زبدة التّفاسير - ج ٥

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٥

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-07-8
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٥٩٦

(كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (١٢٣) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٢٤) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٢٥) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٢٦) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٢٧) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (١٢٨) وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (١٢٩) وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (١٣٠) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٣١) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (١٣٢) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ (١٣٣) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٣٤) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٣٥) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (١٣٦) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (١٣٧) وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (١٣٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٣٩) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٤٠))

(كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ) تأنيثه باعتبار القبيلة. وهو في الأصل اسم أبيهم.

(إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ) في النسب (هُودٌ أَلا تَتَّقُونَ) باجتناب معاصيه (إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) صدّرت القصص بها لتدلّ على أنّ البعثة مقصورة على الدعاء إلى معرفة

٤١

الحقّ ، والطاعة فيما يقرّب المدعوّ إلى ثوابه ، ويبعّده عن عقابه. وكان الأنبياء متّفقين على مثل ذلك ، مبرّئين عن المطامع الدينيّة والأغراض الدنيويّة.

(أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ) بكلّ مكان مرتفع. ومنه : ريع الأرض لارتفاعها.

(آيَةً) علما للمارّة (تَعْبَثُونَ) ببنائها ، إذ كانوا يهتدون بالنجوم في أسفارهم ، فاتّخذوا في طرقهم أعلاما طوالا لا يحتاجون إليها.

وقيل : كانوا يبنون بالمواضع المرتفعة ليشرفوا على المارّة ، فيعبثوا بهم. وعن مجاهد : بنوا بكلّ ريع بروجا للحمام عبثا.

وقيل : كانوا يبنون أبنية لا يحتاجون إليها للسكنى. فجعل بناء ما يستغنون عنه عبثا. أو قصورا يفتخرون بها.

وعن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «لكلّ بناء يبنى وبال على صاحبه يوم القيامة ، إلّا ما لا بدّ منه».

(وَتَتَّخِذُونَ مَصانِعَ) مأخذا للماء تحت الأرض. وقيل : قصورا مشيّدة وحصونا. (لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ) ترجون الخلود في الدنيا. أو تشبه حالكم حال من يخلد ، فإنّ هذه الأبنية بناء من يطمع في الخلود.

(وَإِذا بَطَشْتُمْ) أخذتم بسوط أو سيف (بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) متسلّطين ، ظالمين ، بلا رأفة ولا قصد تأديب. وقيل : قتّالين على الغضب بغير حقّ. وقال الحسن : مبادرين تعجيل العذاب ، لا تتفكّرون في العواقب.

(فَاتَّقُوا اللهَ) بترك هذه الأشياء (وَأَطِيعُونِ) فيما أمركم الله.

(وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ) كرّر الاتّقاء مرتّبا على إمداد الله إيّاهم بما أعطاهم ما يعلمون من أنواع الخير ، ويعرفونه من أنواع النعم ، تعليلا وتنبيها على الوعد عليه بدوام الإمداد ، والوعيد على تركه بالانقطاع. والإمداد في الأصل إتباع الثاني ما قبله شيئا بعد شيء على انتظام.

٤٢

ثمّ فصّل بعض تلك النعم ، كما فصّل بعض مساويهم المدلول عليها إجمالا بالإنكار في «ألا تتّقون» مبالغة في الإيقاظ والحثّ على التقوى ، فقال :

(أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَبَنِينَ) قرنها بالبنين ، لأنّهم الّذين يعينونهم على حفظها والقيام عليها (وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ).

ثمّ أوعدهم فقال : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ) إن عصيتموني (عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ) في الدنيا والآخرة ، فإنّه كما قدر على الإنعام قدر على الانتقام. ووصف اليوم بالعظيم ، لما فيه من الأهوال العظيمة.

(قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) أنهيتنا أم لم تكن من الناهين لنا. والمعنى : لا نقبل ما تدعونا إليه على كلّ حال ، وعظت أم سكتّ ، فإنّ حصول الوعظ منك وارتفاعه مستويان عندنا. ولو علم أنّه قيل : أوعظت أم لم تعظ ، لكان أخصر. لكن لم يكن فيه مبالغة ، كما كانت في قوله : (أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ) لأنّ المعنى : سواء علينا أفعلت هذا الفعل الّذي هو الوعظ ، أم لم تكن أصلا من أهله ومباشريه. فهو أبلغ في قلّة اعتدادهم بوعظه من قوله : أم لم تعظ.

