زبدة التّفاسير - ج ٥

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٥

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-07-8
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٥٩٦

(لِيَجْزِيَ اللهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ) في العهود (وَيُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ) بنقض عهودهم (إِنْ شاءَ) إذا لم يتوبوا (أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ) إن تابوا. هذا تعليل للمنطوق والمعرّض به في قوله : (وَما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً). فكأنّ المنافقين قصدوا بالتبديل عاقبة السوء ، كما قصد الصادقون المخلصون بالثبات والوفاء العاقبة الحسنى ، فإنّ كلا الفريقين مسوق إلى عاقبته من الثواب والعقاب ، فكأنّهما استويا في طلبهما والسعي لتحصيلهما. (إِنَّ اللهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً) لمن تاب.

(وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَكانَ اللهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (٢٥))

ثمّ عاد سبحانه إلى تعداد نعمه على المؤمنين ، فقال : (وَرَدَّ اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا) يعني : الأحزاب (بِغَيْظِهِمْ) متغيّظين ، كقوله : (تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ) (١) (لَمْ يَنالُوا خَيْراً) غير ظافرين على المؤمنين. وهما حالان بتداخل أو تعاقب. ويجوز أن تكون الثانية بيانا للأولى أو استئنافا.

(وَكَفَى اللهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ) بالريح والملائكة والرعب (وَكانَ اللهُ قَوِيًّا) على إحداث ما يريده (عَزِيزاً) غالبا على كلّ شيء.

وعن ابن مسعود : وكفى الله المؤمنين القتال بعليّ بن أبي طالب ، وقتله عمرو بن عبد ودّ ، فإنّه كان سبب هزيمة القوم. وهو المرويّ عن أبي عبد الله عليه‌السلام.

وروي : أنّ جبرئيل عليه‌السلام أتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ صبيحة الليلة الّتي انهزم فيها الأحزاب ، ورجع المسلمون إلى المدينة ، ووضعوا سلاحهم ـ على فرسه الحيزوم ، والغبار على وجه الفرس وعلى السرج ، فقال : يا رسول الله أتنزع لامتك والملائكة

__________________

(١) المؤمنون : ٢٠.

٣٦١

لم يضعوا السلاح؟ إنّ الله يأمرك بالسير إلى بني قريظة ، وأنا عامد إليهم ، فإنّ الله تعالى داقّهم دقّ البيض على الصفا (١) ، وإنّهم لكم طعمة ، فأذّن في الناس : أنّ من كان سامعا مطيعا فلا يصلّي العصر إلّا في بني قريظة.

فبعث النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليّ بن أبي طالب على المقدّمة ، ودفع إليه اللواء ، وأمره أن ينطلق حتّى يقف بالأصحاب على حصن بني قريظة ، ففعل.

وخرج رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم على آثارهم ، فمرّ على مجلس من الأنصار في بني غنم ، ينتظرون رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فزعموا أنّه قال : مرّ بكم الفارس آنفا؟

فقالوا : مرّ بنا دحية الكلبي على بغلة شهباء ، تحته قطيفة ديباج.

فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ليس ذلك بدحية ، ولكنّه جبرئيل عليه‌السلام أرسل إلى بني قريظة ليزلزلهم ، ويقذف في قلوبهم الرعب.

قالوا : وسار عليّ عليه‌السلام حتّى إذا دنا من الحصن ، سمع منهم مقالة قبيحة لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فرجع حتّى لقي رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالطريق ، فقال : يا رسول الله! لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث.

قال : أظنّك سمعت لي منهم أذى؟

فقال : نعم يا رسول الله.

فقال : لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا. فلمّا دنا رسول الله من حصونهم ، قال : يا إخوة القردة والخنازير هل أخزاكم الله وأنزل بكم نقمته؟

فقالوا : يا أبا القاسم! ما كنت جهولا.

فحاصرهم خمسا وعشرين ليلة حتّى أجهدهم الحصار ، وقذف الله في قلوبهم الرعب.

وكان حييّ بن أخطب دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت قريش

__________________

(١) الصفا جمع الصفاة. وهي : الحجر الضخم.

٣٦٢

وغطفان. فلمّا أيقنوا أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم غير منصرف عنهم حتّى يناجزهم ، قال كعب بن أسد : يا معشر يهود! قد نزل بكم من الأمر ما ترون ، وإنّي عارض عليكم خلالا ثلاثا ، فخذوا أيّها شئتم.

قالوا : ما هنّ؟

قال : نبايع هذا الرجل ونصدّقه. فو الله لقد تبيّن لكم أنّه نبيّ مرسل ، وأنّه الذي تجدونه في كتابكم ، فتأمنوا على دمائكم وأموالكم ونسائكم.

فقالوا : لا نفارق حكم التوراة أبدا ، ولا نستبدل به غيره.

قال : فإذا أبيتم عليّ هذا ، فهلمّوا لنقتل أبناءنا ونساءنا ، ثمّ نخرج إلى محمّد رجالا مصلتين (١) بالسيوف ، ولم نترك وراءنا ثقلا يهمّنا ، حتّى يحكم الله بيننا وبين محمّد. فإن نهلك نهلك ولم نترك وراءنا نسلا يهمّنا. وإن نظهر لنجدنّ النساء والأبناء.

