زبدة التّفاسير - ج ٥

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٥

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-07-8
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٥٩٦

أو تصديقهم إيّاهم تبكيتا لهم ، كقوله تعالى : (أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ) (١). أو ليسأل المصدّقين للأنبياء عن تصديقهم ، فإنّ مصدّق الصادق صادق. أو المؤمنين الّذين صدقوا عهدهم حين أشهدهم على أنفسهم عن صدقهم عهدهم وشهادتهم ، فيشهد لهم الأنبياء بأنّهم صدقوا عهدهم وشهادتهم.

(وَأَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً أَلِيماً) عطف على «أخذنا» لأنّ المعنى : أنّ الله أكّد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين. أو على ما دلّ عليه «ليسأل». كأنّه قال : فأثاب المؤمنين ، وأعدّ للكافرين عذابا أليما.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (٩))

ولمّا بيّن سبحانه تأكيد نبوّة نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذكر ما أخذ على النبيّين من الميثاق ، عقّب ذلك ببيان آياته ومعجزاته يوم الأحزاب ، وذكر ما أنعم عليه وعلى المؤمنين من النصر ، مع ما أعدّ لهم من الثواب ، وما فعل بالكفرة من التذليل والإخزاء ، مع ما أوعدهم من العذاب ، فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ) ما أنعم الله به عليكم يوم الأحزاب ، وهو يوم الخندق (إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ) وهم : قريش ، وغطفان ، ويهود قريظة والنظير. وكانوا زهاء اثني عشر ألفا. (فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً) الصبا باردة في ليلة شاتية ، فأخصرتهم (٢) ، وسفّت التراب في وجوههم ، كما قال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

__________________

(١) المائدة : ١١٦.

(٢) فأخصرتهم أي : أوقعتهم في الخصر ، وهو البرد. وسفّت التراب أي : طيّرته.

٣٤١

«نصرت بالصبا ، وأهلكت عاد بالدبور».

(وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها) هم الملائكة ، وكانوا ألفا. بعث الله عليهم ريحا باردة ، فقلعت أوتادهم ، وقطعت أطنابهم ، ونزعت فساطيطهم ، وأطفأت نيرانهم ، وكبّت (١) قدورهم ، فماجت الخيل بعضها في بعض ، وكبّرت الملائكة في جوانب العسكر. فقال طليحة بن خويلد الأسدي : أمّا محمد فقد بدأكم بالسحر ، فالنجاء (٢) النجاء. فانهزموا من غير قتال.

(وَكانَ اللهُ بِما تَعْمَلُونَ) من حفر الخندق. وقرأ البصريّان بالياء ، أي : بما يعمل المشركون ، من التحزّب والمحاربة. (بَصِيراً) رائيا ، فيجازي كلّهم على وفق أعمالهم.

وتفصيل هذه القصّة برواية محمد بن كعب القرظي ، وغيره من أصحاب السير والتواريخ : أنّ نفرا من اليهود ، منهم سلام بن أبي الحقيق ، وحييّ بن أخطب ، في جماعة من بني النضير الّذين أجلاهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، خرجوا حتّى قدموا على قريش بمكّة ، فدعوهم إلى حرب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقالوا : إنّا سنكون معكم عليهم حتّى نستأصلهم.

فقالت لهم قريش : يا معشر اليهود! إنّكم أهل الكتاب الأوّل ، فديننا خير أم دين محمّد؟

قالوا : بل دينكم خير من دينه ، فأنتم أولى بالحقّ منه. فهم الّذين أنزل الله فيهم : (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً) إلى قوله : (وَكَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً) (٣). فسرّ قريشا ما قالوا ، ونشطوا لمّا دعوهم إليه ، فأجمعوا لذلك واستعدّوا

__________________

(١) كبّ الإناء : قلبه على رأسه ليصبّ ما فيه.

(٢) النجاء : الخلاص. يقال : النجاء النجاء أي : أسرع أسرع.

(٣) النساء : ٥١ ـ ٥٥.

٣٤٢

له.

ثمّ خرج أولئك النفر من اليهود ، حتّى جاءوا غطفان ، فدعوهم إلى حرب رسول الله وأخبروهم أنّهم سيكونون عليه ، وأن قريشا قد تابعوهم على ذلك.

فأجابوهم. فخرجت قريش وقائدهم أبو سفيان بن حرب. وخرجت غطفان ، وقائدها عيينة بن حصين بن حذيفة بن بدر في فزارة ، والحارث بن عوف في بني مرّة ، ومسعر بن جبلّة الأشجعي. وكتبوا إلى حلفائهم من بني أسد ، فأقبل طليحة في من اتّبعه من بني أسد. وأسد وغطفان حليفان. وكتب قريش إلى رجال من بني سليم ، فأقبل أبو الأعور فيمن اتّبعه من بني سليم مددا لقريش.

فلمّا علم بذلك رسول الله ضرب الخندق على المدينة. وكان الّذي أشار عليه بذلك سلمان الفارسي. وكان أوّل مشهد شهده سلمان مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو يومئذ حرّ. قال : يا رسول الله إنّا كنّا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا. فعمل فيه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمسلمون حتّى أحكموه.