(إِنْ هذا) ما هذا الّذي جئتنا به (إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ) إلّا اختلاق الأوّلين ، أي : كذبهم ، كما قالوا : أساطير الأوّلين. أو ما خلقنا هذا إلّا خلق القرون الخالية ، نحيا ونموت كما حيوا وماتوا ، ولا بعث ولا حساب.

وقرأ نافع وابن عامر وعاصم وحمزة : خلق بضمّتين ، بمعنى العادة ، أي ما هذا الّذي جئت به إلّا عادة الأوّلين ، كانوا يلفّقون مثله ويسطّرونه. أو ما هذا الّذي نحن عليه من الدّين إلّا خلق الأوّلين وعادتهم ، ونحن بهم مقتدون. أو ما هذا الّذي نحن عليه من الحياة والموت إلّا عادة قديمة ، لم يزل الناس عليها في قديم الدهر.

(وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ) على ما نحن عليه (فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ) بسبب التكذيب بريح صرصر (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ

٤٣

الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) قد مرّ (١) تفسيره.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (١٤١) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٤٢) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٤٣) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٤٤) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٤٥) أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (١٤٦) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (١٤٧) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (١٤٨) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (١٤٩) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٥٠) وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (١٥١) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ (١٥٢) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٥٣) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٥٤) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (١٥٥) وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٥٦) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (١٥٧) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٥٨) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٥٩))

__________________

(١) راجع ص ٤٠ : ذيل الآية ١٢١ ـ ١٢٢.

٤٤

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) قد سبق (١) تفسير ذلك أيضا.

(أَتُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ) إنكار لأن يتركوا مخلّدين في نعيمهم لا يزالون عنه. أو تذكير بالنعمة في تخلية الله إيّاهم وما يتنعّمون. «فيما هاهنا» أي : الّذي استقرّ في هذا المكان من النعيم ، حال كونهم مع أمن ودعة.

والمعنى : أتظنّون أنّكم تتركون فيما أعطاكم الله من الخير في هذه الدنيا ، آمنين من الموت والعذاب؟! بل لا يبقى عليكم ، وسيزول عنكم.

ثمّ فسّره بقوله : (فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ) لطيف ليّن ، للطف التمر. أو لأنّ النخل أنثى ، وطلع إناث النخل ألطف. وهو ما يطلع منها كنصل السيف في جوفه شماريخ (٢) القنو. أو متدلّ (٣) منكسر من كثرة الحمل.

وقيل : الهضيم : الليّن النضيج. وقيل : هو الّذي إذا مسّ تفتّت. وقيل : هو الّذي ليس فيه نوى.

وإفراد النخل لفضله على سائر أشجار الجنّات. أو لأنّ المراد بالجنّات غير النخل من الأشجار ، لأنّ اللفظ يصلح لذلك ، ثمّ يعطف عليها النخل.

(وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ) بطرين ، أو حاذقين. من الفراهة ، وهي

__________________

(١) راجع ص ٤١ : ذيل الآية ١٢٣ ـ ١٢٧.

(٢) شماريخ جمع شمراخ ، وهو العذق ـ أي : الغصن له شعب ـ عليه بسر أو عنب. والقنو : من النخل كالعنقود من العنب.

(٣) عطف على قوله : «لطيف ليّن» قبل سطرين.

٤٥

النشاط ، فإنّ الحاذق يعمل بنشاط وطيب قلب. وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو : فرهين. وهو أبلغ.

(فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَلا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ) ثمّ وصفهم بالوصف الموضح لإسرافهم بقوله. واستعير طاعة الآمر المطاع لامتثال الأمر وارتسامه ، أو جعل الأمر مطاعا على المجاز الحكمي ، والمراد الآمر.

ومنه قولهم : لك عليّ إمرة مطاعة ، وقوله تعالى : (وَأَطِيعُوا أَمْرِي) (١).

وحقيقة المعنى : أطيعوني فيما آمركم به ، ولا تطيعوا رؤساءكم المتجاوزين عن الحقّ.

(الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلا يُصْلِحُونَ) عطفه على «يفسدون» دلالة على خلوص فسادهم. يعني : أنّ حالهم ليس كحال بعض المفسدين مخلوطة ببعض الصلاح ، بل موصوفون بمحض الفساد والفساد المحض. وهم سبعة رهط من ثمود الّذين عقروا الناقة.

