زبدة التّفاسير - ج ٥

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٥

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-07-8
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٥٩٦

وعلى هذه الروايات كان ذلك صفة القوم الّذين همّوا بقتل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وإضافة ذلك إلى الله سبحانه كان على الحقيقة. والمعنى : جعلنا أيديهم إلى أعناقهم ، فلا يستطيعون أن يبسطوا إليه يدا. وجعلنا من بين أيدي أولئك الكفّار منعا ، ومن خلفهم منعا ، حتّى لم يبصروا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

وقيل : المراد به وصف حالهم يوم القيامة. فهو مثل قوله : (إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ) (١). وإنّما ذكر بلفظ الماضي لتحقّق وقوعه.

(وَسَواءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ) سبق تفسيره في البقرة (٢).

ولمّا أخبر سبحانه عن أولئك الكفّار أنّهم لا يؤمنون ، وأنّه سواء عليهم الإنذار وترك الإنذار ، عقّبه بذكر حال من ينتفع بالإنذار ، فقال :

(إِنَّما تُنْذِرُ) إنذارا يترتّب عليه البغية المرومة ، لا الإنذار المطلق ، لأنّه قد حصل للجميع (مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ) أي : القرآن ، بالتأمّل فيه والعمل به (وَخَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ) وخاف عقابه قبل حلول ما غاب عنه ومعاينة أهواله. أو في سريرته. ولا يغترّ برحمته ، فإنّه كما هو رحمان منتقم قهّار. (فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ) من الله لذنوبه (وَأَجْرٍ كَرِيمٍ) وثواب خالص من شوائب النقص.

(إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى) الأموات بالبعث. وقيل : الجهّال بالهداية. (وَنَكْتُبُ ما قَدَّمُوا) ما أسلفوا من الأعمال الصالحة والطالحة (وَآثارَهُمْ) الحسنة ، كعلم علّموه ، أو كتاب صنّفوه ، أو حبيس وقفوه ، كبناء مسجد أو رباط أو قنطرة ، أو نحو ذلك. أو سنّة حسنة بعدهم يقتدى فيها بهم. أو آثارهم السيّئة ، كوظيفة وظّفها بعض الظلّام على المسلمين ، أو شيء صادّ عن ذكر الله ، وإشاعة باطل ، وتأسيس ظلم.

وقيل : معناه : ونكتب خطاهم إلى المساجد ، لما رواه أبو سعيد الخدري : أنّ

__________________

(١) غافر : ٧١.

(٢) راجع ج ١ ص ٥٥ ، ذيل الآية (٦) من سورة البقرة.

٥٠١

بني سلمة كانوا في ناحية من المدينة ، فشكوا إلى رسول الله بعد منازلهم من المسجد والصلاة معه ، فنزلت.

وروى البخاري ومسلم في صحيحيهما (١) عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّ أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم».

(وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْناهُ) وعدّدنا كلّ شيء من الحوادث (فِي إِمامٍ مُبِينٍ) يعني : اللوح المحفوظ. والوجه في إحصاء ذلك فيه اعتبار الملائكة به ، إذ قابلوا به ما يحدث من الأمور. ويكون فيه دلالة على معلومات الله سبحانه على التفصيل.

وقيل : أراد به صحائف الأعمال. وسمّي مبينا ، لأنّه لا يدرس أثره.

(وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (١٣) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (١٤) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (١٥) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (١٦) وَما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (١٧) قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (١٨) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (١٩))

ثمّ هدّد المعاندين من قريش بذكر عاقبة أهل أنطاكية واستئصالهم ، لأجل عنادهم ومكابرتهم ولجاجهم ، مع وضوح طريق الحقّ وصدق رسلهم

__________________

(١) صحيح مسلم ١ : ٤٦٠ ح ٢٧٧ ، صحيح البخاري ١ : ١٦٦.

٥٠٢

عندهم ، فقال :

(وَاضْرِبْ لَهُمْ) ومثّل لهم. من قولهم : هذه الأشياء على ضرب واحد ، أي : مثال واحد. وعندي من هذا الضرب كذا ، أي : هذا المثال. وهو يتعدّى إلى مفعولين ، لتضمّنه معنى الجعل. وهما : (مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ) على حذف المضاف ، أي : اجعل لهم مثلا مثل أصحاب القرية ، أي : قصّة عجيبة قصّة أصحاب القرية. ويجوز أن يقتصر على واحد ، ويجعل المقدّر بدلا من الملفوظ ، أو بيانا له. والقرية : أنطاكية.

(إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ) بدل من «أصحاب القرية». والمرسلون رسل عيسى عليه‌السلام إلى أهلها. وإسناده إلى نفسه في قوله : (إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ) لأنّه فعل رسوله وخليفته. وهما يحيى ويونس. وقيل : غيرهما.