فقالوا : نقتل هؤلاء المساكين ، فما خير في العيش بعدهم.

قال : فإذا أبيتم عليّ هذا ، فإنّ الليلة ليلة السبت ، وعسى أن يكون محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأصحابه قد أمنوا فيها ، فانزلوا فلعلّنا نصيب منهم غرّة (٢).

فقالوا : نفسد سبتنا ، ونحدث فيها ما أحدث من كان قبلنا ، فأصابهم ما قد علمت من المسخ.

فقال : ما بات رجل منكم منذ ولدته أمّه ليلة واحدة من الدهر حازما.

قال الزهري : وقال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين سألوه أن يحكّم فيهم رجلا : اختاروا من شئتم من أصحابي. فاختاروا سعد بن معاذ ، فرضي بذلك. فنزلوا على حكم سعد بن معاذ ، ورضوا به.

__________________

(١) أصلت السيف : جرّده من غمده.

(٢) الغرّة : الغفلة.

٣٦٣

فقال سعد : حكمت بقتل مقاتليهم ، وسبي ذراريهم ونسائهم.

فكبّر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقال : حكمت بحكم الله من فوق سبعة أرقعة (١). ثمّ استنزلهم ، وخندق في سوق المدينة خندقا ، وقدّمهم فضرب أعناقهم ، وهم من ثمانمائة إلى تسعمائة. وقيل : كانوا ستّمائة مقاتل ، وسبعمائة أسير.

وقد روي : أنّه أتي بحييّ بن أخطب عدوّ الله ، مجموعة يداه إلى عنقه ، وعليه حلّة فاختيّة ، قد شقّها عليه من كلّ ناحية كموضع الأنملة ، لئلّا يسلبها. فلمّا بصر برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : أمّا والله ما لمت نفسي على عداوتك ، ولكنّه من يخذله الله يخذل. ثمّ قال : أيّها الناس! لا بأس بأمر الله ، كتاب الله وقدره ، ملحمة كتبت على بني إسرائيل. ثمّ جلس فضرب عنقه. ثمّ قسّم رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم نساءهم وأموالهم على المسلمين.

(وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ صَياصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً (٢٦) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيارَهُمْ وَأَمْوالَهُمْ وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً (٢٧))

ثمّ ذكر سبحانه ما فعل بهم ، امتنانا على المؤمنين ، فقال : (وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ) عاونوا الأحزاب (مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ) يعني : قريظة (مِنْ صَياصِيهِمْ) من حصونهم. جمع صيصية ، وهي ما يتحصّن به. ولذلك يقال لقرن الثور والظبي وشوكة الديك ـ أي : مخلبه الّتي في ساقه يتحصّن بها ـ : صيصية.

(وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ) وألقى الله في قلوبهم الخوف من النبيّ وأصحابه

__________________

(١) جمع رقيع. وهي السماء عموما ، أو سماء الدنيا.

٣٦٤

المؤمنين (فَرِيقاً تَقْتُلُونَ) يعني : الرجال منهم (وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً) يعني : الذراري والنساء منهم.

وروي : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار. فقال الأنصار في ذلك. فقال : إنّكم في منازلكم. وقال عمر : أما تخمّس كما خمّست يوم بدر؟ قال : إنّما جعلت لي هذه طعمة دون الناس. قال : رضينا بما صنع الله ورسوله.

وحكى الله تعالى عن ذلك بقوله : (وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ) وأعطاكم مزارعهم (وَدِيارَهُمْ) حصونهم (وَأَمْوالَهُمْ) ومواشيهم وأثاثهم ونقودهم (وَأَرْضاً لَمْ تَطَؤُها) بأقدامكم بعد ، وسيفتحها الله عليكم. وهي خيبر ، فتحها الله عليهم بعد بني قريظة. وعن الحسن : هي فارس والروم. وقيل : مكّة. وقيل : كلّ أرض يفتح إلى يوم القيامة. (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً) فيقدر على ذلك.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَزِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٢٨) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (٢٩) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً (٣٠) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً

٣٦٥

مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤))

روي : أنّ أزواج النبيّ حين رأين الفتح والنصرة في الغزوات ، وكثرة الغنائم ، سألنه شيئا منها ، وطلبن منه ثياب الزينة وزيادة النفقة ، وبالغن في ذلك ، وقد تأذّى منه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم واغتمّ ، فنزلت :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) وكنّ يومئذ تسعا : عائشة ، وحفصة ، وأمّ حبيبة بنت أبي سفيان ، وسودة بنت زمعة ، وأمّ سلمة بنت أبي اميّة. فهؤلاء من قريش.

وصفيّة بنت حييّ الخيبريّة ، وميمونة بنت الحارث الهلاليّة ، وزينب بنت جحش الأسديّة ، وجويرية بنت الحارث المصطلقيّة.

(إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا) أي : سعة العيش في الدنيا والتنعّم فيها (وَزِينَتَها) وزخارفها (فَتَعالَيْنَ) وأصل «تعال» أن يقول من في المكان المرتفع لمن في المكان المنخفض ، ثمّ كثر حتّى استوت في استعماله الأمكنة جميعا.

(أُمَتِّعْكُنَ) أعطكنّ متعة الطلاق ، أي : كمتعة المطلّقة الّتي لم يسمّ مهرها ، ولم يكن مدخولا بها. فإن كانت مدخولا بها ومفروضا لها فالتمتيع سنّة. وقد مرّ تفصيل ذلك في سورة البقرة (١). وقيل : أمتّعكنّ بتوفير المهر.

(وَأُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلاً) واطلّقكنّ طلاقا من غير ضرر ، فإنّ السراح

__________________

(١) راجع ج ١ ص ٣٦٤ ـ ٣٦٩ ذيل الآية ٢٢٩ ـ ٢٣١ من سورة البقرة.

٣٦٦

الجميل الطلاق من غير خصومة ، ولا مشاجرة بين الزوجين.

وبعد نزول هذه الآية خيّرهنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاخترنه. فشكر لهنّ الله ذلك.

فأنزل (لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ) (١) الآية. وتقديم التمتيع على التسريح المسبّب عنه ، من الكرم وحسن الخلق.

(وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي : طاعة الله وطاعة رسوله (وَالدَّارَ الْآخِرَةَ) وثوابها ، والصبر على ضيق العيش في الدنيا (فَإِنَّ اللهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً) يستحقر دونه الدنيا وزينتها.

واختلف العلماء في حكم التخيير على أقوال :

أحدها : أنّ الرجل إذا خيّر امرأته فاختارت زواجها ، فلا شيء. وإن اختارت نفسها ، تقع تطليقة واحدة. وهو قول ابن مسعود. وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه.

وثانيها : أنّه إذا اختارت نفسها تقع ثلاث تطليقات. وإن اختارت زوجها تقع واحدة. وهو قول زيد بن ثابت. وإليه ذهب مالك.

وثالثها : أنّه إن نوى الطلاق كان طلاقا ، وإلّا فلا. وهو مذهب الشافعي.

ورابعها : أنّه لا يقع بالتخيير طلاق. وإنّما كان للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خاصّة. فلو اخترن أنفسهن لمّا خيرهنّ لبنّ منه. فأمّا غيره فلا يجوز له ذلك. وهو المرويّ عن أئمّتنا عليهم‌السلام.

ثمّ خاطب سبحانه نساء النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : (يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ) بسيّئة بليغة في القبح. وهي الكبيرة. (مُبَيِّنَةٍ) ظاهر فحشها. وقيل : هي عصيانهنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أو ما يضيق به ذرعه ، ويغتمّ لأجله. ومن قال : الزنا ، فقد أخطأ أفحش الخطأ ، لأنّه سبحانه عاصم ورسوله من ذلك في حديث

__________________

(١) الأحزاب : ٥٢.

٣٦٧

الإفك ، كما مرّ بيانه (١).

(يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ) ضعفي عذاب غيرهنّ ، أي : مثليه ، لأنّ الذنب منهنّ أقبح من سائر النساء ، لمكان النبيّ ، ونزول الوحي في بيوتهنّ ، فإنّ زيادة القبح تتبع زيادة فضل المذنب ، وزيادة النعمة عليه. فمن زاد قبحا ازداد عقابه شدّة. ولذلك كان ذمّ العقلاء للعاصي العالم ، أشدّ منه للعاصي الجاهل. وجعل حدّ الحرّ ضعفي حدّ العبد. وعوتب الأنبياء بما لا يعاتب به غيرهم.

وقرأ البصريّان : يضعّف. وابن كثير وابن عامر : نضعّف ، بالنون ، وبناء الفاعل ، ونصب «العذاب».

(وَكانَ ذلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيراً) لا يمنعه عن التضعيف كونهنّ نساء النبيّ. وكيف وهو سببه ، فكان داعيا إلى تشديد الأمر عليهنّ.

(وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَ) ومن يدم ويواظب على الطاعة (لِلَّهِ وَرَسُولِهِ) فإنّ القنوت الطاعة. ومنه القنوت في الصلاة. وهو المداومة على الدعاء. ولعلّ ذكر الله للتعظيم ، أو لقوله : (وَتَعْمَلْ صالِحاً) فيما بينها وبين ربّها (نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) مرّة على الطاعة ، ومرّة على طلبهنّ رضا النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالقناعة وحسن الخلق وطيب المعاشرة.

وقرأ حمزة والكسائي : ويعمل بالياء ، حملا على لفظ «من». و «يؤتها» بالياء أيضا ، على أنّ فيه ضمير اسم الله.

(وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) في الجنّة زيادة على أجرها.