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ) الّذين سحروا كثيرا مرّة بعد اخرى حتّى غلب على عقلهم ، فصاروا لا يدرون ما يقولون. او من ذوي السّحر ، وهو الرئة ، أي : من الأناسيّ الّذين يحتاجون إلى الطعام والشراب. فيكون (ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) تأكيدا له.

(فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعوة النبوّة. روي : أنّهم قالوا : نريد ناقة عشراء (٢) ، تخرج من هذه الصخرة ، فتلد سقبا. فقعد صالح يتفكّر ، فقال له جبرئيل : صلّ ركعتين ، وسل ربّك الناقة. ففعل ، فخرجت الناقة وبركت بين

__________________

(١) طه : ٩٠.

(٢) العشراء : الناقة التي مضى لحملها عشرة أشهر. والسقب : الذكر من ولد الناقة.

٤٦

أيديهم ، ونتجت سقبا مثلها في العظم. وعن أبي موسى : رأيت مصدرها فإذا هو ستّون ذراعا.

(قالَ) بعد خروج الناقة من الصخرة ، كما اقترحوا المعجزة تدلّ على صدقة (هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ) نصيب من الماء ، كالسقي وألقيت ، للحظّ من السقي والقوت (وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) فاقتصروا على شربكم ، ولا تزاحموها في شربها.

وعن قتادة : إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كلّه ، ولهم شرب يوم لا تشرب فيه الماء.

وروي عن أمير المؤمنين عليه‌السلام أنّه قال : «أوّل عين نبعت في الأرض هي الّتي فجّرها الله لصالح ، فقال : (لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ).

(وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ) كضرب وعقر ، وغير ذلك (فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ) عظم اليوم لعظم ما يحلّ فيه. وهو أبلغ من تعظيم العذاب ، لأنّ الوقت إذا عظم بسببه كان موقعه من العظم أشدّ.

(فَعَقَرُوها) أسند العقر إلى كلّهم ، لأنّ عاقرها إنّما عقرها برضاهم ، ولذلك أخذوا جميعا.

روي : أنّ عاقرها قال : لا أعقرها حتّى ترضوا أجمعين. فكانوا يدخلون على المرأة في خدرها فيقولون : أترضين؟ فتقول : نعم. وكذا صبيانهم.

روي : أنّ مسطعا ألجأها إلى مضيق في شعب ، فرماها بسهم فأصاب رجلها فسقطت ، ثمّ ضربها قدار.

(فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ) على عقرها خوفا من حلول العذاب ، لا توبة ، أو عند معاينة العذاب ، ولذلك لم ينفعهم. قال الله تعالى : (وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ

٤٧

السَّيِّئاتِ) (١) الآية.

(فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ) اللام إشارة إلى عذاب يوم عظيم (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) مرّ تفسير هاتين الآيتين مرارا.

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (١٦٠) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٦١) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٦٢) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٦٣) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٦٤) أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (١٦٥) وَتَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (١٦٦) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (١٦٧) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (١٦٨) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (١٦٩) فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (١٧٠) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (١٧١) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (١٧٢) وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (١٧٣) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٧٤) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٧٥))

__________________

(١) النساء : ١٨.

٤٨

(كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ * إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلا تَتَّقُونَ * إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ * فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ * وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ * أَتَأْتُونَ الذُّكْرانَ) أتصيبون الذكور (مِنَ الْعالَمِينَ) من أولاد آدم ، مع كثرتهم وغلبة إناثهم على ذكورهم. أو أتأتون من بين من عداكم من العالمين الذكران ، لا يشارككم فيه غيركم. يعني : أنّكم يا قوم لوط وحدكم مختصّون بهذه الفاحشة. فالمراد بالعالمين على الأوّل الناس ، وعلى الثاني كلّ من ينكح.

(وَتَذَرُونَ) وتتركون (ما خَلَقَ لَكُمْ) لأجل استمتاعكم (رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ) بيان لـ «ما» إن أريد به جنس الإناث. أو للتبعيض إن أريد به العضو المباح منهنّ. فيكون تعريضا بأنّهم كانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم أيضا.

(بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ) متجاوزون عن حدّ الشهوة ، حيث زادوا على سائر الناس ، بل الحيوان. أو مفرطون في المعاصي ، وهذا من جملة ذاك. أو أحقّاء بأن توصفوا بالعدوان ، لارتكابكم هذه الجريمة العظيمة.

(قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ) عن نهينا ، أو تقبيح أفعالنا ، أو عمّا تدّعيه ، ولم تمتنع عن دعوتنا (لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ) من جملة من أخرجناه من بين أظهرنا ، وطردناه من بلدنا. ولعلّهم كانوا يخرجون من أخرجوه على عنف وأسوأ حال.

(قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ) من المبغضين غاية البغض ، أقف عن الإنكار عليه بالإيعاد. من القلى بمعنى البغض الشديد. كأنّه بغض يقلي الفؤاد والكبد. وهو أبلغ من أن يقول : إنّي لعملكم قال ، لدلالته على أنّه معدود في زمرتهم ، مشهور بأنّه من جملتهم. كما تقول : فلان من العلماء. فيكون أبلغ من قولك : فلان عالم ، لأنّك تشهد له بكونه معدودا في زمرتهم ، ومعروفة مساهمته لهم

٤٩

في العلم. وفي هذا دليل على عظم المعصية.

(رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ) أي : من سوء عملهم ووخامة عاقبته من نزول العذاب.

(فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ) أهل بيته والمتّبعين له على دينه ، عن العقاب الأليم ، بإخراجهم من بينهم وقت حلول العذاب بهم.

(إِلَّا عَجُوزاً) هي امرأة لوط (فِي الْغابِرِينَ) أي : مقدّرة مفروضة في الباقين في العذاب ، إذ أصابها حجر في الطريق فأهلكها ، لأنّها كانت مائلة إلى القوم ، راضية بفعلهم ، دالّة أهل الفساد على أضيافه. وقيل : كائنة فيمن بقي في القرية ، فإنّها لم تخرج مع لوط.

(ثُمَّ دَمَّرْنَا) أهلكنا (الْآخَرِينَ) بانقلاب بلادهم عليهم (وَأَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً) قيل : أمطر الله حجارة على قومه الّذين لم يكونوا في بلادهم ، بل كانوا خارجين منها ، غائبين عنها حين انقلبت البلاد على أهل بلده فأهلكتهم. وعن ابن زيد : لم يرض الله بانقلاب بلدهم حتّى أتبعه مطرا من حجارة.

(فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ) بئس واشتدّ مطر الكافرين. ولا يجوز أن يكون اللام للعهد الدّال على قوم بأعيانهم ، بل إنّما هو للجنس ، ليصحّ وقوع المضاف إليه فاعل «ساء». والمخصوص بالذمّ محذوف ، وهو : مطرهم.

(إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ).

(كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (١٧٦) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ (١٧٧) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (١٧٨) فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ (١٧٩) وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (١٨٠) أَوْفُوا

٥٠

الْكَيْلَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (١٨١) وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (١٨٢) وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (١٨٣) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (١٨٤) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (١٨٥) وَما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (١٨٦) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (١٨٧) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (١٨٨) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (١٨٩) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (١٩٠) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (١٩١))

ثمّ أخبر عن قوم شعيب ، فقال : (كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ) الأيكة : غيضة (١) تنبت ناعم الشجر. يريد غيضة بقرب مدين تسكنها طائفة ، فبعث الله إليهم شعيبا ، كما بعثه إلى مدين. وكان أجنبيّا منهم ، فلذلك لم يقل : إذ قال لهم أخوهم شعيب ، كما في المواضع المتقدّمة ، بل قال : (إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلا تَتَّقُونَ). وفي الحديث : «إنّ شعيبا أخا مدين ، أرسل إليهم وإلى أصحاب الأيكة».

وقيل : الأيكة شجر ملتفّ. وكان شجرهم الدوم (٢). وهو المقل.

__________________

(١) الغيضة : مجتمع الشجر في مغيض الماء ـ أي : مجتمعه ومدخله ـ الأجمة.

(٢) الدوم : جنس شجر من فصيلة النخليّات ، يستخرج من ثماره نوع من الدبس. يعرف أيضا بشجرة المقل.

٥١

وقرأ ابن كثير ونافع وابن عامر بحذف الهمزة ، وإلقاء حركتها على اللام ، على وزن ليلة. ونصب التاء على أنّها غير منصرفة ، لأنّها اسم بلدتهم. وإنّما كتبت هاهنا وفي سورة ص (١) بغير ألف اتباعا لخطّ المصحف ، فإنّها وجدت مكتوبة في هاتين السورتين على حكم لفظ اللافظ.

(إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللهَ وَأَطِيعُونِ وَما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ) وقد مرّ تفسيرها قبل.

وإنّما حكى الله سبحانه دعوة كلّ نبيّ بصيغة واحدة ولفظ واحد ، إشعارا بأنّ الحقّ الّذي يأتي به الرسل ويدعون إليه واحد ، من اتّقاء الله تعالى ، واجتناب معاصيه ، والإخلاص في عبادته وطاعة رسله. وأنّ الأنبياء لا يكونون إلّا أمناء الله في عباده ، فإنّه لا يجوز على واحد منهم أن يأخذ الأجرة على رسالته ، لما في ذلك من التنفير عن قبولهم.

ثمّ قال : (أَوْفُوا الْكَيْلَ) أتمّوه وافيا غير ناقص (وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ) الناقصين حقوق الناس بالتطفيف.

(وَزِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ) بالميزان السويّ. قيل : هو عربيّ من القسط ، وهو العدل ، على وزن فعلاس ، بزيادة الألف والسين ، أو فعلاع بتكرير العين. أو على وزن فعلال من الرباعي. وقيل : هو روميّ ، بمعنى العدل أيضا. وقرأ حمزة والكسائي وحفص بكسر القاف.

(وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ) ولا تنقصوا شيئا من حقوقهم. من : بخسته إذا نقصته. والبخس عامّ في كلّ حقّ ثبت لأحد أن لا يهضم ، وفي كلّ ملك أن لا يغصب عليه مالكه ، ولا يتحيّف منه ، ولا يتصرّف فيه إلّا بإذنه تصرّفا شرعيّا.

(وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ) بالقتل والغارة وقطع الطريق. وكانوا يفعلون

__________________

(١) ص : ١٣.

٥٢

ذلك مع تولّيهم أنواع الفساد ، فنهوا عن ذلك. والعثيّ بمعنى أشدّ الفساد. يقال : عثا في الأرض يعثو ، وعثى يعثى ، وعاث يعيث.

(وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ) وذوي الخليقة الأوّلين. يعني : من تقدّمهم من الخلائق. وهو كقولك : خلق الأوّلين.

(قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ * وَما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) أتوا بالواو للدلالة على أنّه جامع بين وصفين متنافيين للرسالة ، وهما : التسحير والبشريّة ، مبالغة في تكذيبه. يعني : أنّ الرسول لا يجوز أن يكون مسحّرا ، ولا يجوز أن يكون بشرا.

(وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ) وإنّا نظنّك كاذبا في دعواك.

واعلم أنّ «إن» المخفّفة من الثقيلة ولامها تفرّقتا على فعل الظنّ وثاني مفعوليه ، لأنّهما في الأصل يتفرّقان على المبتدأ والخبر ، كقولك : إن زيد لمنطلق.

فلمّا كان باب «كان» وباب «ظننت» من جنس باب المبتدأ والخبر ، قالوا أيضا في البابين : إن كان زيد لنا عما ، (وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ).

(فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ) أي : قطعا من السحاب. جمع الكسفة ، نحو القطع جمع القطعة. وقرأ حفص بفتح السين. (إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ) في دعواك. وما كان طلبهم ذلك إلّا لتصميمهم على الجحود والتكذيب ، ولو كان فيهم أدنى ميل إلى التصديق لما أخطروه ببالهم ، فضلا أن يطلبوه. وذكر «إن» مشعر بإضمار الشرط. والمعنى : إن كنت صادقا أنّك نبيّ فادع الله أن يسقط علينا كسفا من السماء.

(قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ) وبما تستوجبون عليه من العقاب. فإن أراد أن يعاقبكم بإسقاط كسف من السماء فعل ، وإن أراد عذابا آخر فإليه الحكم والمشيئة.

(فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ) على نحو ما اقترحوا ، بأن سلّط الله

٥٣

عليهم الحرّ الشديد سبعة أيّام حتّى أخذ بأنفاسهم ، لا ينفعهم ظلّ ولا سرب (١) ، فاضطرّوا إلى أن خرجوا إلى البرّيّة ، فأظلّتهم سحابة وجدوا لها بردا ونسيما ، فاجتمعوا تحتها ، فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا.

