زبدة التّفاسير - ج ٥

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٥

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-07-8
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٥٩٦

بمقتضى مشيئته ، ومؤدّى حكمته ، لا أمر تستدعيه ذواتهم ، لأنّ اختلاف الأصناف والأنواع بالخواصّ والفصول ، إن كان لذواتهم المشتركة ، لزم تنافي لوازم الأمور المتّفقة ، وهو محال.

والآية متناولة زيادات الصور والمعاني ، كملاحة الوجه ، وحسن الصوت ، وحصافة (١) العقل ، وسماحة النفس ، وقوّة البطش ، وجزالة الرأي ، وجرأة القلب ، وذلاقة (٢) اللسان ، وما أشبه ذلك ممّا لا يحيط به الوصف.

وروي عنه عليه‌السلام في قوله : (يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ) : «الوجه الحسن ، والصوت الحسن ، والشعر الحسن».

وقيل : الخطّ الحسن. وعن قتادة : هو الملاحة في العينين. والأولى التعميم.

(إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) وتخصيص بعض الأشياء بالتحصيل دون بعض ، إنّما هو من جهة الإرادة.

(ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ) ما يطلق لهم ويرسل. وهو تجوّز من باب إطلاق السبب على المسبّب. (مِنْ رَحْمَةٍ) رزق ، وأمن ، وصحّة ، وعلم ، ونبوّة ، وغير ذلك من صنوف نعمائه الّتي لا يحاط بعددها. وتنكير الرحمة للإشاعة والإبهام ، كأنّه قال : من أيّة رحمة كانت ، سماويّة أو أرضيّة. (فَلا مُمْسِكَ لَها) فلا أحد يقدر على إمساكها وحبسها.

(وَما يُمْسِكْ) وأيّ شيء يمسك الله (فَلا مُرْسِلَ لَهُ) فلا أحد يقدر على إطلاقه. ويدلّ على أنّ الفتح مستعار للإطلاق والإرسال أنّه قال : فلا مرسل له من بعده ، مكان : لا فاتح له. واختلاف الضميرين ، لأنّ الموصول الأوّل مفسّر بالرحمة ، فحسن اتّباع الضمير التفسير ، والثاني مطلق يتناولها والغضب ، فترك على أصل

__________________

(١) حصف حصافة : كان جيّد الرأي محكم العقل.

(٢) لسان ذلق : طلق ذو حدّة.

٤٦١

التذكير. وإنّما فسّر الأوّل دون الثاني ، للدلالة على أنّ رحمته سبقت غضبه. (مِنْ بَعْدِهِ) من بعد إرساله.

(وَهُوَ الْعَزِيزُ) الغالب على ما يشاء من الإرسال والإمساك ، وليس لأحد أن ينازعه فيه (الْحَكِيمُ) لا يفعل الإمساك والإرسال إلّا بما تقتضي الحكمة.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (٣))

ولمّا بيّن أنّه الموجد للملك والملكوت ، والمتصرّف فيهما على الإطلاق ، أمر الناس بشكر إنعامه ، فقال :

(يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ) الظاهرة والباطنة ، الّتي من جملتها أنّه خلقكم وأحياكم وأقدركم ، وخلق لكم أنواع الملاذّ والمنافع. وليس المراد بذكر النعمة ذكرها باللسان فقط ، ولكن به وبالاعتراف بها ، وطاعة موليها. ومنه قول الرجل لمن أنعم عليه : اذكر أيادّي عندك. يريد حفظها وشكرها ، والعمل على موجبها. فالمعنى : احفظوها بمعرفة حقّها ، والاعتراف بها ، وطاعة معطيها.

والخطاب عامّ للجميع ، لأنّ جميعهم مغمورون في نعمة الله.

وعن ابن عبّاس يريد : يا أهل مكّة اذكروا نعمة الله عليكم ، حيث أسكنكم حرمه ، ومتّعكم من جميع العالم ، والناس يتخطّفون من حولكم. وعنه : نعمة الله : العافية.

ثمّ أنكر أن يكون لغيره في ذلك مدخل ، فيستحقّ أن يشرك به ، فقال :

(هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ) بالمطر (وَالْأَرْضِ) بالنبات ولذلك عقّبه بقوله : (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) فمن أيّ وجه تصرفون عن التوحيد إلى الكفر وإشراك غيره به؟ يعني به قريش.

٤٦٢

ورفع «غير» للحمل على محلّ «من خالق» بأنّه وصف أو بدل ، والاستفهام بمعنى النفي. أو أنّه فاعل «خالق». وجرّه حمزة والكسائي حملا على لفظه.

