زبدة التّفاسير - ج ٥

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٥

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-07-8
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٥٩٦

ثمّ طليت امّ موسى داخل التابوت بالقار (١) ، فوضعت موسى فيه وألقته في النّيل ، والنيل جاء بالتابوت إلى موضع فيه فرعون وامرأته على النيل.

(فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ) أي : أصابوه وأخذوه من غير طلب (لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَناً). وقرأ حمزة والكسائي : وحزنا. وهما لغتان ، كالعدم والعدم. تعليل لالتقاطهم إيّاه بما هو عاقبته ومؤدّاه ، تشبيها له بالغرض الحامل عليه. فمعنى التعليل فيها ورد على طريق المجاز دون الحقيقة ، فإنّه لم يكن داعيهم إلى الالتقاط أن يكون لهم عدوّا وحزنا ، ولكنّ المحبّة والتبنّي ، إلّا أنّه لمّا كان ذلك نتيجة التقاطهم وثمرته ، شبّه بالداعي الّذي يفعل الفاعل الفعل لأجله ، كالإكرام الّذي هو نتيجة المجيء ، والتأدّب الّذي هو ثمرة الضرب ، في قولك : جئتك لتكرمني ، وضربته ليتأدّب. وتحريره : أنّ هذه اللام حكمها حكم الأسد ، حيث استعيرت لما يشبه التعليل ، كما يستعار الأسد لمن يشبه الأسد.

(إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهامانَ وَجُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ) في كلّ شيء. فليس الخطأ ببدع منهم في أن قتلوا ألوفا لأجله ، ثمّ أخذوه يربّونه ليكبر ويفعل بهم ما كانوا يحذرون. والجملة معترضة لتأكيد خطئهم.

وقيل : المعنى : كانوا مذنبين ، فعاقبهم الله تعالى بأن ربّى عدوّهم على أيديهم. فتكون الجملة لبيان الموجب لما ابتلوا به.

روي : أنّهم حين التقطوا التابوت عالجوا فتحه فلم يقدروا عليه ، فعالجوا كسره فأعياهم. فدنت آسية بنت مزاحم امرأة فرعون ، فرأت في جوف التابوت نورا ، فعالجته ففتحته ، فإذا بصبّي نوره بين عينيه ، وهو يمصّ إبهامه لبنا ، فألقى الله في قلبها محبّة موسى. وكانت لفرعون بنت برصاء من آسية ، وقالت له الأطبّاء : لا تبرأ إلّا من قبل البحر ، يوجد فيه شبه إنسان دواؤها ريقه. فلطخت البرصاء برصها

__________________

(١) القار والقير : مادّة سوداء تطلى بها السفن.

١٤١

بريقه فبرئت. وقيل : لمّا نظرت إلى وجهه برئت ، فقالت : إنّ هذه لنسمة مباركة.

فهذا أحد ما عطفهم عليه. فقال الغواة من قومه : هو الصبيّ الّذي نحذر منه ، فأذن لنا في قتله. فهمّ بذلك (وَقالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ) لفرعون بعد أن سمعت هذا القول من الغواة ، وفهمت همّه بقتله (قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ) هو قرّة عين لنا ، لما شاهدنا منه ، من نور بين عينيه ، وارتضاعه من إبهامه لبنا ، وبرء البرصاء بريقه.

وفي الحديث : «إنّ فرعون قال لامرأته عند هذا القول : لك لا لي. ولو قال : هو لي ، كما قال : هو لك ، لهداه الله كما هداها».

وكانت آسية امرأة من بني إسرائيل استنكحها فرعون. وهي من خيار النساء ، ومن بنات الأنبياء. وكانت امّا للمؤمنين ، ترحمهم وتتصدّق عليهم ، ويدخلون عليها.

وروي : أنّ فرعون لمّا نظر إلى موسى غاظه ذلك ، وقال : كيف أخطأ هذا الغلام الذبح؟ قالت آسية وهي قاعدة إلى جنبه : هذا الوليد أكبر من ابن سنة ، وإنّما أمرت أن يذبح الولد لهذه السنة.

(لا تَقْتُلُوهُ) خطاب بلفظ الجمع للتعظيم. أو خطاب لفرعون والمأمورين بقتله. (عَسى أَنْ يَنْفَعَنا) فإنّ فيه مخايل اليمن ودلائل النفع (أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً) أو نتبنّاه ، فإنّه أهل للتبنّي (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) حال من الملتقطين في قوله : (فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ). أو من القائلة والمقول له ، أي : وهم لا يشعرون أنّهم على الخطأ في التقاطه ، أو في طمع النفع منه والتبنّي له.

(وَأَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً) صفرا من العقل ، لما دهمها من فرط الخوف والجزع والدهش ، حين سمعت بوقوعه في يد فرعون ، كقوله : (وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ) (١) أي : خلاء لا عقول فيها. وذلك أنّ القلوب مراكز العقول ، ألا ترى إلى

__________________

(١) إبراهيم : ٤٣.

١٤٢

قوله تعالى : (فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها) (١).

