تفسير المراغي - ج ٣٠

أحمد مصطفى المراغي

(كِتابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ) أي إن كتابهم فى هذا السجلّ الكبير الذي يشهده المقربون من الملائكة ، فكما وكل سبحانه أمر اللوح المحفوظ إليهم ، وكل إليهم حفظ كتاب الأبرار.

وقد يكون المراد ـ إنهم ينقلون ما فى تلك الصحائف إلى ذلك الكتاب الذي وكلوا بحفظه ، ويصير علمهم شهادة لهؤلاء الأبرار.

وبعد أن بين منزلة كتاب الأبرار ـ أخذ يفصل حال الأبرار فقال :

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ) أي إن البررة المطيعين لربهم ، الذين يؤمنون بالبعث والحساب ، ويصدقون بما جاء على لسان رسوله ـ لفى لذة ، وخفض عيش ، وراحة بال ، واطمئنان فس.

ثم ذكر أوصاف هذا النعيم وفخم شأنه فقال :

(عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) أي على الأسرة فى حجالها ينظرون إلى أنواع نعيمهم فى الجنة من الحور العين والولدان وأنواع الأطعمة والأشربة والمراكب الفارهة إلى نحو ذلك.

ثم بين أثر هذا النعيم على أهل الجنة فقال :

(تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) أي إنك إذا نظرت إليهم أدركت أنهم أهل نعمة ، لما ترى فى وجوههم من الأمارات الدالة على ذلك ؛ فمن ضحك ، إلى هدوء بال ، إلى استبشار كما قال : «وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ».

(يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ. خِتامُهُ مِسْكٌ) أي يسقون خمرا لا غش فيها ، ولا يصيب شاربها خمار ولا يناله منها أذى كما قال تعالى : «لا فِيها غَوْلٌ وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ».

وقد ختمت أوانيها بختام من مسك بدل الطين ، تكريما وصونا لها عن الابتذال على ما جرت به العادة من ختم الإنسان على ما يكرّم ويصان.

٨١

وهذا النوع من الخمر غير النوع الآخر الذي يجرى فى الأنهار الذي أشار إليه سبحانه بقوله : «وَأَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ».

ثم رغب فى العمل لذلك النعيم فقال :

(وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) أي وفى ذلك النعيم فليتسابق المتسابقون ، وليرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة ربهم باتباع أوامره ، واجتناب نواهيه.

وفى هذا إيماء إلى أن التنافس يجب أن يكون فى مثل ذلك النعيم العظيم الدائم ، لا فى النعيم الذي يشوبه الكدر وهو سريع الفناء.

(وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ) أي ومزاج هذا الرحيق ينصبّ عليهم من الأعالى. وقد سئل ابن عباس عن هذا فقال : هذا مما قال الله. «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ».

ثم بين هذا التسنيم فقال :

(عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) أي أمدح عينا يشرب منها الأبرار الرحيق مزاجا إذا أرادوا ، وقد وصفهم الله بالمقربين تكريما لهم وزيادة فى مدحهم.

وقد اعتاد أهل الدنيا إذا شربوا الخمر أن يمزجوها بالماء ونحوه ، فبين لهم أنهم فى الآخرة يشربون رحيقا قد وصف بما يجعل النفوس تتشوق إليه ، وأنهم يمزجونه بماء تجيئهم به العين العالية القدر ، إذا شاءوا أن يمزجوه.

وقصارى ما سلف ـ أنه سبحانه وصف النعيم الذي أعده للأبرار فى دار كرامته بما تتطلع إليه النفوس ، وبما يشوّقها إليه ، ليكون حضا للذين يعملون الصالحات على الاسترادة من العمل والاستدامة عليه ، وحثا لهمم المقصرين ، واستنهاضا لعزائمهم أن يحرصوا على التزوّد منه ليكون لهم مثل ما لأولئك.

إلى ما فيه من تحزين العصاة المصرّين على عصيانهم ، وبلوغ الغاية فى إيلامهم ، فإن العدو يسوءه أن يرى عدوه فى نعمة ، أو يسمع أن النعمة تنتظره.

٨٢

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (٢٩) وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (٣٠) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (٣١) وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (٣٢) وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (٣٣) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (٣٤) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٣٥) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (٣٦))

شرح المفردات

الغمز : الإشارة بالجفن والحاجب استهزاء وسخرية ، وقد يراد به العيب فيقال غمز فلان فلانا إذا عابه وذكره بسوء. ويقال فلان لا مغمز فيه : أي ليس فيه ما يعاب به ، فكهين : أي معجبين بما هم فيه من الشرك والضلالة والعصيان ، حافظين : أي رقباء يتفقدونهم ويهيمنون على أعمالهم ، والتثويب والإثابة : المجازاة. يقال ثوّبه وأثابه إذا جازاه كما قال :

سأجزيك أو يجزيك عنى مثوّب

وحسبك أن يثنى عليك وتحمدي

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه النعيم الذي هيأه للذين آمنوا به وبرسوله ، وعملوا بما كلفهم به من أعمال البر ، وأرشد إلى ما أعده للفجار جزاء ما اجترحوا من السيئات أخذ يبين ما كان الكفار يقابلون به المؤمنين فى الحياة الدنيا ، وما سيقابل به المؤمنون الكفار يوم القيامة كفاء ما صنعوا معهم فى الحياة الأولى.

