زبدة التّفاسير - ج ٥

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٥

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-07-8
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٥٩٦

في التفهّم والاستبصار.

(وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ) مقدّر بـ «أن» المصدريّة. أو الفعل فيه منزّل منزلة المصدر ، كقولهم : تسمع بالمعيدي (١) خير من أن تراه. أو صفة لمحذوف ، تقديره : آية يريكم بها البرق. (خَوْفاً) من الصاعقة ، أو من أن يخلف فلا يمطر (وَطَمَعاً) في الغيث. وقيل : خوفا للمسافر ، وطمعا للحاضر.

ونصبهما على العلّة لفعل يلزم المذكور ، فإنّ إراءتهم تستلزم رؤيتهم. أو الفعل المذكور على تقدير مضاف ، نحو إرادة خوف وطمع. أو تأويل الخوف والطمع بالإخافة والإطماع. فلا يرد : أنّ من حقّ المفعول له أن يكون فعلا لفاعل الفعل المعلّل ، والخوف والطمع ليسا كذلك. ويجوز أن يكونا حالين ، أي : خائفين وطائعين ، مثل : كلّمته شفاها.

(وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ) بالنبات (بَعْدَ مَوْتِها) يبسها (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يستعملون عقولهم في استنباط أسبابها ، وكيفيّة تكوّنها ، ليظهر لهم كمال قدرة الصانع وحكمته.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ) أي : قيام السماوات والأرضين واستمساكهما بغير عمد لهما بأمره لهما بالقيام ، بأن قال لهما : كونا قائمتين ، لقوله : (إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (٢).

وقيل «بأمره» أي : بفعله وإمساكه. والتعبير بالأمر للمبالغة في كمال القدرة ، والغنى عن الآلة ، لأنّه أبلغ في الاقتدار ، فإنّ قول القائل : أمر فكان ، أبلغ في الدلالة على الاقتدار من أن يقول : فعل فكان. ومعنى القيام الثبات والدوام ، كما يقال :

__________________

(١) في هامش النسخة الخطّية : «معيدي تصغير معدّيّ ، فاجتمع التشديدان فخفّف. منه». انظر الصحاح ٢ : ٥٠٦.

(٢) النحل : ٤٠.

٢٦١

السوق قائمة.

وقوله : (ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ) أي : من القبر (إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ) عطف على «أن تقوم» على تأويل مفرد. كأنّه قيل : ومن آياته قيام السماوات والأرض بأمره ، ثمّ خروجكم من القبور إذا دعاكم دعوة واحدة ، فيقول : أيّها الموتى اخرجوا. والمراد تشبيه سرعة ترتّب حصول ذلك على تعلّق إرادته ، بلا توقّف واحتياج إلى تجشّم عمل بسرعة ترتّب إجابة الداعي المطاع على دعائه.

و «ثم» إمّا لتراخي زمانه ، أو لعظم ما فيه ، واقتداره على مثله ، وهو أن يقول : يا أهل القبور قوموا ، فلا تبقى نسمة من الأوّلين والآخرين إلّا قامت تنظر ، كما قال عزوجل : (ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ) (١).

و «من» متعلّق بـ «دعا». تقول : دعوت زيدا من أعلى الجبل فنزل عليّ ، ودعوته من أسفل الجبل فطلع إليّ. لا بـ «دعوة» لأنّ الفعل أقوى في العمل. ولا يجوز أن يتعلّق بـ «تخرجون» لأنّ ما بعد «إذا» لا يعمل فيما قبلها. و «إذا» الثانية للمفاجأة ، ولذلك نابت مناب الفاء في جواب الأولى.

(وَلَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) من العقلاء ، يملكهم ويملك التصرّف فيهم.

وإنّما خصّ العقلاء لأنّ ما عداهم في حكم التبع لهم.

ثمّ أخبر عن جميعهم ، فقال : (كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ) منقادون لفعله فيهم ، من الحياة والبقاء والموت والبعث وغيرها ، لا يمتنعون عليه في شيء ممّا أراد.

(وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ) يخترعه ابتداء (ثُمَّ يُعِيدُهُ) بعد إفنائه. جعل سبحانه ما ظهر من ابتداء خلقه دليلا على ما خفي من إعادته ، استدلالا بالشاهد على الغائب.

ثمّ أكّد ذلك بقوله : (وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) أي : أسهل عليه من الأصل بالإضافة

__________________

(١) الزمر : ٦٨.

