زبدة التّفاسير - ج ٥

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني

زبدة التّفاسير - ج ٥

المؤلف:

فتح الله بن شكر الله الشريف الكاشاني


المحقق: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
الموضوع : القرآن وعلومه
الناشر: مؤسسة المعارف الإسلاميّة
المطبعة: عترت
الطبعة: ١
ISBN: 964-7777-07-8
ISBN الدورة:
964-7777-02-5

الصفحات: ٥٩٦

وعن الشعبي قال : كانت زينب تقول للنبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إنّي لأدلّ (١) عليك بثلاث ، ما من نسائك امرأة تدلّ بهنّ : جدّي وجدّك واحد ، وإنّي أنكحنيك الله في السماء ، وإنّ السفير لي جبرئيل عليه‌السلام. فكانت تفتخر على سائر نساء النبيّ وتقول : زوّجني الله من النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وأنتنّ إنّما زوّجكنّ أولياؤكن.

(ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ) من إثم وضيق (فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) قسّم له وقدّر. من قولهم : فرض له في الديوان. ومنه : فروض العسكر لأرزاقهم ، أي : فيما أحلّ الله له ، بل أوجب الله عليه. (سُنَّةَ اللهِ) اسم وضع موضع المصدر. وكأنّه قيل : سنّ الله ذلك سنّة. (فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) من الأنبياء الماضين. وهو أن لا يحرّج عليهم في الإقدام على ما أباح لهم ، ووسّع عليهم في باب النكاح وغيره. وقد كانت تحتهم المهائر (٢) والسراري. وكان لداود مائة امرأة ، ولسليمان ثلاثمائة امرأة ، وسبعمائة سرّيّة. (وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) قضاء مقضيّا ، وحكما مبتوتا.

(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ) صفة لـ (الَّذِينَ خَلَوْا) أو مدح لهم ، منصوب أو مرفوع. والمعنى : الّذين يؤدّون أحكام الله إلى من بعثوا إليهم ، ولا يكتمونها.

(وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) فيما يتعلّق بالأداء والتبليغ. وهذا تعريض بعد تصريح. وفي ذلك دلالة على أنّ الأنبياء لا يجوز عليهم التقيّة في تبليغ الرسالة.

فإن قلت : فكيف قال لنبيّنا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : (وَتَخْشَى النَّاسَ).

قلت : لم يكن ذلك فيما يتعلّق بالتبليغ ، وإنّما خشي عليه‌السلام المقالة القبيحة فيه. والعاقل كما يتحرّز عن المضارّ يتحرّز من إساءة الظنون به. والقول السيّء فيه ، ولا يتعلّق شيء من ذلك بالتكليف.

__________________

(١) لأدلّ من الدلال بمعنى : التدلّل والتلطّف والافتخار.

(٢) جمع المهيرة ، وهي الحرّة الغالية المهر. والسراري جمع السّريّة ، وهي الأمة الّتي تقام في بيت.

٣٨١

(وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) كافيا للمخاوف ، أو محاسبا فينبغي أن لا يخشى إلّا منه.

روي : أنّه عليه‌السلام لمّا تزوّج زينب بنت جحش ، قال الناس : إنّ محمّدا تزوّج امرأة ابنه ، فقال سبحانه ردّا عليهم : (ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ) على الحقيقة ، فيثبت بينه وبينه ما بين الوالد والولد من حرمة المصاهرة. ولمّا لم يكن صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أبا زيد في الحقيقة ، فلا يحرم عليه زوجته. ولا ينتقض عمومه بكونه أبا للطاهر والقاسم وإبراهيم ، لأنّهم لم يبلغوا مبلغ الرجال. ولا بقوله في شأن الحسن والحسين : «ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا».

لأنّ المراد بالأب في الآية أب الرجل بلا واسطة ، كما هو المتبادر ، وهما لم يبلغا حدّ الرجال ، وكانا ولد ولده.

(وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ) وكلّ رسول أبو أمّته ، لا مطلقا ، بل من حيث إنّه شفيق ناصح لهم ، واجب التوقير والطاعة عليهم. وزيد منهم ، وليس بينه وبينه ولادة. أو ولكن رسول الله ، فلا يترك ما أباحه الله بقول الجهّال.

(وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) وآخرهم الّذي ختمهم ، أو ختموا به ، على قراءة عاصم بالفتح. ولو كان له ابن بالغ لاق بمنصبه أن يكون نبيّا ، كما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في إبراهيم حين توفّي : «لو عاش لكان نبيّا».

ولا يقدح نزول عيسى بعده ، لأنّ معنى كونه آخر الأنبياء أنّه لا ينبّأ أحد بعده ، وعيسى ممّن نبّئ قبله ، وحين ينزل يكون على دينه ، مصلّيا إلى قبلته ، فكان بعض أمّته.

(وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) فيعلم من يليق بأن يختم به النبوّة ، وكيف ينبغي شأنه. وقد صحّ الحديث عن جابر بن عبد الله عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنّه قال : «إنّما مثلي في الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأكملها وحسّنها إلّا موضع لبنة ، فكان من دخل فيها فنظر إليها ، قال : ما أحسنها إلّا موضع هذه اللبنة. قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : فأنا موضع اللبنة ، ختم

٣٨٢

بي الأنبياء». أورده البخاري (١) ومسلم (٢) في صحيحهما.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤))

ولمّا أعطى الله العباد أفضل نعمه ، وهو إرسال خاتم النّبيين عليهم ، أمرهم بأنواع ذكره ، من التحميد والتسبيح والتهليل والتكبير ، شكرا على أن جعلهم من أمّة خاتم النبيين صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فقال :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) أثنوا عليه بضروب الثناء ، من التقديس والتحميد والتهليل والتمجيد ، وسائر ما هو أهله في جميع الأوقات.

روي عن ابن عبّاس عن النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : «من عجز عن الليل أن يكابده ، وجبن عن العدوّ أن يجاهده ، وبخل بالمال أن ينفقه ، فليكثر ذكر الله عزوجل».

(وَسَبِّحُوهُ) ونزّهوه عن جميع ما لا يليق به (بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أوّل النهار وآخره خصوصا. وتخصيصهما بالذكر للدلالة على فضلهما على سائر الأوقات ، لكونهما مشهودين ، كتخصيص جبرئيل وميكائيل بين الملائكة ليبيّن فضلهما عليهم ، وكإفراد التسبيح من جملة الأذكار ، لأنّه العمدة فيها ، فإنّ معناه تنزيه ذاته عمّا لا يجوز عليه من الصفات والأفعال ، وتبرئته من القبائح.

__________________

(١) صحيح البخاري ٤ : ٢٢٦.

(٢) صحيح مسلم ٤ : ١٧٩١ ح ٢٣.

٣٨٣

وقيل : الفعلان موجّهان إليهما ، كقولك : صم وصلّ يوم الجمعة. وقيل : المراد بالتسبيح صلاة الفجر والعشاءين ، لأنّ أداءها أشقّ ، ومراعاتها أشدّ ، ولأنّ ملائكة الليل والنهار يجتمعون فيهما.

وقال الكلبي : أمّا «بكرة» فصلاة الفجر ، وأمّا «أصيلا» فصلاة الظهر والعصر والمغرب والعشاء. وسمّي تسبيحا لما فيه من التسبيح والتنزيه.

وعن قتادة : معناه قولوا : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلّا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله.

وعن مجاهد : هذه الكلمة يقولها الطاهر والجنب.

وروي عن أئمّتنا عليهم‌السلام أنّهم قالوا : من قالها ثلاثين مرّة فقد ذكر الله كثيرا.

وعن زرارة وحمران بن أعين عن أبي عبد الله عليه‌السلام قال : «من سبّح تسبيح فاطمة عليها‌السلام فقد ذكر الله ذكرا كثيرا».

وروى الواحدي بإسناده عن الضحّاك بن مزاحم ، عن ابن عبّاس قال : «جاء جبرئيل النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : يا محمّد! قل : سبحان الله ، والحمد لله ، ولا إله إلّا الله ، والله أكبر ، ولا حول ولا قوّة إلّا بالله العظيم ، عدد ما علم ، وزنة ما علم ، وملء ما علم. فإنّ من قالها كتب الله له بها ستّ خصال : كتب من الذاكرين ذكرا كثيرا ، وكان أفضل من ذكره بالليل والنهار ، وكنّ له غرسا في الجنّة ، وتحاتّت عنه خطاياه كما تحات ورق الشجرة اليابسة ، وينظر الله إليه ، ومن نظر الله إليه لم يعذّبه.

ثمّ حثّ الله عباده على إكثار أنواع ذكره ، فأخبرهم أنّه عزّ شأنه مع غناه عنكم يذكركم ، فأنتم أولى بأن تذكروه ، وتقبلوا إليه ، مع احتياجكم إليه ، فقال :

(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ) بالرحمة والمغفرة (وَمَلائِكَتُهُ) بالاستغفار لكم ، والاهتمام بما يصلحكم. والمراد بالصلاة المشترك بين الرحمة والاستغفار وهو العناية بصلاح أمرهم ، وظهور شرفهم. ولا شبهة أنّ استغفار الملائكة ، ودعاءهم

٣٨٤

للمؤمنين ، ترحّم عليهم ، سيّما وهو سبب الرحمة ، من حيث إنّهم مجابو الدعوة.

وقيل : لمّا كان من شأن المصلّي أن ينعطف في ركوعه وسجوده ، استعير لمن ينعطف على غيره حنوّا عليه وترؤّفا ، كعائد المريض في انعطافه عليه ، والمرأة في حنوّها على ولدها ، ثمّ كثر حتّى استعمل في الرحمة والترؤّف. ومنه قولهم : صلّى الله عليك ، أي : ترحّم عليك وترأّف. فالمراد بالصلاة هاهنا الرحم والانعطاف المعنويّ ، كما أنّ الصلاة المشتملة على الركوع والسجود هي والانعطاف الصوري.

(لِيُخْرِجَكُمْ) بالتوفيق واللطف (مِنَ الظُّلُماتِ) ظلمات الكفر والمعصية (إِلَى النُّورِ) نور الإيمان والطاعة (وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) حيث اعتنى بصلاح أمرهم وإنافة قدرهم.