روى أن صناديد قريش كأبى جهل والوليد بن المغيرة والعاص بن وائل السهمي وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة وأمية بن خلف وأضرابهم ، كانوا يؤذون رسول الله

٨٣

صلى الله عليه وسلم وأصحابه ويستهزئون بهم ويحرضون عليهم سفهاءهم وغلمانهم.

وهم الذين قال الله فيهم : «إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ».

وروى أن علىّ بن أبى طالب كرم الله وجهه جاء فى نفر من المسلمين فرآه بعض هؤلاء الكفار فسخروا منه وممن معه وضحكوا منهم وتغامزوا بهم ، ثم رجعوا إلى بقية شيعتهم من أهل الشرك فحدثوهم بما صنعوا به وبأصحابه.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ) أي إن المعتدين الأئمة الذين ضريت نفوسهم على الشر ، وصمّت آذانهم عن سماع دعوة الحق ـ كانوا فى الدنيا يضحكون من الذين آمنوا.

ذاك أنه حين رحم الله العالم ببعثه محمد صلى الله عليه وسلم كان كبار القوم وعرفاؤهم على رأى الدهماء من عبادة الأوثان والأصنام ، وكانت دعوة الحق خافتة لا يرتفع بها إلا صوته عليه الصلاة والسلام ، ثم يهمس بها بعض من يلبى دعوته من الضعفاء فيسرّ بها إلى من يرجو الخير فيه ولا يستطيع الجهر بها لمن يخافه.

ومن شأن القوى المعتزّ بقوته وكثرة ماله وعزة نفره أن يضحك ممن يخالفه فى المنزع ويدعوه إلى غير ما يعرف ، كما كان ذلك شأن جماعة من قريش كأبى جهل وشيعته ، وأمثالهم كثيرون فى كل زمان ومكان ، متى عمت البدع وخفى طريق الحق ، وتحكمت الشهوات ، وذهب الناقص يستكمل ما نقص منه بتنقيص الكامل ، وإذا صار الناس إلى هذه الحال ، ضعف صوت الحق ، وازدرى السامعون منهم ، بالداعي إليه.

(وَإِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ) أي وإذا مر المؤمنون بهم يعيبونهم ويذكرونهم بالسوء ، ويشيرون إليهم مستهزئين.

٨٤

(وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ) أي وإذا رجعوا إلى ذوى قرابتهم وبنى جلدتهم وأشياعهم من أهل الشرك والضلالة ـ رجعوا معجبين بما فعلوا من العيب على أهل الإيمان ورميهم بالسّخف وقلة العقل ، ويقولون : عجبا لهم ، إذ يقولون لا تدعوا إلا إلها واحدا ، ولا تتوجهوا بالطلب إلا إليه ، فأين الأولياء والشفعاء ، فكم ضرّوا وكم نفعوا ـ إلى نحو ذلك مما يتندرون به ويعدونه فكاهة ويتلذذون بحكايته.

(وَإِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ) أي وإذا رأوا المؤمنين قالوا إن هؤلاء لضالون ، إذ نبذوا ما عليه الكافة ، وذهبوا يعيبون العقائد الموروثة والمناسك التي نقلها الخلف عن السلف ، كابرا عن كابر ، وجيلا بعد جيل.

فرد سبحانه على هؤلاء الكفار فقال :

(وَما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ) أي إن الله لم يرسل الكفار رقباء على المؤمنين ، ولم يؤتهم سلطة محاسبتهم على أفعالهم ، وتعريف باطلها من صحيحها ، فلا يسوغ لهم أن يعيبوا عليهم ما يعتقدونه ضلالا بعقولهم الفاسدة ، وإنما كلفهم أن ينظروا شئون أنفسهم ، فيعدّلوا منها ما اعوجّ ، فإذا فعلوا ذلك قاموا بما يجب عليهم فى هذه الحياة.

ثم شرع يذكر معاملة المؤمنين لهم يوم القيامة ، تسلية لهم على ما ينالهم منهم من أذى وتقوية لقلوبهم ، وشدّا لعزائمهم على التذرع بالصبر فقال :

(فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) أي إنهم فى يوم الدين يضحك المؤمنون ضحك من وصل به يقينه إلى مشاهدة الحق فسرّ به ، وينكشف لهم ما كانوا يرجون من إكرام الله لهم وخذلان أعدائهم ، فضحكوا من أولئك المغرورين الجحدة الذين تجلت لهم عاقبة أعمالهم ، وظهر لهم سفه عقولهم وفساد أقوالهم.

(عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ) إلى ما صنع الله بأعدائهم ، وتنكيله بمن كانوا يفخرون عليهم ويهزءون بهم.

٨٥

ثم ذكر ما ينظرون إليه ليستيقنوا من حصوله فقال :

(هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ) أي إنهم ينظرون ليتحققوا : هل جوزى الكفار بما كانوا يفعلون بهم فى الدنيا.

وإنما سمى الجزاء على العمل ثوابا ، لأنه يرجع إلى صاحبه نظير ما عمله من خير أو شر.

ولله الحمد على إنعامه ، والشكر على إحسانه وإفضاله.

مقاصد هذه السورة

(١) وعيد المطففين.

(٢) بيان أن صحائف أعمال الفجار فى أسفل سافلين.

(٣) الإرشاد إلى أن صحائف أعمال الأبرار فى أعلى عليين.

(٤) وصف نعيم الأبرار فى مآكلهم ومشاربهم ومساكنهم.

(٥) استهزاء المجرمين بالمؤمنين فى الدنيا وتغامزهم بهم وحكمهم عليهم بالضلال.

(٦) تضاحك المؤمنين منهم يوم القيامة.

(٧) نظر المؤمنين إلى المجرمين وهم يلقون جزاءهم وما أعدّ لهم من النكال.

٨٦

سورة الانشقاق

هى مكية ، وآياتها خمس وعشرون ، نزلت بعد سورة الانفطار.

ومناسبتها لما قبلها ـ أنه فى السابقة ذكر مقر كتب الحفظة ، وفى هذه ذكر عرضها يوم القيامة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (١) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٢) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (٣) وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ (٤) وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ (٥) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (٦) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (٧) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (٨) وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (٩)وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (١٠) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (١١) وَيَصْلى سَعِيراً (١٢) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (١٣) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (١٤) بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (١٥))

شرح المفردات

انشقت : أي تشقّقت بالغمام كما جاء فى قوله : «وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ» وأذنت لربها : أي استمعت له كما قال :

صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به

وإن ذكرت بشرّ عندهم أذنوا

وحقّت : أي وحق لها أن تمتثل ذلك أي يجدر بها أن تكون كذلك ، قال كثير :

٨٧

فإن تكن العتبى فأهلا ومرحبا

وحقّت لها العتبى لدينا وقلّت

مدت : أي بسطت بزوال جبالها ونسفها حتى صارت قاعا صفصفا لا ترى فيها عوجا ولا أمتا ، وألقت ما فيها : أي ألقت ما فى جوفها من الموتى والكنوز ، وتخلت : أي خلت مما فيها فلم يبق فيها شىء ، كادح : أي جاهد مجدّ. قال شاعرهم :

ومضت بشاشة كلّ عيش

وبقيت أكدح للحياة وأنصب

فملاقيه : أي فملاق له عقب ذلك ، ينقلب : أي يرجع ، أهله : أي عشيرته المؤمنين ، وراء ظهره : أي بؤتاه بشماله من وراء ظهره ، والثبور : الهلاك أي ينادى ويقول : وا ثبوراه أقبل فهذا أوانك ، ويصلى : أي يقاسى ، وسعيرا : أي نارا مستعرة ، مسرورا : أي فرحا ، يحور : أي يرجع قال لبيد :

وما المرء إلا كالشهاب وضوئه

يحور رمادا بعد إذ هو ساطع

والمراد أنه لن يرجع إلى الله ، بلى : أي بلى يحور ويرجع.

المعنى الجملي

بين سبحانه فى أوائل هذه السورة أهوال يوم القيامة ، فذكر أنه حين انشقاق السماء واختلال نظام العالم ، وانبساط الأرض بنسف ما فيها من جبال ، وتخليها عما فى جوفها ـ يلاقى المرء ربه فيوفيه حسابه ، وينقسم الناس حينئذ فريقين :

(١) فريق الصالحين البررة ، وهؤلاء يحاسبون حسابا يسيرا ويرجعون مسرورين إلى أهلهم.

(٢) فريق الكفرة والعصاة ، وهؤلاء يؤتون كتبهم وراء ظهورهم ، ثم يصلون حر النار لأنهم كانوا فرحين بما يتمتعون به من اللذات والجري وراء الشهوات ، إذ كانوا يظنون أن لا بعث ولا حساب ، ولا ثواب ولا عقاب.

٨٨

الإيضاح

(إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ) لفساد تركيبها واختلال نظامها ، حينما يريد الله خراب هذا العالم بحدث من الأحداث ، كأن يمر كوكب فى سيره بالقرب من كوكب آخر ، فيتجاذبان ويتصادمان ، فيضطرب نظام العالم العلوي بأسره ، ويحدث من ذلك غمام يظهر فى مواضع متفرقة من هذا الفضاء الواسع.