فممّا ظهر من دلائل النبوّة في حفر الخندق ما رواه أبو عبد الله الحافظ بإسناده عن كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف المزني ، قال : حدّثني أبي ، عن أبيه ، قال : خطّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الخندق عام الأحزاب أربعين ذراعا بين عشرة. فاختلف المهاجرون والأنصار في سلمان الفارسي ، وكان رجلا قويّا. فقال الأنصار : سلمان منّا. وقال المهاجرون : سلمان منّا. فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سلمان منّا أهل البيت».

قال عمرو بن عوف : فكنت أنا وسلمان وحذيفة بن اليمان والنعمان بن مقرن وستّة من الأنصار ، نقطع أربعين ذراعا ، فحفرنا حتّى بلغنا من بطن الخندق صخرة بيضاء مدوّرة ، فكسرت حديدنا ، وشقّت علينا ، فقلنا : يا سلمان ارق إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأخبره عن الصخرة ، فإمّا أن نعدل عنها ، فإنّ المعدل قريب ، وإمّا أن يأمرنا فيه بأمره ، فإنّا لا نحبّ أن نجاوز خطّه.

٣٤٣

فرقى سلمان حتّى أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو مضروب عليه قبّة ، فقال : يا رسول الله! خرجت صخرة بيضاء من الخندق ، فكسرت حديدنا ، وشقّت علينا حتّى ما يحكّ (١) فيها قليل ولا كثير ، فمرنا فيها بأمرك.

فهبط رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع سلمان في الخندق ، وأخذ المعول (٢) ، فضرب به ضربة ، فلمعت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها (٣) يعني : لابتي المدينة ، حتّى لكأنّ مصباحا في جوف الليل مظلم. فكبّر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تكبيرة فتح ، فكبّر المسلمون. ثمّ ضرب ضربة اخرى ، فلمعت برقة اخرى. ثمّ ضرب به الثالثة ، فلمعت برقة اخرى.

فقال سلمان : بأبي أنت وأمّي يا رسول الله ، ما هذا الّذي رأيت؟

فقال : أمّا الأولى ، فإنّ الله عزوجل فتح عليّ بها اليمن. وأمّا الثانية ، فإنّ الله تعالى فتح عليّ بها الشام والمغرب. وأمّا الثالثة ، فإنّ الله عزوجل فتح عليّ بها المشرق.

فاستبشر المسلمون بذلك ، وقالوا : الحمد لله على موعود صادق.

قال : وطلعت الأحزاب ، فقال المؤمنون : هذا ما وعدنا الله ورسوله. وقال المنافقون : ألا تعجبون! يحدّثكم ويعدكم الباطل ، يخبركم أنّه يبصر في يثرب قصور الحيرة ومدائن كسرى ، وأنّها تفتح لكم ، وأنتم تحفرون الخندق ، ولا تستطيعون أن تبرزوا.

وممّا ظهر فيه أيضا من آيات النبوّة ، ما رواه أبو عبد الله الحافظ بالإسناد عن عبد الواحد بن ايمن المخزومي ، قال : حدّثني أيمن المخزومي ، قال : حدّثني جابر

__________________

(١) أي : لا يعمل ولا يؤثّر فيها.

(٢) المعول : أداة لحفر الأرض.

(٣) اللابة : الحرّة. وهي الأرض ذات الحجارة السود.

٣٤٤

بن عبد الله ، قال : كنّا يوم الخندق نحفر الخندق ، فعرضت فيه كدية (١) ، وهي الجبل ، فقلنا : يا رسول الله! إن كدية عرضت فيه؟

فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : رشّوا عليها ماء. ثمّ قام فأتاها وبطنه معصوب بحجر من الجوع ، فأخذ المعول أو المسحاة ، فسمّى ثلاثا ، ثمّ ضرب فعادت كثيبا (٢) أهيل.

فقلت له : ائذن لي يا رسول الله إلى المنزل؟ ففعل. فقلت للمرأة : هل عندك من شيء؟ فقالت : عندي صاع من شعير وعناق (٣). فطحنت الشعير وعجنته ، وذبحت العناق وسلختها. وخلّيت بين المرأة وبين ذلك ، ثمّ أتيت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فجلست عنده ساعة ، ثمّ قلت : ائذن لي يا رسول الله ، ففعل. فأتيت المرأة فإذا العجين واللحم قد أمكنا. فرجعت إلى رسول الله فقلت : إنّ عندنا طعيما لنا ، فقم يا رسول الله أنت ورجلان من أصحابك.

فقال : وكم هو؟

قلت : صاع من شعير وعناق.

فقال للمسلمين جميعا : قوموا إلى جابر. فقاموا. فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلّا الله. فقلت : جاء بالخلق على صاع شعير وعناق. فدخلت على المرأة وقلت : قد افتضحت جاءك رسول الله بالخلق أجمعين.