(تَحِيَّتُهُمْ) من إضافة المصدر إلى المفعول ، أي يحيّون (يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ) يوم لقاء ثوابه عند الموت ، أو الخروج من القبر ، أو دخول الجنّة. كما قال : (وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ) (١) (سَلامٌ) بالسلامة عن كلّ مكروه وآفة ، بأن يقال لهم : السلامة لكم عن جميع الآفات.

روي عن البراء بن عازب أنّه قال : يوم يلقون ملك الموت ، لا يقبض روح مؤمن إلّا سلّم عليه أوّلا. فعلى هذا يكون المعنى : تحيّة المؤمنين من ملك الموت ، يوم يلقونه ، أن يسلّم عليهم.

(وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) ثوابا جزيلا ، هي الجنّة. ولعلّ اختلاف النظم لمحافظة الفواصل ، والمبالغة فيما هو أهمّ.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٤٨))

__________________

(١) الرعد : ٢٣ ـ ٢٤.

٣٨٥

ثمّ بيّن جلالة قدر نبيّه الّذي جعله خاتم النبيّين ، وأرسله إلى كافّة الخلائق أجمعين ، وأعلمهم علوّ قدره عنده ، ليزيد عباده الشكر على رفعة منزلته بينهم ، فقال :

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً) على من بعثت إليهم ، بتصديقهم وتكذيبهم ، ونجاتهم وضلالتهم ، أي : شاهدا مقبولا قولك عند الله لهم وعليهم ، كما يقبل قول الشاهد العدل في الحكم ، فيجازيهم بحسب شهادته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. وهو حال مقدّرة ، كقولك : مررت برجل معه صقر صائدا به غدا ، أي : مقدّرا به الصيد غدا. فلا يقال : كيف كان شاهدا وقت الإرسال ، وإنّما يكون شاهدا عند تحمّل الشهادة أو عند أدائها؟

(وَمُبَشِّراً) لمن أطاعني وأطاعك بالجنّة (وَنَذِيراً) لمن عصاني وعصاك بالنار.

(وَداعِياً إِلَى اللهِ) إلى الإقرار به وبتوحيده ، وبما يجب الإيمان به من صفاته (بِإِذْنِهِ) بتيسيره وتسهيله. قيّد الدعوة بالإذن ، إيذانا بأنّ دعوة أهل الشرك والجاهليّة إلى التوحيد والشرائع أمر في غاية الصعوبة ، لا يتأتّى إلّا بمعونة من جناب قدسه.

(وَسِراجاً مُنِيراً) يستضاء به عن ظلمات الجهالة ، ويقتبس من نوره أنوار البصائر. يعني : كما يجلّى ظلام الليل بالسراج المنير ويهتدى به ، جلّى به الله ظلمات الشرك واهتدى به الضالّون ، وكما يمدّ بنور السراج نور الأبصار ، أمدّ الله بنور نبوّته نور البصائر.

٣٨٦

وعن الزجّاج : تقديره : ذا سراج ، والسراج : القرآن ، فحذف المضاف.

ووصفه بالإنارة ، لأنّ من السراج ما لا يضيء إذا قلّ سليطه (١) ودقّت فتيلته.

وفي كلام بعضهم : ثلاثة تصني (٢) : رسول بطيء ، وسراج لا يضيء ، ومائدة ينتظر لها من يجيء.

(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) على سائر الأمم ، لأنّ أمّته يكونون شهداء على الأمم السابقة جميعا ، أو على جزاء أعمالهم. والفضل ما يتفضّل به عليهم زيادة على الثواب. وإذا كان المتفضّل به كبيرا فما ظنّك بالثواب.

ويجوز أن يريد بالفضل : الثواب ، من قولهم للعطايا : فضول ، وفواضل. ولعلّ ذلك معطوف على محذوف ، مثل : فراقب أحوال أمّتك.

ثمّ هيّجه سبحانه على ما هو عليه من مخالفة الكفر وأهل النفاق بقوله : (وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ) أي : دم على ما كنت عليه من عدم إطاعتهما (وَدَعْ أَذاهُمْ) إيذاءهم إيّاك ، ولا تحتفل به. أو إيذاءك إيّاهم مجازاة أو مؤاخذة على كفرهم. ولذلك نقل عن ابن عبّاس : أنّه منسوخ. وعن الكلبي : معناه : كفّ عن إيذائهم وقتالهم قبل أن تؤمر بالقتال. (وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ) وأسند أمرك إلى الله بنصرك عليهم ، فإنّه يكفيكهم (وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) موكولا إليه الأمور في الأحوال كلّها.

واعلم أنّه سبحانه وصف رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بخمس صفات ، قابل كلّا منها بخطاب يناسبه ، فحذف مقابل الشاهد ، وهو الأمر بالمراقبة ، لأنّ ما بعده كالتفصيل له.

وقابل المبشّر بالأمر ببشارة المؤمنين. والنذير بالنهي عن مراقبة الكفّار والمبالاة بأذاهم. والداعي إلى الله بتيسيره بالأمر بالتوكّل عليه. والسراج المنير بالاكتفاء به ،

__________________

(١) السليط : الزيت الجيّد ، وكلّ دهن عصر من حبّ.

(٢) أي : تثقل.