(وَأَذِنَتْ لِرَبِّها) أي استمعت وانقادت لتأثير قدرته ، وفعلت فعل المطواع الذي إذا أمر أنصت وأذعن وامتثل ما أمر به ، وفى الحديث : «ما أذن الله لشىء إذنه لنبىّ يتغنى بالقرآن».

(وَحُقَّتْ) أي وحق لها أن تمتثل لأنها مخلوقة من مخلوقاته وهى فى قبضته ، فإن أراد تبديد نظامها فعل ولم يكن لها أن تعصى إرادته.

(وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ) أي وإذا اضطربت الأرض ودكت جبالها ، وتقطعت أوصالها ، وفقدت ما بينها من التماسك ، فليس لها هذا الاندماج المشاهد الآن بل تمدّ مدّ الأديم العكاظىّ كما روى عن ابن عباس (والأديم : الجلد ، والعكاظي : المدبوغ فى عكاظ) والمراد أنه لا انشقاق فيها ولا اعوجاج.

(وَأَلْقَتْ ما فِيها) أي رمت ما فى جوفها من الناس والمعادن ، وأخرجت كل ذلك إلى ظاهرها.

ونحو هذا قوله : «إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها. وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها» وقوله : «وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ» وقوله «إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ».

(وَتَخَلَّتْ) أي خلت من جميع ما فى جوفها ، وربما قذفته الحركة العنيفة إلى ما يبعد عن سطحها ، فيخلو منه باطن الأرض وظاهرها ، وهى فى ذلك خاضعة لأوامر ربها ، منقادة لمشيئته.

٨٩

(وَأَذِنَتْ لِرَبِّها وَحُقَّتْ) أي واستمعت وأطاعت أوامره لأنها فى قبضة القدرة الإلهية تصرّفها فى الفناء ، كما صرفتها فى الابتداء.

وجواب «إِذَا» الذي صدّرت به السورة محذوف لإرادة التهويل على المخاطبين ، فكأنه قيل : إذا كان الأمر كذا وكذا مما تقدم ذكره ـ ترون ما عملتم من خير أو شر فاكدحوا لذلك اليوم ، تفوزوا بالنعيم.

وقصارى ذلك ـ وصف أحوال العالم يوم القيامة «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ» وأنه يكون على غير حاله التي هو عليها فى هذه الحياة ، فتبدل الأرض غير الأرض والسموات غير السموات ، ويبرز الناس للحساب على ما قدموا فى حياتهم من عمل فيجازيهم على الإحسان إحسانا ، وعلى الإساءة السوءى ، وعلينا أن نؤمن بذلك كله ، ونكل علم حقيقته ، ومعرفة كنهه إلى الله تعالى الذي لا يعجزه شىء فى الأرض ولا فى السماء.

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ) أي أيها الإنسان ، إنك عامل فى هذه الحياة ومجدّ فى عملك ، ومبالغ فى إدراك الغاية إلى أن تنتهى حياتك ، وإن كنت لا تشعر بجدك ، أو تشعر به وتلهو عنه ، وكل خطوة فى عملك فهى فى الحقيقة خطوة إلى أجلك ، وهناك لقاء الله ، فالموت يكشف عن الروح غطاء الغفلة ويجلو لها وجه الحق ، فتعرف من الله ما كانت تنكره ، ويوم البعث يرتفع الالتباس.

ويعرف كل عامل ما جرّ إليه عمله.

والناس حينئذ صنفان :

(١) (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ. فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً. وَيَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً) أي فأما من عرض عليه سجلّ أعماله وتناوله بيمينه ، فإنه يحاسب أيسر الحساب ، إذ تعرض عليه أعماله فيعرّف بطاعته وبمعاصيه ، ثم يثاب على ما كان منها طاعة ، ويتجاوز له عما كان منها معصية.

٩٠

وقد روى عن عائشة أنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «اللهم حاسبنى حسابا يسيرا ، قلت : وما الحساب اليسير؟ قال : ينظر فى كتابه ويتجاوز عن سيئاته ، فأما من نوقش الحساب فقد هلك».

ومن حوسب هذا الحساب اليسير رجع إلى أهله المؤمنين مسرورا مبتهجا قائلا : «هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ».

(٢) (وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ. فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً. وَيَصْلى سَعِيراً) أي وأما الذين أكثروا من ارتكاب الجرائم ، واجتراح المعاصي ، فيؤتون كتبهم بشمائلهم من وراء ظهورهم ، ومدّ اليسار إلى الكتاب دليل الكراهة ، وأظهر فى الدلالة على الكراهة والنفور أن يستدبره ويعرض عنه فيكون من وراء ظهره.