فقالت : هل كان سألك كم طعامك؟

قلت : نعم.

فقالت : الله ورسوله أعلم ، قد أخبرناه ما عندنا.

قلت : فكشفت عنّي غمّا شديدا.

__________________

(١) الكدية : الأرض الصلبة الغليظة.

(٢) الكثيب : التلّ من الرمل. والأهيل : المنهال المنصبّ.

(٣) العناق : الأنثى من أولاد المعز قبل استكمالها السنة.

٣٤٥

فدخل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : خذي ودعيني من اللحم. فلمّا جاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع أصحابه ، جعل يثرد ويفرّق اللحم ، ثمّ يحمّ (١) هذا ويحمّ هذا ، فما زال يقرّب إلى الناس حتّى شبعوا أجمعين ، ويعود التنّور والقدر أملأ ما كانا. ثمّ قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كلي واهدي. فلم نزل نأكل ونهدي قومنا أجمع. أورده البخاري (٢) في الصحيح.

وعن أبي الوليد ، عن شعبة ، عن أبي إسحاق ، عن البراء ، قالوا : ولمّا فرغ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الخندق ، أقبلت قريش حتّى نزلت بين الجرف (٣) والغابة ، في عشرة آلاف من أحابيشهم ومن تابعهم من بني كنانة وأهل تهامة ، وقائدهم أبو سفيان. وخرج غطفان في ألف ، ومن تابعهم من أهل نجد ، وقائدهم عيينة بن حصين. وعامر بن الطفيل في هوازن. وضامّتهم اليهود من قريظة والنضير ، حتّى نزلوا إلى جانب أحد. وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مع ثلاثة آلاف من المسلمين ، فضرب في سلع (٤) عسكره ، والخندق بينه وبين القوم. وأمر بالذراري والنساء فرفعوا في الآطام (٥).

وخرج عدوّ الله حييّ بن أخطب النضيري حتّى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب بني قريظة ، وكان قد وادع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على قومه ، وعاهده على ذلك.

فلمّا سمع كعب صوت ابن أخطب أغلق دونه حصنه. فاستأذن عليه ، فأبى أن يفتح له.

__________________

(١) حمّ الشيء : قرب. ويستعمل الرباعيّ متعدّيا. يقال : أحمّ الشيء أي : قرّبه.

(٢) صحيح البخاري ٥ : ١٣٨.

(٣) الجرف : موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام.

(٤) السلع : الشقّ.

(٥) الأطم : القصر والحصن المبنيّ بالحجارة ، وكلّ بناء مرتفع. وجمعه : آطام.

٣٤٦

فناداه : يا كعب! افتح لي.

فقال : ويحك يا حييّ! إنّك رجل مشؤوم ، إنّي قد عاهدت محمّدا ، ولست بناقض ما بيني وبينه ، ولم أر منه إلّا وفاء وصدقا.

قال : ويحك! افتح لي اكلّمك.

قال : ما أنا بفاعل.

قال : إن أغلقت إلّا على حشيشة تكره أن آكل منها معك. ففتح له.

فقال : ويحك يا كعب! جئتك بعزّ الدهر وببحر طام (١) ، جئتك بقريش على قادتها وسادتها ، وبغطفان على سادتها وقادتها. عاهدوني أن لا يبرحوا حتّى يستأصلوا محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ومن معه.

فقال كعب : جئتني والله بذلّ الدهر ، بجهام (٢) قد هراق ماؤه ، يرعد ويبرق وليس فيه شيء ، فدعني ومحمّدا وما أنا عليه ، فلم أرمن محمّد إلّا صدقا ووفاء.

فلم يزل حييّ يكلّمه ليليّنه في نقض العهد. فنقض عهده ، وبرىء ممّا كان عليه فيما بينه وبين رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فلمّا علم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غدره في العهد ، ونقضه في الميعاد ، قال : الله أكبر.

وعظم عند ذلك البلاء ، واشتدّ الخوف على أصحاب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وأتاهم عدوّهم من فوقهم ، ومن أسفل منهم ، حتّى ظنّ المؤمنون كلّ ظنّ ، وظهر النفاق من بعض المنافقين.

فأقام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأقام المشركون عليه بضعا وعشرين ليلة ، لم يكن بينهم قتال إلّا الرمي بالنبل. إلّا أنّ فوارس من قريش ، منهم عمرو بن عبدودّ ، أخو بني عامر بن لؤيّ ، وعكرمة بن أبي جهل ، وضرار بن الخطّاب ، وهبيرة بن أبي

__________________

(١) أي : ممتلئ.

(٢) الجهام : السحاب لا ماء فيه.

٣٤٧

وهب ، ونوفل بن عبد الله ، قد تلبّسوا للقتال ، وخرجوا على خيولهم ، حتّى مرّوا بمنازل بني كنانة ، فقالوا : تهيّأوا للحرب يا بني كنانة ، فستعلمون اليوم من الفرسان.