٣٨٧

فإنّ من أناره الله برهانا على جميع خلقه ، كان حقيقا بأن يكتفى به عن غيره.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (٥٠) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَكانَ اللهُ عَلِيماً حَلِيماً (٥١) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً (٥٢))

ثمّ عاد سبحانه إلى ذكر النساء ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ

٣٨٨

الْمُؤْمِناتِ) المراد بالنكاح العقد ، وإن كان في الأصل بمعنى الوطء. وتسمية العقد به لملابسته له ، من حيث إنّه طريق إليه. ونظيره تسمية الخمر إثما ، لأنّها سبب في اقتراف الإثم.

ويؤيّد أنّ النكاح هاهنا بمعنى العقد قوله : (ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ) أن تجامعوهنّ (فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ) أي : أيّام معدودة يتربّصن فيها بأنفسهنّ (تَعْتَدُّونَها) تستوفون عددها بالأقراء أو الأشهر. من : عدّدت الدراهم فاعتدّها ، كقولك : كلته فاكتاله ، ووزنته فاتّزن. فأسقط الله سبحانه العدّة من المطلّقة قبل المسيس ، لبراءة رحمها ، فإن شاءت تزوّجت من يومها. والإسناد إلى الرجال ، للدلالة على أنّ العدّة حقّ واجب على النساء للرجال ، كما أشعر به «فما لكم».

وعن ابن كثير : تعتدونها مخفّفا ، على إبدال إحدى الدالين بالياء ، أو على أنّه من الاعتداء ، بمعنى : تعتدون فيها ، كقوله : (وَلا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا) (١).

وظاهره يقتضي عدم وجوب العدّة بمجرّد الخلوة ، فلا يكون حكم الخلوة الصحيحة حكم المساس ، خلافا للحنفيّة.

وتخصيص المؤمنات والحكم عامّ ، للتنبيه على أنّ من شأن المؤمن أن لا ينكح إلّا مؤمنة تخيّرا لنطفته.

وفائدة «ثمّ» إزاحة ما عسى يتوهّم أنّ تراخي الطلاق كما يؤثّر في النسب يؤثّر في العدّة ، فلا يتفاوت الحكم بين أن يطلّقها وهي قريبة العهد من النكاح ، وبين أن يبعد عهدها بالنكاح ويتراخى بها المدّة في حبالة الزواج ثمّ يطلّقها. ويمكن أن يكون ذكر «ثمّ» للبون البعيد بين العقد والطلاق.

(فَمَتِّعُوهُنَ) أي : إن لم يكن مفروضا لها ، فإنّ الواجب للمفروض لها نصف المفروض ، دون المتعة. ويجوز أن يؤوّل التمتيع بما يعمّهما. أو يكون الأمر مشتركا

__________________

(١) البقرة : ٢٣١.

٣٨٩

بين الوجوب والندب ، فإنّ المتعة سنّة للمفروض لها. (وَسَرِّحُوهُنَ) أخرجوهنّ من منازلكم ، إذ ليس لكم عليهنّ عدّة (سَراحاً جَمِيلاً) من غير ضرار ولا منع حقّ.

ثمّ خاطب النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ) مهورهنّ ، لأنّ المهر أجر على البضع. والإيتاء قد يكون بالأداء ، وقد يكون بالالتزام ، أي : بفرض المهور ، وتسميتها في العقد. وعلى التقديرين ؛ تقييد الإحلال به بإعطائها معجّلة أو بالالتزام ، لا لتوقّف الحلّ عليه ، بل لإيثار الأفضل له.

وذلك أنّ تسمية المهر في العقد أولى وأفضل من ترك التسمية ، فإنّه جاز وقوع العقد والمماسّة بدون التسمية. وسوق المهر عاجلا أفضل من أن يسمّيه ويؤجّله.

وكذا تقييد إحلال المملوكة بكونها مسبيّة بقوله : (وَما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللهُ عَلَيْكَ) لإيثار الأفضل. فإنّ المشتراة لا يتحقّق بدء أمرها وما جرى عليها ، فإنّ السبي على ضربين : سبي طيبة ، وسبي خبثة. فسبي الطيبة : ما سبي من أهل الحرب. وأمّا من كان له عهد فالمسبيّ منهم سبي خبثة. وفيء الله ـ سواء كان من الغنائم أو الأنفال ـ لا يطلق إلّا على الطيّب دون الخبيث ، كما أنّ رزق الله يجب إطلاقه على الحلال دون الحرام. وكانت من الغنائم مارية القبطيّة أمّ ابنه إبراهيم. ومن الأنفال صفيّة وجويرية ، أعتقهما وتزوّجهما.

وتقييد القرايب بكونها مهاجرات معه في قوله : (وَبَناتِ عَمِّكَ وَبَناتِ عَمَّاتِكَ وَبَناتِ خالِكَ وَبَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ) يحتمل تقييد الحلّ بذلك في حقّه خاصّة. ويعضده قول امّ هانئ بنت أبي طالب : خطبني رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فاعتذرت إليه فأعذرني ، ثم أنزل الله هذه الآيات ، فلم أحلّ له ، لأنّي لم أهاجر معه ، وكنت من الطلقاء.

وقال صاحب المجمع : «هذا إنّما كان قبل تحليل غير المهاجرات ، ثمّ نسخ

٣٩٠

شرط الهجرة في التحليل» (١).

(وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً) أي : وأحللنا لك امرأة مؤمنة (إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ) نصب بفعل يفسّره ما قبله. أو عطف على ما سبق. ولا يدفعه التقييد بأن «الّتي» للاستقبال ، فإنّ المعنيّ بالإحلال الإعلام بالحلّ ، أي أعلمناك حلّ امرأة مؤمنة تهب لك نفسها ولا تطلب مهرا ، إن اتّفق ، ولذلك نكّرها. واختلف في اتّفاق ذلك. فقال ابن عبّاس : لم يكن عند رسول الله أحد منهنّ بالهبة. وقيل : الموهوبات أربع : ميمونة بنت الحارث ، وزينب بنت خزيمة الأنصاريّة ، وامّ شريك بنت جابر ، وخولة بنت حكيم.

(إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها) شرط للشرط الأوّل في الإحلال في استيجاب الحلّ. كأنّه قال : أحللناها لك إن وهبت لك نفسها ، وأنت تريد أن تستنكحها ، فإنّ هبتها نفسها منه لا توجب له حلّها إلّا بإرادته نكاحها ، فإنّها جارية مجرى القبول.

وتكرير «النبيّ» تفخيم له. والعدول إلى الغيبة بلفظ النبيّ مكرّرا ، ثمّ الرجوع إليه في قوله : (خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ) إيذان بأنّه ممّا خصّ به ، لشرف نبوّته ، وتقرير لاستحقاقه الكرامة لأجل نبوّته.

قيل : إنّ امرأة لمّا وهبت نفسها للنبيّ ، قالت عائشة : ما بال النساء يبذلن أنفسهنّ بلا مهر؟ فنزلت الآية. فقالت عائشة ما أرى الله تعالى إلّا يسارع هواك؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم «وإنّك إن أطعت الله سارع في هواك».

واحتجّ به أصحابنا على أنّ النكاح لا ينعقد بلفظ الهبة ، لأنّ اللفظ تابع للمعنى ، وقد خصّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالمعنى ، فيختصّ باللفظ. والمدّعي للاشتراك في اللفظ يحتاج إلى الدليل.

__________________

(١) مجمع البيان ٨ : ٣٦٤.

٣٩١

ومعنى الاستنكاح طلب النكاح والرغبة فيه. و «خالصة» مصدر مؤكّد ، كوعد الله وصبغة الله ، أي : إحلال ما أحللنا لك على القيود المذكورة خلص لك خلوصا ، فإنّ الفاعل والفاعلة في المصادر غير عزيزين ، كالخارج والقاعد ، والكاذبة والعافية. أو حال من الضمير في «وهبت». أو صفة مصدر محذوف ، أي : هبة خالصة.

(قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ) من اعتبار العقد بألفاظ مخصوصة ، ووجوب المهر ، والحصر بعدد محصور ، والقسم ، وغير ذلك ممّا وضعنا عنك تخفيفا (وَما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ) من توسيع الأمر فيها. والجملة اعتراض بين قوله : (لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ) وبين متعلّق اللام ، وهي «خالصة» ، للدلالة على أنّ الفرق بينه وبين المؤمنين في نحو ذلك ، ليس لمجرّد قصد التوسيع عليه وارتفاع الحرج عنه ، بل لمصالح وحكم تقتضي التوسيع عليه والتضييق عليهم تارة ، وبالعكس اخرى.

(وَكانَ اللهُ غَفُوراً) للواقع في الحرج إذا تاب وعدا وعدلا ، ولم يتب تفضّلا (رَحِيماً) بالتوسعة عليك ، ورفع الحرج عنك.

روي : أنّ أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حين تغايرن وابتغين زيادة النفقة ، وغظن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، هجرهنّ شهرا ، ونزل التخيير ، فأشفقن أن يطلّقهنّ ، فقلن : يا رسول الله افرض لنا من نفسك ومالك ما شئت. فنزلت : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ) تؤخّرها ، وتترك مضاجعتها (وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) وتضمّ إليك ، وتضاجعها. أو تطلّق من تشاء ، وتمسك من تشاء. وقرأ حمزة والكسائي وحفص : ترجئ بالهمزة. والمعنى واحد. (وَمَنِ ابْتَغَيْتَ) طلبت وأردت أن تؤوي إليك امرأة (مِمَّنْ عَزَلْتَ) أرجيت (فَلا جُناحَ عَلَيْكَ) ولا لوم ولا عقاب ، ولا إثم في ابتغائها.

(ذلِكَ أَدْنى) ذلك التفويض إلى مشيئتك أقرب إلى (أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلا

٣٩٢

يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ) أي : إلى قرّة عيونهنّ ، وقلّة حزنهنّ ، ورضاهنّ جميعا ، لأنّ حكم كلّهنّ فيه سواء. يعني : إذا سوّيت بينهنّ في الإيواء والإرجاء ، والعزل والابتغاء ، وارتفع التفاضل ، ولم يكن لإحداهنّ ممّا تريد وممّا لا تريد إلّا مثل ما للأخرى ، أو رجّحت بعضهنّ ، وعلمن أنّ هذا التفويض من عند الله وبحكمه ، اطمأنّت نفوسهنّ ، وذهب التنافس والتغاير ، وحصل الرضا ، وقرّت العيون ، وسكنت القلوب. و «كلّهنّ» تأكيد لنون «يرضين».

(وَاللهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ) فاجتهدوا في إحسانه. وفيه وعيد لمن لم ترض منهنّ بما دبّر الله من ذلك ، وفوّض إلى مشيئة رسوله. وبعث على تواطئ قلوبهنّ ، والتصافي بينهنّ ، والتوافق على طلب رضا رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وما فيه طيب نفسه.

(وَكانَ اللهُ عَلِيماً) بذات الصدور (حَلِيماً) لا يعاجل بالعقوبة. فهو حقيق بأن يتّقى ويحذر.

روي : أنّه أرجأ منهنّ خمسا : سودة ، وجويرية ، وصفيّة ، وميمونة ، وامّ حبيبة. وآوى إليه منهنّ أربعا : أمّ سلمة ، وزينب ، وعائشة ، وحفصة.

(لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ) بالياء ، لأنّ تأنيث الجمع غير حقيقيّ. وقرأ البصريّان بالتاء. (مِنْ بَعْدُ) من بعد التسع المذكورات. وهنّ في حقّه نصاب ، كما أنّ الأربع في حقّنا نصاب ، فلا يحلّ له أن يتجاوز النصاب. أو من بعد اليوم ، حتّى لو ماتت واحدة لم يحلّ نكاح اخرى.

(وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ) فتطلّق واحدة وتنكح مكانها اخرى. و «من» مزيدة لتأكيد استغراق جنس الأزواج بالتحريم. (وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ) حسن الأزواج المستبدلة. قيل : إنّ الّتي أعجبته صلوات الله عليه حسنها أسماء بنت عميس الخثعميّة ، بعد قتل جعفر بن أبي طالب عنها. وهو حال من فاعل «تبدّل» ،

٣٩٣

دون مفعوله ، وهو «من أزواج» لتوغّله في التنكير. وتقديره : مفروضا إعجابك بهنّ.

واختلف في أنّ الآية محكمة أو منسوخة بقوله : (تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ) على المعنى الثاني ، فإنّه وإن تقدّمها قراءة ، فهو مسبوق بها نزولا. وعن عائشة : ما مات رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتّى أحلّ له النساء.

وقيل : المعنى : لا يحلّ لك النساء من بعد الأجناس الأربعة اللّاتي نصّ على إحلالهنّ لك ، ولا أن تبدّل بهنّ أزواجا من أجناس أخر.

(إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ) استثناء من النساء ، لأنّه يتناول الأزواج والإماء. وقيل : منقطع. (وَكانَ اللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيباً) حافظا مهيمنا. فتحفّظوا أمركم ، ولا تتخطّوا ما حدّ لكم.

روي : أنّ النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بنى بزينب بنت جحش وأولم عليها. قال أنس : أولم عليها بتمر وسويق ، وذبح شاة ، فأمرني رسول الله أن أدعو أصحابه إلى الطعام.

فدعوتهم ، فترادفوا أفواجا ، يأكل فوج فيخرج ، ثمّ يدخل فوج ، إلى أن قلت : يا رسول الله دعوت حتّى ما أجد أحدا أدعوه. فقال : ارفعوا طعامكم. فرفعوا ، وخرج القوم ، وبقي ثلاثة نفر يتحدّثون في البيت ، فأطالوا المكث ، فقام صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وقمت معه لكي يخرجوا. فانطلق إلى حجرة عائشة ، فقال : السلام عليكم أهل البيت. فقالوا : عليك السلام يا رسول الله ، كيف وجدت أهلك؟ وطاف بالحجرات ، فسلّم عليهنّ ، ودعون له. ورجع فإذا الثلاثة جلوس يتحدّثون. وكان رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شديد الحياء ، فتولّى ، فلمّا رأوه متولّيا خرجوا. وربّما كان قوم من الأصحاب يتحيّنون (١) طعام رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيقعدون ويستطيلون المجلس منتظرين لإدراكه مرّة بعد اخرى.

__________________

(١) أي : يترصّدون ويرقبون.

٣٩٤

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً (٥٣) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٥٤))

وعن سعيد بن جبير ، عن ابن عبّاس : كان رسول الله يريد أن يخلو له المنزل ، لأنّه كان حديث عهد بعرس ، وكان محبّا لزينب ، وكان يكره أذى المؤمنين في إخراجهم عن المنزل. فنزلت :

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ) أي : لا تدخلوا أيّها المتحيّنون (إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ) إلّا وقت الإذن (إِلى طَعامٍ) تعلّق بـ «يؤذن» لأنّه متضمّن معنى : يدعى ، للإشعار بأنّه لا يحسن الدخول على الطعام من غير دعوة وإن أذن. كما أشعر به قوله : (غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ) غير منتظرين وقته ، أو إدراكه. وهو حال من فاعل «لا تدخلوا» أو المجرور في «لكم». وقد أمال حمزة والكسائي : إناه ، لأنّه مصدر : أنى الطعام ، إذا أدرك.

وهذا الحكم مخصوص بهؤلاء المتحيّنين وأمثالهم ، وإلّا لما جاز لأحد أن يدخل بيوته بالإذن لغير الطعام.

٣٩٥

(وَلكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا) تفرّقوا ولا تمكثوا (وَلا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ) بعضكم بعضا. عطف على «ناظرين». أو مقدّر بفعل محذوف ، أي : ولا تدخلوا ولا تمكثوا مستأنسين.