و «يرزقكم» صفة لـ «خالق» أو استئناف مفسّر له ، أو كلام مبتدأ. وعلى الأخير لا يطلق «الخالق» على غير الله تعالى. وأمّا على الوجهين الآخرين ـ أعني : الوصف والتفسير ـ فقد تقيّد فيهما بالرزق من السماء والأرض ، وخرج من الإطلاق.

و «لا إله إلّا هو» جملة مفصولة لا محلّ لها. ولو وصلتها كما وصلت «يرزقكم» لم يساعد عليه المعنى ، لأنّ قولك : هل من خالق آخر سوى الله لا إله إلّا ذلك الخالق ، غير مستقيم ، لأنّ قولك : هل من خالق سوى الله إثبات لله ، فلو ذهبت تقول ذلك ، كنت مناقضا بالنفي بعد الإثبات.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ (٥) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (٦) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (٧) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (٨))

٤٦٣

ثمّ نعى الله سبحانه على قريش سوء تلقّيهم لآيات الله ، وتكذيبهم بها ، وسلّى رسوله بأنّ له في الأنبياء أسوة حسنة. ثمّ جاء بما يشتمل على الوعد والوعيد ، من رجوع الأمور إلى حكمه ، ومجازاة المكذّب والمكذّب بما يستحقّانه ، فقال :

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ) أي : فتأسّ بهم في الصبر على تكذيبهم. فوضع «فقد كذّبت» موضعه ، استغناء بالسبب عن المسبّب ، أعني : بالتكذيب عن التأسّي.

وتنكير «رسل» للتعظيم المقتضي زيادة التسلية ، والحثّ على المصابرة. كأنّه قال : فقد كذّبت رسل ، أي : رسل ذو عدد كثير ، وأولو آيات ونذر ، وأهل أعمار طوال ، وأصحاب صبر وعزم ، وما أشبه ذلك. فهذا أسلى له ، وأحثّ على المصابرة.

(وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ) فيجازيك وإيّاهم على الصبر والتكذيب.

ثمّ خاطب العباد فقال : (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ) بالحشر ، والجزاء بالثواب والعقاب (حَقٌ) لا خلف فيه (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا) فلا يخدعنّكم الدنيا ، ولا يذهلنّكم التمتّع بها ، والتلذّذ بمنافعها عن العمل للآخرة ، وطلب ما عند الله والسعي لها.

(وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الْغَرُورُ) الشيطان الّذي عادته أن يغرّكم ، بأن يمنّيكم المغفرة ، مع الإصرار على المعصية ، فيقول لكم : إنّ الله غفور ، يغفر كلّ كبير وصغير ، ويعفو عن كلّ خطيئة ، فإنّها وإن أمكنت ، لكنّ الذنب بهذا التوقّع كتناول السمّ اعتمادا على دفع الطبيعة.

ثمّ حذّرهم عن الشيطان بقوله : (إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ) عداوة قديمة عامّة (فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا) في عقائدكم وأفعالكم ، وونوا على حذر منه في مجامع أحوالكم (إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ).

ثمّ وعد لمن أجاب دعاءه ، ووعّد لمن خالفه ، فقال : (الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ

٤٦٤

شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ).

ثمّ كشف الغطاء ، وقشر اللحاء ، ليقطع الأطماع الفارغة والأماني الكاذبة ، فبنى الأمر كلّه على الإيمان والعمل وتركهما ، بعد أن ذكر الفريقين : الّذين كفروا والّذين آمنوا ، فقال لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم :

(أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ) بأن غلب وهمه وهواه على عقله ، حتّى انتكس رأيه (فَرَآهُ حَسَناً) فرأى الباطل حقّا ، والقبيح حسنا ، كمن لم يزيّن له ، بل وفّق بعد استرشاده واستصوابه ، حتّى عرف الحقّ ، واستحسن الأعمال واستقبحها على ما هي عليه. فحذف الجواب ، لأنّه دلّ عليه قوله : (فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ).

ومعنى تزيين العمل والإضلال واحد ، وهو أن يكون العاصي على صفة لا تجدي عليه المصالح ، من الإنكار والجحود واللجاج ، بعد ظهور الحقّ عليه ، حتّى يستوجب بذلك خذلان الله تعالى وتخليته وشأنه ، فعند ذلك يهيم في الضلال ، ويطلق آمر النّهى (١) ، ويعتنق طاعة الهوى ، حتّى يرى القبيح حسنا والحسن قبيحا ، كأنّما غلب على عقله ، وسلب تمييزه.

وقيل : تقديره : أفمن زيّن له سوء عمله ، ذهبت نفسك عليهم حسرات؟ فحذف الجواب لدلالة (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ) عليه. ومعناه : فلا تهلك نفسك عليهم للحسرات على غيّهم وإصرارهم على التكذيب.