٢٦٢

إلى قدركم ، والقياس على أصولكم ، واقتضاء عقولكم ، لأنّ من أعاد منكم صنعة شيء كانت أسهل عليه وأهون من إنشائها ، وإلّا فهما سواء عليه سبحانه. ولذلك قيل : الهاء للخلق بمعنى المخلوق ، أي : والإعادة على المخلوق أهون من النشأة الأولى ، لأنّه إنّما يقال له في الإعادة : كن فيكون ، وفي النشأة الأولى كان نطفة ، ثمّ علقة ، ثمّ مضغة ، ثمّ عظاما ، ثمّ كسيت العظام لحما ، ثمّ نفخ فيه الروح. فتكوينه في حدّ الاستحكام والتمام ، أهون عليه وأقلّ تعبا من أن يتنقّل في أحوال ، ويندرج فيها إلى أن يبلغ ذلك الحدّ.

وقيل : «أهون» بمعنى هيّن ، كقول الشاعر : لعمرك ما أدري وإنّي لأوجل (١) ، أي : لوجل.

(وَلَهُ الْمَثَلُ) الوصف العجيب الشأن ، كالقدرة العامّة ، والحكمة التامّة. ومن فسّره بقول لا إله إلّا الله أراد به الوصف بالوحدانيّة. (الْأَعْلى) الّذي ليس لغيره ما يساويه أو يدانيه (فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) يصفه به ما فيهما دلالة ونطقا (وَهُوَ الْعَزِيزُ) القادر الّذي لا يعجز عن إبداء ممكن وإعادته (الْحَكِيمُ) الّذي يجري الأفعال على مقتضى حكمته.

(ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (٢٨) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (٢٩))

__________________

(١) وعجزه : على أيّنا تغدو المنيّة أوّل.

٢٦٣

ثمّ احتجّ سبحانه على عبدة الأوثان ، فقال : (ضَرَبَ) بيّن (لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ) أي : مثلا منتزعا من أحوالها الّتي هي أقرب الأمور إليكم ، فإنّ «من» هنا للابتداء.

ثمّ بيّنه بقوله : (هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ) «من» للتبعيض ، أي : بعض مماليككم (مِنْ شُرَكاءَ) مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي (فِي ما رَزَقْناكُمْ) من الأموال وغيرها (فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ) فتكونون أنتم وهم فيه على السويّة ، من غير تفضيل بين حرّ وعبد ، فيتصرّفون فيه كتصرّفكم (تَخافُونَهُمْ) أن يستبدّوا بالتصرّف فيه دونكم (كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ) كما يخاف الأحرار بعضهم بعضا ، فإنّ الرجل الحرّ يخاف شريكه الحرّ في المال يكون بينهما أن يتفرّد دونه فيه بأمر يخاف من شريكه. فإذا لم ترضوا بذلك لأنفسكم ، فكيف ترضون لربّ الأرباب ومالك الأحرار والعبيد ، أن تجعلوا بعض عبيده له شركاء؟! (كَذلِكَ) مثل ذلك التفصيل (نُفَصِّلُ الْآياتِ) نبيّنها ، فإنّ التمثيل ممّا يكشف المعاني ويوضحها ، لأنّه بمنزلة التصوير والتشكيل لها. (لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) يستعملون عقولهم في تدبّر الأمثال.

(بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا) بالإشراك (أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ) جاهلين لا يكفّهم شيء ، فإنّ العالم إذا اتّبع هواه ربما ردعه علمه.

(فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ) فمن يقدر على هداية من خذله ، ولم يلطف به ، لعلمه أنّه ممّن لا يؤثّر اللطف فيه؟ أو فمن يهدي إلى الثواب والخير من أضلّه الله عن ذلك؟ والأشاعرة حملوا الإضلال على خلق الضلال في المكلّف. تعالى الله عن ذلك علوّا كبيرا.

(وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) يخلّصونهم من الضلالة ، ويحفظونهم عن آفاتها. أو ينصرونهم ويدفعون عنهم عذاب الله إذا حلّ بهم.

٢٦٤

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٠) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٣١) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (٣٢))

ثمّ خاطب نبيّه فقال : (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ) فقوّمه وعدّله ، غير ملتفت عنه يمينا ولا شمالا. وهذا تمثيل للإقبال والاستقامة على الدين ، والاهتمام به ، فإنّ من اهتمّ بالشيء عقد عليه طرفه ، وسدّد إليه نظره ، وقوّم له وجهه ، مقبلا به عليه بكلّه.

(حَنِيفاً) حال من المأمور ، أي : مائلا إليه ، ثابتا عليه ، مستقيما فيه ، لا ترجع عنه إلى غيره. ويجوز أن يكون حالا من الدين.