(إِنَّ ذلِكُمْ) اللبث (كانَ يُؤْذِي النَّبِيَ) لتضيّق المنزل عليه وعلى أهله ، واشتغاله فيما لا يعنيه (فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ) من إخراجكم ، على تقدير المضاف (وَاللهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ) يعني : أنّ إخراجكم حقّ ، ما ينبغي أن يستحيا منه.

ولمّا كان الحياء انقباض النفس عن صدور القبيح ، وهذا المعنى ممتنع على الله تعالى ، فالحياء بمعنى الترك. وتسميته بالحياء هنا من باب المزاوجة. والمعنى : لا يترك إبانة الحقّ ترك الحيّي. وهذا أدب أدّب الله به الثقلاء.

روي : أن رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كان يطعم ومعه بعض أصحابه ، فأصابت يد رجل منهم يد عائشة ، وكانت معهم ، فكره ذلك. فنزلت آية الحجاب.

وهي هذه :(وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَ) إذا سألتم أزواج النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم (مَتاعاً) شيئا ينتفع به (فَسْئَلُوهُنَ) المتاع (مِنْ وَراءِ حِجابٍ) ستر (ذلِكُمْ) أي : سؤالكم إيّاهنّ المتاع من وراء الحجاب (أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَ) من الخواطر الشيطانيّة ، والهواجس النفسانيّة الّتي تدعو إلى ميل الرجال إلى النساء ، والنساء إلى الرجال.

وعن عائشة قالت : كنت آكل مع النّبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حيسا (١) في قعب ، فمرّ بنا عمر ، فدعاه فأكل ، فأصابت إصبعه إصبعي ، فقال : «حسّ (٢) لو أطاع فيكنّ ما رأتكنّ عين». فنزل الحجاب.

وعن مقاتل : إنّ طلحة بن عبيد الله قال : لئن قبض رسول الله لأنكحنّ عائشة.

وعن أبي حمزة الثمالي : إنّ رجلين قالا : أينكح محمّد نساءنا ، ولا ننكح

__________________

(١) الحيس : طعام مركّب من تمر وسمن وسويق. والقعب : القدح الضخم الغليظ.

(٢) حسّ : كلمة يقولها الإنسان إذا أصابه ما مضّه وأحرقه غفلة ، كالجمرة والضربة. النهاية لابن الأثير ١ : ٣٨٥.

٣٩٦

نساءه؟ والله لئن مات لنكحنا نساءه! وكان أحدهما يريد عائشة ، والآخر يريد امّ سلمة.

وذكر أنّ بعضهم قال : أننهى أن نتكلّم بنات عمّنا إلّا من وراء حجاب؟ لئن مات محمّد لأتزوّجنّ عائشة. فنزلت : (وَما كانَ) وما صحّ (لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ) أن تفعلوا ما يكرهه (وَلا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ) من بعد وفاته ، أو فراقه (أَبَداً) قيل : خصّ هذا الحكم بالّتي دخل بها ، لما روي : أنّ الأشعث بن قيس تزوّج امرأته غير المدخول بها في أيّام عمر ، فهمّ برجمها ، فأخبر بأنّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فارقها قبل أن يمسّها ، فتركها من غير نكير.

(إِنَّ ذلِكُمْ) يعني : إيذاءه ، ونكاح نسائه (كانَ عِنْدَ اللهِ عَظِيماً) ذنبا عظيم الموقع عند الله.

وفيه تعظيم من الله لرسوله ، وإيجاب لحرمته حيّا وميّتا. ولذلك بالغ في الوعيد عليه ، فقال : (إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً) ممّا نهيتم عنه ، كنكاحهنّ على ألسنتكم (أَوْ تُخْفُوهُ) في صدوركم (فَإِنَّ اللهَ كانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) فيعلم ذلك ، فيجازيكم به.

وفي التعميم مع البرهان على المقصود مزيد تهويل ومبالغة في الوعيد.

(لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَلا نِسائِهِنَّ وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللهَ إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً (٥٥))

روي : أنّه لمّا نزلت آية الحجاب ، قال الآباء والأبناء والأقارب يا رسول الله أنكلّمهنّ أيضا من وراء حجاب؟ فاستثنى الله من لا يجب الاحتجاب عنهم ، فقال :

٣٩٧

(لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَلا أَبْنائِهِنَّ وَلا إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَلا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَ) إنّما لم يذكر العمّ والخال ، لأنّهما بمنزلة الوالدين. ولذلك سمّى العمّ أبا في قوله : (وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ) (١). وهو عمّه على المذهب الصحيح. وقوله : (آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ) (٢). وإسماعيل عمّ يعقوب. أو لأنّه كره ترك الاحتجاب عنهما ، مخافة أن يصفا لأبنائهما.

(وَلا نِسائِهِنَ) يعني : النساء المؤمنات ، فإنّ نساء اليهود والنصارى لم يكنّ مواضع الأمانة ، فيصفن نساء رسول الله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وغيره لأزواجهنّ إن رأينهنّ. وقيل : يريد جميع النساء. وقد سبق ما هو الحقّ من القولين في سورة النور (٣).

(وَلا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ) من الإماء. وقيل : من العبيد والإماء. وقد مرّ تحقيقه أيضا في سورة النور.