روى أبو حمزة الثمالي عن زيد بن عليّ عليهما‌السلام أنّه قال : إنّي لأرجو للمحسن منّا أجرين ، وأخاف على المسيء منّا أن يضاعف له العذاب ضعفين ، كما وعد أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

__________________

(١) راجع ج ٤ ص ٤٨٣ ، ذيل الآية ١١ من سورة النور.

٣٦٨

وروى محمد بن أبي عمير ، عن إبراهيم بن عبد الحميد ، عن عليّ بن عبد الله بن الحسين ، عن أبيه ، عن عليّ بن الحسين زين العابدين عليه‌السلام ، أنّه قال له رجل : إنّكم أهل بيت مغفور لكم. قال : فغضب وقال : «نحن أحرى أن يجرى فينا ما أجرى الله في أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، من أن نكون كما تقول. إنّا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر ، ولمسيئنا ضعفين من العذاب. ثمّ قرأ الآيتين».

ثمّ أظهر سبحانه فضيلتهنّ على سائر النسوان بقوله : (يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) أصل أحد وحد ، بمعنى الواحد ، ثمّ وضع في النفي العامّ ، مستويا فيه المذكّر والمؤنّث ، والواحد والكثير.

والمعنى : لستنّ كجماعة واحدة من جماعات النساء في الفضل ، أي : إذا تقصّيت أمّة النساء جماعة جماعة ، لم توجد منهنّ جماعة واحدة تساويكنّ في الفضل والسابقة. كما قال ابن عبّاس : معناه : ليس قدركنّ عندي كقدر غيركنّ من النساء الصالحات ، أنتنّ أكرم عليّ ، وأنا بكنّ أرحم ، وثوابكنّ أعظم ، لمكانكنّ من رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. (إِنِ اتَّقَيْتُنَ) عن مخالفة حكم الله ورضا رسوله (فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ) فلا تجئن بقولكنّ خاضعا ليّنا ، أي : لا ترقّقن القول ، ولا تلنّ الكلام للرجال ، ولا تخاطبن الأجانب مخاطبة تؤدّي إلى طمعهم ، فتكنّ كما تفعل المرأة الّتي تظهر الرغبة في الرجال (فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ) ريبة وفجور (وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) حسنا بعيدا عن الريبة ، بريئا من التهمة ، بجدّ وخشونة من غير لينة.

(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ) من : وقر يقر وقارا ، أو من : قرّ يقرّ. حذفت الأولى من راءي «اقررن» ، ونقلت كسرتها إلى القاف ، فاستغني به عن همزة الوصل ، كما تقول : ظلن. ويؤيّده قراءة نافع وعاصم بالفتح ، من : اقررن. وهو لغة فيه ، كقولك : ظلن. ويحتمل أن يكون من : قارّ يقارّ إذا اجتمع. ومنه : القارّة لاجتماعها.

(وَلا تَبَرَّجْنَ) لا تخرجن (تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) تبرّجا مثل تبرّج النساء

٣٦٩

في أيّام الجاهليّة القديمة الّتي يقال لها : الجاهليّة الجهلاء. وهي الزمان الّذي ولد فيه إبراهيم عليه‌السلام. كانت المرأة تلبس درعا من اللؤلؤ ، فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال. وقيل : ما بين آدم ونوح. وقيل : ما بين إدريس ونوح. وقيل : زمن داود وسليمان. والجاهليّة الاخرى ما بين عيسى ومحمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وقيل : الجاهليّة الاولى جاهليّة الكفر قبل الإسلام ، والجاهليّة الاخرى جاهليّة الفسوق في الإسلام. والمعنى : لا تظهرن زينتكنّ كما كنّ يظهرن ذلك.

وقيل : التبرّج التبختر والتكبّر في المشي. وقيل : هو أن تلقي الخمار على رأسها ، ولا تشدّه ، فتواري قلائدها وقرطيها (١) ، فيبدو ذلك منها.

(وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) في سائر ما أمر كنّ به ونهاكنّ عنه. أمرهنّ أمرا خاصّا بالصلاة والزكاة ، ثمّ جاء به عامّا في جميع الطاعات ، لأنّ هاتين الطاعتين ـ البدنيّة والماليّة ـ هما أصل الطاعات ، من اعتنى بهما حق اعتنائه جرّتاه إلى ما وراءهما.

ثمّ قال سبحانه : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ) الذنب المدنّس لعرضكم (أَهْلَ الْبَيْتِ) نصب على النداء أو المدح. وتعريف البيت لأنّ المراد به بيت النبوّة والرسالة. والعرب تسمّي ما يلتجأ إليه بيتا. ولهذا سمّوا الأنساب بيوتا ، وقالوا : بيوتات العرب ، يريدون النسب. وبيت النبوّة والرسالة كبيت النسب. (وَيُطَهِّرَكُمْ) عن المعاصي (تَطْهِيراً).

استعار للذنوب الرجس ، وللتقوى الطهر ، لأنّ عرض المقترف للمقبّحات يتلوّث بها ويتدنّس ، كما يتلوّث بدنه بالأرجاس. وأمّا المحسّنات فالعرض معها نقيّ مصون ، كالثوب الطاهر. وفي هذه الاستعارة ما ينفّر أولي الألباب عمّا كرهه الله تعالى لعباده ونهاهم عنه ، ويرغبّهم فيما رضيه لهم وأمرهم به.