وقصارى ما سلف ـ إن من عرض عليه كتابه وقدم إليه ليأخذه ، فاندفع إليه بعزيمة صادقة ، لشعوره بأنه مستودع الصالحات ، وسجلّ البر والكرامات ، فشأنه كذا وكذا.

ومن قدّم إليه كتابه وعرض عليه عمله ، فخزيت نفسه وخارت عزيمته ، فمد إليه يساره أو أعرض عنه فولاه ظهره لشعوره بأنه ديوان السيئات ، وسجّين المخازي فأمره كيت وكيت.

يرشد إلى ذلك ما ورد من التفصيل فى سورة الحاقة «فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ. إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ» ودعوة الناس إلى القراءة علامة الفرح والنشاط وقوة العزيمة.

«وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ وَلَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ. يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ. ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ».

ولا شك أن هذا قول المخذول الكاره لما عرض عليه.

٩١

والخلاصة ـ إن إيتاء الكتاب باليمين ، أو باليسار أو من وراء الظهر تصوير لحال المطلع على أعماله فى ذلك اليوم ، فمن الناس من إذا كشف له عمله ابتهج واستبشر وتناول كتابه بيمينه ، ومنهم من إذا تكشفت له سوابق أعماله عبس وبسر وأعرض عنها وأدبر ، وتمنى لو لم تكشف له ، وتناولها باليسار أو من وراء الظهر ، وحينئذ يدعو وا ثبوراه ، أي يا هلاك أقبل فإنى لا أريد أن أبقى حيا ، علما منه بأن ذلك داع إلى طول العذاب ، وأنه سيدخل النار ويقاسى سعيرها.

ثم ذكر سبحانه سببين فى استحقاقه للعذاب فى الآخرة فقال :

(١) (إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً) أي لأنه كان فى حياته الدنيا فرحا بطرا لا يفكر فى أمور الآخرة ، ويقدم على المعاصي ظنا منه أن لذاتها لا توجب الحسرة ، ولا تورث التردي فى نار الجحيم ، ومن ثم أبدله الله بهذا النعيم الزائل عذابا لا ينقطع ، وآلاما لا تنفد.

(٢) (إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ) أي إنه ظن أن لن يرجع إلى ربه ، وأنه لن يبعث الخلق لحسابهم على ما قدموا ، ولو علم أن الله سيبدل سروره هما ، وفرحه حزنا وغما ـ لأقلع عما هو فيه ، ولترك هذا السرور العاجل السريع الفناء وطلب من السرور ما يبقى ما بقيت الجنة التي لا يفنى نعيمها ولا يزول سرور أهلها.

وفى الآية إيماء إلى أن المسخرين لشهواتهم ، الساعين وراء لذاتهم ليسوا بظانين فضلا عن أن يكونوا مستيقنين بأنهم يرجعون إلى ربهم ليحاسبهم ، بل الراجح عندهم أنهم لا يحاسبون ، وأن الله مخلف وعده ، وهذا هو الذي ينسيهم ذكره عند كل جرم يجرمونه ، فهم وإن كانوا يزعمون الإيمان بالله وبوعده ووعيده ، فهم يقولون بألسنتهم ما ليس فى قلوبهم.

ثم رد عليه ظنه الخاطئ فقال :

(بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً) أي بلى ليحورنّ وليرجعنّ إلى ربه ، وليحاسبنه على عمله ، فيجزى على الخير خيرا وعلى الشر شرا ، فإن الذي يخلق الإنسان مستعدّا

٩٢

لما لا يتناهى من الكمال ، بما وهبه من العقل ، لا ينشئه هذه النشأة الرفيعة لتكون غايته غاية سائر الحيوان ، بل تقضى حكمته أن يجعل له حياة بعد هذه الحياة يثمر فيها أعماله ، ويوافى فيها كماله.

(فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (١٦) وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ (١٧) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (١٨) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (١٩) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٢٠) وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (٢١) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (٢٢) وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (٢٣) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (٢٤) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٢٥))

شرح المفردات

الشفق : هو الحمرة التي تشاهد فى الأفق الغربي بعد الغروب ، وأصله رقة الشيء ، يقال ثوب شفق : أي لا يتماسك لرقته ، ومنه أشفق عليه : أي رق له قلبه قال :

تهوى حياتى وأهوى موتها شفقا

والموت أكرم نزّال على الحرم

وسق : أي ضم وجمع ، يقال وسقه فاتسق واستوسق : أي جمعه فاجتمع ، وإبل مستوسقة : أي مجتمعة قال :

إن لنا قلائصا حقائقا

مستوسقات لم يجدن سائقا

واتسق أي اجتمع نوره وصار بدرا ، لتركبنّ : أي لتلاقنّ ، والطبق : الحال المطابقة لغيرها ، قال الأقرع بن حابس :