وعن ابن عبّاس : معناه : خاليا من كلّ شيء إلّا من ذكر موسى ، أي : صار فارغا له.

وعن الحسن : فارغا من الوحي الّذي أوحي إليها بنسيانها ، فإنّها نسيت ما وعدها الله تعالى به.

(إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ) إنّها كادت لتظهر بموسى ، أي : بأمره وقصّته من فرط الضجر ، أو الفرح لتبنّيه (لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها) بإلهام الصبر والثبات ، كما يربط على الشيء المنفلت ليقرّ ويطمئنّ. أو لو لا أنّا طمأنّا قلبها ، وسكّنّا قلقه الّذي حدث به من شدّة الفرح والابتهاج ، كادت لتبدي بأنّه ولدها ، لأنّها لم تملك نفسها فرحا وسرورا بما سمعت من تبنّي فرعون إيّاه. فحذف جواب «لولا» لدلالة ما قبله عليه.

وقوله : (لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) علّة الربط ، أي : فعل ذلك ليكون من المصدّقين بوعد الله ، وهو قوله : (إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ). أو من الواثقين بحفظه ، لا بتبنّي فرعون وتعطّفه.

(وَقالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (١١) وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ (١٢) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (١٣))

__________________

(١) الحجّ : ٤٦.

١٤٣

ثمّ ذكر سبحانه لطف صنعه في تسخيره لفرعون ، حتّى تولّى تربية موسى عليه‌السلام ، فقال : (وَقالَتْ) امّ موسى (لِأُخْتِهِ) مريم. وعن الضحّاك : كلثمة.

(قُصِّيهِ) اتّبعي اثره ، وتتبّعي خبره. فذهبت فوجدت آل فرعون أخرجوا التابوت وأخرجوا موسى. (فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ) عن جنابة ، بمعنى : عن بعد (وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أنّها تقصّ ، أو أنّها أخته. وإنّما كرّر هذا القول ، تنبيها على أنّ فرعون لو كان إلها لكان يشعر بهذه الأمور.

(وَحَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ) التحريم هنا استعارة للمنع ، لأنّ من حرّم عليه الشيء فقد منعه. فالمعنى : ومنعناه أن يرتضع من ثدي المرضعات. جمع مرضع.

وهي المرأة الّتي ترضع. أو جمع مرضع. وهو الرضاع ، أو موضعه ، يعني : الثدي. (مِنْ قَبْلُ) من قبل قصصها اثره.

(فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ) لأجلكم. (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) لا يقصّرون في إرضاعه وتربيته. والنصح إخلاص العمل من شائبة الفساد.

روي : أنّها لمّا قالت : (وَهُمْ لَهُ ناصِحُونَ) قال هامان : إنّها لتعرفه وتعرف أهله ، خذوها حتّى تخبر بحاله.

فقالت : إنّما أردت : وهم للملك ناصحون. فأمسكوا عنها.

فأمرها فرعون بأن تأتي بمن يكفله. فانطلقت إلى امّها فأخبرتها بأمرهم.

فأتت بها ، وموسى على يد فرعون يبكي لطلب الرضاع ، وهو يعلّله شفقة عليه.

فلمّا وجد ريح امّه استأنس والتقم ثديها.

فقال لها : من أنت منه ، فقد أبى كلّ ثدي إلّا ثديك؟

فقالت : إنّي امرأة طيّبة الريح ، طيّبة اللبن ، لا أوتى بصبي إلّا قبلني.

فدفعه إليها ، وأجرى عليها. فرجعت به إلى بيتها من يومها.

فأنجز الله وعده في الردّ. وهو قوله تعالى : (فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها)

١٤٤

بولدها (وَلا تَحْزَنَ) بفراقه (وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ) علم مشاهدة ، فعند ذلك ثبت واستقرّ في علمها أن سيكون نبيّا (وَلكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ) أنّ وعد الله حقّ فيرتابون فيه. أو أنّ الغرض الأصلي من الردّ علمها بذلك ، وما سواه ـ من قرّة العين ، وذهاب الحزن ـ تبع له.

وفيه شبه تعريض بما فرط منها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون ، فجزعت وأصبح فؤادها فارغا.

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (١٤) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (١٥) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (١٦) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (١٧) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (١٨) فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (١٩))

١٤٥

(وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ) مبلغه الّذي لا يزيد عليه نشؤه. وذلك من ثلاثين إلى أربعين سنة ، فإنّ العقل يكمل حينئذ. وروي : أنّه لم يبعث نبيّ إلّا على رأس الأربعين. (وَاسْتَوى) واعتدل قدّه ، وتمّ استحكام عقله ، بحيث لا يزاد عليه (آتَيْناهُ حُكْماً) نبوّة (وَعِلْماً) بالدين ، من أحكام التوراة ، وسنن الأنبياء وحكمهم. أو علم الحكماء والعلماء وسمتهم قبل استنبائه ، فلا يقول ولا يفعل ما يستجهل فيه. وهذا أوفق لنظم القصّة ، لأنّ استنباءه بعد الهجرة في المراجعة.