والفاءات الثلاث للسببيّة ، غير أنّ الأوليين دخلتا على السبب ، والثالثة دخلت على المسبّب.

وجمع الحسرات للدلالة على تضاعف اغتمامه على أحوالهم ، أو على كثرة مساوي أفعالهم المقتضية للتأسّف.

__________________

(١) النّهي : العقل. سمّي به لأنّه ينهى عن القبيح وعن كلّ ما ينافي العقل.

٤٦٥

و «عليهم» ليست صلة لها ، لأنّ صلة المصدر لا تتقدّمه ، بل صلة «تذهب» ، أو بيان للمتحسّر عليه.

(إِنَّ اللهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ) فيجازيهم عليه. وهذا وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم.

(وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (٩))

ثمّ عاد سبحانه إلى ذكر أدلّة التوحيد ، فقال : (وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ) وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي : الريح. (فَتُثِيرُ سَحاباً) على حكاية الحال الماضية ، استحضارا لتلك الصورة البديعة ، الدالّة على كمال القدرة الربّانيّة ، والحكمة البالغة الإلهيّة. ولأنّ المراد بيان إحداثها بهذه الخاصّيّة ، ولذلك أسنده إليها.

(فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ) جدب لم يمطر فيمطر على ذلك البلد (فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ) بالمطر النازل منه. أو بالسحاب ، فإنّه سبب السبب. (بَعْدَ مَوْتِها) بعد يبسها. والعدول فيهما من الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص وأدلّ عليه ، لما فيهما من مزيد الصنع.

(كَذلِكَ النُّشُورُ) الكاف في محلّ الرفع ، أي : مثل إحياء الموات نشور الأموات ، في صحّة المقدوريّة ، إذ ليس بينهما إلّا احتمال اختلاف المادّة في المقيس والمقيس عليه ، وذلك لا مدخل له فيها.

وروي : أنّه قيل لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : كيف يحيي الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ فقال : هل مررت بوادي أهلك محلا (١) ، ثمّ مررت به يهتزّ خضرا؟ قال : نعم.

__________________

(١) واد محل أي : جدب. والمحل : الجدب ، وانقطاع المطر ، ويبس الأرض.

٤٦٦

قال : فكذلك يحيي الله الموتى ، وتلك آيته في خلقه».

وقيل في كيفيّة الإحياء : إنّه تعالى يرسل ماء من تحت العرش كمنيّ الرجال ، فتنبت منه أجساد الخلق.

(مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (١٠))

روي : أنّ الكفّار كانوا يتعزّزون بالأصنام ، كما قال عزوجل : (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا) (١). والّذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة قلوبهم كانوا يتعزّزون بالمشركين ، كما قال تعالى : (الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً) (٢). فبيّن أن لا عزّة إلّا لله ولأوليائه. وقال : (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (٣).

وهاهنا قال : (مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ) الشرف والمنعة (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) أي : فليطلبها من عنده ، فإنّ العزّة في الدنيا والآخرة كلّها مختصّة به. فوضع قوله : (فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً) موضعه ، استغناء به عنه ، لدلالته عليه ، لأنّ الشيء لا يطلب إلّا عند صاحبه ومالكه. ونظيره قولك : من أراد النصيحة فهي عند الأبرار. تريد : فليطلبها عندهم ، إلّا أنّك أقمت ما يدلّ عليه مقامه.

__________________

(١) مريم : ٨١.

(٢) النساء : ١٣٩.

(٣) المنافقون : ٨.

٤٦٧

والمعنى : من أراد العزّة فليتعزّز بطاعة الله ، فإنّ الله تعالى يعزّه.

عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إنّ ربّكم يقول كلّ يوم : أنا العزيز ، فمن أراد عزّ الدارين فليطع العزيز».

ثمّ عرّف أنّ ما تطلب به العزّة هو الإيمان والعمل الصالح بقوله : (إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ) وهو كلمة التوحيد (وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ) الضمير المستكن للكلم ، فإنّ العمل الصالح لا يقبل إلّا بالتوحيد. وصعودهما إليه مجاز عن قبوله إيّاهما ، فإنّ كلّ ما يتقبّله الله سبحانه من الطاعات ، يكتبه الملائكة إلى حيث شاء الله.

وقيل : الكلم الطيّب يتناول جميع أقسام الذكر ، من التكبير ، والتسبيح والتهليل والتحميد ، وغيرها ، من قراءة القرآن والدعاء والاستغفار.

وعنه عليه‌السلام : «هو : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلّا الله ، والله أكبر. إذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء ، فحيّا بها وجه الرحمن. وإذا لم يكن عمل صالح لم يقبل منه».