إنى امرؤ حلبت الدهر أشطره

وساقنى طبق منه إلى طبق

والمراد لتركبن أحوالا بعد أحوال هى طبقات فى الشدة بعضها أرفع من بعض

٩٣

وهى الموت وما بعده ، لا يسجدون : أي لا يخضعون ولا يستكينون ، يوعون : أي يجمعون فى صدورهم من الإعراض والجحود والحسد والبغي ، والبشارة : الإخبار بما يسر ، واستعملت فى العذاب تهكما ، وممنون : أي مقطوع من قولهم منّ فلان الحبل إذا قطعه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أن الإنسان راجع إلى ربه فملاقيه ومحاسبه ، إما حسابا يسيرا إن كان قد عمل الصالحات ، أو حسابا عسيرا إن كان قد اجترح السيئات ، أقسم بآيات له فى الكائنات ، ظاهرات باهرات ، إن البعث كائن لا محالة ، وإن الناس يلقون شدائد الأهوال حتى يفرغوا من حسابهم ، فيصير كل أحد إلى ما أعد له من جنة أو نار.

ونحو الآية قوله : «بَلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ» وقوله : «يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً» فمن عجيب أمرهم أنهم لا يؤمنون به ، وأعجب منه أنه إذا قرئ عليهم القرآن لا يخضعون له ولا يستكينون ، لأن العناد صدهم عن الإيمان ، ومنعهم من الإذعان ، والله أعلم بما تكنه صدورهم ، وسيجازيهم بشديد العذاب.

أما الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم ثواب عند ربهم لا ينقطع.

الإيضاح

(فَلا أُقْسِمُ) تقدم أن قلنا : إن العرب اعتادت أن تأتى بمثل هذا القسم حين يكون المقسم عليه أمرا ظاهرا لا يحتاج إلى التوكيد ، فكأنه سبحانه يقول : لا أقسم بهذه الأشياء على إثبات ما أذكره لكم لأن أمره ظاهر ، وثبوته غير محتاج إلى الحلف عليه.

ويرى بعض العلماء أنه إنما يستعمل حين يكون الحلف على أمر جليل القدر.

عظ الشأن لا يكفى القسم لإثباته. فكأنه سبحانه يقول : لا أقسم بهذه الأشياء

٩٤

على إثبات ما أريد ، لأن إثباته أعظم وأجلّ من أن يقسم عليه بهذه الأمور الهينة والغرض على هذا الوجه تعظيم المقسم عليه وتفخيم شأنه.

(بِالشَّفَقِ. وَاللَّيْلِ وَما وَسَقَ. وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ) أي أقسم بهذه الأشياء التي إذا تدبر الإنسان أمرها ، استدل بجلالها وعظمة شأنها على قدرة مبدعها.

(لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ) أي لتلاقنّ أيها الناس أمورا بعد أمور وأحوالا بعد أحوال ، إلى أن تصيروا إلى ربكم وهناك الخلود فى جنة أو نار.

ويدخل فى هذه الأحوال جميع الأطوار التي مرت به منذ أن كان نطفة فى بطن أمه إلى أن صار شخصا ، وما مرّ به فى حياته الأولى من طفولة وشيخوخة ثم موته ثم حشره للحساب ، ثم مصيره إلى الجنة أو النار.

والخلاصة ـ لتركبنّ حالا بعد حال والحال الثانية تطابق الأولى ، أي لتكونن فى حياة أخرى تماثل هذه الحياة التي أنتم فيها وتطابقها من حيث الحس والإدراك ، والألم واللذة ، وإن خالفت فى بعض شئونها الحياة الأولى.

وبعد أن ذكر الأدلة القاطعة على صحة البعث والحساب أنكر عليهم استبعادهم له فقال :

(فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ؟) أي فأىّ شىء حدث لهم حتى جحدوا قدرة الله وأنكروا صحة البعث ، وكل شىء أمامهم ينادى بباهر قدرته ، ويرشد إلى عظيم سلطانه.

وقصارى ذلك ـ إنه لا شبهة لهم يصح أن يستمسكوا بها على إنكار البعث والحساب.

(وَإِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ) أي وماذا حدث لهم حتى صاروا إذا قرئ عليهم القرآن لا يعترفون بإعجازه ، وبلوغه الغاية التي لا يمكن البشر أن يصلوا إليها فأمرهم عجب ، فهم أهل اللسان وأرباب البلاغة والبراعة ، وذا يقتضى أن يعلموا إعجازه ، ومتى علموه استكانوا وخضعوا له ، وأدركوا صحة نبوة الرسول الذي جاء به ، ووجبت عليهم طاعته.