__________________

(١) القرط : ما يعلّق في شحمة الأذن من درّة ونحوها.

٣٧٠

واعلم أنّ الامّة اتّفقوا بأجمعهم على أنّ المراد بأهل البيت في هذه الآية أهل بيت نبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. ثمّ اختلفوا ، فقال عكرمة : أراد أزواج النبيّ ، لأنّ أوّل الآية متوجّه إليهنّ. وقال أبو سعيد الخدري ، وأنس بن مالك ، وواثلة بن الأسقع ، وعائشة ، وامّ سلمة : إنّ الآية مختصّة برسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعليّ ، وفاطمة ، والحسن ، والحسين عليهم‌السلام.

وذكر أبو حمزة الثمالي في تفسيره : حدّثني شهر بن حوشب ، عن امّ سلمة ، قالت : «جاءت فاطمة إلى النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم تحمل حريرة (١) لها. فقال : ادعي زوجك وابنيك. فجاءت بهم فطعموا ، ثمّ ألقى عليهم كساء له خيبريّا ، وقال : اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وعترتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا. فقلت : يا رسول الله وأنا معهم؟ قال : أنت إلى خير».

وروى الثعلبي في تفسيره أيضا بالإسناد عن امّ سلمة : «أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان في بيتها ، فأتته فاطمة عليها‌السلام ببرمة (٢) فيها حريرة. فقال لها : أدعي زوجك وابنيك.

فذكرت الحديث نحو ذلك. ثمّ قالت : فأنزل الله تعالى : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ) الآية. قالت : فأخذ فضل الكساء فغشّاهم به ، ثمّ أخرج يده فألوى بها إلى السماء ، ثمّ قال : اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وحامتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا. فأدخلت رأسي البيت وقلت : أنا معكم يا رسول الله؟ قال : إنّك إلى خير».

وبإسناده قال مجمع : دخلت مع امّي على عائشة ، فسألتها امّي : أرأيت خروجك يوم الجمل؟ قالت : إنّه كان قدرا من الله. فسألتها عن عليّ. فقالت : تسأليني عن أحبّ الناس كان إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وزوج أحبّ الناس كان إلى رسول الله. لقد رأيت عليّا وفاطمة وحسنا وحسينا ، وجمع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بثوب

__________________

(١) الحريرة : الدقيق يطبخ بلبن أو دسم.

(٢) البرمة : القدر من الحجر.

٣٧١

عليهم ، ثمّ قال : «اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وحامتي ، فأذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا». قالت : فقلت : يا رسول الله! أنا من أهلك؟ قال : «تنحّي فإنّك إلى خير».

وبإسناده عن أبي سعيد الخدري ، عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «نزلت هذه الآية في خمسة : فيّ ، وفي عليّ ، وحسن ، وحسين ، وفاطمة».

وروى السيّد أبو الحمد ، قال : حدّثنا الحاكم أبو القاسم الحسكاني ، قال : حدّثونا عن أبي بكر السبيعي ، قال : حدّثنا أبو عروة الحرّاني ، قال : حدّثنا ابن مصغي ، قال : حدّثنا عبد الرحيم بن واقد ، عن أيّوب بن يسار ، عن محمد بن المنكدر ، عن جابر ، قال : نزلت هذه الآية على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وليس في البيت إلّا فاطمة والحسن والحسين وعليّ ، (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ). فقال النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «اللهمّ هؤلاء أهلي» (١).

وحدّثنا السيّد أبو الحمد ، قال : حدّثنا الحاكم أبو القاسم ، بإسناده عن زاذان ، عن الحسن بن عليّ عليهما‌السلام ، قال : «لمّا نزلت آية التطهير جمعنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وإيّاه في كساء لامّ سلمة خيبريّ ، ثمّ قال : اللهمّ هؤلاء أهل بيتي وعترتي» (٢).

والروايات في هذا كثيرة من طريق العامّة والخاصّة ، لو قصدنا إلى إيرادها لطال الكتاب ، وفيما أوردناه كفاية.

واستدلّت الشيعة على اختصاص الآية بهؤلاء الخمسة عليهم‌السلام ، بأن قالوا : إنّ لفظة «إنّما» محقّقة لما أثبت بعدها ، نافية لما لم يثبت. فإن قول القائل : إنّما لك عندي درهم ، وإنّما في الدار زيد ، يقتضي أنّه ليس عنده سوى الدرهم ، وليس في الدار سوى زيد.

إذا تقرّر ذلك ، فلا تخلو الإرادة في الآية : أن تكون هي الإرادة المحضة ، أو

__________________

(١) شواهد التنزيل ٢ : ٢٩ ح ٦٤٨.

(٢) شواهد التنزيل ٢ : ٣٠ ح ٦٤٩.