وفي الحديث : «لا يقبل الله قولا إلّا بعمل ، ولا يقبل قولا ولا عملا إلّا بنيّة ، ولا يقبل قولا وعملا ونيّة إلّا بإصابة السنّة».

وكذا نقل عن ابن عبّاس أنّ معنى الآية : إنّ هذه الكلم لا تقبل ، ولا تصعد إلى السماء ، فتكتب حيث تكتب الأعمال المقبولة ، كما قال عزوجل : (إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) (١) إلّا إذا اقترن بها العمل الصالح الّذي يحقّقها ويصدّقها ، فرفعها وأصعدها. وعن ابن المقفّع : قول بلا عمل كثريد بلا دسم ، وسحاب بلا مطر.

(وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ) أي : المكرات السيّئات. فالسيّئات صفة للمصدر ، لا أنّه مفعول به ، لأنّ المكر غير متعدّ ، فلا يقال : مكر فلان عمله. وعنى

__________________

(١) المطفّفين : ١٨.

٤٦٨

بها مكرات قريش للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في دار الندوة ، وتداوروا الرأي في إحدى ثلاث مكرات : حبسه ، وقتله ، وإجلائه ، كما قال الله تعالى : (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ) (١).

(لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ) لا يؤبه دونه بما يمكرون به (وَمَكْرُ أُولئِكَ) الّذين مكروا المكرات الثلاث (هُوَ يَبُورُ) يكسد ولا ينفد ، دون مكر الله بهم حين أخرجهم من مكّة وقتلهم ، وأثبتهم في قليب بدر ، فجمع عليهم مكراتهم جميعا ، وحقّق عليهم قوله : (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ) (٢) وقوله : (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) (٣).

(وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (١١) وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٢) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ

__________________

(١) الأنفال : ٣٠.

(٢) الأنفال : ٣٠.

(٣) فاطر : ٤٣.

٤٦٩

مِنْ قِطْمِيرٍ (١٣) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (١٤))

ثمّ نسق سبحانه على ما تقدّم من دلائل التوحيد ، فقال : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ) بخلق آدم منه (ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ) بخلق ذرّيّته منها (ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً) ذكرانا وإناثا. وعن قتادة : زوّج بعضكم بعضا.

(وَما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَلا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ) إلّا معلومة له. والجارّ والمجرور في موضع الحال.

(وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ) أي : وما يعمّر من أحد. فسمّاه معمّرا بما هو صائر إليه ، كأنّه قال : وما يمدّ في عمر من مصيره إلى الكبر.

(وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ) من عمر المعمّر لغيره ، بأن يعطى له عمر ناقص من عمره. أو لا ينقص من عمر المنقوص عمره ، بجعله ناقصا. والضمير له وإن لم يذكر ، لدلالة مقابله عليه. أو للمعمّر على التسامح فيه ، ثقة بأفهام السامعين ، واتّكالا على تسديدهم معناه بعقولهم ، وأنّه لا يلتبس عليهم إحالة الطول والقصر في عمر واحد. وعليه كلام العرب العرباء يقولون : لا يثيب الله عبدا ولا يعاقبه إلّا بحقّ.

فعلى هذا التوجيه لا يرد : أنّ الإنسان إمّا معمّر ـ أي : طويل العمر ـ أو منقوص العمر ، أي : قصيره. فإمّا أن يتعاقب عليه التعمير ، وخلافه محال. فكيف يصحّ قوله : (وَما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ)؟

وقيل : الزيادة والنقصان في عمر واحد باعتبار أسباب مختلفة ، أثبتت في اللوح. مثل أن يكون فيه : إن حجّ زيد فعمره ستّون سنة ، وإلّا فأربعون. فقد نقص من عمره الّذي هو الغاية ، وهو الستّون. وإليه أشار رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في قوله : «إنّ

٤٧٠

الصدقة والصلة تعمران الديار ، وتزيدان في الأعمار».

وعن سعيد بن جبير : يكتب في الصحيفة : عمره كذا وكذا سنة. ثمّ يكتب في أسفل ذلك : ذهب يوم ، ذهب يومان ، حتّى يأتي على آخر عمره.

وعن قتادة : المعمّر من بلغ ستّين ، والمنقوص من عمره من يموت قبله.

وقيل : المراد بالنقصان ما يمرّ من عمره وينقص ، فإنّه يكتب في صحيفة عمره يوما فيوما. فالنقصان على ثلاثة أوجه : إمّا أن يكون من عمر المعمّر ، أو من عمر معمّر آخر ، أو يكون بشرط.

وعن يعقوب : ولا ينقص ، على بناء الفاعل ، أي : ولا ينقص الله من عمره.