٩٥

ثم بين السبب فى عدم إيمانهم به وانقيادهم له فقال :

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ) أي إن الدلائل الموجبة للإيمان جلية واضحة ، لكنهم قوم معاندون مصرّون على التكذيب إما لأنهم يحسدون الرسول صلى الله عليه وسلم على ما آتاه الله من فضله ، وإما لخوفهم من فوت المناصب الدينية ، والرياسات التقليدية ، وإما لأنهم يأبون أن يخالفوا ما وجدوا عليه آباءهم من عقائد زائفة ، وأفعال مستهجنة.

(وَاللهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ) أي والله سبحانه مطلع على ما فى قلوبهم من أسباب الإصرار على الشرك ودواعى العناد والاستمرار على ما هم عليه.

(فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ) جزاء إعراضهم على التكذيب والجحود ، وإصرارهم على سيىء العمل ، وفاسد الاعتقاد.

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي لكن الذين آمنوا بالله ورسوله وخضعوا للقرآن الكريم وعملوا بما جاء فيه ، فأولئك لهم أجر لا ينقطع مدده ، ولا ينقص منه.

وفى هذا ترغيب فى الطاعة ، وزجر عن المعصية ، والحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيد المرسلين.

مقاصد السورة

تشتمل هذه السورة على مقصدين :

(١) إن الإنسان يلاقى نتائج أعماله يوم القيامة ، فيأخذ كتابه بيمينه أو من وراء ظهره.

(٢) أن الناس فى الدنيا بتنقلون فى أحوالهم طبقة بعد طبقة ، إما فى نعيم مقيم ، وإما فى عذاب أليم.

٩٦

سورة البروج

هى مكية ، وآياتها ثنتان وعشرون ، نزلت بعد سورة الشمس.

ومناسبتها لما قبلها :

(١) اشتمالها كالتى قبلها على وعد المؤمنين ووعيد الكافرين ، مع التنويه بشأن القرآن وفخامته.

(٢) أنه ذكر فى السورة السابقة أنه عليم بما يجمعون للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين من المكر والخداع وإيذاء من أسلم بأنواع من الأذى كالضرب والقتل والإلقاء فى حمارة القيظ. وذكر هنا أن هذه شنشنة من تقدمهم من الأمم ، ففد عذبوا المؤمنين بالنار كما فعل أصحاب الأخدود.

وفى هذا عظة لقريش ، وتثبيت من يعذبون من المؤمنين.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (١) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (٢) وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (٣) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (٤) النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (٥) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (٦) وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (٧) وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (٨) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (٩))

شرح المفردات

البروج : واحدها برج ، ويطلق على الحصن والقصر العالي وعلى أحد بروج السماء الاثني عشر ، وهى منازل الكواكب والشمس والقمر ، فيسير القمر فى كل برج منها

٩٧

يومين وثلث يوم فذلك ثمانية وعشرون يوما ثم يستتر ليلتين ، وتسير الشمس فى كل برج منها شهرا ، ستة منها فى شمال خط الاستواء وستة فى جنوبه ؛ فالتى فى شماله هى :

الحمل والثور والجوزاء والسّرطان والأسد والسّنبلة ، والتي فى جنوبه هى الميزان والعقرب والقوس والجدى والدّلو والحوت. وتقطع الثلاثة الأولى فى ثلاثة أشهر أوّلها اليوم العشرون من شهر مارس ، وهذه المدة هى فصل الربيع ، وتقطع الثلاثة الثانية فى ثلاثة أشهر أيضا أولها اليوم الحادي والعشرون من شهر يونيه ، وهذه المدة هى فصل الصيف ، وتقطع الثلاثة الأولى من الجنوبية فى ثلاثة أشهر أيضا ، أولها اليوم الثاني والعشرون من شهر سبتمبر ، وهذه المدة هى فصل الخريف ، وتقطع الثلاثة الثانية من الجنوبية فى ثلاثة أشهر أيضا أولها اليوم الثاني والعشرون من شهر ديسمبر ، وهذه المدة هى فصل الشتاء ، واليوم الموعود : هو يوم القيامة ، لأن الله قد وعد به ، والشاهد والمشهود : جميع ما خلق الله تعالى فى هذا العالم ، فإن كل ما خلقه شاهد على جليل قدرته وعظيم حكمته.

وفى كل شىء له آية

تدل على أنه واحد

وهو مشهود أيضا لكل ذى عينين ، والأخدود : الشق فى الأرض يحفر مستطيلا ، وجمعه أخاديد ، وأصحاب الأخدود : قوم كافرون ذوو بأس وقوة رأوا قوما من المؤمنين فغاظهم إيمانهم فحملوهم على الكفر فأبوا فشقوا لهم شقا فى الأرض وحشوه بالنار وألقوهم فيه ، وكان هؤلاء الغلاظ الأكباد على جوانب الشق يشهدون الإحراق وما نقموا منهم : أي ما عابوا عليهم ، العزيز : أي الذي لا تغلب قوته ، الحميد : أي الذي يحمد على كل حال.