(فِطْرَتَ اللهِ) خلقته. نصب على الإغراء ، أي : الزموا فطرة الله ، أو عليكم فطرة الله. أو على المصدر لما دلّ عليه قوله : (الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها) خلقهم عليها. وهي قبولهم للحقّ ، وتمكّنهم من إدراكه. أو ملّة الإسلام ، فإنّهم لو خلّوا وما خلقوا عليه أدّى بهم إليها ، لكونه مساوقا للنظر الصحيح ، مجاوبا للعقل ، ومن غوى فبإغواء شياطين الإنس والجنّ. ومنه الحديث القدسي : «كلّ عبادي خلقت حنفاء ، فاجتالتهم (١) الشياطين عن دينهم ، وأمروهم أن يشركوا بي غيري».

وقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «كلّ مولود يولد على الفطرة ، حتّى يكون أبواه هما اللّذان يهوّدانه وينصّرانه ويمجّسانه».

وقيل : «فطرة الله» : العهد المأخوذ من آدم وذرّيّته.

__________________

(١) اجتال القوم : حوّلهم عن قصدهم.

٢٦٥

(لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللهِ) لا يقدر أحد أن يغيّره. أو ما ينبغي أن يغيّر. (ذلِكَ) إشارة إلى الدين المأمور بإقامة الوجه له (الدِّينُ الْقَيِّمُ) المستقيم الّذي لا عوج فيه (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) استقامته ، لعدم تدبّرهم ، وعدولهم عن النظر فيه.

(مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) راجعين إليه ، أي : إلى كلّ ما أمر به. من : أناب إذا رجع مرّة بعد اخرى. وهو حال من الضمير في الناصب المقدّر لفطرة الله ، أعني : الزموا أو عليكم. أو من مفعول : فطر ، أي : خلقهم قابلين للتوحيد ودين الإسلام ، غير ناءين عنه ، ولا منكرين له ، لكونه مجاوبا للعقل ، كما مرّ آنفا. أو في «أقم» لأنّ المراد من خطاب الرسول جميع أمّته ، لقوله : (وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) غير أنّها صدرت بخطاب الرسول تعظيما له.

(مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ) بدل من المشركين. والمعنى : ولا تكونوا من الّذين جعلوا دينهم أديانا مختلفة ، لاختلاف أهوائهم الباطلة. وقرأ حمزة والكسائي : فارقوا ، بمعنى : تركوا دينهم الّذي أمروا به. (وَكانُوا شِيَعاً) فرقا ، كلّ واحدة تشايع إمامها الّذي أضلّ دينها (كُلُّ حِزْبٍ) منهم (بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) مسرورون بمذهبهم ، ظنّا بأنّه الحقّ. ويجوز أن يجعل «فرحون» صفة «كلّ» على أنّ الخبر (مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا).

(وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (٣٣) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣٤) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (٣٥) وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا

٢٦٦

هُمْ يَقْنَطُونَ (٣٦) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (٣٧) فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (٣٨) وَإِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ) شدّة ، من مرض أو قحط ، أو غير ذلك (دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ) راجعين إليه من دعاء غيره (ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً) بأن يعافيهم من المرض ، أو يغنيهم من الفقر (إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) فاجأ فريق منهم بالإشراك بربّهم الّذي عافاهم.

(لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ) من النعم. واللام فيه للعاقبة. وقيل : للأمر بمعنى التهديد ، لقوله : (فَتَمَتَّعُوا) غير أنّه التفت فيه مبالغة. ونظيره في التهديد قوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) (١). وقوله : (فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) (٢).

والمعنى : انتفعوا بنعيم هذه الدنيا الفانية كيف شئتم (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ) عاقبة تمتّعكم.

(أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً) حجّة يتسلّطون بذلك على ما ذهبوا إليه. وقيل : ذا سلطان ، أي : ملكا معه برهان. (فَهُوَ يَتَكَلَّمُ) تكلّم دلالة ، كقوله : (هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ) (٣). وكما تقول : هذا ممّا نطق به القرآن. ومعناه : الدلالة والشهادة. أو تكلّم نطق (بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ) أي : بصحّة كونهم بالله يشركون.

__________________

(١) فصّلت : ٤٠.

(٢) الكهف : ٢٩.

(٣) الجاثية : ٢٩.

٢٦٧

ويجوز أن تكون «ما» موصولة ، ويرجع الضمير إليها. ومعناه : فهو يتكلّم بالأمر الّذي بسببه يشركون. والهمزة للإنكار. والمعنى : أنّهم لا يقدرون على تصحيح ذلك ، ولا يمكنهم ادّعاء برهان وحجّة عليه.

(وَإِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً) نعمة من صحّة وسعة (فَرِحُوا بِها) بطروا بسببها (وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ) شدّة تسوؤهم ، من سقم وفقر (بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ) بشؤم المعاصي الصادرة منهم. وإسنادها إلى أيديهم بناء على التغليب ، فإنّ أكثر العمل لليدين. (إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ) فاجئوا القنوط واليأس من رحمته.

ثمّ أنكر عليهم بأنّهم قد علموا أنّه هو الباسط القابض ، فما لهم يقنطون من رحمته؟ فقال :

(أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ) فما لهم لم يشكروا ولم يرجعوا إليه ، تائبين من المعاصي الّتي عوقبوا بالشدّة من أجلها ، حتّى يعيد إليهم رحمته.

(إِنَّ فِي ذلِكَ) في بسط الرزق لقوم ، وتضييقه لآخرين (لَآياتٍ) لدلالات (لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) فيستدلّون بها على كمال القدرة والحكمة.

ولمّا ذكر أنّ السيّئة أصابتهم بما قدّمت أيديهم ، أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل ، وما يجب أن يترك ، فقال :

(فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ) وأعط ذوي قرباك يا محمّد حقوقهم الّتي جعلها الله لهم من الأخماس.

وروى أبو سعيد الخدري وغيره أنّه لمّا نزلت هذه الآية على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أعطى فاطمة عليها‌السلام فدكا وسلّمه إليها. وهو المرويّ عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليهما‌السلام.

وقيل : الخطاب له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولغيره. والمراد بالقربى قرابة الرجل. وهو أمر بصلة الرحم.

٢٦٨

(وَالْمِسْكِينَ) ما وظّف الله له من الخمس والزكاة (وَابْنَ السَّبِيلِ) والمسافر المحتاج ما فرض الله له في مالك.

(ذلِكَ) أي : إعطاء الحقوق مستحقّيها (خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) ذاته ، أو جهته لا جهة اخرى ، أي : يقصدون بمعروفهم إيّاه خالصا من الرياء والسمعة (وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون بما بسط لهم من النعيم المقيم.

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (٣٩) اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (٤٠))

(وَما آتَيْتُمْ) أعطيتم (مِنْ رِباً) من زيادة مال. وقرأ ابن كثير : أتيتم بالقصر ، بمعنى ما جئتم به من إعطاء ربا. (لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ) ليزيد ويزكو في أموالهم (فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللهِ) فلا يزكو عنده. وقرأ نافع ويعقوب : لتربوا بالخطاب ، أي : لتزيدوا ، أو لتصيروا ذوي ربا.

قيل : نزلت في ثقيف ، وكانوا يربون. ومعناه : وما أوتيتم من زيادة محرّمة في المعاملة ، كقوله : (يَمْحَقُ اللهُ الرِّبا وَيُرْبِي الصَّدَقاتِ) (١).

وقيل : المراد : وما أوتيتم من عطيّة يتوقّع بها مزيد مكافأة. وذلك بأن يهب رجل رجلا أو يهدي له ليعوّضه أكثر ممّا وهب أو أهدى ، فليست تلك الزيادة

__________________

(١) البقرة : ٢٧٦.

٢٦٩

بحرام ، ولكنّ المعوّض لا يثاب على تلك الزيادة.

وهذا القول منقول عن ابن عبّاس وطاووس. وهو المرويّ عن أبي جعفر عليه‌السلام.

وقالوا : الربا ربوان. فالحرام كلّ قرض يؤخذ فيه أكثر منه أو يجرّ منفعة.

والّذي ليس بحرام أن يستدعي بهبته أو بهديّته أكثر منها.

(وَما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللهِ) تبتغون به وجهه خالصا ، ولا تطلبون بها مكافأة ولا رئاء ولا سمعة (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ) ذوو الأضعاف من الثواب. ونظير المضعف المقوي والموسر لذي القوّة واليسار. أو الّذين ضعّفوا ثوابهم وأموالهم ببركة الزكاة. وتغييره عن سنن المقابلة عبارة ونظما للمبالغة. والالتفات فيه للتعظيم ، كأنّه خاطب به الملائكة وخواصّ الخلق تعريفا لحالهم ، فهو أمدح لهم من أن يقول : فأنتم المضعفون. أو للتعميم ، كأنّه قال : فمن فعل ذلك فأولئك هم المضعفون. والراجع إلى «ما» محذوف ، تقديره : المضعفون به ، أو فمؤتوه أولئك هم المضعفون.