(إِلَّا فِي كِتابٍ) في علم الله ، أو اللوح ، أو صحيفة الإنسان (إِنَّ ذلِكَ) إشارة إلى الحفظ ، أو الزيادة ، أو النقص (عَلَى اللهِ يَسِيرٌ) سهل ، غير متعذّر ولا متعسّر.

ثمّ ضرب البحرين ـ العذب والمالح ـ مثلين للمؤمن والكافر ، فقال :

(وَما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ) وهو الّذي يكسر العطش (سائِغٌ شَرابُهُ) وهو الّذي يسهل انحداره لعذوبته (وَهذا مِلْحٌ أُجاجٌ) وهو الّذي يحرق بشدّة ملوحته.

ثمّ قال على سبيل الاستطراد في صفة البحرين ، وما فيهما من النعم العظيمة :

(وَمِنْ كُلٍ) ومن كلّ واحد منهما (تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا) وهو السمك (وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها) وهي اللؤلؤ والمرجان.

ويحتمل أن يحمل هذا على غير طريقة الاستطراد ، بأن يجعل من تتمّة التمثيل ، فيشبّه الجنسين بالبحرين ، ثمّ يفضّل البحر الأجاج على الكافر ، بأنّه قد شارك العذب في منافع ، من السمك واللؤلؤ وجري الفلك فيه ، والكافر خلو من النفع. فهو في طريقة قوله تعالى : (ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً»). ثم قال : («وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ

٤٧١

مِنْهُ الْماءُ وَإِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ) (١).

(وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ) في كلّ من البحرين (مَواخِرَ) شواقّ للماء بجريها.

يقال : مخرت السفينة الماء. ويقال للسحاب : نبات مخر ، لأنّها تمخر الهواء. وقريب من المخر السفن ، الّذي اشتقّت منه السفينة ، لأنّها تسفن الماء ، كأنّها تقشره كما تمخره.

(لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) من فضل الله بالنقلة فيها ، وإن لم يجر له ذكر في الآية ، لكن يدلّ سوق الكلام عليه. واللام متعلّقة بـ «مواخر». ويجوز أن تتعلّق بما دلّ عليه الأفعال المذكورة.

(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) على ذلك. وحرف الرجاء مستعار لمعنى الإرادة. ألا ترى كيف سلك به مسلك لام التعليل ، كأنّما قيل : لتبتغوا ولتشكروا.

(يُولِجُ اللَّيْلَ) يدخله (فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى) هي مدّة دوره ، أو منتهاه ، أو يوم القيامة (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ) الإشارة إلى فاعل هذه الأشياء. وفيها إشعار بأنّ فاعليّته لها موجبة لثبوت هذه الأخبار المترادفة.

ويحتمل أن يكون «له الملك» كلاما مبتدأ واقعا في قرآن قوله : (وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ) للدلالة على تفرّده بالألوهيّة. و «القطمير» لفّافة النواة. وهي القشرة الرقيقة الملتفّة عليها.

(إِنْ تَدْعُوهُمْ) إن تدعوا الأوثان لكشف الضرّ (لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ) لأنّهم جماد (وَلَوْ سَمِعُوا) على سبيل الفرض (مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ) لعدم قدرتهم على الإنفاع ، أو لتبرّئهم منكم وممّا تدّعون لهم (وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ) بإشراككم لهم ، وعبادتكم إيّاهم ، يقرّون ببطلانه. أو يقولون : (ما كُنْتُمْ إِيَّانا

__________________

(١) البقرة : ٧٤.

٤٧٢

تَعْبُدُونَ) (١).

(وَلا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ) ولا يخبرك بالأمر مخبر مثل خبير عالم به أخبرك. وهو الله تعالى ، فإنّه هو الخبير به على الحقيقة ، دون سائر المخبرين. والمراد تحقيق ما أخبر به من حال آلهتهم ، ونفي ما يدّعون لهم. كأنّه قال : إنّ هذا الّذي أخبرتكم من حال الأوثان هو الحقّ ، لأنّي خبير بما أخبرت به.

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (١٥) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (١٦) وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ (١٧))

(يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) في أنفسكم ومايعن لكم. وتعريف الفقراء للمبالغة في فقرهم ، كأنّهم لشدّة افتقارهم إليه وكثرة احتياجهم هم الفقراء ، وأنّ افتقار سائر الخلائق بالنسبة إلى فقرهم غير معتدّ به ، لأنّ الفقر ممّا يتبع الضعف ، فكلّما كان أضعف كان أفقر ، وقد شهد سبحانه على الإنسان بالضعف في قوله : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) (٢). وقال : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) (٣). ولو نكّر لكان المعنى : أنتم بعض الفقراء ، وفات هذا المعنى المقصود.