المعنى الجملي

أقسم سبحانه بما فيه غيب وشهود ، وهو السماء ذات البروج ، فإن كواكبها مشهود نورها ، مرئىّ ضوؤها ، معروفة حركاتها فى طلوعها وغروبها ، وكذلك البروج

٩٨

نشاهدها وفيها غيب لا نعرفه بالحس ، وهو حقيقة الكواكب وما أودع الله فيها من القوى وما فيها من عوالم لا نراها ولا ندرك حقيقتها.

وأقسم بما هو غيب صرف ، وهو اليوم الموعود وما يكون فيه من حوادث البعث والحساب والعقاب والثواب.

وأقسم بما هو شهادة صرفة وهو الشاهد : أي ذو الحس ، والمشهود : وهو ما يفع عليه الحس.

أقسم سبحانه بكل ما سلف إن من قبلهم من المؤمنين الموحدين ابتلوا ببطش أعدائهم بهم ، واشتدادهم فى إيذائهم ، حتى خدّوا لهم الأخاديد ، وملئوها بالنيران وقذفوهم فيها ولم تأخذهم بهم رأفة ، بل كانوا يتشفون برؤية ما يحل بهم ، وهم مع ذلك قد صبروا وانتقم الله من أعدائهم وممن أوقع بهم ، وأخذهم بذنوبهم أخذ عزيز مقتدر ، ولئن صبرتم أيها المؤمنون على الأذى ليوفينكم أجركم ، وليأخذنّ أعداءكم ولينزلنّ بهم ما لا قبل لهم به.

وقد حكى الله هذا القصص ، ليكون تثبيتا لقلوب المؤمنين ، ووعدا لعباده الصالحين ، وحملا لهم على الصبر والمجاهدة فى سبيله ، ووعيدا للكافرين وأنه سيحلّ بهم مثل ما حل بمن قبلهم. «سُنَّتَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ ـ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَبْدِيلاً ، وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللهِ تَحْوِيلاً».

الإيضاح

(وَالسَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ) أي قسما بالسماء ذات الكواكب العظيمة التي لم يستطع لها إحصاء ولا عدّ ، منها ما لا يصل ضوؤه إلينا إلا فى ألف ألف سنة وخمسمائة ألف ، مع أن الضوء يسير فى الثانية الواحدة ثلاثمائة ألف كيلو ، ويصل فى سيره إلى القمر فى قدر ثانية وثلث الثانية ، ولو جرى حول الكرة

٩٩

الأرضية لدار حولها فى الثانية الواحدة نحو ثمان مرات ، ولو أطلق مدفع فإن قنبلته نجرى نحو سنة ونصف سنة حتى تقطع المسافة التي يقطعها الضوء فى ثانية واحدة.

فما أبعد الكواكب التي يصل ضوؤها إلينا بعد مليون سنة ونصف المليون ، وإلى أىّ حد هى عظيمة بالنسبة إلى شمسنا.

وقد أقسم الله بهذه الكواكب لما فيها من عجيب الصنعة ، وباهر الحكمة ، ولما فيها من مصالح ومنافع للناس فى هذه الحياة تدل على أن لها صانعا حكيما مدبرا إلى أنه يحثنا على البحث عن هذه العوالم ، لنستدل بذلك على عظيم قدرته ، وجليل حكمته.

(وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ) وهو يوم الفصل والجزاء الذي وعد الله به على ألسنة رسله ، وفيه يتفرد ربنا بالملك والحكم.

(وَشاهِدٍ وَمَشْهُودٍ) أي وبجميع ما خلق الله فى هذا الكون مما يشهده الناس ويرونه رأى العين ، فمنهم من يتدبر ويستفيد من النظر إليه ، ومنهم من لا يستفيد من ذلك شيئا.

وقصارى ذلك ـ إنه سبحانه أقسم بالعوالم كلها ليلفت الناظرين إلى ما فيها من العظم والفخامة ، وليعتبروا بما حضر ، ويبذلوا جهدهم فى درك حقيقة ما استتر.

(قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ) أي أخذوا بذنوبهم ، ونزل بهم نكال الدنيا وعذاب الآخرة.

ومن حديث ذلك أنه قد وقع إلى نجران من أرض اليمن رجل ممن كانوا على دين عيسى بن مريم فدعا أهلها إلى دينه وكانوا على اليهودية ، وأعلمهم أن الله بعث عيسى بشريعة ناسخة لشريعتهم ، فآمن به قوم منهم ، وبلغ ذلك ذا نواس ملكهم وكان يتمسك باليهودية. فسار إليهم بجنود من حمير ، فلما أخذهم خيرهم بين اليهودية والإحراق بالنار ، وحفر لهم حفيرة ثم أضرم فيها النار وصار يؤتى

١٠٠