ في قوله : (وَوَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا) (٤). ولقوله :

(فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ) فإنّه بشّره بالولد ، وبأنّه ذكر يبلغ أوان الحلم ، فإنّ

__________________

(١) القصص : ٢٢.

(٢) الأنعام : ٨٤.

(٣) الأنبياء : ٩٠.

(٤) مريم : ٥٣.

٥٦٤

الصبيّ لا يوصف بالحلم. ولا شبهة أنّ إسماعيل كان حليما ـ أيّ حليم ـ حين عرض عليه أبوه الذبح وهو مراهق ، فقال : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (١).

والحليم : هو الّذي لا يعجل في الأمر قبل وقته مع القدرة عليه. وقيل : لا يعجل بالعقوبة. ولعزّة وجوده في بني آدم ما وصف الله نبيّا بالحلم غير إبراهيم وولده ، في قوله : (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ) (٢). (إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ) (٣).

وقوله هاهنا في ابنه. وحالهما المذكورة بعد تشهد عليه.

(فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (١٠٢) فَلَمَّا أَسْلَما وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (١٠٣) وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (١٠٤) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٠٥) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (١٠٦) وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (١٠٧) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٠٨) سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ (١٠٩) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١١٠) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١١١) وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ

__________________

(١) الصافّات : ١٠٢.

(٢) هود : ٧٥.

(٣) التوبة : ١١٤.

٥٦٥

الصَّالِحِينَ (١١٢) وَبارَكْنا عَلَيْهِ وَعَلى إِسْحاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (١١٣))

ثمّ أخبر سبحانه أنّ الغلام الّذي بشّره به ولد له وترعرع ، حيث قال : (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) أي : فلمّا وجد وبلغ أن يسعى معه في أعماله. و «معه» متعلّق بمحذوف دلّ عليه السعي ، لابه ، لأنّ صلة المصدر لا تتقدّمه ، ولا بـ «بلغ» ، لأنّ بلوغهما حدّ السعي لم يكن معا. كأنّه لمّا قال : (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ) ـ أي : الحدّ الّذي يقدر فيه على السعي ـ قيل : مع من؟ فقيل : مع أبيه. وتخصيص الأب لأنّه أرفق الناس به وأعطفهم عليه ، وغيره ربما عنف به في الاستسعاء قبل أوانه ، فلا يحتمله حين عدم استحكام قوّته. أو لأنّه استوهبه لذلك. وكان له يومئذ ثلاث عشرة سنة.

(قالَ يا بُنَيَ) وقرأ حفص وحده بفتح الياء (إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) يحتمل أنّه رأى ذلك ، وأنّه رأى ما هو تعبيره.

وقيل : إنّه رأى ليلة التروية أنّ قائلا يقول له : إنّ الله يأمرك بذبح ابنك هذا ، فلمّا أصبح روّى (١) في أنّه أمن الله أو من الشيطان؟ ومن ثمّ سمّي هذا اليوم التروية.

فلمّا أمسى رأى مثل ذلك ، فعرف أنّه من الله ، فمن ثمّ سمّي عرفة. ثمّ رأى مثله في الليلة الثالثة ، فهمّ بنحره وقال له ذلك ، فسمّي يوم النحر.

وقيل : إنّ الملائكة حين بشّرته بغلام حليم ، قال : هو إذا ذبيح. فلمّا ولد وبلغ حدّ السعي ، قيل له في المنام : أوف بنذرك.

واختلف في الذبيح على قولين :

__________________

(١) روّى في الأمر : نظر فيه وتفكّر.

٥٦٦

أحدهما : أنّه إسحاق.

والأظهر أنّ المخاطب كان إسماعيل عليه‌السلام ، لأنّه الّذي وهب له إثر الهجرة.

ولأن البشارة بإسحاق بعد معطوفة على البشارة بهذا الغلام. ولقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «أنا ابن الذبيحين».

فأحدهما جدّه إسماعيل ، والآخر أبوه عبد الله.

وروي : أنّ أعرابيّا قال له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : يا ابن الذبيحين ، فتبسّم. فسئل عن ذلك.