(وَكَذلِكَ) مثل ذلك الّذي فعلنا بموسى وامّه (نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) على إحسانهم.

(وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ) دخل مصرا آتيا من قصر فرعون. وقيل : مدينة منف (١) من أرض مصر. أو اسكندريّة. أو عين شمس من نواحيها. (عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها) في وقت لا يعتاد دخولها ، ولا يتوقّعونه فيه. وقيل : كان ذلك بين العشاءين. وقيل : وقت القيلولة. وقيل : يوم عيد لهم ، وهم مشتغلون فيه بلهوهم.

وقيل : لمّا شبّ وعقل أخذ يتكلّم بالحقّ وينكر عليهم ، فأخافوه ، فلا يدخل قرية إلّا على تغفّل.

وعن السدّي : أنّه كان موسى حين كبر يركب في مواكب فرعون ، فلمّا جاء ذات يوم قيل له : إنّ فرعون قد ركب ، فركب في أثره ، فلمّا كان وقت القائلة دخل المدينة ليقيل.

وعن ابن إسحاق : إنّ بني إسرائيل كانوا يجتمعون إلى موسى ، ويسمعون كلامه ، ولمّا بلغ أشدّه خالف قوم فرعون ، فاشتهر ذلك منه ، فأخافوه ، فكان لا يدخل مصر إلّا خائفا ، فدخلها على حين غفلة.

__________________

(١) كذا في النسخة الخطّيّة ، ولعلّها منوف. وفي معجم البلدان (٥ / ٢١٦) : منوف : من قرى مصر القديمة.

١٤٦

وعن ابن زيد : إنّ فرعون أصرّ بإخراجه من البلد ، فلم يدخل إلّا الآن.

(فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ) يختصمان في أمر الدنيا. وعن الجبائي : في أمر الدين. (هذا مِنْ شِيعَتِهِ) ممّن شايعه على دينه من بني إسرائيل. وقيل : هو السامريّ. (وَهذا مِنْ عَدُوِّهِ) ممّن خالفه في الدين ، من القبط. وهو فاتون. وكان يتسخّر الإسرائيليّ لحمل الحطب إلى مطبخ فرعون. والإشارة على سبيل الحكاية.

(فَاسْتَغاثَهُ) استنصره (الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ) فسأله أن يغيثه بالإعانة. ولذلك عدّي بـ «على».

روى أبو بصير عن أبي عبد الله عليه‌السلام أنّه قال : «ليهنئكم (١) الاسم. قال ، قلت : وما الاسم؟ قال : الشيعة. أما سمعت الله سبحانه يقول : (فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ)».

(فَوَكَزَهُ مُوسى) فضرب القبطيّ في صدره بجمع كفّه ، حين قبضها بأطراف الأصابع لتخليص من قصد إليه.

(فَقَضى عَلَيْهِ) فقتله. وأصله : فأنهى حياته. من قوله تعالى : (وَقَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ) (٢) أي : أنهيناه إليه ، وأبلغناه ذلك. يقال : قضيت عليه وقضيته ، إذا فرغت منه وأتممته. والمراد : أنّ تخليص السبطي من يد القبطي أدّى إلى قتل القبطي. ولا شبهة أنّ كلّ ألم يقع على الظالم على سبيل المدافعة ، من غير أن يكون مقصودا لذاته ، فهو حسن غير موصوف بالقبح.

(قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ) أي : بسببه ، حتّى هيّج غضبي ، بحيث سلب عنّي اختياري ، فضربته بالوكزة الشديدة فقتل.

وقيل : إنّ موسى لم يؤمر بقتل الكفّار يومئذ ، لأنّ الحال كانت مقتضية للكفّ

__________________

(١) أي : ليسرّكم. والعرب تقول : ليهنئك الولد. ومعناه : ليسرّك.

(٢) الحجر : ٦٦.

١٤٧

عن القتال. وهو عند فرط الغضب لأجل العصبيّة الدينيّة ذهل عن هذا ، فأسند ذهوله عنه إلى الشيطان.

وذكر علم الهدى قدس‌سره في توجيهه وجهين : «أحدهما : أنّه أراد أن تزيين قتلي له ، وتركي لما ندبت إليه من تأخيره ، وتفويتي ما استحقّه عليه من الثواب ، من عمل الشيطان.

والآخر : أنّه يريد أنّ عمل المقتول من عمل الشيطان. يبيّن موسى عليه‌السلام بذلك أنّه مخالف لله ، ومستحقّ للقتل» (١).

ثمّ ذمّ الشيطان بقوله : (إِنَّهُ عَدُوٌّ) لبني آدم (مُضِلٌّ مُبِينٌ) ظاهر الإضلال والعداوة.