وروي : أنّ شعيبا بعث إلى أمّتين : أصحاب مدين ، وأصحاب الأيكة.

فأهلكت مدين بصيحة جبرئيل ، وأصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلّة.

(إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) في نفي الإيمان عن أكثر كلّ أمّة من أمم الأنبياء السابقة ، إيماء بأنّه لو آمن أكثرهم أو شطرهم لما أخذوا بالعذاب.

(وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٩٢) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (١٩٣) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (١٩٤) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (١٩٥) وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (١٩٦) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (١٩٧) وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (١٩٨) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (١٩٩) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (٢٠٠) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٢٠١) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٢٠٢) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (٢٠٣))

__________________

(١) السرب : الحفير تحت الأرض.

٥٤

واعلم أنّ هذا آخر القصص السبع المذكورة على سبيل الاختصار ، تسلية لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وتهديدا للمكذّبين به. ثمّ قرّر حقّية تلك القصص بقوله : (وَإِنَّهُ) وإنّ هذا التنزيل. يعني : ما نزل من هذه القصص. (لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ) لمنزل (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلى قَلْبِكَ).

وقرأ ابن عامر وأبو بكر وحمزة والكسائي بتشديد الزاي ، ونصب «الرّوح الأمين». وعلى القراءتين الباء للتعدية. فعلى القراءة الأولى معناه : نزل القرآن الروح الأمين. وعلى الثانية معناه : جعل الله الروح الأمين نازلا به على قلبك.

والروح الأمين جبرئيل عليه‌السلام ، فإنّه عليه‌السلام أمين الله على وحيه ، ويحيي به الدين ، أو يحيي به الأرواح بما ينزل من البركات. أو لأنّ جسمه روحانيّ.

والقلب إن أراد به الروح فذاك. وإن أراد به العضو ، فتخيصه لأنّ المعاني الروحانيّة إنّما تنزل أوّلا على الروح ، ثمّ تنتقل منه إلى القلب ، لما بينهما من التعلّق ، ثمّ تتصعّد منه إلى الدماغ ، فينتقش بها لوح المتخيّلة.

والمعنى : حفّظك وفهّمك إيّاه ، وأثبته في قلبك إثبات ما لا ينسى ، كقوله تعالى : (سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) (١).

(لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) عمّا يؤدّي إلى عذاب من فعل أو ترك. وفيه تنبيه على إعجاز القرآن ونبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فإنّ الإخبار عن هذه القصص ممّن لم يتعلّم لا يكون إلّا وحيا من الله عزوجل.

(بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ) واضح المعنى. وهو إمّا متعلّق بالمنذرين. ومعناه : لتكوننّ ممّن أنذروا بلغة العرب. وهم خمسة : هود ، وصالح ، وشعيب ، وإسماعيل ، ومحمّد صلّى الله عليهم. أو متعلّق بـ «نزل».

(وَإِنَّهُ) وإنّ القرآن ـ يعني : ذكره ، أو معناه ـ مثبت (لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) لفي

__________________

(١) الأعلى : ٦.

٥٥

الكتب المتقدّمة السماويّة.

وقيل : الضمير لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وكذلك ضمير «يعلمه» في قوله : (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً) على صحّة القرآن ، أو نبوّة محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ) أن يعرفوه بنعته المذكور في كتبهم.

وقرأ ابن عامر : تكن بالتاء ، وآية بالرفع على أنّها الاسم ، والخبر «لهم» ، و «أن يعلمه» بدل. أو الفاعل ، و «أن يعلمه» بدل ، و «لهم» حال. وعلى قراءة غيره نصبت على أنّها خبر «يكن» ، و «أن يعلمه» اسمه.

وعلماؤهم : عبد الله بن سلام وأصحابه ، كما قال الله تعالى : (وَإِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ) (١).

وعن عطيّة : هم خمسة : عبد الله بن سلام ، وابن يامين ، وثعلبة ، وأسد ، وأسيد.

وخطّ : علمؤا بالواو قبل الألف ، على لغة من عدل الألف إلى الواو. وعلى هذه اللغة كتبت : الصلوة والزكوة والربوا.

(وَلَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ) كما هو زيادة في إعجازه. أو بلغة الأعجمين. وهو جمع الأعجمي ، وهو الّذي لا يفصح ، وفي لسانه عجمة. ولمّا كان من يتكلّم بلسان غير لسانهم بحيث لا يفهمون كلامه ، فشبّهوه بمن لا يفصح ولا يبين أصلا. وقالوا لكلّ ذي صوت من البهائم والطيور وغيرها : أعجم.

(فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ) لفرط عنادهم واستكبارهم. أو لعدم فهمهم ، واستنكافهم من اتّباع العجم.

(كَذلِكَ سَلَكْناهُ) أي : كما أنزلنا القرآن عربيّا مبينا ، أدخلناه وأوقعناه (فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ) الكافرين ، بأن قرأه رسولنا عليهم ، فعرفوا معانيه وإعجازه.

(لا يُؤْمِنُونَ بِهِ) عنادا وجحودا (حَتَّى يَرَوُا) يعاينوا (الْعَذابَ الْأَلِيمَ)

__________________

(١) القصص : ٥٣.

٥٦

فيلجئهم إلى الإيمان (فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً) فجأة في الدنيا والآخرة (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) بإتيانه (فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ) تحسّرا وتأسّفا.

(أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (٢٠٤) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (٢٠٥) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (٢٠٦) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (٢٠٧) وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (٢٠٨) ذِكْرى وَما كُنَّا ظالِمِينَ (٢٠٩))

روي عن مقاتل : لمّا أوعدهم النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالعذاب استعجلوه تكذيبا له ، فقال سبحانه توبيخا لهم : (أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ) أشرا وبطرا واستهزاء ، واتّكالا على الأمل الطويل. فيقولون : أمطر علينا حجارة ، فأتنا بما تعدنا ، وحالهم عند نزول العذاب طلب النظرة. يعني : كيف يستعجل العذاب من هو معرّض لعذاب لإيجاب في دفعه ، ولا ينظر ولا يمهل طرفة عين؟! (أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ) أعمارا طوالا في سلامة وأمن (ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ * ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ) لم يغن عنهم تمتّعهم المتطاول في دفع العذاب وتخفيفه. يعني : هب أنّ الأمر كما يعتقدون من تمتيعهم وتعميرهم ، فإذا لحقهم الوعيد بعد ذلك ما ينفعهم حينئذ ما مضى من طول أعمارهم وطيب معاشهم.

(وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ) رسل أنذروا أهلها إلزاما للحجّة. وإنّما عزلت الواو عن الجملة بعد «إلّا» ، ولم تعزل في قوله : (وَما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَها كِتابٌ مَعْلُومٌ) (١). لأنّ الأصل عزل الواو ، لأنّ الجملة صفة لـ «قرية». وإذا زيدت

__________________

(١) الحجر : ٤.

٥٧

فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف ، كما في قوله : (سَبْعَةٌ وَثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ) (١).

(ذِكْرى) تذكرة. ومحلّها النصب على العلّة أو المصدر ، لأنّها في معنى الإنذار ، كأنّه قيل : مذكّرون تذكرة. أو الرفع على أنّها صفة «منذرون» بإضمار : ذووا. أو جعلوا ذكرى ، لإمعانهم في التذكرة وإطنابهم فيها. أو خبر محذوف ، أي : هذه ذكرى. والجملة اعتراضيّة. ويجوز أن تكون «ذكرى» متعلّقة بـ «أهلكنا» مفعولا له. والمعنى : وما أهلكنا من أهل قرية ظالمة إلّا بعد ما ألزمناهم الحجّة بإرسال المنذرين إليهم ، ليكون إهلاكهم تذكرة وعبرة لغيرهم. (وَما كُنَّا ظالِمِينَ) فنهلك غير الظالمين ، أو قبل الإنذار.

(وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (٢١٠) وَما يَنْبَغِي لَهُمْ وَما يَسْتَطِيعُونَ (٢١١) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (٢١٢) فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (٢١٣) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (٢١٤) وَاخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٢١٥) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (٢١٦) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (٢١٧) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (٢١٨) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (٢١٩) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٢٢٠))

روي : أنّ الكفّار كانوا يقولون : إنّما يتنزّل على محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من جنس ما يتنزّل به الشياطين على الكهنة. فكذّبهم الله بقوله : (وَما تَنَزَّلَتْ بِهِ) بالقرآن

__________________

(١) الكهف : ٢٢.