فقال : «إنّ عبد المطّلب نذر أن يذبح أحد ولده إن سهّل الله له حفر زمزم. فلمّا سهّل أقرع ، فخرج السهم على عبد الله ، فمنعه أخواله ، وقالوا له : افد ابنك بمائة من الإبل ، ففداه بمائة من الإبل ، ولذلك سنّت الدية مائة».

ولأنّ ذلك كان بمكّة ، وكان قرنا الكبش معلّقين بالكعبة ، حتّى احترقا معها في أيّام ابن الزبير ، ولم يكن ثمّة إسحاق.

ولأنّ البشارة بإسحاق كانت مقرونة بولادة يعقوب منه ، فلا يناسبها الأمر بذبحه مراهقا.

ولأنّه مرويّ عن ابن عبّاس ، وابن عمر ، وسعيد بن المسيّب ، والحسن ، والشعبي ، ومجاهد ، والربيع بن أنس ، والكعبي ، ومحمد بن كعب. وقد رواه أصحابنا أيضا عن أئمّتنا عليهم‌السلام.

وعن الأصمعي قال : سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح؟ فقال : يا أصمعي ، أين ذهب عقلك؟ ومتى كان إسحاق بمكّة؟ وإنّما كان بمكّة إسماعيل. وهو الّذي بنى البيت مع أبيه. والمنحر بمكّة لا شكّ فيه.

وما روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم سئل أيّ النسب أشرف؟ قال : «يوسف صدّيق الله ، بن يعقوب إسرائيل الله ، بن إسحاق ذبيح الله ، بن إبراهيم خليل الله».

فالصحيح أنّه قال : يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ، والزوائد من الراوي. وما روي أنّ يعقوب كتب إلى يوسف مثل ذلك لم يثبت.

٥٦٧

وحجّة من قال إنّه إسحاق : أنّ أهل الكتابين أجمعوا على ذلك. وجوابه : أنّ إجماعهم ليس بحجّة ، وقولهم غير مقبول.

وروى محمّد بن إسحاق ، عن محمّد بن كعب القرظي ، قال : كنت عند عمر بن عبد العزيز ، فسألني عن الذبيح. فقلت : إسماعيل. واستدللت بقوله تعالى : (وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا) (١). فأرسل إلى رجل بالشام كان يهوديّا فأسلم وحسن إسلامه ، وكان يرى أنّه من علماء اليهود. فسأله عمر بن عبد العزيز عن ذلك وأنا عنده ، فقال : إسماعيل. ثم قال : والله يا أمير المؤمنين إنّ اليهود لتعلم ذلك ، ولكنّهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون الذبيح أباكم. فهم يجحدون ذلك ، ويزعمون أنّه إسحاق ، لأنّ إسحاق أبوهم. وقرأ ابن كثير ونافع وأبو عمرو فيهما بفتح الياء.

ومعنى الآية : أنّ إبراهيم قال لابنه إسماعيل : إنّي أبصرت في المنام أنّي أذبحك. أو رأيت رؤيا تأويلها الأمر بذبحك. (فَانْظُرْ ما ذا تَرى) أي : أيّ شيء تراه من الرأي. فيكون «ماذا» في موضع النصب بمنزلة اسم واحد. ولا يجوز أن يكون «ترى» بمعنى : تبصر ، لأنّه لم يشر إلى شيء يبصر بالعين. ولا يجوز أن يكون بمعنى : علم أو ظنّ أو اعتقد ، لأنّ هذه الأشياء تتعدّى إلى مفعولين ، وليس هنا إلّا مفعول واحد ، مع استحالة المعنى. فلم يبق إلّا أن يكون من الرأي.

وإنّما شاوره فيه وهو حتم من الله ، ليعلم ما عنده فيما نزل من بلاء الله ، فيثبت قدمه إن جزع ، ويأمن عليه الزلل إن سلّم نفسه للذبح ، وليوطّن نفسه عليه فيهون ، ويكتسب المثوبة بالانقياد لله قبل نزول البلاء.