ثمّ حكى سبحانه أنّ موسى حين قتل القبطيّ ندم على ترك فعل الندب ، فقال : (قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي) بقتله ، فإنّهم لو علموا بذلك لقتلوني (فَاغْفِرْ لِي) فاقبل منّي الانقطاع إليك ، والقربة والطاعة إليك ، ولا تحرمني عن الثواب الّذي يترتّب على فعل الندب. كما قال المرتضى قدس‌سره : «إنّما قاله على سبيل الانقطاع إلى الله تعالى ، والاعتراف بالتقصير عن حقوق نعمه ، أو من حيث إنّه حرّم نفسه الثواب المستحقّ بفعل الندب» (٢). أو المعنى : فاسترني عن نظر أعدائي ، كيلا يقتلوني لأجل إعانتي أولياءك ، فإنّ الغفران بمعنى الستر.

(فَغَفَرَ لَهُ) فقبل منه هذا الانقطاع ، وأعطاه ثواب فعل الندب ، أو صرف عنه كيد الأعداء (إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ) لعباده (الرَّحِيمُ) بهم ، المنعم عليهم.

(قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ) قسم محذوف الجواب ، أي : أقسم بإنعامك عليّ بالمغفرة وغيرها ، لأتوبنّ عن ترك الندب (فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ) معينا

__________________

(١) تنزيه الأنبياء : ٦٨.

(٢) تنزيه الأنبياء : ٦٨.

١٤٨

ومظاهرا للمشركين. أو استعطاف ، كأنّه قال : ربّ اعصمني عن الأعداء ، أو قبل انقطاعي إليك ، بحقّ ما أنعمت عليّ من المغفرة ، فلن أكون إن عصمتني ظهيرا للمجرمين.

وقيل : معناه : بما أنعمت عليّ من القوّة ، فلن استعملها إلّا في مظاهرة أوليائك وأهل طاعتك ، ولا أدع قبطيّا يغلب أحدا من بني إسرائيل.

وفي هذا دلالة على أنّ مظاهرة المجرمين جرم ومعصية ، ومظاهرة المؤمنين طاعة. وإنّما ظاهر موسى من كان ظاهر الإيمان ، وخالف ونازع من كان ظاهر الكفر.

وعن عطاء بن أبي رباح : أنّ رجلا قال له : إنّ أخي يكتب لفلان ، ولا يزيد على كتبه دخله وخرجه ، فإن أخذ منه

أجرا كان له غنى ، وإن لم يأخذ اشتدّ فقره وفقر عياله. فقال عطاء : أما سمعت قول الرجل الصالح : (رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ).

وفي الحديث : «ينادي مناد يوم القيامة : أين الظلمة وأشباه الظلمة وأعوان الظلمة؟ حتّى من لاق لهم دواة ، أو برى (١) لهم قلما ، فيجمعون في تابوت من حديد فيرمى به في جهنّم».

(فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ) في اليوم الثاني (خائِفاً) من قتل القبطي (يَتَرَقَّبُ) يترصّد الاستقادة منه. وعن ابن عبّاس : ينتظر ما يقال فيه من قتل القبطي. يعني : أنّه خاف من فرعون وقومه أن يكونوا عرفوا أنّه هو الّذي قتل القبطي ، فكان يتجسّس في شأنه.

(فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ) يستغيثه. مشتقّ من الصراخ. قال ابن عبّاس : لمّا فشا أمر القتل قيل لفرعون : إنّ بني إسرائيل قتلوا منّا رجلا. قال :

__________________

(١) برى القلم : نحته.

١٤٩

أتعرفون قاتله؟ ومن يشهد عليه؟ قالوا : لا. فأمرهم بطلبه. فبينا هم يطوفون إذ مرّ موسى من الغد ، وأتى ذلك الإسرائيلي يطلب نصرته ويستغيث به.

(قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ) بيّن الغواية ، لأنّك تسبّبت لقتل رجل وتقاتل آخر ، فإنّ من خاصم آل فرعون مع كثرتهم فإنّه غويّ ، أي : خائب فيما يطلبه ، عادل عن الصواب فيما يقصده.

(فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ) أن يأخذ بشدّة (بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما) لموسى والإسرائيلي. يعني : القبطي ، فإنّه لم يكن على دينهما ، ولأنّ القبط كانوا أعداء بني إسرائيل. (قالَ يا مُوسى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ).

عن ابن عبّاس وأكثر المفسّرين : أنّ قائل هذا القول الاسرائيلي ، لأنّه لمّا سمّاه غويّا ظنّ أن يبطش به.

وعن الحسن : أنّه القبطي ، لأنّه قد اشتهر أمر القتل بالأمس ، وأنّه قتله بعض بني إسرائيل ، فيؤدّي ذهنه إلى أنّه أراد أن يبطش به. أو اشتهر أنّ الّذي قتل القبطيّ بالأمس لهذا الإسرائيلي.

(إِنْ تُرِيدُ) ما تريد (إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ) تطاول على الناس ، وتفعل ما تريد من الضرب والقتل ظلما وعدوانا ، ولا تدفع بالّتي هي أحسن ، ولا تنظر في العواقب. وقيل : المتعظّم الّذي لا يتواضع لأمر الله.

(وَما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ) بين الناس ، فتدفع التخاصم بالّتي هي أحسن.

(وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (٢٠) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ

١٥٠

رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢١) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (٢٢) وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (٢٣) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (٢٤))

ولمّا قال هذا انتشر الحديث ، وارتقى إلى فرعون وملئه ، وهمّوا بقتله ، فخرج مؤمن آل فرعون. وهو حزقيل ابن عمّ فرعون. وقيل : اسمه شمعون. وقيل : سمعان. فأتاه ليخبره كما قال : (وَجاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) من آخر مصر (يَسْعى) يسرع في المشي حتّى سبقهم إلى موسى. وهذا صفة لـ «رجل». أو حال منه ، إذا جعل (مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ) صفة له ، لأنّ تخصيصه بها يلحقه بالمعارف. وإذا جعل صلة لـ «جاء» لم يجز إلّا الوصف.

(قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ) الأشراف من آل فرعون (يَأْتَمِرُونَ بِكَ) يتشاورون بسببك (لِيَقْتُلُوكَ) وإنّما سمّى التشاور ائتمارا ، لأنّ كلّا من المتشاورين يأمر الآخر ويأتمر. (فَاخْرُجْ) من أرض مصر (إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ) في هذا. واللام للبيان. وليس صلة للناصحين ، لأنّ معمول الصلة لا يتقدّم الموصول.

ثمّ بيّن سبحانه خروج موسى من مصر إلى مدين ، فقال : (فَخَرَجَ مِنْها) من مدينة فرعون (خائِفاً يَتَرَقَّبُ) لحوق طالب في الطريق (قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) خلّصني منهم ، واحفظني من لحوقهم.

١٥١

روي : أنّ موسى عليه‌السلام خرج بغير زاد ولا ماء ولا حذاء ، وكان لا يأكل إلّا من حشيش الصحراء ، فما وصل مدين حتّى سقط خفّ قدمه.

(وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ) صرف وجهه إلى جهتها. وهي قرية شعيب عليه‌السلام. سمّيت باسم مدين بن إبراهيم ، ولم تكن في سلطان فرعون. وكان بينها وبين مصر مسيرة ثمانية أيّام.

وعن ابن عبّاس : خرج موسى متوجّها نحو مدين ، وليس له علم بالطريق إلّا حسن ظنّه بربّه ، ولهذا (قالَ) توكّلا على الله (عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي) يرشدني (سَواءَ السَّبِيلِ) الطريق السويّ ، أي : وسطه المؤدّي إلى مدين.

روي : أنّه عنّ له ثلاث طرق ، فأخذ في أوسطها ، فإنّ الأخذ يمينا وشمالا تباعد عن طريق الصواب. ولهذا قال : سواء الطريق. قيل : جاء الطلّاب عقيبه ، فأخذوا في الآخرين.

وروي : أنّه جاء ملك على فرس بيده عنزة ، فانطلق به إلى مدين.

(وَلَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ) وصل إليه. وهو بئر كانوا يسقون منها. (وَجَدَ عَلَيْهِ) وجد فوق شفيرها ومستقاها (أُمَّةً) جماعة كثيرة (مِنَ النَّاسِ) من أناس مختلفين (يَسْقُونَ) مواشيهم (وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ) في مكان أسفل من مكانهم (امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ) تمنعان أغنامهما عن الماء ، لئلّا تختلط بأغنامهم. أو لأنّ على الماء من هو أقوى منهما ، فلا يتمكّنان من السقي ، فينتظران خلوّ مكان السقي عنهم. أو لكراهتهما المزاحمة على الماء. أو تذودان عن وجوههما نظر الناظر ، لتستّرهما.

(قالَ ما خَطْبُكُما) ما شأنكما تذودان؟ وحقيقته : ما مخطوبكما؟ أي : مطلوبكما من الذياد. كما سمّي المشؤن شأنا في قولك : ما شأنك؟ يقال : شأنت شأنه ، أي : قصدت قصده.

١٥٢

(قالَتا) إنّا امرأتان ضعيفتان مستورتان ، لا نقدر على مساجلة (١) الرجال ومزاحمتهم ، وما لنا رجل يقوم بذلك ، فلأجل ذلك (لا نَسْقِي) أي : نؤخّر السقي (حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ) تصرف الرعاة مواشيهم عن الماء. وحذف المفعول ، لأنّ الغرض هو بيان ما يدلّ على عفّتهما ، ويدعوه إلى السقي لهما. والرعاء : اسم جمع ، كالرخال للأناثى من أولاد الضأن. والجمع الرعاء بالكسر. وقرأ أبو عمرو وابن عامر : يصدر ، أي : ينصرف.

(وَأَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ) كبير السنّ ، قد أضعفه الكبر ، فلا يستطيع أن يخرج للسقي ، فيرسلنا اضطرارا. وفيه تعريض للطلب من موسى أن يعينهما على السقي.

وقيل : إنّما قالتا ذلك اعتذارا إلى موسى في الخروج بغير محرم.

(فَسَقى لَهُما) مواشيهما رحمة عليهما.