ثمّ أقبلوا بهم حتّى وقفوا على الخندق ، فقالوا : والله إنّ هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها. ثمّ تيمّموا مكانا ضيّقا من الخندق ، فضربوا خيولهم فاقتحموا ، فجالت بهم في السبخة بين الخندق وسلع.

وخرج عليّ بن أبي طالب عليه‌السلام في نفر من المسلمين ، حتّى أخذ عليهم الثغرة الّتي منها اقتحموا. وأقبلت الفرسان نحوهم. وكان عمرو بن عبدودّ فارس قريش ، وكان قد قاتل يوم بدر حتّى أثبته (١) الجراح. فلمّا كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مشهده ، وكان يعدّ بألف فارس. وكان يسمّى فارس يليل ، لأنّه أقبل في ركب من قريش حتّى إذا كانوا بيليل ، وهو واد قريب من بدر ، عرضت لهم بنو بكر في عدد. فقال لأصحابه : امضوا ، فمضوا. فقام في وجوه بني بكر حتّى منعهم من أن يصلوا إليه ، فعرف بذلك. وكان اسم الموضع الّذي حفر فيه الخندق المذاد.

وذكر ابن إسحاق : أنّ عمرو بن عبدودّ كان ينادي : من يبارز؟ فقام عليّ عليه‌السلام وهو مقنّع في الحديد ، فقال : أنا له يا نبيّ الله. فقال : إنّه عمرو ، اجلس. ونادى عمرو : ألا رجل! وهو يؤنّبهم ويقول : أين جنّتكم الّتي تزعمون أنّ من قتل منكم دخلها؟ فقام عليّ عليه‌السلام فقال : أنا له يا رسول الله. ثمّ نادى الثالثة فقال :

ولقد بححت (٢) من النداء

بجمعكم هل من مبارز

ووقفت إذ جبن المسجّع

موقف البطل المناجز

__________________

(١) أي : أوهنه الجراح وضعف حتّى لا يقدر على الحراك.

(٢) البحّة : خشونة وغلظ في الصوت. من : بحّ يبحّ.

٣٤٨

إنّ السماحة والشجاعة

في الفتى خير الغرائز

فقام علي عليه‌السلام فقال : يا رسول الله أنا. فقال : إنّه عمرو. فقال : وإن كان عمرا. فأذن له رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وفيما رواه السيّد أبو الحمد الحسيني القايني ، عن الحاكم أبي القاسم الحسكاني بالإسناد عن عمرو بن ثابت ، عن أبيه ، عن جدّه ، عن حذيفة قال : «فألبسه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم درعه ذات الفضول ، وأعطاه سيفه ذا الفقار ، وعمّمه عمامته السحاب على رأسه تسعة أكوار ، ثمّ قال له : تقدّم. فقال لمّا ولّى : اللهمّ احفظه من بين يديه ، ومن خلفه ، وعن يمينه ، وعن شماله ، ومن فوق رأسه ، ومن تحت قدميه» (١).

قال ابن إسحاق : فمشى إليه وهو يقول

لا تعجلنّ فقد أتاك

مجيب صوتك غير عاجز

ذو نيّة وبصيرة

والصدق منجي كلّ فائز

إنّي لأرجو أن أقيم

عليك نائحة الجنائز

من ضربة نجلاء (٢) يبقى

ذكرها عند الهزاهز

قال له عمر : من أنت؟

قال : أنا عليّ.

قال : ابن عبد مناف؟

فقال أنا : عليّ بن أبي طالب بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف.

فقال : غيرك يا ابن أخي من أعمامك من هو أسنّ منك ، فإنّي أكره أن أهريق دمك.

__________________

(١) شواهد التنزيل ٢ : ١١ ح ٦٣٤.

(٢) أي : واسعة.

٣٤٩

فقال عليّ عليه‌السلام : ولكنّي والله ما أكره أن أهريق دمك.

فغضب ونزل ، وسلّ سيفه كأنّه شعلة نار ، ثمّ أقبل نحو عليّ عليه‌السلام مغضبا ، فاستقبله عليّ بدرقته (١) ، فضربه عمرو بالدرقة فقدّها ، وأثبت فيها السيف ، وأصاب رأسه فشجّه. وضربه عليّ على حبل (٢) العاتق فسقط.

وفي رواية حذيفة : وتسيّف عليّ رجليه بالسيف من أسفل ، فوقع على قفاه ، وثارت بينهما عجاجة. فسمع عليّ عليه‌السلام يكبّر ، فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قتله والّذي نفسي بيده. فكان أوّل من ابتدر العجاج عمر بن الخطّاب ، فإذا عليّ عليه‌السلام يمسح سيفه بدرع عمرو ، فكبّر عمر بن الخطّاب ، وقال : يا رسول الله قتله. فحزّ عليّ رأسه ، وأقبل نحو رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ووجهه يتهلّل. فقال عمر بن الخطّاب : هلّا استلبته درعه ، فإنّه ليس للعرب درع خيرا منها. فقال : ضربته فاتّقاني بسوأته ، فاستحييت ابن عمّي أن استلبه.