(فَكَذَّبُوهُما) ضربوهما ، وسجنوهما (فَعَزَّزْنا) فقوّينا. يقال : المطر يعزّز الأرض ، إذا لبّدها (١) وشدّها. وتعزّز لحم الناقة ، إذا اشتدّ وتصلّب. وقرأ أبو بكر مخفّفا ، من : عزه إذا غلبه. وحذف المفعول لدلالة ما قبله عليه. ولأنّ المقصود ذكر المعزّز به ، وهو قوله : (بِثالِثٍ) برسول ثالث. وهو شمعون. وعن شعبة : اسم المرسلين : شمعون ، ويوحنّا ، واسم الثالث بولس. وعن ابن عبّاس وكعب : صادق ، وصدوق ، والثالث سلوم. والأوّل قول الأكثر.

(فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ) من عند عيسى ، لندعوكم إلى التوحيد ، وننهاكم عن عبادة الأوثان.

(قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا) لا مزيّة لكم علينا تقتضي اختصاصكم بما تدّعون ، فلا تصلحون للرسالة ، كما لا نصلح نحن لها. وإنّما رفع «بشر» هنا ونصب

__________________

(١) لبّد المطر الأرض : رشّها.

٥٠٣

في قوله : (ما هذا بَشَراً) (١) لأنّ «إلّا» ينقض النفي ، فلا يبقى لـ «ما» المشبّهة بـ «ليس» شبه ، فلا يبقى له عمل.

(وَما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْءٍ) من وحي ورسالة (إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ) في دعوى إرساله إيّاكم ، فإنّهم اعتقدوا أنّ من كان مثلهم في البشريّة لا يصلح أن يكون رسولا ، وذهب عليهم أنّ الله سبحانه يختار من يشاء لرسالته ، وأنّه علم من حال هؤلاء صلاحهم للرسالة وتحمّل أعبائها.

(قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ) استشهدوا بعلم الله. وهو يجري مجرى القسم. وزادوا اللام المؤكّدة هاهنا ، لأنّه جواب عن إنكارهم ، بخلاف الأوّل ، فإنّه ابتداء إخبار ، فلا يناسبه اللام المؤكّدة.

(وَما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ) الظاهر البيّن بالآيات الشاهدة لصحّته. وهو المحسن للاستشهاد ، فإنّه لو قال المدّعي : والله إنّي لصادق فيما أدّعي ، ولم يبيّنه بدليل واضح ، لكان قبيحا ، فلا يحسن الدعوى إلّا ببيّنة.

(قالُوا) في جواب الرسل حين عجزوا عن إيراد شبهة ، وعدلوا عن النظر في المعجزة (إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ) تشاء منا بكم. وذلك لاستغرابهم ما ادّعوه ، واستقباحهم له ، وتنفّرهم عنه ، فإنّ من عادة الجهّال أن يتيمّنوا بكلّ شيء مالوا إليه واشتهوه وآثروه وقبلته طباعهم ، ويتشاءموا بما نفروا عنه وكرهوه. فإن أصابهم نعمة أو بلاء ، قالوا : ببركة هذا وبشؤم هذا. كما حكاه الله تعالى عن القبط : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَمَنْ مَعَهُ) (٢). وعن مشركي مكّة : (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) (٣). وقيل : حبس عنهم القطر فقالوا ذلك.

__________________

(١) يوسف : ٣١.

(٢) الأعراف : ١٣١.

(٣) النساء : ٧٨.

٥٠٤

(لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا) عمّا تدّعونه من الرسالة (لَنَرْجُمَنَّكُمْ) بالحجارة. وقيل : لنشتمنّكم. (وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ).

(قالُوا) يعني : الرسل (طائِرُكُمْ مَعَكُمْ) سبب شؤمكم معكم. وهو سوء عقيدتكم وأعمالكم. فأمّا الدعاء إلى التوحيد ، وعبادة الله تعالى وحده ، ففيه غاية البركة والخير واليمن ، وليس فيه شائبة الشؤم أصلا. (أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ) وعظتم.

وجواب الشرط محذوف ، مثل : تطيّرتم ، أو توعّدتم بالرجم والتعذيب. وقرأ ورش وأبو عمرو : آئن بالمدّ والتسهيل. وقالون وابن كثير : أئن بالتسهيل بلا مدّ. (بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ) قوم عادتكم الإسراف في العصيان ، فمن ثمّ جاءكم الشؤم. أو في الضلال ، ولذلك توعّدتم وتشاءمتم بمن يجب أن يكرّم ويتبرّك به.

وتفصيل هذه القصّة : أنّ أهل أنطاكية كانوا عبدة أصنام ، فأرسل إليهم عيسى اثنين ، فلمّا قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له ، وهو حبيب النجّار صاحب يس ، فسلّما عليه.

فقال الشيخ لهما : من أنتما؟

قالا : رسولا عيسى ، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمان.

فقال : أمعكما آية؟

قالا : نعم ، نشفي المريض ، ونبرئ الأكمه والأبرص بإذن الله.

فقال الشيخ : إنّ لي ابنا مريضا صاحب فراش منذ سنين.

قالا : فانطلق بنا إلى منزلك نتطلّع حاله.