وروي : أنّ الرعاة كانوا يضعون على رأس البئر حجرا ، لا يقلّه إلّا سبعة رجال ـ وقيل : عشرة ، وقيل : أربعون ، وقيل : مائة ـ فأقلّه وحده ، مع ما كان به من الوصب والجوع وجراحة القدم.

وروي : أنّه سألهم دلوا من ماء ، فأعطوه دلوهم وقالوا : استق بها لو أمكنك.

وكانت لا ينزعها إلّا أربعون. فاستقى بها ، وصبّها في الحوض ، ودعا بالبركة ، وروّى غنمهما وأصدرهما. وروي : أنّه دفعهم عن الماء حتّى سقى لهما.

وقيل : كانت بئرا اخرى عليها الصخرة ، فرفعها فاستقى منها. وإنّما فعل هذا رغبة في المعروف ، وإغاثة للملهوف. (ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ) ظلّ شجرة ، فجلس تحتها من شدّة الحرّ وهو جائع (فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما) لأيّ شيء (أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ

__________________

(١) السجل : الدلو إذا كان فيه ماء. وساجله مساجلة : باراه وفاخره وعارضه في قول أو عمل. والمعنى : لا نقدر على معارضة الرجال ومزاحمتهم.

١٥٣

قليل أو كثير (فَقِيرٌ) محتاج. عدّي «فقير» بـ «إلى» ، إلّا أنّه عدّي هاهنا باللام ، لأنّه ضمّن معنى : سائل وطالب.

وقال أمير المؤمنين عليه‌السلام : «والله ما سأله إلّا خبزا يأكله ، لأنّه كان يأكل بقلة الأرض ، ولقد كانت خضرة البقلة ترى من شفيف (١) صفاق بطنه ، لهزاله ، وتشذّب لحمه».

وعن ابن عبّاس : ما سأل نبيّ الله إلّا خبزا يقيم به صلبه.

وقيل : معناه : إنّي فقير من الدنيا ، لأجل ما أنزلت إليّ من خير الدارين ، وهو النجاة من الظالمين ، لأنّه كان عند فرعون في ملك وثروة ، فقال ذلك رضا بالبدل السنيّ ، وفرحا به ، وشكرا له. وكان الظلّ ظلّ شجرة.

وروي : أنّهما لمّا رجعتا إلى أبيهما قبل الناس ، وأغنامهما حفّل (٢) بطان ، قال لهما : ما أعجلكما؟ قالتا : وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا. فقال :

(فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (٢٥) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (٢٦) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى

__________________

(١) الشفيف : ما رقّ فظهر ما وراءه. والصفاق : الجلد الأسفل الذي يمسك البطن. وتشذّب لحمه : تفرّق.

(٢) الحفّل جمع حافل. يقال : ضرع حافل ، أي : ممتلئ لبنا. والبطان من : بطن يبطن بطنا ، إذا عظم بطنه من الشبع.

١٥٤

ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (٢٧) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (٢٨) فَجاءَتْهُ إِحْداهُما) وهي كبراهما على رواية وهب. واسمها صفوراء أو صفراء. والأصحّ أنّها صغراهما ، واسمها صفيراء. (تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ) في موضع الحال ، أي : مستحية متخفّرة ، أي : شديدة الحياء. وقيل : قد استترت بكمّ درعها.

(قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ) ليكافئك (أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا) جزاء سقيك غنمنا.

وروي : أنّ موسى أجابها ليتبرّك برؤية الشيخ ، ويستظهر بمعرفته ، لا طمعا في الأجر ، لما نقل أنّه لمّا جاءه وأخبره قصّته ، وعرّفه أنّه من بيت النبوّة من أولاد يعقوب ، قدّم إليه طعاما فامتنع عنه ، وقال : إنّا أهل بيت لا نبيع ديننا بالدنيا. قال شعيب : هذه عادتنا مع كلّ من ينزل بنا ، وأنّ من فعل معروفا وأهدي بشيء لم يحرم أخذه.

(فَلَمَّا جاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ) هو مصدر كالعلل ، سمّي به المقصوص. والمعنى : حدّث شعيبا ما حدث من قتل القبطي ، وأنّهم يطلبونه ليقتلوه قصاصا. (قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ) يريد : فرعون وقومه. فلا سلطان له بأرضنا ، ولسنا في مملكته.

١٥٥

(قالَتْ إِحْداهُما) يعني : الّتي استدعته (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) اتّخذه أجيرا لرعي الغنم. ثمّ بيّنت علّة جامعة ودليلا واضحا على أنّه حقيق بالاستئجار ، فقالت : (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُ) في العمل (الْأَمِينُ) فيما استودع. فجعل «خير» اسما ، و «القويّ الأمين» خبرا ، دون العكس ، مبالغة وعناية. وذكر الفعل بلفظ الماضي ، للدلالة على أنّه امرؤ مجرّب معروف.

روي : أنّ شعيبا قال لها : وما أعلمك بقوّته وأمانته؟ قالت : أمّا قوّته فلأنّه رفع الحجر العظيم الّذي لا يرفعه إلّا جماعة كثيرة. وأمّا أمانته فإنّه أطرق رأسه حتّى بلّغته رسالتك. وقال لي في الطريق : امشي خلفي فأنا أكره أن تصيب الريح ثيابك ، فتصف لي عجزك.