قال حذيفة : فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أبشر يا عليّ ، فلو وزن اليوم عملك بعمل أمّة محمّد ، لرجح عملك بعملهم. وذلك أنّه لم يبق بيت من بيوت المشركين إلّا وقد دخله وهن بقتل عمرو ، ولم يبق بيت من بيوت المسلمين إلّا وقد دخله عزّ بقتل عمرو بن عبدودّ.

فخرج أصحابه منهزمين حتّى طفرت خيولهم الخندق. وتبادر المسلمون ، فوجدوا نوفل بن عبد العزّى جوف الخندق ، فجعلوا يرمونه بالحجارة. وذكر ابن إسحاق : أنّ عليّا عليه‌السلام طعنه في ترقوته حتّى أخرجها من مراقّه (٣) ، فمات في الخندق. وبعث المشركون إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يشترون جيفته بعشرة آلاف. فقال

__________________

(١) الدرقة : الترس من جلود ليس فيه خشب ولا عقب.

(٢) الحبل : العرق في البدن ، نحو : حبل الوريد. والعاتق : ما بين المنكب والعنق.

(٣) مراقّ البطن : مارقّ منه ولان.

٣٥٠

النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : هو لكم ، لا نأكل ثمن الموتى.

وروى عمرو بن عبيد عن الحسن البصري ، قال : إنّ عليّا عليه‌السلام لمّا قتل عمرو بن عبد ودّ ، حمل رأسه فألقاه بين يدي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقام أبو بكر وعمر فقبّلا رأس عليّ عليه‌السلام.

وروي عن أبي بكر بن عيّاش : أنّه قال : ضرب عليّ ضربة ما كان في الإسلام ضربة أعزّ منها ، يعني : ضربة عمرو بن عبد ودّ ، وضرب عليّ ضربة ما كان أشأم منها ، يعني : ضربة ابن ملجم عليه لعائن الله.

ثم أوقع الله الخلاف بين الأحزاب ، فشتّت شملهم ، وتفرّقت آراؤهم. وعند ذلك بعث الله عليهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد ، حتّى لا يستمسك لهم بناء ، ولا تثبت لهم نار ، ولا تطمئنّ لهم قدر ، فانصرفوا راهبين.

(إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا (١٠) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (١١) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (١٢) وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (١٣) وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (١٤))

٣٥١

وحكى الله سبحانه هذه القصّة إجمالا بقوله : (إِذْ جاؤُكُمْ) بدل من «إِذْ جاءَتْكُمْ» (مِنْ فَوْقِكُمْ) من أعلى الوادي ، من قبل المشرق. وهم بنو غطفان وقريظة والنضير. (وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) من أسفل الوادي ، من قبل المغرب ، من ناحية مكّة. وهم قريش. وكانوا متحزّبين ، وقالوا : سنكون جملة واحدة حتّى نستأصل محمّدا.

(وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ) مالت عن مستوى نظرها ومقرّها ، حيرة وشخوصا ودهشة. وقيل : عدلت عن كلّ شيء ، فلم تلتفت إلّا إلى عدوّها ، لشدّة الروع.

(وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ) رعبا ، فإنّ الرئة تنتفخ من شدّة الروع والفزع أو الغضب أو الغمّ الشديد ، فتربو ويرتفع القلب بارتفاعه إلى رأس الحنجرة ، وهي منتهى الحلقوم ، وهو مدخل الطعام والشراب. ومن ثمّ قيل للجبان : انتفخ سحره ، أي : رئته. ويجوز أن يكون ذلك مثلا في اضطراب القلوب ووجيبها (١) وإن لم تبلغ الحناجر حقيقة.

قال أبو سعيد الخدري : قلنا يوم الخندق : يا رسول الله هل من شيء نقوله ، فقد بلغت القلوب الحناجر؟ فقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : قولوا : اللهمّ استر عوراتنا ، وآمن روعاتنا. قال : فقلناها ، فضرب وجوه أعداء الله بالريح ، فهزموا.

(وَتَظُنُّونَ بِاللهِ الظُّنُونَا) الأنواع من الظنّ. فظنّ المخلصون الثبّت القلوب والأقدام ، أنّ الله منجز وعده في إعلاء دينه ، أو ممتحنهم. فخافوا الزلل وضعف الاحتمال. وظنّ الضعاف القلوب والمنافقون أن يستأصل المسلمون ، على ما حكى الله عنهم.

والألف مزيدة في الوقف ، زادوها في الفاصلة تشبيها للفواصل بالقوافي. وقد أجرى نافع وابن عامر وأبو بكر فيها الوصل مجرى الوقف. ولم يزدها أبو عمرو

__________________

(١) وجب القلب وجيبا : رجف وخفق.

٣٥٢

وحمزة ويعقوب مطلقا. وهو القياس.

(هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ) اختبروا ، فظهر المخلص من المنافق ، والثابت من المتزلزل (وَزُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً) فحرّكوا لفرط الخوف تحريكا شديدا ، وأزعجوا إزعاجا عظيما من شدّة الفزع ، فإنّ الخائف يكون قلقا مضطربا ، لا يستقرّ على مكانه.

(وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ) ضعف اعتقاد (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ) من الظفر وإعلاء الدين (إِلَّا غُرُوراً) وعدا باطلا. قيل : قائله معتب بن قشير ، قال : يعدنا محمد فتح فارس والروم ، وأحدنا لا يقدر أن يتبرّز (١) فرقا ، ما هذا إلّا وعد غرور.

(وَإِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ) يعني : أوس بن قيظي وأتباعه. وعن السدّي : عبد الله بن أبيّ وأصحابه. (يا أَهْلَ يَثْرِبَ) أهل المدينة. وقيل : هو اسم أرض وقعت المدينة في ناحية منها. (لا مُقامَ لَكُمْ) لا موضع قيام لكم هنا. وقرأ حفص بالضمّ ، على أنّه اسم مكان أو مصدر من : أقام ، أي : لا مكان تقيمون فيه. أو لا إقامة لكم.

(فَارْجِعُوا) إلى منازلكم ، هاربين من عسكر رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقيل : المعنى : لا مقام لكم على دين محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فارجعوا إلى الشرك ، وأسلموه لتسلموا. أو لا مقام لكم بيثرب ، فارجعوا كفّارا ليمكنكم المقام بها.

(وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَ) في الرجوع. وهم بنو سلمة وبنو حارثة. (يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ) غير حصينة. وأصلها : الخلل. يقال : عور المكان عورا ، إذا بدا فيه خلل يخاف منه العدوّ والسارق. ويجوز أن تكون العورة تخفيف : العورة ، بمعنى ذات العورة. اعتذروا بأن بيوتهم معرّضة للعدوّ ، ممكّنة للسرّاق ، لأنّها غير محرزة ولا محصّنة ، فاستأذنوه ليحصّنوها ثمّ يرجعوا إليه. فأكذبهم الله بقوله :

__________________

(١) تبرز : خرج لقضاء الحاجة. والفرق مصدر فرق أي : فزع وخاف.

٣٥٣

(وَما هِيَ بِعَوْرَةٍ) بل هي حصينة ، رفيعة السمك (إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً) من القتال.

(وَلَوْ دُخِلَتْ) المدينة ، أو بيوتهم (عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها) جوانبها. يعني : لو دخلت العساكر المتحزّبة الّتي يفرّون خوفا منها ، مدينتهم أو بيوتهم من نواحيها كلّها ، وانثالت (١) على أهاليهم وأولادهم ناهبين سأبين. وحذف الفاعل للإيماء بأنّ دخول هؤلاء المتحزّبين عليهم ، ودخول غيرهم من العساكر ، سيّان في اقتضاء الحكم المرتّب عليه.

(ثُمَّ سُئِلُوا) عند ذلك الفزع وتلك الرجفة (الْفِتْنَةَ) الردّة إلى الكفر ومقاتلة المسلمين (لَآتَوْها) لأعطوها. وقرأ الحجازيّان بالقصر ، بمعنى : لجاؤها وفعلوها. (وَما تَلَبَّثُوا بِها) بالفتنة ، أو بإعطائها (إِلَّا يَسِيراً) ريثما يكون السؤال والجواب من غير توقّف. وقيل : ما لبثوا بالمدينة بعد الارتداد إلّا يسيرا ، فإنّ الله يهلكهم.

وتحرير المعنى : أنّهم يتعلّلون بإعوار بيوتهم ، ويتمحّلون ليفرّوا عن نصرة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والمؤمنين ، وعن مصافّة الأحزاب الّذين ملؤهم هولا ورعبا.

وهؤلاء الأحزاب كما هم لو كبسوا (٢) عليهم أرضهم وديارهم ، وعرض عليهم الكفر ، وقيل لهم : كونوا على المسلمين ، لسارعوا إليه ، وما تعلّلوا بشيء ، وما ذلك إلّا لمقتهم الإسلام ، وشدّة بغضهم لأهله ، وحبّهم الكفر وتهالكهم على حزبه.

(وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً (١٥) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذاً لا

__________________

(١) انثال عليه الناس من كلّ وجه : انصبّوا عليه.

(٢) كبسوا دار فلان : أغاروا عليها فجأة.

٣٥٤

تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٦) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا وَلا نَصِيراً (١٧) قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٨) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (١٩) يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (٢٠))

ثمّ ذكّر هم الله سبحانه عهدهم مع النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالثبات في المواطن ، فقال :

(وَلَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللهَ) عاهد بنو حارثة رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (مِنْ قَبْلُ) قبل الخندق ، في يوم أحد ، حين فشلوا (لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ) لا يرجعون عن مقاتلة العدوّ ، ولا ينهزمون. وعن ابن عبّاس : عاهدوا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ليلة العقبة ، أن يمنعوه ممّا يمنعون منه أنفسهم. وقيل : هم قوم غابوا عن بدر ، فقالوا : لئن أشهدنا الله قتالا لنقاتلنّ. (وَكانَ عَهْدُ اللهِ مَسْؤُلاً) عن الوفاء به ، مجازى عليه. وإنّما جاء بلفظ الماضي تأكيدا.