فذهب بهما ، فمسحا ابنه ، فقام في الوقت بإذن الله صحيحا. فآمن حبيب ، وفشى الخبر ، فشفى الله على أيديهما خلقا. وبلغ

حديثهما إلى الملك ، فدعاهما وقال : من أنتما؟

قالا : رسولا عيسى ، جئنا ندعوك من عبادة ما لا يسمع ولا يبصر إلى عبادة

٥٠٥

من يسمع ويبصر.

فقال الملك : ولكما إله سوى آلهتنا؟

قالا : نعم ، من أوجدك وآلهتك.

فقال : قوما حتّى أنظر في أمركما. فحبسهما.

وعن وهب بن منبّه : بعث عيسى هذين الرسولين إلى أنطاكية ، فأتياها ولم يصلا إلى ملكها ، وطالت مدّة مقامهما. فخرج الملك ذات يوم ، فكبّرا وذكرا الله.

فغضب الملك وأمر بحبسهما ، وجلد كلّ واحد منهما مائة جلدة.

فلمّا كذّب الرسولان وضربا ، بعث عيسى شمعون الصفا ـ رأس الحواريّين ـ على أثرهما لينصرهما. فدخل شمعون البلدة متنكّرا ، فجعل يعاشر حاشية الملك ، حتّى أنسوا به ، فرفعوا خبره إلى الملك ، فدعاه ورضي عشرته ، وأنس به وأكرمه.

ثمّ قال له ذات يوم : أيّها الملك بلغني أنّك حبست رجلين في السجن ، وضربتهما حين دعواك إلى غير دينك ، فهل سمعت قولهما؟

قال الملك : حال الغضب بيني وبين ذلك.

قال : فإن راى الملك دعاهما حتّى نتطّلع ما عندهما.

فدعاهما الملك. فقال لهما شمعون : من أرسلكما إلى هاهنا؟

قالا : الله الّذي خلق كلّ شيء ، وليس له شريك.

فقال : صفا وأوجزا.

قالا : يفعل ما يشاء ، ويحكم ما يريد.

قال : وما آيتكما؟

قالا : ما يتمنّى الملك.

فدعا بغلام مطموس (١) العين ، وموضع عينيه كالجبهة. فدعوا الله حتّى انشقّ

__________________

(١) المطموس : الذاهب البصر.

٥٠٦

له موضع البصر ، فأخذا بندقتين من الطين ، فوضعاهما في حدقتيه ، فصارتا مقلتين (١) ينظر بهما. فتعجّب الملك. فقال له شمعون : أرايت لو سألت إلهك حتّى يصنع مثل هذا ، فيكون لك ولإلهك شرفا؟

فقال : ليس لي عنك سرّ ، إنّ آلهتنا لا تسمع ، ولا تبصر ، ولا تضرّ ، ولا تنفع.

وكان شمعون يدخل معهم على آلهتهم ، فيصلّي ويتضرّع ، ويحسبون أنّه منهم.

ثمّ قال : إن قدر إلهكما على إحياء ميّت آمنّا به وبكما.

فقال الملك : إنّ هنا ميّتا مات منذ سبعة أيّام ، لم ندفنه حتّى يرجع أبوه ، وكان غائبا. فجاءوا بالميّت ، وقد تغيّر وأروح (٢). فجعلا يدعوان ربّهما علانية ، وجعل شمعون يدعو ربّه سرّا. فقام الميّت وقال لهم : إنّي قد متّ منذ سبعة أيّام ، وأدخلت في سبعة أو دية من النار ، أنا أحذّركم ما أنتم عليه ، فآمنوا.

وقال : فتحت أبواب السماء ، فرأيت شابّا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة.

قال : ومن هم؟

قال : شمعون وهذان. فتعجّب الملك. فلمّا رأى شمعون أنّ قوله قد أثّر فيه نصحه في جمع ، فآمن هو ومن أهل مملكته قوم ، ومن لم يؤمن صاح عليهم جبرئيل فهلكوا.

وقد روى مثل ذلك العيّاشي بإسناده عن الثمالي وغيره ، عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهم‌السلام.

وفي بعض الروايات : أنّ الميّت الّذي أحياه الله بدعائهما كان ابن الملك ، وأنّه قد خرج من قبره ينفض التراب عن رأسه. فقال : يا بنيّ ما حالك؟

قال : كنت ميّتا ، فرأيت رجلين ساجدين يسألان الله أن يحييني.

__________________

(١) المقلة : شحمة العين ، أو هي السواد والبياض منها.

(٢) أروح الماء : أنتن وفسد ووجد ريحه.

٥٠٧

قال : يا بنيّ فتعرفهما إذا رأيتهما؟

قال : نعم.

فأخرج الناس إلى الصحراء ، فكان يمرّ عليه رجل بعد رجل. فمرّ أحدهما بعد جمع كثير ، فقال : هذا أحدهما ، ثمّ مرّ الآخر ، فعرفهما ، وأشار بيده إليهما. فآمن الملك وأهل مملكته.

(وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (٢٠) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُهْتَدُونَ (٢١) وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٢٢) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ (٢٣) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٢٤) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (٢٥) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (٢٦) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (٢٧) وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠))

وقال ابن إسحاق : بل كفر الملك ، وأجمع هو وقومه على قتل الرسل ، فبلغ

٥٠٨

ذلك حبيبا ، وهو على باب المدينة الأقصى ، فجاء يسعى إليهم ، يذكّرهم ويدعوهم إلى طاعة الرسول ، كما حكاه الله تعالى بقوله : (وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى) يعني : حبيب النجّار. كان ينحت أصنامهم. وهو ممّن آمن بمحمّد ، وبينهما ستّمائة سنة.

وقيل : كان في غار يعبد الله ، فلمّا بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه وقاول الكفرة.

(قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً) على النصح وتبليغ الرسالة (وَهُمْ مُهْتَدُونَ) وهذا كلمة جامعة في الترغيب فيهم ، أي : لا تخسرون معهم شيئا من دنياكم ، وتربحون صحّة دينكم ، فينتظم لكم خير الدارين.

ثمّ أبرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه ، وهو يريد مناصحتهم ، ليتلطّف بهم في الإرشاد ، ويداريهم ، ولأنّه أدخل في إمحاض النصح ، حيث لا يريد لهم إلّا ما يريد لنفسه ، فقال :

(وَما لِيَ) بفتح الياء ، على قراءة غير حمزة ، فإنّه يسكن الياء في وصله بقوله : (لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي) مراده منه تقريعهم على إشراكهم في عبادة خالقهم عبادة غيره. ولذلك قال : (وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) مبالغة في التهديد. ولو لا أنّه قصد ذلك لقال : الّذي فطرني وإليه أرجع.

ثمّ عاد إلى المساق الأوّل فقال : (أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً) لا تنفعني شفاعتهم. والمعنى : لا شفاعة لهم فتغني.

(وَلا يُنْقِذُونِ) من ذلك الضرر بالنصر والمظاهرة بوجه من الوجوه.

(إِنِّي إِذاً) أي : حين أوثر ما لا ينفع ولا يدفع ضرّا بوجه ما ، على الخالق المقتدر على النفع والضرّ وإشراكه به (لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ) لا يخفى على عاقل. وقرأ نافع وأبو عمرو بفتح الياء. وكذلك في قوله : (إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ) الّذي خلقكم

٥٠٩

(فَاسْمَعُونِ) فاسمعوا قولي وأطيعوني.

وعن ابن مسعود : الخطاب للرسل ، فإنّه لمّا نصح قومه أخذوا يرجمونه ، فأسرع نحو الرسل قبل أن يقتل ، فقال : إنّي آمنت بربّكم أيّها الرسل ، فاسمعوا إيماني تشهدوا لي به.

(قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ) قيل له ذلك لمّا قتلوه بشرى له بأنّه من أهل الجنّة ، أو إكراما وإذنا في دخولها كسائر الشهداء.

وعن الحسن : لمّا همّوا بقتله رفعه الله إلى الجنّة ، وهو فيها حيّ يرزق. فأراد به قوله : (بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ) (١). وإنّما لم يقل : له ، لأنّ الغرض بيان المقول وعظمه ، دون المقول له ، فإنّه معلوم.

والكلام استئناف في حيّز الجواب عن السؤال عن حاله عند لقاء ربّه. كأنّ قائلا قال : كيف كانت حاله بعد تصلّبه في نصر دينه؟ فقيل : قيل ادخل الجنّة.

ولذلك (قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) فإنّه مرتّب على تقدير سؤال سائل سأل بحاله ، ليحملهم على اكتساب مثلها بالتوبة عن الكفر ، والدخول في الإيمان والطاعة المفضيين بأهلهما إلى الجنّة ، على دأب الأولياء في كظم الغيظ ، والترحّم على الأعداء. أو ليعلموا أنّهم كانوا على خطأ عظيم في أمره ، وأنّه كان على الحقّ.

و «ما» موصولة أو مصدريّة. والباء صلة «يعلمون». ويحتمل أن تكون استفهاميّة جاءت على الأصل ، والباء صلة «غفر لي». يريد به المهاجرة عن دينهم ، والمصابرة على أذيّتهم حتّى قتل. والمعنى : بأيّ شيء غفر لي ربّي؟ إلّا أنّ حذف الألف من لفظة «ما» حينئذ أجود من إثباته.

وفي تفسير الثعلبي بالإسناد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

__________________

(١) آل عمران : ١٦٩ ـ ١٧٠.

٥١٠

«سبّاق الأمّة ثلاثة ، لم يكفروا طرفة عين : عليّ بن أبي طالب ، وصاحب يس ، ومؤمن آل فرعون. فهم الصدّيقون ، وعليّ عليه‌السلام أفضلهم».