ولمّا ذكرت من حاله ما ذكرت ، زاده ذلك رغبة فيه (قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي) من : أجرته إذا كنت له أجيرا ، كقولك : أبوته إذا كنت له أبا ، أي : تكون لي أجيرا (ثَمانِيَ حِجَجٍ) في ثماني سنين. أو من : أجرته كذا إذا أثبته إيّاه. وحينئذ «ثماني حجج» كان مفعولا به على حذف مضاف ، أي : على أن تثيبني رعية ثماني حجج. ومنه تعزية رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «آجركم الله ورحمكم» أي : يثيبكم أجركم وجزاءكم. ومنه : المأجور بمعنى المثاب.

يعني : على أن تجعل جزائي وثوابي إيّاك ، على أن أنكحك إحدى ابنتيّ ، أن ترعى لي ثماني سنين. ولم يلزم منه أنه زوّجه إحدى ابنتيه من غير تعيين ، كما هو المتبادر من الآية ، لأنّ ذلك لم يكن عقدا للنكاح ، بل مواعدة. ولو كان عقدا لقال : قد أنكحتك ، ولم يقل : إنّي أريد أن أنكحك. فالمعنى : أنّ شعيبا بعد تلك المواعدة عيّن إحدى ابنتيه ، وكانت هي الصغرى على الأصحّ ، فزوّجها من موسى باستئجار المدّة المذكورة.

ولمّا منع أبو حنيفة أن يتزوّج امرأة بأن يخدمها سنة مثلا ، بل لا بدّ عنده من

١٥٦

تسليم ما هو مال ، لم يجعل هذا الاستئجار مهرا ، بل شرط ذلك في النكاح ، وجعل المهر شيئا آخر ماليّا.

والأوّل أصحّ وأوفق لظاهر الآية ، وموافق لمذهبنا ومذهب الشافعي. مع أنّه يمكن اختلاف الشرائع في ذلك.

(فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً) عمل عشر حجج (فَمِنْ عِنْدِكَ) فإتمامه من عندك تفضّلا ، لا من عندي إلزاما عليك. يعني : لا ألزمكه ، ولا أحتّمه عليك ، ولكنّك إن فعلته فهو منك تفضّل وتبرّع ، وإلّا فلا عليك. كما قال : (وَما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ) بإلزام إتمام الأجلين وإيجابه عليك. أو المناقشة في استيفاء الأعمال وإتمام العشرة.

وقيل : معناه : أن أكلّفك خدمة سوى رعي الغنم ، لأنّه خارج عن الشرط.

واشتقاق المشقّة من الشقّ ، فإنّ ما يصعب عليك يشقّ عليك اعتقادك في إطاقته ، ورأيك في مزاولته باثنين ، تقول تارة : أطيقه ، وتارة لا أطيقه.

(سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ مِنَ الصَّالِحِينَ) في حسن المعاملة ، ولين الجانب ، والوفاء بالمعاهدة. والمراد باشتراط مشيئة الله فيما وعد من الصلاح : الاتّكال على توفيقه فيه ومعونته ، لا أنّه يستعمل الصلاح إن شاء الله ، وإن شاء استعمل خلافه. (قالَ) أي : قال موسى لشعيب (ذلِكَ) الّذي عاهدتني فيه (بَيْنِي وَبَيْنَكَ) قائم بيننا لا نخرج عنه (أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ) «ما» زائدة ، أي : أيّ أجل من الأجلين :أطولهما الّذي هو العشر ، أو أقصر هما الّذي هو الثمان (قَضَيْتُ) وفيتك إيّاه ، وأتممت وفرغت منه (فَلا عُدْوانَ عَلَيَ) لا يعتدي عليّ في طلب الزيادة عليه. ولمّا كان المعنى : كما أنّي إن طولبت بالزيادة على العشر كان عدوانا لا شكّ فيه ، فكذلك إن طولبت بالزيادة على الثمان. فلا يقال : تصوّر العدوان إنّما هو في أحد الأجلين الّذي هو الأقصر ، وهو المطالبة بتتمّة العشر ، فما معنى تعليق العدوان بهما جميعا؟

والحاصل : أنّ موسى عليه‌السلام أراد بذلك تقرير الخيار ، وأنّه ثابت مستقرّ ، وأنّ الأجلين على السواء : إمّا هذا وإمّا هذا ، من غير تفاوت بينهما في القضاء. وأمّا

١٥٧

التتمّة فموكولة إلى رأيي ، إن شئت أتيت بها ، وإلّا لم أجبر عليها.

وقيل : معناه : فلا أكون معتديا بترك الزيادة عليه ، كقولك : لا إثم عليّ ، ولا تبعة عليّ. وهو أبلغ في إثبات الخيرة.

روى الواحدي بالإسناد عن ابن عبّاس قال : «سئل رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : أيّ الأجلين قضى موسى؟ قال : أوفاهما وأبطأهما» (١).