٥٨

(الشَّياطِينُ) كما يزعمه بعض المشركين (وَما يَنْبَغِي لَهُمْ) وما يصحّ للشياطين أن يتنزّلوا به (وَما يَسْتَطِيعُونَ) ذلك ، ولا يقدرون عليه ، لأنّ الله تعالى يحرس المعجزة عن أن يموّه بها المبطل.

(إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ) لكلام الملائكة (لَمَعْزُولُونَ) لمصروفون مرجومون بالشهب ، لأنّه مشروط بمشاركة في صفاء الذات ، وقبول فيضان الحقّ ، والانتقاش بالصور الملكوتيّة ، ونفوسهم خبيثة ظلمانيّة شرّيرة بالذات ، لا تقبل ذلك. والقرآن مشتمل على حقائق ومغيّبات لا يمكن تلقّيها إلّا من الملائكة.

(فَلا تَدْعُ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ) بسبب ذلك. قد علم عزّ اسمه أنّ ذلك لا يكون ، ولكنّه أراد أن يحرّك نبيّه ويهيّجه ، لازدياد الإخلاص والتقوى.

وفيه تنبيه لسائر المكلّفين ، كما قال : (وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ) (١). (فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ) (٢). (لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ) (٣).

(وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) رهطك الأدنين ، بالإفصاح من غير تليين بالقول ، الأقرب منهم فالأقرب. وإنّما خصّهم بالذكر تنبيها على أنّه ينذر غيرهم ، وأنّه لا يداهنهم لأجل القرابة ، ليقطع طمع الأجانب عن المداهنة في الدين.

وقيل : إنّه عليه‌السلام أمر بأن يبدأ بهم في الإنذار والدعاء إلى الله ، ثمّ بالّذين يلونهم ، كما قال : (قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ) (٤). لأنّ ذلك هو الّذي يقتضيه حسن الترتيب.

وقيل : إنّما خصّهم لأنّه يمكنه أن يجمعهم ثمّ ينذرهم. وقد فعل ذلك صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ،

__________________

(١) الحاقّة : ٤٤.

(٢) يونس : ٩٤.

(٣) الزمر : ٦٥.

(٤) التوبة : ١٢٣.

٥٩

واشتهرت القصّة بذلك عند الخاصّ والعامّ.

وفي الخبر المأثور عن البراء بن عازب أنّه قال : لمّا نزلت هذه الآية جمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بني عبد المطّلب ، وهم يومئذ أربعون رجلا ، الرجل منهم يأكل المسنّة (١) ويشرب العسّ. (٢) فأمر عليّا عليه‌السلام برجل شاة فأدمها (٣) ، ثمّ قال : ادنوا بسم الله. فدنا القوم عشرة عشرة ، فأكلوا حتّى صدروا (٤). ثمّ دعا بعقب من لبن ، فجرع منه جرعة ، ثمّ قال لهم : اشربوا بسم الله. فشربوا حتّى رووا. فبدرهم أبو لهب فقال : هذا ما سحركم به الرجل. فسكت صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يومئذ ولم يتكلّم. ثمّ دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام والشراب.

ثمّ أنذرهم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا بني عبد المطّلب إنّي أنا النذير إليكم من الله عزوجل والبشير ، فأسلموا وأطيعوني تهتدوا.

ثمّ قال : من يؤاخيني ويوازرني ، ويكون وليّي ووصيّي بعدي وخليفتي في أهلي ، ويقضي ديني؟ فسكت القوم. فأعادها ثلاثا ، كلّ ذلك يسكت القوم ، ويقول عليّ عليه‌السلام : أنا. فقال في المرّة الثالثة : أنت. فقام القوم وهم يقولون لأبي طالب : أطع ابنك فقد أمّر عليك. أورد ذلك كلّه الثعلبي في تفسيره.

وروي عن أبي رافع هذه القصّة ، وأنّه جمعهم في الشعب ، فصنع لهم رجل شاة ، فأكلوا حتّى تضلّعوا (٥) ، وسقاهم عسّا فشربوا كلّهم حتى رووا.

ثمّ قال : إنّ الله تعالى أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين ، وأنتم عشيرتي

__________________

(١) المسنّة : البقرة إذا دخلت في السنة الثالثة.

(٢) العسّ : القدح أو الإناء الكبير.

(٣) أي : خلطها بالإدام.

(٤) أي : رجعوا عنه. والقعب : القدح الضخم الغليظ.

(٥) تضلّع : امتلأ شبعا أو ريّا.

٦٠