ولمّا أثبت فقرهم إليه ، وغناه عنهم ، وليس كلّ غنيّ نافعا بغناه إلّا إذا كان الغنيّ جوادا منعما ، فإذا جاد وأنعم استحقّ عليهم الحمد ، وحمده المنعم عليهم ، ذكر الحميد ليدلّ به على أنّه الغنيّ النافع بغناه خلقه ، الجواد المنعم عليهم ، المستحقّ بإنعامه عليهم أن يحمدوه ، الحميد على ألسنة مؤمنيهم ، فقال :

__________________

(١) يونس : ٢٨.

(٢) النساء : ٢٨.

(٣) الروم : ٥٤.

٤٧٣

(وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) المستغني على الإطلاق ، المنعم على سائر الموجودات ، حتّى استحقّ عليهم الحمد.

ثمّ دلّ على كمال قدرته بقوله : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) يغنكم (وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ) بقوم آخرين أطوع منكم. أو بعالم آخر غير ما تعرفونه. (وَما ذلِكَ عَلَى اللهِ بِعَزِيزٍ) بمتعذّر أو متعسّر.

(وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ (١٨))

ثمّ أخبر عن عدله في حكمه ، فقال : (وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى) ولا تحمل نفس حاملة الإثم حمل إثم نفس اخرى. والوزر : الوقر. والمعنى : أنّ كلّ نفس يوم القيامة لا تحمل إلّا وزرها الّذي اقترفته. فلا تؤخذ نفس بذنب نفس ، كما تأخذ جبابرة الدنيا الوليّ بالوليّ ، والجار بالجار.

وأمّا قوله : (وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَأَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ) (١) ففي الضالّين المضلّين ، فإنّهم يحملون أثقال إضلالهم مع أثقال ضلالهم ، وكلّ ذلك أوزارهم ، ليس فيها شيء من أوزار غيرهم. ألا ترى كيف كذّبهم في قولهم : (اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَلْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ) (٢) بقوله : (وَما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْءٍ) (٣). ففي أنّه لا يؤاخذ نفسا بغير ذنبها ، دلالة على عدل الله في حكمه.

ثمّ بيّن أن لا غياث يومئذ لمن استغاث ، فقال : (وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ) نفس أثقلها

__________________

(١) العنكبوت : ١٢ ـ ١٣.

(٢) العنكبوت : ١٢ ـ ١٣.

(٣) العنكبوت : ١٢ ـ ١٣.

٤٧٤

الأوزار غيرها (إِلى حِمْلِها) إلى أن يتحمّل عنها بعض أوزارها (لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ) لم تجب لحمل شيء منه ، ولم تغث ، فلم يحمل غيرها شيئا من ذلك الحمل (وَلَوْ كانَ ذا قُرْبى) ولو كان المدعوّ ذا قرابتها ، من أب أو ولد أو أخ. فأضمر المدعوّ لدلالة «إن تدع» عليه.

ولمّا غضب الله تعالى عليهم في قوله : (إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ) أتبعه الإنذار بيوم القيامة وذكر أهوالها ، فقال :

(إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ) غائبين عن عذابه ، أو عن الناس في خلواتهم. أو يخشون عذابه غائبا عنهم ، أي : إنّ إنذارك لا ينفع إلّا الّذين يخشون ربّهم بالغيب.

(وَأَقامُوا الصَّلاةَ) أي : أداموها وقاموا بشرائطها ، فإنّهم المنتفعون بالإنذار لا غير. وإنّما عطف الماضي على المستقبل ، إشعارا باختلاف المعنى ، لأنّ الخشية لازمة في كلّ وقت ، والصلاة لها أوقات مخصوصة.

(وَمَنْ تَزَكَّى) ومن تطهّر بفعل الطاعات من دنس المعاصي (فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ) إذ نفعه لها. وهو اعتراض مؤكّد لخشيتهم وإقامتهم الصلاة ، لأنّهما من جملة التزكّي. (وَإِلَى اللهِ الْمَصِيرُ) فيجازيهم على تزكّيهم.

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ (١٩) وَلا الظُّلُماتُ وَلا النُّورُ (٢٠) وَلا الظِّلُّ وَلا الْحَرُورُ (٢١) وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلا الْأَمْواتُ إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (٢٢) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (٢٣) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَنَذِيراً وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (٢٤) وَإِنْ

٤٧٥

يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (٢٥) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (٢٦))

ثمّ ضرب للكافر والمؤمن مثلا آخر ، كما ضرب لهما البحرين مثلا ، فقال :

(وَما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) قيل : هما مثلان للصنم ولله تعالى (وَلَا الظُّلُماتُ وَلَا النُّورُ) ولا الباطل ولا الحقّ (وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) ولا الثواب ولا العقاب. و «لا» لتأكيد نفي الاستواء. وتكريرها على الشّقين لمزيد التأكيد. والحرور فعول من الحرّ ، غلّب على السموم. وقيل : السموم ما تهبّ نهارا ، والحرور ما تهبّ ليلا.