وقرأ حمزة والكسائي : «ما ذا تري» بضمّ التاء وكسر الراء خالصة. والباقون بفتحهما. وأبو عمرو يميل فتحة الراء. وورش بين بين. والباقون بإخلاص فتحها.

__________________

(١) الصافّات : ١١٢.

٥٦٨

ولمّا فهم إسماعيل من كلام أبيه بأنّه يذبحه أنّه مأمور من عند الله (قالَ يا أَبَتِ) وقرأ ابن عامر بفتح التاء (افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) أي : ما تؤمر به. فحذف الجارّ والمجرور دفعة ، أو على الترتيب. أو افعل أمرك ، على إضافة المصدر إلى المفعول به ، وأراد منه المأمور به. وإنّما ذكر بلفظ المضارع لتكرّر الرؤيا. ورؤيا الأنبياء بمنزلة الوحي ، كما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس.

وقال في المجمع : «والأولى أن يكون قد أوحى إليه في حال اليقظة ، وتعبّده بأن يمضي ما يأمره به في حال نومه ، من حيث إنّ منامات الأنبياء لا تكون إلّا صحيحة. ولو لم يأمره بذلك في حال اليقظة ، لما كان يجوز أن يعمل على ما يراه في المنام» (١).

(سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) على الذبح ، أو على قضاء الله. وقرأ نافع بفتح الياء.

(فَلَمَّا أَسْلَما) استسلما لأمر الله. وقال قتادة : أسلم إبراهيم ابنه ، وأسلم إسماعيل نفسه. يقال : سلّم لأمر الله واستسلم بمعنى واحد ، أي : انقاد له وخضع.

وحقيقة معناه : أخلص نفسه لله ، وجعلها سالمة له خالصة. (وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ) صرعه على شقّه ، فوقع جبينه على الأرض. وهو أحد جانبي الجبهة. وقيل : كبّ إبراهيم إسماعيل على وجهه بإشارته ، لئلّا يرى فيه تغيّرا يرقّ له فلا يذبحه.

روي : أنّه قال : اذبحني وأنا ساجد لا تنظر إلى وجهي ، فعسى أن ترحمني فلا تذبحني. وكان ذلك عند الصخرة الّتي بمنى. وعن الحسن : في الموضع المشرف على مسجد منى. وعن الضحّاك : في المنحر الّذي ينحر فيه اليوم.

(وَنادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ) أي : بأن يا إبراهيم. يعني : بهذا الضرب من القول.

(قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) بالعزم والإتيان بالمقدّمات. وقد روي أنّه أمرّ السكّين بقوّته

__________________

(١) مجمع البيان ٨ : ٤٥٢.

٥٦٩

على حلقه مرارا فلم تقطع.

وجواب «لمّا» محذوف ، تقديره : قد صدّقت الرؤيا كان ما كان ممّا لا يحيط به الوصف ، من استبشارهما وشكرهما لله على ما أنعم عليهما من دفع البلاء بعد حلوله ، والتوفيق بما لم يوفّق غيرهما لمثله ، وإظهار فضلهما به على العالمين ، مع إحراز الثواب العظيم.

ثمّ علّل إفراج تلك الشدّة عنهما ، والظفر بالبغية عند اليأس ، بإحسانهما ، فقال : (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) أي : كما جزيناهما بالإخراج عن البلاء العظيم ، وإعطاء الثواب الجزيل ، نجزي من سلك طريقهما في الإحسان بالاستسلام ، والانقياد لأمر الله.

واحتجّ به من جوّز النسخ قبل وقوعه ، فإنّه عليه‌السلام كان مأمورا بالذبح ، لقوله : (يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ) ولم يحصل.

وأجيب عن ذلك بأنّه سبحانه لم يأمر إبراهيم بالذبح الّذي هو فري الأوداج ، وإنّما أمره بمقدّمات الذبح ، من الإضجاع وتناول المدية ، وما يجري مجرى ذلك.

والعرب قد تسمّي الشيء باسم مقدّماته. أو أنّه أمر بصورة الذبح ، وقد فعله ، لأنّه فرى أوداج ابنه ، ولكنّه كلّما فرى جزءا منه وجاوز إلى غيره عاد في الحال ملتحما.