وبالإسناد عن أبي ذرّ قال : قال رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إذا سئلت أيّ الأجلين قضى موسى؟ فقل : خيرهما وأبرّهما ، وإن سئلت أيّ المرأتين تزوّج؟ فقل : الصغرى منهما. وهي الّتي جاءت فقالت : (يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ) (٢).

وكذلك روى الحسين بن سعيد ، عن صفوان ، عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «سئل أيّتها الّتي قالت : إنّ أبي يدعوك؟ قال : الّتي تزوّج بها. قال : فأيّ الأجلين قضى؟ قال : أوفاهما وأبعدهما عشر سنين. ثمّ قيل : فدخل بها قبل أن يمضي الشرط أو بعد انقضائه؟ قال : قبل أن ينقضي. قيل له : فالرجل يتزوّج المرأة ويشترط لأبيها إجارة شهرين ، أيجوز له أن يدخل بها قبل انقضاء الشهر؟ قال : إنّ موسى علم أنّه سيتمّ له شرطه. قيل : كيف؟ قال : إنّه علم سيبقى حتّى يفي».

(وَاللهُ عَلى ما نَقُولُ) من المشارطة (وَكِيلٌ) الّذي وكل إليه الأمر. ولمّا استعمل في موضع الشاهد والمهيمن والمقيت (٣) عدّي بـ «على». والمعنى : والله على ما نقول شاهد حفيظ.

روي : لمّا زوّجها شعيب من موسى ، أمر أن يعطى موسى عصا يدفع السباع عن غنمه بها ، فأعطي العصا.

__________________

(١) تفسير الوسيط ٣ : ٣٩٧ ، وفيه : أوفاهما وأطيبهما.

(٢) تفسير الوسيط ٣ : ٣٩٧ ـ ٣٩٨.

(٣) المقيت : الحافظ للشيء ، والشاهد له ، والمقتدر ، كالّذي يعطي كلّ أحد قوته. من : قات يقوت قوتا.

١٥٨

وقيل : إنّ شعيبا كانت عنده عصيّ الأنبياء عليهم‌السلام ، فقال لموسى عليه‌السلام بالليل : ادخل ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصيّ. فأخذ عصا هبط بها آدم عليه‌السلام من الجنّة ، ولم يزل الأنبياء يتوارثونها حتّى وقعت إلى شعيب ، فمسّها وكان مكفوفا ، فضنّ بها.

فقال : غيرها ، أي : خذ غيرها. فما وقع في يده إلّا هي سبع مرّات ، فعلم أنّ له شأنا.

وقيل : أخذها جبرئيل بعد موت آدم ، فكانت معه حتّى لقي بها موسى ليلا.

وقيل : أودعها في يد شعيب ملك في صورة رجل ، فدفعها إلى موسى. ثمّ ندم ، لأنّها وديعة ، فتبعه ليستردّها ، فضنّا بها ، ورضيا أن يحكم بينهما أوّل طالع. فأتاهما الملك فقال : ألقياها فمن رفعها فهي له. فعالجها الشيخ فلم يطقها ، ورفعها موسى.

وعن الحسن : ما كانت إلّا عصا من شجر اعترضها اعتراضا. وعن الكلبي : من شجرة العوسج.

وروى عبد الله بن سنان قال : سمعت أبا عبد الله عليه‌السلام يقول : «كانت عصا موسى قضيب آس من الجنّة ، أتاه به جبرئيل لمّا توجّه تلقاء مدين».

وروي : أنّ شعيبا لمّا أرسل موسى إلى المرعى مع الأغنام ، قال له : إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك ، فإنّ الكلأ وإن كان بها أكثر ، إلّا أنّ فيها تنّينا ، أخشاه عليك وعلى الغنم. فأخذت الغنم ذات اليمين ، ولم يقدر على كفّها. فمشى على أثرها فإذا عشب وريف لم ير مثله ، فنام فإذا بالتنّين قد أقبل ، فحاربته العصا حتّى قتلته وعادت إلى جنب موسى ، فلمّا أبصرها دامية والتنّين مقتولا ارتاح لذلك. ولمّا رجع إلى شعيب مسّ الغنم ، فوجدها ملأى البطون غزيرة اللبن. فأخبره موسى ، ففرح وعلم أنّ لموسى والعصا شأنا. وقال له : إنّي وهبت لك من نتاج غنمي هذا العام كلّ أدرع (١) ودرعا. فأوحي إليه في المنام : أن اضرب بعصاك

__________________

(١) درع الفرس وغيره : اسودّ رأسه ، وابيضّ سائره. فهو أدرع. والأنثى : درعاء.

١٥٩

مستقى الغنم ، ففعل. ثمّ سقى فما أخطأت واحدة إلّا وضعت أدرع ودرعاء. فوفى له بشرطه.

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَسارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (٢٩) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٣٠) وَأَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَلا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (٣١) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٣٢) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (٣٣) وَأَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (٣٤) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (٣٥))

(فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ) وهو أقصى الأجلين ، ومكث عند شعيب عشرا

١٦٠