(اللهُ) مبتدأ ، وخبره (الَّذِي خَلَقَكُمْ) أوجدكم (ثُمَّ رَزَقَكُمْ) أعطاكم أنواع النعم (ثُمَّ يُمِيتُكُمْ) ليصحّ إيصالكم إلى ما عرّضكم له من الثواب الدائم (ثُمَّ يُحْيِيكُمْ) ليجازيكم على أفعالكم. والمعنى : إنّما الله فاعل هذه الأفعال الّتي لا يقدر على شيء منها أحد غيره.

ثمّ أثبت لذاته لوازم الألوهيّة ، ونفاها رأسا عمّا اتّخذوه شركاء له من الأصنام وغيرها ، مؤكّدا بالإنكار على ما دلّ عليه البرهان والعيان ، ووقع عليه الوفاق ، بقوله :

(هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ) الّتي عبدتموها من دونه (مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ) وذكر الاستفهام لتأكيد إنكار دلالة البرهان والعيان.

٢٧٠

ثمّ استنتج من ذلك تقدّسه عن أن يكون له شركاء ، فقال : (سُبْحانَهُ وَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ) ويجوز أن يكون الموصول صفة ، والخبر «هل من شركائكم» والرابط «من ذلكم» لأنّه بمعنى : من أفعاله. و «من» الأولى والثانية تفيدان شيوع الحكم في جنس الشركاء والأفعال ، والثالثة مزيدة لتعميم المنفيّ. وكلّ منها مستقلّة بالتأكيد ، لتعجيز الشركاء ، وتجهيل عبدتهم. وقرأ حمزة والكسائي بالتاء.

(ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (٤١) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (٤٢) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (٤٣) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (٤٤) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٥) وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦))

ثمّ ذكر سبحانه ما أصاب الخلق بسبب ترك التوحيد ، فقال : (ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) كالجدب والموتان ، وكثرة الحرق والغرق ، ومحق البركات ، وكثرة المضارّ والظلم. وعن ابن عبّاس : معناه : أجدبت الأرض. وانقطعت مادّة البحر.

٢٧١

وقالوا : إذا انقطع القطر عميت دوابّ البحر. وعن الحسن المراد بالبحر قرى السواحل.

وأصل البرّ من البرّ ، لأنّه يبرّ بصلاح المقام فيه. وكذلك البرّ ، لأنّه يبرّ بصلاح الغذاء أتمّ صلاح. وأصل البحر الشقّ ، لأنّه شقّ في الأرض ، ثمّ اتّسع استعماله ، فسمّي الماء الملح بحرا وإن قلّ.

وقيل : فساد البرّ ما يحصل فيه من المخاوف المانعة من سلوكه ، ويكون ذلك بخذلان الله أهله ، والعقاب به. وفساد البحر اضطراب أمره ، حتّى لا يكون للعباد متصرّف فيه.

(بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ) بشؤم كسب معاصيهم. وعن مجاهد : ظهر الفساد في البرّ بقتل ابن آدم أخاه ، وفي البحر بأنّ جلندى (١) كان يأخذ كلّ سفينة غصبا.

(لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا) بعض جزائه ، فإنّ تمامه في الآخرة. واللام للعلّة ، أو للعاقبة. وعن ابن كثير ويعقوب : لنذيقهم بالنون. (لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) عمّا هم عليه.

ثمّ أكّد تسبّب المعاصي لغضب الله ونكاله ، حيث أمرهم بأن يسيروا في الأرض فينظروا آثار تدميرهم ، فقال :

(قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ) كيف أهلك الله الأمم ، وأذاقهم سوء العاقبة لمعاصيهم ، بأن جعل قصورهم قبورهم ، ومحاضرهم مقابرهم ، لتشاهدوا مصداق ذلك ، وتتحقّقوا صدقه. و (كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ) استئناف للدلالة على أنّ سوء عاقبتهم كان لفشوّ الشرك وغلبته فيهم. أو على أنّ الشرك وحده لم يكن سبب تدميرهم ، وأنّ ما دونه من المعاصي يكون أيضا سببا له.

__________________

(١) اسم ملك عمان.

٢٧٢

(فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ) البليغ الاستقامة ، الّذي لا يتأتّى فيه عوج أصلا.

والمعنى : لا تعدل عنه يمينا ولا شمالا ، فإنّك متى فعلت ذلك أدّاك إلى طريق مستقيم إلى الجنّة.

(مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ) لا يقدر أن يردّه أحد. وهو يوم القيامة. وقوله : (مِنَ اللهِ) متعلّق بـ «يأتي» أي : من قبل أن يأتي من الله يوم لا يردّه أحد. ويجوز أن يتعلّق بـ «مردّ» لأنّه مصدر على معنى : لا يردّه الله ، لتعلّق إرادته القديمة بمجيئه.

(يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ) يتصدّعون ، أي : يتفرّقون ، فريق في الجنّة ، وفريق في السعير. كما قال : (مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ) أي : وباله. وهو النار المؤبّدة. (وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ) يسوّون ويوطّئون لأنفسهم في الجنّة ما يسوّيه لنفسه الّذي يمهّد فراشه ويوطّئه ، لئلّا يصيبه في مضجعه ما ينغّص عليه مرقده ، من نتوء (١) وسائر ما يؤذي الراقد. يقال : مهّدت لنفسي خيرا ، أي : هيّأته ووطّأته.

روى منصور بن حازم عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «إنّ العمل الصالح ليسبق صاحبه إلى الجنّة ، فيمهّد له كما يمهّد لأحدكم خادمه فراشه».

وتقديم الظرف في الموضعين ، للدلالة على أنّ ضرر الكفر لا يعود إلّا على الكافر لا يتعدّاه ، ومنفعة الإيمان والعمل الصالح ترجع إلى المؤمن لا تتجاوزه.

(لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) علّة لـ «يمهدون» أو لـ «يصّدّعون». والاقتصار على جزاء المؤمنين ، للإشعار بأنّه المقصود بالذات. (مِنْ فَضْلِهِ) متعلّق بفعل الجزاء ، أي ليجزيهم ممّا يتفضّل عليهم بعد توفية الواجب من الثواب. وهذا يشبه الكناية ، لأنّ الفضل تبع للثواب ، فلا يكون إلّا بعد حصول ما هو تبع له. أو أراد : من عطائه ، وهو ثوابه ، لأنّ الفضول والفواضل هي الأعطية عند العرب.

__________________

(١) أي : ارتفاع.

٢٧٣

وقيل : معناه : بسبب فضله ، لأنّه خلقهم وهداهم ومكّنهم وأزاح علّتهم ، حتّى استحقّوا الثواب.

وتكرير (الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) وترك الضمير إلى الصريح ، لتقرير أنّه لا يفلح عنده إلّا المؤمن لصالح.

وقوله : (إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ) يدلّ بمنطوقه على إثبات البغض لهم ، كما يدلّ بمفهومه على إثبات المحبّة للمؤمنين.

(وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ) الشمال والصبا والجنوب ، فإنّها رياح الرحمة ، وأمّا الدبور فريح العذاب. ومنه قوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهمّ اجعلها رياحا ، ولا تجعلها ريحا». وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي : الريح ، على إرادة الجنس.

(مُبَشِّراتٍ) بالمطر ، فكأنّها ناطقات بالبشارة ، لما فيها من الدلالة عليه.

وإرسالها تحريكها وإجراؤها في الجهات المختلفة ، تارة شمالا ، وتارة جنوبا ، وتارة صبا ، على حسب ما يعلم الله في ذلك من المصلحة.

(وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ) يعني : المنافع التابعة لها. وهي : نزول المطر ، والخصب التابع لنزول المطر المسبّب عنها ، والروح الّذي مع هبوبها ، وزكاء الأرض. قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «إذا كثرت المؤتفكات زكت الأرض». والمؤتفكات : هي الرياح الّتي تختلف مهابّها. وإزالة العفونة من الهواء ، وتذرية الحبوب ، وغير ذلك.

والعطف على علّة محذوفة دلّ عليها «مبشّرات». كأنّه قيل : ليبشّركم وليذيقكم. أو عليها باعتبار المعنى ، فإنّها في معنى : ليبشّركم. ويجوز أن يتعلّق بمحذوف ، تقديره : ليكون كذا وكذا أرسلناها وليذيقكم.

(وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ) عند هبوبها. وإنّما قال : «بأمره» لأنّ الريح قد تهبّ ولا تكون مؤاتية ، فلا بدّ من إرساء السفن والاحتيال لحبسها ، وربما عصفت

٢٧٤

فأغرقتها. (وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ) يعني : تجارة البحر (وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) ولتشكروا نعمة الله فيها.

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧) اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (٤٨) وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (٤٩) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٥٠))

وبعد ذكر أدلّة التوحيد والقدرة الكاملة ، خاطب نبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تسلية له في تكذيب قومه إيّاه ، فقال :

(وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ) المعجزات الباهرات ، فكذّبوهم وجحدوا بآياتنا ، فاستحقّوا العذاب (فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا) بالتدمير. وقوله : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) إشعار بأنّ الانتقام تعظيم لهم ، ورفع لشأنهم ، حيث جعلهم مستحقّين على الله أن ينصرهم.

وجاءت الرواية عن أمّ الدرداء أنّها قالت : سمعت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «ما من امرئ مسلم يردّ عن عرض أخيه ، إلّا كان حقّا على الله أن يردّ عنه نار جهنّم

٢٧٥

يوم القيامة». ثمّ تلا قوله : (وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).