٣٥٥

(قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ) من حتف الأنف (أَوِ الْقَتْلِ) في وقت معيّن سبق به القضاء ، وجرى عليه القلم (وَإِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أي : إن نفعكم الفرار مثلا في هذا الوقت ، فمتّعتم بالتأخير ، لم يكن ذلك التمتيع إلّا تمتيعا أو زمانا قليلا.

(قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً) أي : أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة. فاختصر الكلام ، كما في قوله : متقلّدا سيفا ورمحا (١). أو حمل الثاني على الأوّل ، لما في العصمة من معنى المنع. فلا يقال : كيف جعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة ، ولا عصمة إلّا من السوء؟ (وَلا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللهِ وَلِيًّا) ينفعهم (وَلا نَصِيراً) يدفع الضرّ عنهم.

(قَدْ يَعْلَمُ اللهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ) المثبّطين غيرهم عن الجهاد مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وهم المنافقون. (وَالْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ) من ساكني المدينة ، من المنافقين أو ضعفة المسلمين أو اليهود : ما محمّد وأصحابه إلّا أكلة (٢) رأس ، ولو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان وأصحابه (هَلُمَّ إِلَيْنا) قرّبوا أنفسكم إلينا ، ودعوا محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وهو لغة أهل الحجاز ، يسوّون فيه بين الواحد والجماعة. وأمّا تميم فيقولون : هلمّ يا رجل ، وهلمّوا يا رجال. وهو صوت سمّي به فعل متعدّ مثل : احضر وقرّب. وقد ذكر مثل ذلك في الأنعام (٣).

(وَلا يَأْتُونَ الْبَأْسَ) ولا يحضرون القتال (إِلَّا قَلِيلاً) إلّا إتيانا قليلا ،

__________________

(١) وصدره : ورأيت زوجك في الوغى والوغى : الحرب. ورمحا منصوب بمحذوف يناسبه ، أي : متقلّدا سيفا وحاملا رمحا.

(٢) أي : قليلون يشبعهم رأس واحد. وهو جمع آكل. والالتهام : الابتلاع.

(٣) راجع ج ٢ ص ٤٧٧ ، ذيل الآية ١٥٠ من سورة الأنعام.

٣٥٦

يخرجون مع المؤمنين ، يوهمون أنّهم معهم. أو زمانا قليلا ، أو بأسا قليلا ، فإنّهم يعتذرون ويثبّطون ما أمكن لهم. أو يخرجون مع المؤمنين ، ولكن لا يقاتلون إلّا شيئا قليلا ، كقوله : (ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) (١).

وقيل : إنّه من تتمّة كلامهم. ومعناه : ولا يأتي أصحاب محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حرب الأحزاب ، ولا يقاومونهم إلّا قليلا.

(أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ) بخلاء عليكم بالقتال معكم ، أو بالنفقة في سبيل الله ، أو الظفر ، أو الغنيمة. جمع شحيح. ونصبها على الحال من فاعل «يأتون» أو «المعوّقين». أو على الذمّ.

ثمّ أخبر عن جبنهم بقوله : (فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ) خوفا ولو إذا بك (تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ) في أحداقهم (كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ) كنظر المغشيّ عليه ، أو كدوران عينيه ، أو مشبّهين به ، أو مشبّهة أعينهم بعينه (مِنَ الْمَوْتِ) من معالجة سكرات الموت.

(فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ) والفزع ، وجاء الأمن والغنيمة ، وحيزت الغنائم ، ووقعت القسمة (سَلَقُوكُمْ) آذوكم (بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ) سليطة ذربة (٢) ، يطلبون الغنيمة.

والسلق : البسط بقهر ، باليد أو باللّسان. وعن قتادة : معناه : بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة ، يقولون : أعطونا أعطونا ، فلستم أحقّ بها منّا.

ثمّ قال : فأمّا عند البأس فأجبن قوم وأخذلهم للحقّ ، وأمّا عند الغنيمة فأشحّ قوم. وهو قوله : (أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ) بخلاء بالغنيمة ، يشاحّون المؤمنين عند القسمة. ونصبه على الحال أو الذمّ. وليس بتكرير ، لأنّ كلّ واحد منهما مقيّد من وجه.

__________________

(١) الأحزاب : ٢٠. وسيأتي تفسيرها عن قريب.

(٢) لسان ذرب أي : حديد حادّ.

٣٥٧

(أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا) إخلاصا ، وإلّا لما فعلوا ذلك (فَأَحْبَطَ اللهُ أَعْمالَهُمْ) أي : فأظهر بطلانها ، إذا لم تثبت لهم أعمال فتبطل. أو أبطل تصنّعهم ونفاقهم.

(وَكانَ ذلِكَ) الإحباط (عَلَى اللهِ يَسِيراً) هيّنا ، لتعلّق الإرادة به ، وعدم ما يمنعه عنه.