ثمّ مثّل تمثيلا آخر للمؤمنين والكافرين ، أبلغ من الأوّل والثاني ، فقال : (وَما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَلَا الْأَمْواتُ) قيل : هذا تمثيل للعلماء والجهلاء. (إِنَّ اللهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ) أي : إنّه قد علم من يدخل في الإسلام ممّن لا يدخل فيه ، فيهدي الّذي قد علم أنّ الهداية تنفع فيه ، ويخذل من علم أنّها لا تنفع فيه (وَما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ) ترشيح لتمثيل المصرّين على الكفر بالأموات ، ومبالغة في إقناطه عنهم.

والمعنى : يا محمّد قد خفي عليك أمرهم ، فلذلك تحرص وتتهالك على إسلام قوم من المخذولين. ومثلك في ذلك مثل من لا يريد أن يسمع المقبورين وينذر ، وذلك ما لا سبيل إليه.

(إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ) فما عليك إلّا الإنذار ، وأمّا الإسماع فلا إليك ، ولا حيلة لك إليه في المطبوع على قلوبهم.

(إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ) حال من أحد الضميرين ، أي : محقّين ، أو محقّا. أو صفة للمصدر ، أي : إرسالا مصحوبا بالحقّ. ويجوز أن يكون صلة لقوله : (بَشِيراً وَنَذِيراً) أي : بشيرا بالوعد الحقّ ، ونذيرا بالوعيد الحقّ.

(وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ) من جماعة كثيرة من أهل كلّ عصر ، فإنّ كلّ عصر أمّة (إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ) مضى فيها نبيّ ، أو عالم ينذرهم عنه سبحانه. فإذا اندرست آثار

٤٧٦

النذارة من العالم ، وجب على الله بعث نبيّ آخر ، كما في زمان الفترة بين عيسى ومحمّد فما دامت آثار النذارة فيه باقية بنحو نبيّ أو عالم لم يحتج إلى إرسال نبيّ ، ولمّا اندرست بعث الله محمّدا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. والاكتفاء بذكر النذير للعلم بأنّ النذارة مقرونة بالبشارة ومشفوعة بها ، وقد قرن به من قبل. أو لأنّ الإنذار هو المقصود الأهمّ من البعثة.

(وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) بالمعجزات الشاهدة على نبوّتهم (وَبِالزُّبُرِ) كصحف إبراهيم (وَبِالْكِتابِ الْمُنِيرِ) الواضح البيّن ، كالتوراة والإنجيل. ولمّا كانت هذه الأشياء في جنسهم ، أسند المجيء بها إليهم إسنادا مطلقا ، وإن كان بعضها في جميعهم ، وهي البيّنات ، وبعضها في بعضهم ، وهي الزبر والكتاب. وفيه مسلاة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ويجوز أن يراد بالزبر والكتاب المنير التوراة والإنجيل. والعطف لتغاير الوصفين ، فإنّ الزبور أثبت في الكتاب من الكتاب ، لأنّه يكون منقرا منقشا فيه ، كالنقر في الحجر. هكذا قال صاحب المجمع (١). (ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ) أي : إنكاري بالعقوبة ، وإنزالي العقاب بهم.

(أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَغَرابِيبُ سُودٌ (٢٧) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (٢٨))

__________________

(١) مجمع البيان ٨ : ٤٠٦.

٤٧٧

ثمّ بيّن قدرته التّامّة بقوله : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها) أجناسها ، من الرمّان والتفّاح والتين والعنب ، وغيرها ممّا لا يحصى. أو أصنافها ، على أنّ كلّا منها ذو أصناف مختلفة. أو هيئاتها ، من الصفرة والخضرة ونحوهما.

(وَمِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ) ذو جدد ، أي : خطط وطرائق. يقال : جدّة الحمار للخطّة السوداء على ظهره. وقد يكون للظبي جدّتان مستكنتان تفصلان بين لوني ظهره وبطنه. (بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها) بالشدّة والضعف.