وقد يوقف على «حقّا» على أنّه متعلّق بالانتقام. والمعنى : وكان الانتقام منهم حقّا ، ثمّ يبتدأ : (عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ).

ثمّ قال تفسيرا لما أجمله في الآية المتقدّمة : (اللهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً) فتهيّجه وتزعجه (فَيَبْسُطُهُ) متّصلا تارة (فِي السَّماءِ) في سمتها ، كقوله : (وَفَرْعُها فِي السَّماءِ) (١) (كَيْفَ يَشاءُ) سائرا أو واقفا ، مطبقا وغير مطبق ، من جانب دون آخر ، إلى غير ذلك.

(وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً) أي : قطعا متفرّقة تارة اخرى. وقيل : متراكبا بعضه على بعض حتّى يغلظ. وقرأ ابن عامر بالسكون على أنّه مخفّف ، أو جمع كسفة ، أو مصدر وصف به.

(فَتَرَى الْوَدْقَ) أي : القطر (يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ) في التارتين جميعا (فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) يعني : بلادهم وأراضيهم (إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ) يفرحون لمجيء الخصب ، أو يبشّر بعضهم بعضا به.

(وَإِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ) المطر (مِنْ قَبْلِهِ) تكرير للتأكيد ، كقوله : (فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها) (٢) (لَمُبْلِسِينَ) لآيسين.

ومعنى التأكيد فيه : الدلالة على أنّ عهدهم بالمطر قد تطاول وبعد ، فاستحكم يأسهم ، وتمادى إبلاسهم (٣). وقيل : الضمير للسحاب ، أو إرسال السحاب.

(فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللهِ) أي : أثر الغيث ، من النبات والأشجار وأنواع الثمار. ولذلك جمعه ابن عامر وحمزة والكسائي وحفص. (كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ)

__________________

(١) إبراهيم : ٢٤.

(٢) الحشر : ١٧.

(٣) الإبلاس : اليأس من الخير ، وقلّة الخير ، والانكسار غمّا وحزنا.

٢٧٦

بإنبات الخضراوات (بَعْدَ مَوْتِها) بعد أن كانت مواتا يابسة. جعل سبحانه اليبس والجدوبة بمنزلة الموت ، وظهور النبات فيها بمنزلة الحياة توسّعا.

(إِنَّ ذلِكَ) يعني : الّذي قدر على إحياء الأرض بعد موتها (لَمُحْيِ الْمَوْتى) لقادر على إحيائهم ، فإنّه إحداث لمثل ما كان في موادّ أبدانهم من القوى الحيوانيّة ، كما أنّ إحياء الأرض إحداث لمثل ما كان فيها من القوى النباتيّة (وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من المقدورات (قَدِيرٌ) لأنّ نسبة قدرته إلى جميع الممكنات على سواء.

(وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (٥١) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (٥٢) وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (٥٣))

ثمّ عاب سبحانه كافر النعمة بقوله : (وَلَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً) مؤذنة بالهلاك.

وهي الريح الباردة. (فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا) فرأوا الأثر أو الزرع ، فإنّه مدلول عليه بما تقدّم. وقيل : السحاب ، لأنّه إذا كان مصفرّا لم يمطر. واللام موطّئة للقسم ، دخلت على حرف الشرط. وقوله : (لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ) جواب القسم سدّ مسدّ الجزاء. ولذلك فسّر بالاستقبال ، أي : ليظللن.

ذمّهم الله سبحانه في هذه الآية بأنّه إذا حبس عنهم القطر قنطوا من رحمته ، وضربوا أذقانهم على صدورهم مبلسين ، وكان عليهم أن يتوكّلوا على الله وفضله.

وإذا أصابهم برحمته ورزقهم المطر استبشروا وابتهجوا ، وكان عليهم أن يشكروا نعمته ويحمدوه عليها ، فلم يزيدوا على الفرح. وإذا أرسل ريحا فضرب زروعهم

٢٧٧

بالصفار (١) ضجّوا وكفروا بنعمته ، وكان عليهم أن يصبروا على بلائه ولم يكفروا. فهم في جميع هذه الأحوال على الصفات المذمومة.

ولمّا كان هكذا حالهم في عدم التدبّر فيما ينفعهم في خاتمتهم ، قال سبحانه لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى) أي : هم مثل الموتى ، لمّا سدّوا عن الحقّ مشاعرهم (وَلا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ) إذا أعرضوا عن أدلّتنا ، ذاهبين إلى الضلال والفساد ، غير سالكين سبيل الرشاد. قيّد الحكم به ، ليكون أشدّ استحالة ، فإنّ الأصمّ المقبل وإن لم يسمع الكلام ، يفطن منه بواسطة الحركات شيئا.