ثمّ نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب ، لمزيد تشديد ومبالغة ، فقال : (وَاتَّقِينَ اللهَ) اسلكن طريق التقوى في حفظ ما أمركنّ الله به ، من الاحتجاب وغير ذلك من المنهيّات والمأمورات (إِنَّ اللهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ) من السرّ والعلن (شَهِيداً) لا يخفى عليه خافية ، ولا يتفاوت في علمه الأحوال من الظاهر والباطن.

(إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً (٥٦))

ولمّا صدّر سبحانه هذه السورة بذكر النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وقرّر في أثنائها ذكر

__________________

(١) الأنعام : ٧٤.

(٢) البقرة : ١٣٣.

(٣) راجع ج ٤ ص ٤٩٨ ، ذيل الآية ٣١ من سورة النور.

٣٩٨

تعظيمه ، ختم ذلك بالتعظيم الّذي ليس يقاربه تعظيم ولا يدانيه ، فقال : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ) أي : إنّ الله يثني على النبيّ بالثناء الجميل ، ويبجّله بأعظم التبجيل ، وملائكته يثنون عليه بأحسن الثناء ، ويدعون له بأزكى الدعاء ، اعتناء بإظهار شرفه وتعظيم شأنه.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ) اعتنوا أنتم أيضا بذلك ، فإنّكم أولى بذلك (وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) أي : قولوا : اللهمّ صلّ على محمّد وسلّم.

وقيل : معنى «وسلّموا» : وانقادوا لأوامره. ويؤيّده ما رواه أبو بصير ، قال : «سألت أبا عبد الله عليه‌السلام : قد عرفت صلاتنا عليه ، فكيف التسليم؟ فقال : هو التسليم له في الأمور».

يعني به الانقياد لأوامره ، وبذل الجهد في طاعته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.

ويعضد الأوّل ما قاله الزمخشري (١) والقاضي (٢) ، وذكره الشيخ في التبيان (٣) : إنّ المعنى : قول السلام عليك أيّها النبيّ.

قال أبو حمزة الثمالي : حدّثني السدّي وحميد بن سعد الأنصاري وبريد بن أبي زياد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، عن كعب بن عجزة ، قال : لمّا نزلت هذه الآية قلنا : يا رسول الله هذا السلام عليك قد عرفناه ، فكيف الصلاة عليك؟ قال : «قولوا : اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمد ، كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد. وبارك على محمّد وآل محمّد ، كما باركت على إبراهيم وآل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد».

وعن عبد الله بن مسعود قال : إذا صلّيتم على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فأحسنوا الصلاة عليه ، فإنّكم لا تدرون. قالوا : فعلّمنا. قال : قولوا : اللهمّ اجعل صلاتك ورحمتك

__________________

(١) الكشّاف ٣ : ٥٥٧.

(٢) أنوار التنزيل ٤ : ١٦٧.

(٣) التبيان ٨ : ٣٢٦ ـ ٣٢٧.

٣٩٩

وبركاتك على سيّد المرسلين ، وإمام المتّقين ، وخاتم النبيّين ، محمّد عبدك ورسولك ، إمام الدين ، وقائد الخير ، ورسول الرحمة. اللهمّ ابعثه مقاما محمودا يغبط به الأوّلون والآخرون. اللهمّ صلّ على محمّد وآل محمّد ، كما صلّيت على إبراهيم وآل إبراهيم ، إنّك حميد مجيد.

وعن أنس بن مالك ، عن أبي طلحة ، قال : دخلت على النبيّ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فلم أره أشدّ استبشارا منه ، ولا أطيب نفسا. قلت : يا رسول الله! ما رأيتك قطّ أطيب نفسا ، ولا أشدّ استبشارا منك اليوم؟ فقال : «وما يمنعني وقد خرج آنفا جبرئيل من عندي قال : قال الله تعالى : من صلّى عليك صلاة صلّيت بها عليه عشر صلوات ، ومحوت عنه عشر سيّئات ، وكتبت له عشر حسنات».

والآية تدلّ على وجوب الصلاة والسلام عليه في الجملة. وقيل : تجب الصلاة عليه كلّما جرى ذكره ، لقوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ».

وقوله : «من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ ، فدخل النار فأبعده الله».

ويروى أنّه قيل : يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى : (إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ)؟ فقال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : «هذا من العلم المكنون ، ولو لا أنّكم سألتموني عنه ما أخبرتكم به. إنّ الله وكلّ بي ملكين ، فلا اذكر عند عبد مسلم فيصلّي عليّ إلّا قال ذانك الملكان : غفر الله لك. وقال الله وملائكته جوابا لذينك الملكين : آمين. ولا اذكر عند عبد مسلم فلا يصلّي عليّ إلّا قال ذانك الملكان : لا غفر الله لك. وقال الله وملائكته لذينك الملكين : آمين».

ومنهم من قال : تجب في كلّ مجلس مرّة ، وإن تكرّر ذكره. والأصحّ أنّ الصلاة عليه وآله لا تجب إلّا في الصلاة ، والروايات المذكورة لتأكيد الاستحباب.

واعلم أنّ حديث كعب المذكور دلّ على مشروعيّة الصلاة على الآل تبعا له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، وعليه إجماع المسلمين. وهل يجوز الصلاة عليهم لا تبعا بل إفرادا ،

٤٠٠