ثمّ حكى سبحانه ما أنزله بقومه من العذاب والاستئصال ، فقال استحقارا لإهلاكهم ، وإيماء بتعظيم رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ) أي : من بعد قتله ، أو رفعه (مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ) من جنود السماء لإهلاكهم (وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) وما صحّ في حكمتنا أن ننزّل جندا لإهلاك قومه ، كما أرسلنا وأنزلنا منها جنودا لم تروها يوم بدر والخندق ، حيث قال : (بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ) (١) (بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ) (٢) (بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ) (٣). وما كان ذلك إلّا تعظيما لرسوله وفضله وأمّته على سائر الأنبياء وأممهم. فكأنّه أشار بقوله : «وَما أَنْزَلْنا» «وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ» إلى أنّ إنزال الجنود من عظائم الأمور الّتي لا يؤهّل لها إلّا مثلك ، وما كنّا نفعله بغيرك.

وقيل : «ما» موصولة معطوفة على «جند» أي : وممّا كنّا منزلين على من قبلهم ، من حجارة وريح وأمطار شديدة.

ثمّ بيّن سبحانه بأيّ شيء كان هلاكهم ، فقال : (إِنْ كانَتْ) ما كانت الأخذة أو العقوبة (إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً) صاح بها جبرئيل. وقرأ أبو جعفر بالرفع على «كان» التامّة ، أي : وما وقعت إلّا صيحة. والقياس والاستعمال على تذكير الفعل ، لأنّ المعنى : ما وقع شيء إلّا صيحة ، ولكنّه نظر إلى ظاهر اللفظ ، وأنّ الصيحة في حكم فاعل الفعل. (فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) ميّتون. شبّهوا بالنار ، رمزا إلى أنّ الحيّ كالنار الساطعة والميّت كرمادها ، كما قال لبيد :

__________________

(١) الأنفال : ٩.

(٢) آل عمران : ١٢٤ ـ ١٢٥.

(٣) آل عمران : ١٢٤ ـ ١٢٥.

٥١١

وما المرء إلّا كالشهاب وضوئه

يحور (١) رمادا بعد إذ هو ساطع

روي : أنّهم لمّا قتلوا حبيب النجّار غضب الله عليهم ، فبعث جبرئيل حتّى أخذ بعضادتي باب المدينة ، ثمّ صاح بهم صيحة فماتوا عن آخرهم ، لا يسمع لهم حسّ ، كالنار إذا طفئت.

واعلم أنّ الله سبحانه أجرى هلاك كلّ قوم على بعض الوجوه ، بناء على ما اقتضته الحكمة ، وأوجبته المصلحة. ألا ترى إلى قوله : (فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا) (٢).

ثمّ نادى الحسرة عليهم بقوله : (يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) كأنّه قيل للحسرة : تعالي فهذه الحالة من الأحوال الّتي من حقّها أن تحضري فيها. وهي ما دلّ عليها قوله : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) فإنّ المستهزئين بالناصحين المخلصين ـ المنوط بنصحهم خير الدارين ـ أحقّاء بأن يتحسّر عليهم المتحسّرون ، ويتلهّف على حالهم المتلهّفون. أو هم متحسّر عليهم من جهة الملائكة. ويجوز أن يكون تحسّرا من الله عليهم على سبيل الاستعارة ، لتعظيم ما جنوه على أنفسهم.

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢) وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ

__________________

(١) أي : ينقص فيرجع رمادا.

(٢) العنكبوت : ٤٠.

٥١٢

أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦))

ثمّ خوّف سبحانه كفّار مكّة بقوله : (أَلَمْ يَرَوْا) ألم يعلموا. وهو معلّق عن العمل في قوله : (كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ) لأنّ «كم» لا يعمل فيها ما قبلها ، وإن كانت خبريّة ، لأنّ أصلها الاستفهام. ويسمّى كلّ عصر قرنا ، لاقترانهم في الوجود.

(أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ) بدل من «كم» على المعنى ، أي : ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم في الدنيا ، فيعتبروا بهم أنّهم سيصيرون إلى مثل حالهم ، فينظروا لأنفسهم ، ويحذروا أن يأتيهم الهلاك ، وهم في غفلة وغرّة كما أتاهم.

(وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) يوم القيامة للجزاء. و «إن» مخفّفة من الثقيلة. واللام هي اللام الفارقة. و «ما» مزيدة للتأكيد. وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم «لمّا» بالتشديد ، بمعنى : إلّا فتكون «إن» نافية. والتنوين في «كلّ» هو الّذي يقع عوضا عن المضاف إليه ، كقولك : مررت بكلّ قائما. و «جميع» فعيل بمعنى مفعول. و «لدينا» ظرف له ، أو لـ «محضرون». والمعنى : إن كلّهم ـ من الماضين والباقين ـ مجموعون محشورون للحساب والجزاء على وفق أعمالهم.

ثمّ نبّه على بعثهم بقوله : (وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) أي : دلالة واضحة ، وحجّة قاطعة لهم على قدرتنا على بعث الأرض القحطة المجدبة الّتي لا تنبت. وقرأ نافع بالتشديد. (أَحْيَيْناها) خبر للأرض. والجملة خبر «آية» أو صفة لها ، إذ لم يرد بها معيّنة ، فعوملت معاملة النكرات. ونحوه : ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني.