أو أنّه أمره بالذبح ، إلّا أنّه سبحانه جعل على عنقه صفحة من نحاس ، فكلّما أمرّ إبراهيم السكّين عليه لم يقطع ، أو كان كلّما اعتمد على السكّين انقلب ، على اختلاف الرواية فيه.

(إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ) الامتحان البيّن والاختبار الظاهر الّذي يتميّز فيه المخلص من غيره. أو المحنة البيّنة الصعوبة ، فإنّه لا محنة أصعب منها.

(وَفَدَيْناهُ بِذِبْحٍ) أي : جعلنا الذبح بدلا عنه ، كالأسير يفدى بشيء ، فإنّ الفداء جعل الشيء مكان الشيء لرفع الضرر عنه. والذبح : اسم ما يذبح. والمعنى :

٥٧٠

وفديناه بما يذبح بدله ، فيتمّ به الفعل. (عَظِيمٍ) ضخيم الجثّة ، سمين البدن. أو عظيم القدر ، لأنّه يفدي به الله نبيّا ابن نبيّ ، وأيّ نبيّ! من نسله سيّد المرسلين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ولأنّه من عند الله.

قيل : كان كبشا من الجنّة. وعن ابن عبّاس : هو الكبش الّذي قرّبه هابيل فتقبّل منه. وكان يرعى في الجنّة حتّى فدى به إسماعيل.

وعن الحسن : فدى بوعل (١) اهبط عليه من ثبير. وهو جبل بمكّة.

وروي : أنّه هرب من إبراهيم عند الجمرة ، فرماه بسبع حصيات حتّى أخذه ، فصارت سنّة.

وفي رواية اخرى : أنّه رمى الشيطان حين تعرّض له بالوسوسة عند ذبح ولده.

وروي : أنّه لمّا ذبحه قال جبرئيل : الله أكبر الله أكبر. فقال الذبيح : لا إله إلّا الله والله أكبر. فقال إبراهيم عليه‌السلام : الله أكبر لله الحمد. فبقي سنّة. والفادي على الحقيقة إبراهيم. وإنّما قال : وفديناه ، لأنّه المعطي له والآمر به ، على التجوّز في الفداء أو في الإسناد.

وعن ابن عبّاس : لو تمّت تلك الذبيحة لصارت سنّة ، وذبح الناس أبناءهم.

واستدلّ به الحنفيّة على أن من نذر ذبح ولده لزمه ذبح شاة ، وليس فيه ما يدلّ عليه.

وحكي في قصّة الذبيح أنّه حين أراد ذبحه قال : يا بنيّ خذ الحبل والمدية وانطلق بنا إلى الشعب نحتطب. فلمّا توسّطا شعب ثبير أخبره بما أمر. فقال له : اشدد رباطي لا أضطرب. واكفف عنّي ثيابك لا ينتضح عليها شيء من دمي ، فينقص أجري ، وتراه أمّي فتحزن. واشحذ شفرتك ، وأسرع إمرارها على حلقي ليكون أهون عليّ ، فإنّ الموت شديد. واقرأ على امّي سلامي.

__________________

(١) الوعل : تيس الجبل ، أي : الذكر من المعز والظباء.

٥٧١

فقال إبراهيم : نعم العون أنت يا بنيّ على أمر الله. ثمّ أقبل عليه يقبّله وقد ربطه ، وهما يبكيان. ثمّ وضع السكّين على حلقه فلم تعمل ، لأنّ الله ضرب صفحة نحاس على حلقه.

فقال له : كبّني على وجهي ، فإنّك إذا نظرت في وجهي رحمتني ، وأدركتك رقّة تحول بينك وبين أمر الله.

ففعل. ثمّ وضع السكّين على قفاه فانقلب السكّين ، ونودي من ميسر مسجد الخيف : (يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا) فنظر فإذا جبرئيل معه كبش (١) أقرن أملح ، فكبّر جبرئيل. وكان يمشي في سواد ، وينظر في سواد ، ويبعر ويبول في سواد. فذبحه إبراهيم في منى بحيال الجمرة الوسطى ، وتصدّق بلحمه على المساكين.