(وَما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ) يعني : أنّهم كالعمي لا يهتدون بالأدلّة ، ولا تقدر على ردّهم عن العمى ، إذ لم يطلبوا الاستبصار. فسمّاهم عميا لفقدهم المقصود الحقيقي من الإبصار ، أو لعمى قلوبهم.

(إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا) يصدّق بآياتنا وأدلّتنا ، فإنّ إيمانهم يدعوهم إلى تلقّي اللفظ وتدبّر المعنى. ويجوز أن يراد بالمؤمن المشارف للإيمان. (فَهُمْ مُسْلِمُونَ) منقادون لما يأمرهم.

(اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (٥٤) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (٥٥) وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ إِلى يَوْمِ

__________________

(١) أي : الصفرة : والصفارة : ماذوي من النبات وذبل.

٢٧٨

الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (٥٦) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (٥٧) وَلَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (٥٨) كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (٥٩) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (٦٠))

ثمّ عاد سبحانه إلى ذكر الأدلّة ، فقال : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ) أي : ابتدأكم ضعفاء ، وجعل الضعف أساس أمركم ، وما عليه جبلّتكم وبنيتكم ، كقوله : (وَخُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً) (١). وذلك حال الطفوليّة ، لا تقدرون على البطش والمشي وسائر التصرّفات. أو خلقكم من أصل ضعيف ، وهو النطفة ، كقوله : (مِنْ ماءٍ مَهِينٍ) (٢).

(ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً) وذلك إذا بلغتم الحلم ، أو تعلّق بأبدانكم الروح (ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) إذا طعنتم في السنّ.

وفتح عاصم وحمزة الضاد في جميعها. والضمّ أقوى ، لقول ابن عمر : قرأتها على رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «من ضعف» فأقرأني : «من ضعف». وهما لغتان ، كالفقر والفقر. والتنكير مع التكرير ، لأنّ المتأخّر ليس عين المتقدّم.

(يَخْلُقُ ما يَشاءُ) من ضعف وقوّة وشيبة (وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) فإنّ الترديد

__________________

(١) النساء : ٢٨.

(٢) السجدة : ٨.

٢٧٩

في الأحوال المختلفة ، والتغيير من هيئة ، إلى هيئة ، وصفة إلى صفة ، مع إمكان غيره ، أظهر دليل وأعدل شاهد على الصانع العليم القدير.

ثمّ بيّن سبحانه حال البعث ، فقال : (وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ) القيامة. سمّيت بها ، لأنّها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا ، أو لأنّها تقع بغتة. وصارت علما لها بالغلبة ، كالكوكب للزهرة والنجم للثريّا.

(يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا) أي : يحلفون ما مكثوا في الدنيا ، أو في القبور ، أو فيما بين فناء الدنيا إلى البعث. وفي الحديث : «ما بين فناء الدنيا إلى وقت البعث أربعون». قالوا : لا نعلم أهي أربعون سنة ، أم أربعون ألف سنة ، أم أيّام ، أم ساعات؟ وذلك وقت يفنون فيه. (غَيْرَ ساعَةٍ) استقلّوا مدّة لبثهم إضافة إلى مدّة عذابهم في الآخرة ، أو نسيانا.

(كَذلِكَ) مثل ذلك الصرف عن الصدق والتحقيق ، وقولهم على التخمين (كانُوا يُؤْفَكُونَ) يصرفون في الدنيا ، وهكذا كانوا يبنون أمرهم على خلاف الحقّ.

ثمّ أخبر عن علماء المؤمنين من الملائكة والإنس في ذلك اليوم ، فقال : (وَقالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللهِ) في علم الله ، أو قضائه ، أو فيما كتبه لكم ، أي : أوجبه بحكمته ، أو في اللوح ، أو القرآن. وهو قوله : (وَمِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ) (١). (إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ).

ردّوا بذلك ما قاله الكفّار وحلفوا عليه ، وأطلعوهم على الحقيقة. ثمّ وصلوا ذلك بتقريعهم على إنكار البعث بقولهم : (فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ) الّذي أنكرتموه (وَلكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) أنّه حقّ ، لتفريطكم في طلب الحقّ واتّباعه. والفاء لجواب شرط محذوف ، تقديره : إن كنتم منكرين البعث فهذا يومه ، أي : فقد تبيّن بطلان إنكاركم.

__________________

(١) المؤمنون : ١٠٠.

٢٨٠