ثمّ وصف فرط جبنهم بقوله : (يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا) أي : لجبنهم يظنّون أنّ الأحزاب لم ينهزموا ، وقد انهزموا ففرّوا من الخندق إلى داخل المدينة (وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ) كرّة ثانية (يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ) تمنّوا أنّهم خارجون إلى البدو ، حاصلون بين الأعراب ، حذرا من القتل ، وتربّصا للدوائر.

(يَسْئَلُونَ) كلّ قادم من جانب المدينة (عَنْ أَنْبائِكُمْ) عمّا جرى عليكم (وَلَوْ كانُوا فِيكُمْ) هذه الكرّة ، ولم يرجعوا إلى المدينة ، وكانوا في صفّ القتال معكم (ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلاً) رياء وخوفا عن التعيير.

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً (٢١))

ولمّا بيّن سبحانه حال المنافقين ، حثّ المؤمنين المخلصين على الجهاد والصبر عليه ، فقال :

(لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ) خصلة حسنة ، من حقّها أن يؤتسى بها ، كالثبات في الحرب ، ومقاساة الشدائد. أو هو في نفسه قدوة يحسن التأسّي به ، كقولك في البيضة : عشرون منّا حديدا ، أي : هي في نفسها هذا القدر من الحديد. وقرأ عاصم بضمّ الهمزة (١). وهو لغة.

__________________

(١) والقراءة الاخرى : إسوة ، بكسر الهمزة.

٣٥٨

(لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ) أي : أيّام الله واليوم الآخر خصوصا. أو المعنى : يرجوا ما عند الله في الآخرة من الثواب الأبدي والنعيم السرمدي. وهذا كقولك : رجوت زيدا وفضله ، أي : رجوت فضل زيد. والرجاء يحتمل أن يكون بمعنى الأمل أو الخوف. و «لمن كان» صلة لـ «حسنة» أو صفة لها. أو بدل من «لكم» ، كقوله : (لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ) (١). يعني : أنّ الاسوة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إنّما تكون لمن كان يرجو الله واليوم الآخر.

(وَذَكَرَ اللهَ كَثِيراً) وقرن الرجاء بالطاعات الكثيرة ، والتوفّر على الأعمال الصالحة ، لأنّ المؤتسي بالرسول من كان كذلك.

(وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ وَما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَتَسْلِيماً (٢٢))

ثمّ عاد سبحانه إلى ذكر الأحزاب ، فقال : (وَلَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ) الجماعة الّتي تحزّبت على قتال النبيّ مع كثرتهم (قالُوا هذا) أي : هذا الّذي رأينا. أو هذا الخطب ، أو البلاء. (ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللهُ وَرَسُولُهُ) وعدهم الله أن يزلزلوا حتّى يستغيثوه ويستنصروه ، في قوله : (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ) (٢). الآية. وقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «سيشتدّ الأمر باجتماع الأحزاب عليكم ، والعاقبة لكم عليهم». وقال : «إنّهم سائرون إليكم بعد تسع أو عشر». فلمّا جاء الأحزاب وشخص بهم ، واضطربوا ورعبوا الرعب الشديد ، (قالُوا : هذا ما وَعَدَنَا اللهُ وَرَسُولُهُ»).

__________________

(١) الأعراف : ٧٥.

(٢) البقرة : ٢١٤.

٣٥٩

(وَما زادَهُمْ) ما رأوا ، أو الخطب ، أو البلاء (إِلَّا إِيماناً وَتَسْلِيماً) لأوامره ومقاديره.

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (٢٣) لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (٢٤))

روي : أنّ جماعة من الصحابة نذروا إذا لقوا حربا مع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ثبتوا وقاتلوا ، حتّى يستشهدوا أو يفتح الله على رسوله ، فنزلت في شأنهم :

(مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ) من الثبات مع الرسول ، والمقاتلة لإعلاء الدّين. من : صدقني وكذبني ، إذا قال لك الصدق والكذب ، فإنّ المعاهد إذا وفى بعهده فقد صدق فيه.

(فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ) نذره ، بأن قاتل حتّى استشهد ، كحمزة ومصعب بن عمير وأنس بن النضر. والنحب : النذر. واستعير للموت ، لأنّه كنذر لازم في رقبة كلّ حيوان ، فإن مات فقد قضى نحبه ، أي : نذره. (وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ) الشهادة.

وهم سواهم من خلّص المؤمنين. (وَما بَدَّلُوا) العهد ، ولا غيّروه (تَبْدِيلاً) شيئا من التبديل. وفيه تعريض بمن بدّلوا من أهل النفاق ومرضى القلب.

وروى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بالإسناد عن عمرو بن ثابت ، عن أبي إسحاق ، عن عليّ عليه‌السلام قال : «فينا نزلت : (رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللهَ). فأنا والله المنتظر ، وما بدّلت تبديلا» (١).

__________________

(١) شواهد التنزيل ٢ : ٥ ح ٦٢٧.

٣٦٠