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ) الثناء الجميل (فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ) سبق تفسيره في قصّة نوح (٢) (كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) يحتمل أنّه طرح عنه «إنّا» اكتفاء بذكره في هذه القصّة (٣) (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) أي : مقضيّا نبوّته ، مقدّرا كونه من الصالحين. وبهذا التفسير وقعا حالين. ولا حاجة إلى وجود المبشّر به وقت البشارة ، فإنّ وجود ذي الحال غير شرط ، بل الشرط مقارنة تعلّق الفعل بذي الحال ، لاعتبار المعنى بالحال. فلا حاجة إلى تقدير مضاف يجعل عاملا فيهما ، مثل : وبشّرناه بوجود إسحاق ، أي : بأن يوجد إسحاق نبيّا من الصالحين ، كما قال صاحب الكشّاف (٤). ومع ذلك لا يصير نظير قوله : (فَادْخُلُوها خالِدِينَ) (٥) فإن الداخلين مقدّرون خلودهم وقت دخولهم ،

__________________

(١) الكبش : الخروف إذا دخل في السنة الثانية أو الرابعة. والأقرن : ماله قرنان. ويقال : كبش أملح : إذا كان أسود يعلو شعره بياض.

(٢) راجع ص ٥٨٨.

(٣) الصافّات : ١٠٥.

(٤) الكشّاف ٤ : ٥٩.

(٥) الزمر : ٧٣.

٥٧٢

وإسحاق لم يكن مقدّرا نبوّة نفسه وصلاحها حينما يوجد. ومن فسّر الذبيح بإسحاق جعل المقصود من البشارة نبوّته بعد ما امتحنه بذبحه. وفي ذكر الصلاح بعد النبوّة تعظيم لشأنه ، وإيماء بأنّه الغاية لها ، لتضمّنها معنى الكمال والتكميل بالفعل على الإطلاق.

(وَبارَكْنا عَلَيْهِ) على إبراهيم في أولاده (وَعَلى إِسْحاقَ) بأن أخرجنا من صلبه أنبياء بني إسرائيل وغيرهم ، كأيّوب وشعيب ، وأفضنا عليهما بركات الدين والدنيا ، كقوله : (وَآتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ) (١).

(وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ) في عمله. أو إلى نفسه بالإيمان والطاعة. (وَظالِمٌ لِنَفْسِهِ) بالكفر والمعاصي (مُبِينٌ) ظاهر ظلمه. وفي ذلك تنبيه على أنّ النسب لا أثر له في الهدى والضلال ، بل إنّما يعاب لسوء فعله ، ويعاقب على ما اجترحت يداه. وأنّ الظلم في أعقابهما لا يعود عليهما بنقيصة وعيب.

(وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَهارُونَ (١١٤) وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (١١٥) وَنَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (١١٦) وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (١١٧) وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (١١٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (١١٩) سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ (١٢٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٢١) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٢٢))

ثمّ عطف سبحانه على ما تقدّم بذكر موسى وهارون ، فقال : (وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلى

__________________

(١) العنكبوت : ٢٧.

٥٧٣

مُوسى وَهارُونَ) أنعمنا عليهما بالنبوّة وغيرها من المنافع الدينيّة والدنيويّة (وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ) من تغلّب فرعون ، وتسخير قومه إيّاهم ، واستعمالهم في الأعمال الشاقّة. وقيل : من الغرق. (وَنَصَرْناهُمْ) الضمير لهما مع القوم ، لقوله تعالى : (وَنَجَّيْناهُما وَقَوْمَهُما). (فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ) على فرعون وقومه ، بعد أن كانوا مغلوبين مقهورين.

(وَآتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ) البليغ في بيانه. وهو التوراة ، كما قال : (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَنُورٌ) (١). (وَهَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) الطريق الموصل إلى الحقّ والصواب. وهو صراط أهل الإسلام الّذين أنعم الله عليهم ، غير المغضوب عليهم ، ولا الضالّين.

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِما) الثناء الجميل (فِي الْآخِرِينَ) بأن قلنا (سَلامٌ عَلى مُوسى وَهارُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) قد سبق تفسير ذلك.

(وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (١٢٥) اللهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (١٢٦) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (١٢٧) إِلاَّ عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ (١٢٨) وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (١٢٩) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (١٣٠) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٣١) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (١٣٢))

__________________

(١) المائدة : ٤٤.

٥٧٤

ثمّ أقفاهما بقصّة إلياس فقال : (وَإِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ) هو الياس بن ياسين سبط هارون أخي موسى ، بعث بعده. وقيل : هو إدريس. ويؤيّده ما وقع في قراءة أبيّ ومصحف ابن مسعود : وإنّ إدريس. وعن وهب : أنّه ذو الكفل. والأوّل أشهر.

وقيل : إنّ إلياس استخلف اليسع ابن عمّه على بني إسرائيل ، ورفعه الله تعالى من بين أظهرهم ، وكساه الريش ، وقطع عنه لذّة الطعام والشراب ، فصار إنسيّا ملكيّا ، أرضيّا سماويّا. وسلّط الله على الملك وقومه عدوّا لهم ، فقتل الملك وامرأته ، وبعث الله اليسع رسولا ، فآمنت به بنو إسرائيل.

وقيل : إلياس صاحب البراري ، والخضر صاحب الجزائر ، ويجتمعان كلّ يوم عرفة بعرفات.

وقيل : إنّه بعث بعد حزقيل لمّا عظمت الأحداث في بني إسرائيل. وكان يوشع لمّا فتح الشام بوّأها (١) بني إسرائيل ، وقسّمها بينهم ، فأحلّ سبطا منهم ببعلبك ، وهم سبط إلياس ، فبعث فيهم نبيّا إليهم ، فأجابه الملك. ثمّ إنّ امرأته حملته على أن ارتدّ وخالف إلياس ، وطلبه ليقتله ، فهرب إلى الجبال والبراري. وقرأ ابن ذكوان مع خلاف عنه بحذف همزة إلياس.

(إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَلا تَتَّقُونَ) عذاب الله (أَتَدْعُونَ بَعْلاً) أتعبدونه؟ أو أتطلبون الخير منه؟ وهو اسم صنم كان لأهل «بك» من الشام ، وهو البلد الّذي يقال له الآن : بعلبك. وقيل : كان من ذهب ، وكان طوله عشرين ذراعا ، وله اربعة أوجه. فعظّموه حتّى أخدموه أربعمائة سادن (٢) ، وجعلوهم أنبياءه. فكان الشيطان يدخل في جوف بعل ويتكلّم بشريعة الضلالة ، والسدنة يحفظونها ، ويعلّمونها الناس.

__________________

(١) أي : هيّأها لهم وأنزلهم فيها.

(٢) السادن : خادم الكعبة أو بيت الصنم.

٥٧٥

وقيل : البعل الربّ ، بلغة اليمن. يقال : من بعل هذا الوادي؟ أي : من ربّه؟ فالمعنى : أتدعون بعض البعول؟ (وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ) وتتركون عبادته. وقد أشار فيه إلى المقتضي للإنكار المعنيّ بالهمزة. ثمّ صرّح بهذا الإنكار بقوله : (اللهَ رَبَّكُمْ) خالقكم ورازقكم (وَرَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ) وخالق من مضى من آبائكم وأجدادكم. وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وحفص بالنصب على البدل.

(فَكَذَّبُوهُ) فيما دعاهم إليه ، ولم يصدّقوه (فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ) أي : في العذاب. وإنّما أطلقه اكتفاء بالقرينة ، أو لأنّ الإحضار المطلق مخصوص بالشرّ عرفا. (إِلَّا عِبادَ اللهِ الْمُخْلَصِينَ) مستثنى من الواو ، لا من المحضرين ، لفساد المعنى.

(وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ) لغة في إلياس ، كسيناء وسينين. وقيل : جمع له ، لأنّ المراد هو وأتباعه ، كالمهلّبين. لكن فيه : أنّ العلم إذا جمع يجب تعريفه باللام ، ليحصل كثرة وشيوع يبطل العلم. أو للمنسوب (١) إليه ، بحذف ياء النسبة. وهو قليل ملبس. وقرأ نافع وابن عامر ويعقوب على إضافة «آل» إلى «ياسين» ، لأنّهما في المصحف مفصولان. فيكون ياسين أبا إلياس. وعن ابن عبّاس : آل يس آل محمد. و «يس» اسم من أسمائه.

وقيل : «يس» اسم القرآن ، أو غيره من كتب الله. فكأنّه قال : سلام على من آمن بالقرآن وسائر كتب الله. وهذا لا يناسب نظم سائر القصص ، ولا قوله : (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) إذ الظاهر أنّ الضمير لإلياس.

__________________

(١) أي : جمع إلياسي ، كالأعجمين جمع الأعجمي.

٥٧٦

(وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٣) إِذْ نَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٣٤) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٣٥) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٣٦) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (١٣٧) وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ (١٣٨))

ثمّ عطف قصّة لوط على ما تقدّم ، فقال : (وَإِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْناهُ) اذكر يا محمّد حين نجّيناه (وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ) من عذاب الاستئصال (إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ) الباقين الّذين أهلكوا (ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ) أهلكناهم بعذاب الاستئصال (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ) يا أهل مكّة (عَلَيْهِمْ) على منازلهم في متاجركم إلى الشام ، فإنّ «سدوم» في طريقه (مُصْبِحِينَ) داخلين في الصباح (وَبِاللَّيْلِ) ومساء. أو نهارا وليلا. وهو عطف على «مصبحين» معنى ، أي : ممسين. ولعلّ «سدوم» وقعت قريب منزل يمرّ بها المرتحل عنه صباحا ، والقاصد لها مساء. (أَفَلا تَعْقِلُونَ) أفليس فيكم عقل تعتبرون به.

والوجه في ذكر قصص الأنبياء وتكريرها التشويق إلى مثل ما كانوا عليه من مكارم الأخلاق ومحاسن الخلال ، وصرف الخلق عمّا كان عليه الكفّار من مساوئ الخصال ومقابح الأفعال.

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (١٣٩) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (١٤٠) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (١٤١) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (١٤٢) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (١٤٣) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ

٥٧٧

(١٤٤) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (١٤٥) وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (١٤٦) وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (١٤٧) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (١٤٨))

(وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ) هرب. وأصله الهرب من السيّد ، لكن لمّا كان هربه من قومه بغير إذن ربّه حسن إطلاقه عليه على طريقة المجاز. (إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) المملوء من الناس والأحمال ، خوفا من أن ينزل العذاب بهم وهو مقيم فيهم (فَساهَمَ) فقارع أهله. من : استهم القوم إذا اقترعوا. (فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ) فصار من المغلوبين بالقرعة. وأصله المزلق عن مقام الظفر والغلبة.

روي : أنّه لمّا وعد قومه بالعذاب ، خرج من بينهم قبل أن يأمره الله ، فركب السفينة فوقفت. فقالوا : هاهنا عبد آبق من سيّده. وهذا ممّا يزعم البحّارون من أنّ السفينة إذا كان فيها آبق لم تجر. فاقترعوا ، فخرجت القرعة عليه ثلاث مرّات. فقال : أنا الآبق ، فألقى نفسه في الماء.

(فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ) فابتلعه من اللقمة. وقيل : إنّ الله سبحانه أوحى إلى الحوت : أنّي لم أجعل عبدي رزقا لك ، ولكن جعلت بطنك له محبسا ، فلا تكسرنّ له شعرا ، ولا تخدشنّ له جلدا. (وَهُوَ مُلِيمٌ) داخل في الملامة. أو آت بما يلام عليه. أو مليم نفسه على خروجه من بين قومه بغير أمر ربّه. وعندنا أنّ ذلك إنّما وقع منه تركا للمندوب ، وقد يلام الإنسان على ترك الندب. ومن جوّز الصغيرة على الأنبياء ، قال : وقع ذلك منه صغيرة مكفّرة.