و «الأرض» خبر أو مبتدأ ، والآية خبرها ، أو استئناف لبيان (الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ).

(وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا) جنس الحبّ ، من الشعير والحنطة والأرز وغيرها

٥١٣

(فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) قدّم الصلة ، للدلالة على أنّ الحبّ معظم ما يؤكل ويعاش به ، ومنه صلاح الإنس ، وإذا قلّ جاء القحط ووقع الضرّ ، وإذا فقد جاء الهلاك.

(وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ) بساتين (مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ) من أنواع النخل والعنب ، ولذلك جمعهما دون الحبّ ، فإنّ الدالّ على الجنس مشعر بالاختلاف ، ولا كذلك الدالّ على الأنواع. وذكر النخيل دون التمور ليطابق الحبّ. وجمع الأعناب لاختصاص شجرها بمزيد النفع وآثار الصنع.

(وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ) أي : شيئا من العيون. فحذف الموصوف وأقيمت الصفة مقامه. أو العيون ، و «من» مزيدة عند الأخفش.

(لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ) ثمر ما ذكر. وهو الجنّات. وقيل : الضمير لله على طريقة الالتفات. والإضافة إليه ، لأنّ الثمر بخلقه وفعله. فالمعنى : ليأكلوا ممّا خلقه الله من الثمر. وقرأ حمزة والكسائي بضمّتين (١). وهو لغة فيه ، أو جمع ثمر.

(وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) عطف على الثمر. والمراد : ما يتّخذ منه ، كالعصير والدبس ، وغير ذلك من الأعمال. يعني : أن الثمر في نفسه فعل الله وخلقه ، وفيه آثار من كدّ بني آدم. وقيل : «ما» نافية. والمعنى : أنّ الثمر بخلق الله لا بفعلهم. ويؤيّد الأوّل قراءة الكوفيّين غير حفص بلا هاء ، فإنّ حذفه من الصلة أحسن من غيرها. (أَفَلا يَشْكُرُونَ) أمر بالشكر من حيث إنّه إنكار لتركه.

ثمّ نزّه سبحانه نفسه وعظّمها ، دالّا بذلك على أنّه هو الّذي يستحقّ منتهى الحمد وغاية الشكر ، فقال :

(سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها) أي : تنزيها وتعظيما وبراءة عن السوء ، للّذي خلق جميع الأنواع والأصناف (مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ) من سائر النبات والشجر (وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ) الذكر والأنثى (وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) وأزواجا ممّا لم يطلعهم الله

__________________

(١) أي : ثمره.

٥١٤

عليه ، ولم يجعل لهم طريقا إلى معرفته. ولا يبعد أن يخلق الله تعالى من الخلائق الحيوان والجماد ما لم يجعل للبشر طريقا إلى العلم به ، لأنّه لا حاجة بهم في دينهم ودنياهم إلى ذلك العلم ، ولو كانت بهم إليه حاجة لأعلمهم ، وفي الإعلام بكثرة ما خلق ـ ممّا علموه وممّا جهلوه ـ ما يدلّ على عظم قدرته واتّساع ملكه.

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠))

(وَآيَةٌ) ودلالة اخرى (لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ) نكشفه عن مكانه.

يعني : ننزع ونخرج منه ضوء الشمس ، فيبقى الهواء مظلما كما كان ، لأنّ الله سبحانه يضيء الهواء بضياء الشمس ، فإذا انسلخ منه الضياء ـ أي : كشط وأزيل ـ يبقى مظلما. مستعار من : سلخ جلد الشاة ، إذا كشطه عنها وأزاله. والكلام في إعرابه ما سبق.

(فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) داخلون في الظلام ، لا ضياء لهم فيه. فجعل سبحانه الليل كالجسم المظلم ، والنهار كالقشر. أو جعل النهار لأنّه عارض كالكسوة ، والليل لأنّه أصل كالجسم.

(وَالشَّمْسُ تَجْرِي) في فلكها إلى آخر السنة (لِمُسْتَقَرٍّ لَها) لحدّ معيّن ينتهي إليه دورها. فشبّه بمستقرّ المسافر إذا قطع مسيره. أو لمنتهى لها مقدّر لكلّ يوم من المشارق والمغارب ، فإنّ لها في دورها ثلاثمائة وستّين مشرقا ومغربا ،

٥١٥

تطلع كلّ يوم من مطلع وتغرب من مغرب ، حتّى تبلغ أقصاها ، ثمّ لا تعود إليهما إلى العام القابل ، فذلك حدّها ومستقرّها. أو لمنقطع جريها عند خراب العالم. أو لاستقرار لها على نهج مخصوص ، لا تعدوه ولا تختلف. أو لكبد السماء ، فإنّ حركتها فيه يوجد فيها إبطاء ، بحيث يظنّ أنّ لها هناك وقفة.

(ذلِكَ) الجري على هذا التقدير المتضمّن للحكم الّتي تكلّ الفطن عن إحصائها (تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ) الغالب بقدرته على كلّ مقدور (الْعَلِيمِ) المحيط علمه بكلّ معلوم.

(وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ) مرفوع بالابتداء ، أو بعطفه على الليل. وقرأ الكوفيّون وابن عامر بنصب الراء بفعل يفسّره «قدّرناه». وعلى التقديرين ، معناه : قدّرنا مسيره. (مَنازِلَ) أو قدّرنا سيره في منازل.

وهي ثمانية وعشرون : الشرطين ، البطين ، الثريّا ، الدبران ، الهقعة ، الهنعة ، الذراع ، النثرة ، الطرف ، الجبهة ، الزبرة ، الصرفة ، العواء ، السماك ، الغفر ، الزباني ، الإكليل ، القلب ، الشولة ، النعائم ، البلدة ، سعد الذابح ، سعد بالع ، سعد السعود ، سعد الأخبية ، فرغ الدلو المقدّم ، فرغ الدلو المؤخّر ، الرشاء ، وهو بطن الحوت. ينزل كلّ ليلة في واحد منها ، لا يتخطّاه ولا يتقاصر عنه ، بل يكون على تقدير مستو لا يتفاوت ، يسير فيها كلّ ليلة من المستهلّ إلى الثامنة والعشرين ، ثمّ يستتر ليلتين أو ليلة إذا نقص الشهر.

وهذه المنازل هي مواقع النجوم الّتي نسبت إليها العرب الأنواء المستمطرة.

وإذا كان القمر في آخر منازله دقّ واستقوس.

(حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ) كالشمراخ المعوّج. «فعلون» من الانعراج ، وهو الاعوجاج. (الْقَدِيمِ) العتيق. قيل : إنّ العرجون يصير معوّجا في كلّ ستّة أشهر.

روى عليّ بن إبراهيم بإسناده قال : «دخل أبو سعيد المكاري ـ وكان واقفيّا ـ على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام فقال له : أبلغ من قدرك أنّك تدّعي ما ادّعاه أبوك؟

٥١٦

فقال له أبو الحسن عليه‌السلام : مالك أطفأ الله نورك ، وأدخل الفقر بيتك ، أما علمت أنّ الله عزوجل أوحى إلى عمران : أنّي واهب لك ذكرا يبرئ الأكمه والأبرص. فوهب له مريم ، ووهب لمريم عيسى. فعيسى من مريم ، ومريم من عيسى ، وعيسى ومريم شيء واحد. وأنا من أبي ، وأبي منّي ، وأنا وأبي شيء واحد.

فقال له أبو سعيد : فأسألك عن مسألة؟

قال سل ، ولا تقبل منّي ، ولست من غنمي ، ولكن هلمّها.

قال : ما تقول في رجل قال عند موته : كلّ مملوك لي قديم ، فهو حرّ لوجه الله تعالى؟

فقال أبو الحسن عليه‌السلام : ما ملكه لستّة أشهر فهو قديم ، وهو حرّ.

قال : وكيف صار كذلك؟

قال : لأنّ الله تعالى يقول : (وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ). سمّاه قديما ، ويعود كذلك لستّة أشهر.

قال : فخرج أبو سعيد من عنده ، وذهب بصره ، وكان يسأل على الأبواب حتّى مات».

(لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها) لا يصحّ لها ولا يتسهّل ويستقيم (أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) في سرعة سيره ، لأنّ الشمس أبطأ سيرا من القمر ، فإنّها تقطع منازلها في سنة ، والقمر يقطعها في شهر. والله سبحانه يجريهما إجراء التدوير ، وباين بين فلكيهما ومجاريهما ، فلا يمكن أن يدرك أحدهما الآخر ما داما على هذه الصفة. وإن كان سيرهما مساويا في السرعة والبطء ، يخلّ بتكوّن النبات وتعيّش الحيوان. أو في آثاره ومنافعه. أو مكانه ، بالنزول إلى محلّه ، فإنّ القمر في السماء الدنيا ، والشمس في الرابعة. أو سلطانه ، فتطمس نوره. وإيلاء حرف النفي «الشمس» للدلالة على أنّها مسخّرة ، لا يتيسّر لها إلّا ما أريد بها.

(وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) يسبقه فيفوته ، ولكن يعاقبه. وقيل : المراد بهما

٥١٧

آيتاهما ، وهما النّيران ، وبالسبق سبق القمر إلى سلطان الشمس. فيكون عكسا للأوّل. وتبديل الإدراك بالسبق لأنّه الملائم لسرعة سيره.

(وَكُلٌ) التنوين فيه عوض عن المضاف إليه. والمعنى : وكلّهم. والضمير للشموس والأقمار. (فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) يسيرون فيه بانبساط. وكلّ ما انبسط في شيء فقد سبح فيه. ومنه السباحة في الماء. ولا يزال الأمر على هذا الترتيب إلى أن يبطل الله ما دبّر في ذلك ، وينقض ما ألّف ، فيجمع بين الشمس والقمر ، ويطلع الشمس من مغربها.