(وَغَرابِيبُ سُودٌ) عطف على «بيض» أو على «جدد». كأنّه قيل : ومن الجبال ذو جدد مختلفة اللون ، ومنها غرابيب

متّحدة اللون. وهو تأكيد مضمر يفسّره ما بعده ، فإنّ الغربيب تأكيد للأسود ، ومن حقّ التأكيد أن يتبع المؤكّد. وفي مثله مزيد تأكيد ، لما فيه من التكرير باعتبار الإضمار والإظهار جميعا. ونظير ذلك قول النابغة :

والمؤمن العائذات الطير يمسحها

ركبان مكّة بين الغيل والسلم

(وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِ) الّتي تدبّ على وجه الأرض (وَالْأَنْعامِ) كالإبل والبقرة والغنم (مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ) أي : كاختلاف الثمار والجبال.

ولمّا قال : «ألم تر» بمعنى : ألم تعلم أنّ الله أنزل من السماء ماء ، وعدّد آيات الله وأعلام قدرته وآثار صنعه ، وما خلق من الفطر المختلفة الأجناس ، وما يستدلّ به عليه وعلى صفاته ، أتبع ذلك قوله : (إِنَّما يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) كأنّه قال : إنّما يخشاه مثلك ، ومن كان على صفتك ممّن عرفه حقّ معرفته ، وعلمه كنه علمه ، إذ شرط الخشية معرفة المخشيّ ، والعلم بصفاته وأفعاله. فمن كان أعلم به كان أخشى منه ، ومن كان علمه أقلّ كان آمن.

وفي الحديث : «أعلمكم بالله أشدّكم له خشية». ولذلك قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إنّي

٤٧٨

أخشاكم لله ، وأتقاكم له».

وعن مسروق : كفى بالمرء علما أن يخشى الله ، وكفى بالمرء جهلا أن يعجب بعلمه.

وعن الصادق عليه‌السلام : «يعني بالعلماء من صدّق قوله فعله ، ومن لم يصدّق قوله فعله فليس بعالم».

وعن ابن عبّاس قال : يريد : إنّما يخافني من خلقي ، من علم جبروتي وعزّتي وسلطاني.

إن قلت : قد نرى من العلماء من لا يخاف الله ، ويرتكب المعاصي.

فالجواب : أنّه لا بدّ من أن يخافه مع العلم به ، وإن كان ربما يؤثر المعصية عند غلبة الشهوة لعاجل اللذّة.

وتقديم المفعول لأنّ المقصود حصر الفاعليّة ، ولو أخّر انعكس الأمر.

ثمّ علّل وجوب الخشية بقوله : (إِنَّ اللهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) لدلالته على عقوبة العصاة وقهرهم ، وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم ، والمعاقب المثيب حقّه أن يخشى.

(إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (٢٩) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (٣٠))

ثمّ وصف سبحانه العلماء ، فقال على سبيل الاستئناف : (إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ) يداومون على قراءته ، أو متابعة ما فيه ، حتّى صارت عادة لهم. والمراد بكتاب الله القرآن. وقيل : جنس كتب الله. فيكون ثناء على المصدّقين من الأمم ،

٤٧٩

بعد اقتصاص حال المكذّبين.

(وَأَقامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَعَلانِيَةً) كيف اتّفق من غير قصد إليهما. وقيل : السرّ في السنّة المسنونة ، والعلانية في المفروضة.

عن عبد الله بن عبيد بن عمر الليثي قال : «قام رجل إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا رسول الله! مالي لا أحبّ الموت؟ قال : ألك مال؟ قال : نعم. قال : فقدّمه. قال : لا أستطيع. قال : فإنّ قلب الرجل مع ماله ، إن قدّمه أحبّ أن يلحق به ، وإن أخّره أحبّ أن يتأخّر معه».

(يَرْجُونَ تِجارَةً) تحصيل ثواب الطاعة. وهو خبر «إنّ». (لَنْ تَبُورَ) لن تكسر ولن تهلك بالخسران. صفة للتجارة.

وقوله : (لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ) متعلّق بـ «لن تبور» أي : ينتفي عنها الكساد ، وتنفق (١) عند الله ، ليوفّيهم بنفاقها عنده أجور أعمالهم ، وهي ما استحقّوه من الثواب (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) على ما يقابل أعمالهم.

روى ابن مسعود عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال في قوله : (وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ) : «هو الشفاعة لمن وجبت له النار ، ممّن صنع إليه معروفا في الدنيا».

(إِنَّهُ غَفُورٌ) لفرطاتهم (شَكُورٌ) لطاعتهم ، أي : مجازيهم. وهو علّة للتوفية والزيادة. أو خبر «إنّ» ، و «يرجون» حال من واو «وأنفقوا» أي : راجين بذلك تجارة لن تكسد ولن تفسد.

(وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (٣١) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا

__________________

(١) نفقت التجارة : راجت.

٤٨٠