واختلف في مدّة لبثه في بطن الحوت ، فعن مقاتل بن حيّان : كانت ثلاثة أيّام. وعن عطاء : سبعة. وعن الضحّاك : عشرين. وعن السدّي ومقاتل بن سليمان

٥٧٨

والكلبي : أربعين.

(فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ) الذاكرين الله كثيرا بالتسبيح والتقديس مدّة عمره ، أو في بطن الحوت. وهو قوله : (لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ) (١). وقيل : من المصلّين ، لما روي عن ابن عبّاس : كلّ تسبيح في القرآن فهو صلاة. وعن قتادة : كان كثير الصلاة في الرخاء. ويقال : إنّ العمل الصالح يرفع صاحبه إذا صرع.

(لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ) حيّا. وقيل : ميّتا. (إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) وفيه حثّ على إكثار المؤمن ذكر الله ، وتعظيم لشأنه. ومن أقبل عليه في السرّاء أخذ بيده عند الضرّاء.

(فَنَبَذْناهُ) بأن حملنا الحوت على لفظه (٢) (بِالْعَراءِ) بالمكان الخالي عمّا يغطّيه من شجر أو نبت. وروي : أنّ الحوت سار مع السفينة ، رافعا رأسه يتنفّس فيه يونس ويسبّح ، حتّى انتهوا إلى البرّ ، فلفظه سالما لم يتغيّر منه شيء. وروي : أنّ الحوت قذفه بساحل قرية من الموصل. (وَهُوَ سَقِيمٌ) مريض ممّا ناله. قيل : صار بدنه كبدن الطفل حين يولد. وعن ابن مسعود قال : خرج يونس من بطن الحوت كهيئة فرخ ليس عليه ريش.

(وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ) أي : فوقه مظلّة عليه (شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ) من شجر ينبسط على وجه الأرض ، ولا يقوم على ساقه ، كشجر البطّيخ والقثّاء والحنظل.

وهو يفعيل ، من : قطن بالمكان إذا أقام به. والأكثر على أنّها كانت الدبّاء (٣) ، غطّته بأوراقها. وفائدة الدبّاء أنّ الذباب لا يجتمع عنده. ويدلّ عليه أنّه قيل

__________________

(١) الأنبياء : ٨٧.

(٢) أي : قذفه.

(٣) الدبّاء : القرع.

٥٧٩

لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّك لتحبّ القرع؟ قال : «أجل ، هي شجرة أخي يونس». وقيل : التين. وقيل : الموز. تغطّى بورقه ، واستظلّ بأغصانه ، وأفطر على ثماره.

وقيل : كان يستظلّ بالشجرة ، وكانت وعلة (١) تختلف إليه فيشرب من لبنها. وروي : أنّه مرّ زمان على الشجرة فيبست ، فبكى جزعا ، فأوحى الله إليه : بكيت على شجرة ، ولا تبكي على مائة ألف في يد الكافر.

(وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ) هم قومه الّذين هرب عنهم. وهم أهل نينوى من أرض الموصل. والمراد به ما سبق من إرساله ، أو إرسال ثان إليهم أو إلى غيرهم. (أَوْ يَزِيدُونَ) في مرأى الناظر ، أي : إذا نظر إليهم قال : هم مائة ألف أو أكثر. والمراد الوصف بالكثرة.

(فَآمَنُوا) فصدّقوه. أو فجدّدوا الإيمان به بمحضره. (فَمَتَّعْناهُمْ) بالمنافع واللذّات (إِلى حِينٍ) إلى انقضاء آجالهم المسمّاة. ولعلّه إنّما لم يختم قصّته وقصّة لوط بما ختم به سائر القصص ، تفرقة بينهما وبين أرباب الشرائع الكبرى وأولي العزم من الرسل ، أو اكتفاء بالتسليم الشامل لكلّ الرسل المذكورين في آخر السورة.

(فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَناتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (١٤٩) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَهُمْ شاهِدُونَ (١٥٠) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (١٥١) وَلَدَ اللهُ وَإِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (١٥٢) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (١٥٣) ما لَكُمْ كَيْفَ

__________________

(١) الوعلة أنثى الوعل. وهو تيس الجبل ، له قرنان قويّان منحنيان.

٥٨٠