وإنّما قال : «يسبحون» بالواو والنون ، لأنّه وصفها بصفة من يعقل.

وقال ابن عبّاس : يسبحون ، أي : يجري كلّ واحد منها في فلكه ، كما يدور المغزل في الفلكة.

(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤) وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧))

٥١٨

ثمّ امتنّ سبحانه على خلقه بذكر فنون نعمه الأخر ، دالّا بذلك على وحدانيّته ، وكمال قدرته وعلمه ، فقال :

(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ) أولادهم الّذين يبعثونهم إلى تجاراتهم ، أو صبيانهم ونساءهم الّذين يستصحبونهم ، فإنّ الذرّيّة تقع عليهنّ ، لأنّهنّ مزارعها.

وفي الحديث : أنّه نهى عن قتل الذراري ، يعني : النساء. وتخصيصهم بالحمل في الفلك لضعفهم ، ولأنّه لا قوّة لهم على السفر كقوّة الرجال. فتمكّنهم في السفن أشقّ ، وتماسكهم فيها أعجب. وقرأ نافع وابن عامر : ذرّيّاتهم.

(فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) المملوء. وقيل : المراد فلك نوح. وحمل الله ذرّيّاتهم فيها ، أنّه حمل فيها آباءهم الأقدمين ، وفي أصلابهم ذرّيّاتهم. وتخصيص الذرّيّة ، لأنّه أبلغ في الامتنان ، وأدخل في التعجّب من قدرته ، في حمل أعقابهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح.

وعن الضحّاك وقتادة وجماعة من المفسّرين : أنّ المراد من ذرّيّتهم آباؤهم وأجدادهم الّذين هؤلاء من نسلهم ، في سفينة نوح المملوءة من النّاس ، وما يحتاج إليه من فيها ، فسلموا من الغرق ، فانتشر منهم بشر كثير. وسمّي الآباء ذرّيّة من : ذرأ الخلق ، لأنّ الأولاد خلقوا منهم. ويسمّى الأولاد ذرّيّة ، لأنّهم خلقوا من الآباء.

(وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ) من مثل الفلك (ما يَرْكَبُونَ) من الإبل ، فإنّها سفائن البرّ. أو من مثل سفينة نوح من السفن والزوارق.

(وَإِنْ نَشَأْ) إذا حملناهم في السفن (نُغْرِقْهُمْ) بتهييج الرياح والأمواج (فَلا صَرِيخَ لَهُمْ) فلا مغيث لهم يحرسهم عن الغرق (وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) ينجون من الموت به (إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً) إلّا لرحمة ولتمتيع بالحياة (إِلى حِينٍ) زمان قدّر لآجالهم.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ) من الوقائع الّتي خلت في الأمم المكذّبة

٥١٩

بأنبيائهم (وَما خَلْفَكُمْ) من العذاب المعدّ في الآخرة. أو من نوازل السماء ونوائب الأرض ، كقوله : (أَفَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) (١). أو من عذاب الدنيا ومن عذاب الآخرة ، أو عكسه. أو ما تقدّم من الذنوب وما تأخّر.

وروى الحلبي عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «معناه : اتّقوا ما بين أيديكم من الذنوب وما خلفكم من العقوبة» (لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) لتكونوا راجين رحمة الله.

وجواب «إذا» محذوف دلّ عليه قوله : (وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) كأنّه قال : وإذا قيل لهم اتّقوا العذاب أعرضوا. ثمّ قال : ودأبهم الإعراض عند كلّ آية وموعظة ، واعتادوه وتمرّنوا عليه.

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا) في طاعته (مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ) على محاويجكم ، أي : أخرجوا ما أوجب عليكم في أموالكم (قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا) بالصانع. يعني : المعطّلة من أهل مكّة الّذين كانوا منكرين أن يكون الغنا والعفو من الله. (لِلَّذِينَ آمَنُوا) تهكّما بهم من إقرارهم به ، وتعليقهم الأمور بمشيئته (أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) على زعمكم ، أي : احتجّوا في منع الحقوق ، بأن قالوا : كيف نطعم من يقدر الله على إطعامه ، ولو شاء أطعمه ، فإذا لم يطعم دلّ على أنّه لم يشأ إطعامه. وذهب عنهم أنّ الله سبحانه إنّما تعبّدهم بذلك لما لهم فيه من المصلحة ، فأمر الغنيّ بالإنفاق على الفقير ليكسب به الأجر والثواب.

قيل : قاله مشركو قريش ، حين استطعمهم فقراء المؤمنين ، إيهاما بأنّ الله لمّا كان قادرا أن يطعمهم ولم يطعمهم ، فنحن أحقّ بذلك. وهذا من فرط جهالتهم ، فإنّ الله يطعم بأسباب ، منها حثّ الأغنياء على إطعام الفقراء.

(إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) حيث أمرتمونا ما يخالف مشيئة الله. ويجوز أن يكون جوابا من الله لهم ، أو حكاية لجواب المؤمنين لهم.

__________________

(١) سبأ : ٩.

٥٢٠