٣٧٢

الإرادة الّتي يتبعها التطهير وإذهاب الرجس. ولا يجوز الوجه الأوّل ، لأنّ الله سبحانه قد أراد من كلّ مكلّف هذه الإرادة المطلقة. فلا اختصاص لها بأهل البيت دون سائر الخلق. ولأنّ هذا القول يقتضي المدح والتعظيم لهم بغير شكّ ولا شبهة ، ولا مدح في الإرادة المجرّدة. فثبت الوجه الثاني ، وفي ثبوته ثبوت عصمة المعنيّين بالآية من جميع القبائح. وقد علمنا أنّ من عدا من ذكرناه من أهل البيت غير مقطوع على عصمته ، فثبت أنّ الآية مختصّة بهم ، لبطلان تعلّقها بغيرهم.

إن قلت : إنّ صدر الآية وما بعدها في الأزواج.

قلت : إنّ هذا لا ينكره من عرف عادة الفصحاء في كلامهم ، فإنّهم يذهبون من خطاب إلى غيره ويعودون إليه. والقرآن من ذلك مملوء. وكذلك كلام العرب وأشعارهم. وإذا عرفت هذا فاعلم أنّ ما قال البيضاويّ في تفسيره : «وتخصيص الشيعة أهل البيت بفاطمة وعليّ وابنيهما ، لما روي أنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خرج ذات غدوة ، وعليه مرط (١) مرحّل من شعر أسود ، فجلس فأتت فاطمة فأدخلها فيه ، ثمّ جاء عليّ فأدخله فيه ، ثمّ جاء الحسن والحسين فأدخلهما فيه. ثمّ قال : (إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ). والاحتجاج بذلك على عصمتهم ، وكون إجماعهم حجّة ، ضعيف ، لأنّ التخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية وما بعدها. والحديث يقتضي أنّهم أهل البيت ، لا أنّه ليس غيرهم» (٢).

كلام (٣) صادر من غير رويّة وبصيرة ، بل محض مكابرة ، وعين عناد. اللهمّ

__________________

(١) المرط : كساء من صوف ونحوه يؤتزر به. والمرحّل من الثياب : ما أشبهت نقوشه رحال الإبل.

(٢) أنوار التنزيل ٤ : ١٦٣.

(٣) خبر «أنّ» في قوله في بداية الفقرة السابقة : أنّ ما قال البيضاوي.

٣٧٣

ثبّتنا على ولاء أهل بيت نبيّك ، وأعذنا من زلّة أقدامنا على جادّة محبّتهم ومودّتهم ، الّتي هي الصراط المستقيم ، والمنهج القويم ، واعصمنا من نزغات الشيطان المؤدّية إلى الهلاك الأبدي ، والخسران السرمدي في يوم الدين ، بحقّ محمّد خاتم النبيّين ، وأهل بيته المعصومين.

ثمّ عاد إلى ذكر أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال : (وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) من الكتاب الجامع بين الأمرين ، أي : انّه آيات بيّنات تدلّ على صدق النبوّة ، لأنّه معجزة بنظمه ، وحكمة وعلوم وشرائع. وفيه تذكير بما أنعم الله عليهنّ ، حيث جعل بيوتهنّ مهابط الوحي ، وما شاهدن من آثار الوحي ممّا يوجب قوّة الإيمان ، والحرص على الطاعة ، حثّا على الانتهاء والائتمار فيما كلّفن به.

(إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً) في تدبير ما يصلح في الدين (خَبِيراً) عليما بأفعال العباد. أو لطيفا بأوليائه ، خبيرا بجميع خلقه.

(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥))

قال مقاتل بن حيّان : لمّا رجعت أسماء بنت عميس من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب ، دخلت على نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقالت : هل نزل فينا شيء

٣٧٤

من القرآن؟ قلن : لا. فأتت رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقالت : يا رسول الله إنّ النساء لفي خيبة وخسار. فقال : وممّ ذلك؟ فقالت : لأنّهنّ لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال ، فنخاف أن لا يقبل منّا طاعة. فنزلت :

(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ) الداخلين في السلم ، المنقادين لحكم الله. والداخلات فيه ، والمنقادات له. (وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ) المصدّقين بما يجب أن يصدّق به من الرجال والنساء (وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ) المداومين على الطاعات منهما (وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ) في النيّة ، والقول ، والعمل (وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ) على الطاعة ، وعن المعاصي (وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ) المتواضعين والمتواضعات لله ، بقلوبهم وجوارحهم. وقيل : الّذين إذا صلّوا لم يعرفوا من عن يمينهم وشمالهم ، لفرط خشيتهم لله. (وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ) المخرجين الصدقات بما وجب في أموالهم من الزكاة وغيرها (وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ) الصوم المفروض (وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ) فروجهنّ عن الحرام. حذف لدلالة الكلام عليه. وكذلك قوله : (وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ) بقلوبهم وألسنتهم.

روى أبو سعيد الخدري عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «إذا أيقظ الرجل أهله من الليل ، فتوضّئا وصلّيا ، كتبا من الذّاكرين الله كثيرا والذاكرات».

وقال مجاهد : لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيرا ، حتّى يذكر الله قائما ، وقاعدا ومضطجعا.

وروي عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «من بات على تسبيح فاطمة عليها‌السلام ، كان من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات».

(أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً) لما اقترفوا من الصغائر ، لأنّهنّ مكفّرات (وَأَجْراً عَظِيماً) على طاعتهم. والآية وعدلهنّ ولأمثالهنّ على الطاعة والتدرّع بهذه الخصال.

٣٧٥

وقيل : لمّا نزل في أزواج النبيّ ما نزل ، قالت نساء المسلمين : فما نزل فينا شيء؟ فنزلت هذه الآية.

واعلم أنّ الفرق بين عطف الإناث على الذكور ، وعطف الزوجين على الزوجين : أنّ الأوّل نحو قوله : (ثَيِّباتٍ وَأَبْكاراً) (١). في أنّهما جنسان مختلفان ، إذا اشتركا في حكم لم يكن بدّ من توسيط العاطف بينهما. والثاني من عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع ، فكان معناه : أن الجامعين والجامعات لهذه الطاعات. وفي الأخير العطف غير واجب ، ولذلك ترك في قوله : (مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ ...) (٢).

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٣٧) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ

__________________

(١) التحريم : ٥.

(٢) التحريم : ٥.

٣٧٦

اللَّهِ قَدَرًا مَّقْدُورًا (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (٣٩) مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَكِن رَّسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (٤٠))

روي : أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم خطب زينب بنت جحش الأسديّة بنت عمّته اميمة بنت عبد المطّلب لمولاه زيد بن حارثة ، فأبت وأبى أخوها عبد الله. فنزلت.

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ) ما صحّ له ولا لها (إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً) إن أوجبه رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وألزمه. وذكر «الله» لتعظيم أمره ، والإشعار بأنّ قضاءه قضاء الله. (أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) أن يختاروا من أمرهم شيئا ، بل يجب عليهم أن يجعلوا اختيارهم تبعا لاختيار الله ورسوله. والخيرة ما يتخيّر. وجمع الضمير الأوّل لعموم «مؤمن ... ومؤمنة» من حيث إنّهما في سياق النفي. وجمع الثاني للتعظيم. وقرأ الكوفيّون : يكون بالياء.

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ) فيما يختاران له (فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) بيّن الانحراف عن الصواب.

ولمّا نزلت هذه الآية قال عبد الله وزينب : رضينا يا رسول الله. فأنكحها إيّاه ، وساق عنه إليها عشرة دنانير ، وستّين درهما مهرا ، وخمارا ، وملحفة ، ودرعا ، وإزارا ، وخمسين مدّا من طعام ، وثلاثين صاعا من تمر.

وقيل : إنّ هذه الآية نزلت في امّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط. وهي أوّل من هاجر من النساء ، ووهبت نفسها للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقال : قد قبلت ، وزوّجها زيدا. فسخطت هي وأخوها ، وقالا : إنّما أردنا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فزوّجنا عبده.

وذكر عليّ بن إبراهيم في تفسيره : «أنّ رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان شديد الحبّ

٣٧٧

لزيد ، وكان إذا أبطأ عليه زيد أتى منزله فيسأل عنه. فأبطأ عليه يوما ، فأتى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم منزله ، فإذا زينب جالسة وسط حجرتها ، تسحق طيبا بفهر (١) لها ، فدفع رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الباب ، فلمّا نظر إليها قال : سبحان خالق النور ، تبارك الله أحسن الخالقين ، ورجع.

فجاء زيد ، وأخبرته زينب بما كان ، وألقى الله في نفسه كراهة صحبتها والرغبة عنها لرسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. فقال لها : لعلّك وقعت في قلب رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فهل لك أن أطلّقك حتّى يتزوّجك رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟

فقالت : أخشى أن تطلّقني ولا يتزوّجني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

فجاء زيد إلى رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقال : يا رسول الله إنّي أريد أن أفارق صاحبتي.

فقال : ما لك أرابك منها شيء؟

قال : لا والله ما رأيت منها إلّا خيرا ، ولكنّها لشرفها تتعظّم عليّ وتؤذيني.

فقال له : أمسك عليك زوجك ، واتّق الله. ثمّ طلّقها بعد. فنزلت : (وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ)

بتوفيقه للإسلام الّذي هو أجلّ النعم ، وتوفيقك لعتقه واختصاصه ومحبّته (وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ) بما وفّقك الله بإعتاقه. فهو متقلّب في نعمة الله ونعمة رسوله. وهو زيد بن حارثة. (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) يعني : زينب بنت جحش (وَاتَّقِ اللهَ) في أمرها ، فلا تطلّقها ضرارا أو تعلّلا بتكبّرها. قصد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بذلك نهي تنزيه لا تحريم ، لأنّ الأولى أن لا يطلّق. وقيل : أراد : اتّق الله فلا تذمّها بالنسبة إلى الكبر وأذى الزوج.

(وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) وهو نكاحها إن طلّقها ، أو إرادة طلاقها (وَتَخْشَى النَّاسَ) تعييرهم إيّاك به ، بأن يقولوا : أمره بطلاقها ثمّ تزوّجها

__________________

(١) الفهر : حجر رقيق تسحاق به الأدوية.

٣٧٨

(وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) إن كان فيه ما يخشى. والواو للحال. وليست المعاتبة على الإخفاء وحده ، فإنّه حسن ، بل على الإخفاء مخافة ما قاله الناس ، وإظهار ما ينافي إضماره ، فإنّ الأولى في أمثال ذلك أن يصمت أو يفوّض أمره إلى الله ، ولا يقول : أمسك عليك زوجك مخافة الناس.

روي عن عليّ بن الحسين عليه‌السلام : إنّ الّذي أخفاه في نفسه هو أنّ الله سبحانه أعلمه أنها ستكون من أزواجه. فقال : لم قلت أمسك عليك زوجك ، وقد أعلمتك أنّها ستكون من أزواجك».

وهذا التأويل مطابق للآية. وذلك أنّه سبحانه أعلم أنّه يبدي ما أخفاه ، ولم يظهر غير التزويج ، فقال : (زَوَّجْناكَها). فلو كان الّذي أضمره محبّتها أو إرادة طلاقها لأظهر الله تعالى ذلك ، مع وعده بأنّه يبديه. فدلّ ذلك على أنّه إنّما عوتب على قوله : (أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) مع علمه بأنّها ستكون زوجته ، وكتمانه ما أعلمه الله به ، حيث استحيا أن يقول لزيد : إنّ الّتي تحتك ستكون امرأتي.

وقال البلخي : ويجوز أن يكون أيضا على ما يقولونه : إنّ النبيّ استحسنها ، فتمنّى أن يفارقها زيد فيتزوّجها. وكتم ذلك ، لأنّ هذا التمنّي قد طبع عليه البشر ، ولا حرج على أحد في أن يتمنّى شيئا استحسنه.

ولم يرد بقوله : (وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) خشية التقوى ، لأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يتّقي الله حقّ تقاته ، ويخشاه فيما يجب أن يخشى فيه. ولكنّه أراد خشية الاستحياء ، لأنّ الحياء كان غالبا على شيمته الكريمة ، كما قال : (إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ.) (١) (فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً) حاجة ، وتقاصرت عنها همّته ، وطابت عن مفارقتها ، ولم يبق في قلبه ميل إليها ، ووحشة من فراقها ، فإنّ معنى القضاء هو

__________________

(١) الأحزاب : ٥٣.

٣٧٩

الفراغ من الشيء بالتمام ، فطلّقها وانقضت عدّتها. وقيل : قضاء الوطر كناية عن الطلاق ، مثل : لا حاجة لي فيك. (زَوَّجْناكَها) أي : أذنّا لك في تزويجها.

ثمّ علّل التزويج بقوله : (لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) أي : إنّما فعلنا ذلك توسعة على المؤمنين ، حتّى لا يكون عليهم إثم في أن يتزوّجوا أزواج أدعيائهم الّذين تبنّوهم ، إذا قضى الأدعياء منهنّ حاجتهم وفارقوهنّ. فبيّن سبحانه أنّ الغرض في ذلك أن لا يجري المتبنّى في تحريم امرأته إذا طلّقها على المتبنّي ، مجرى الابن من النسب والرضاع ، في تحريم امرأته إذا طلّقها على الأب. وهذا دليل على أنّ حكمه وحكم الأمّة واحد ، إلّا ما خصّه الدليل.

(وَكانَ أَمْرُ اللهِ) أمره الّذي يريده (مَفْعُولاً) يكون لا محالة ، كما كان من تزويج زينب ، ومن نفي الحرج عن المؤمنين في عدم إجراء أزواج المتبنّين في تحريمهنّ عليهم ، بعد انقطاع علائق الزواج بينهم وبينهنّ.

روى ثابت عن أنس بن مالك قال : لمّا انقضت عدّة زينب ، قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لزيد : ما أجد أحدا أوثق في نفسي منك ، اخطب عليّ زينب. قال زيد : فانطلقت ، فقلت : يا زينب! أبشري أرسلني نبيّ الله يذكرك. ونزل القرآن ، وجاء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فدخل عليها بغير إذن ، لقوله تعالى : (زَوَّجْناكَها).

وفي رواية اخرى : قال زيد : فانطلقت فإذا هي تخمّر عجينها. فلمّا رأيتها عظمت في نفسي ، حتّى ما أستطيع أن أنظر إليها ، حين علمت أنّ رسول الله ذكرها ، فولّيتها ظهري وقلت : يا زينب أبشري! إن رسول الله يخطبك. ففرحت بذلك ، وقالت : ما أنا بصانعة شيئا حتّى أوامر ربّي. فقامت إلى مسجدها ، ونزل : «زوّجناكها». فتزوّجها رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ودخل بها. وما أولم على امرأة من نسائه ما أو لم عليها ، ذبح شاة ، وأطعم الناس الخبز واللحم حتّى امتدّ النهار.

٣٨٠