تفسير المراغي - ج ٣٠

أحمد مصطفى المراغي

أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى (١٤) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (١٥) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (١٦) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (١٧) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (١٨) كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (١٩))

شرح المفردات

المراد بالإنسان : أي فرد من هذا النوع ، يطغى : أي يتكبر ويتمرد : استغنى : أي صار ذا مال وأعوان يغنى بهما ، والرجعى والمرجع والرجوع : المصير والعودة ، أرأيت : أي أخبرنى ؛ والمراد من الاستخبار إنكار الحال المستخبر عنها وتقبيحها على نحو ما جاء فى قوله تعالى : «أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ؟» والسفع : الجذب بشدة والناصية : شعر الجبهة ؛ والمراد بذلك القهر والإذلال بأشد أنواع العذاب ، والنادي : المكان الذي يجتمع فيه القوم ، ولا يسمى ناديا حتى يكون فيه أهله قال زهير :

وفيهم مقامات حسان وجوههم

وأندية ينتابها القول والفعل

والزبانية : واحدهم زبنية (بكسر فسكون) وزبنى (بالكسر) ، والمراد بهم الملائكة الذين أقامهم الله على تعذيب العصاة من خلقه.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فى مطلع السورة دلائل التوحيد الظاهرة ، ومظاهر القدرة الباهرة ، وعلامات الحكمة ، ودقة الصنع ، وكان ذلك كله بحيث يبتعد من العاقل ألا يلتفت إليه ، أتبعه جل شأنه ببيان السبب الحقيقي فى طغيان الإنسان وتكبر وتماديه ، وهو حبه للدنيا ، واشتغاله بها ، وجعلها أكبر همه ، وذلك يعمى قلبه ، ويجعله يغفل عن خالقه ، وما يجب له في عنقه من إجلال وتعظيم ، وقد كان ينبغى أن يكون حين الغنى والميسرة ، وكثرة الأعوان ، واتساع الجاه ، أشد حاجة إلى الله

٢٠١

منه فى حال الفقر والمسكنة ، لأنه فى حال فقره لا يتمنى إلا سلامة نفسه وأعضائه ، أما فى حال الغنى فيتمنى ذلك ويتمنى سلامة مماليكه وأتباعه وأمواله.

ألا يعلم أنه راجع إلى ربه فمجازيه على ما يعمل؟ وقد بلغ من حمقه أن يأمر وينهى ، وأنه يوجب على غيره طاعته ، ثم هو بعد ذلك يعرض عن طاعة ربه.

أما ينبغى له أن يهتدى ويشتغل بأمر نفسه؟ فمن كان ذا عقل ورأى وثروة وجاه وأعوان ، واختار الهدى ، وتخلق بأخلاق المصلحين ، كان ذلك خيرا له ، وأجدى.

وإنا لننكلنّ به نكالا شديدا فى العاجلة ، ونهيننّه يوم العرض والحساب ، وليدع أمثاله من المغرورين ، فإنهم لن يمنعوه ، ولن ينصروه ثم ختم السورة بأمره بالتوفر على عبادة ربه فعلا وإبلاغا للناس ، مبتغيا بذلك القربى منه.

الإيضاح

(كَلَّا إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى) أي حقا إن أمر الإنسان لعجيب فإنه متى أحسّ من نفسه قدرة وثروة خرج من الحد الذي يجب أن يكون عليه ، واستكبر عن الخشوع لربه ، وتطاول بأذى الناس ، وعدّ نفسه فوقهم جميعا ، وقد كان من حقه أن يكون وإياهم أعضاء أسرة واحدة يتعاونون فى السراء والضراء.

ويحب الخير لهم كما يحب لنفسه.

روى البخاري : «المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا».

وروى عن علىّ فى نصيحته لابنه الحسن : أحب الخير لغيرك كما تحب لنفسك ، واكره له ما تكره لها.

وقد حكم على الإنسان باعتبار الأعم الأغلب فى أفراده ، وإلا فإن الغنى والقوة فى أيدى الأتقياء من وسائل الخير ، وأفضل أسباب السعادة الدنيوية والأخروية ،

٢٠٢

لأنهم يستعملونهما فيما يرضى ربهم ، ويعود عليهم بالنفع فى دينهم ودنياهم.

ثم حذر من الطغيان وأنذر من عاقبته ، وأبان أن ما بيد الطاغي عارية ، وليست نفسه بباقية ، وأن مرجع الأمر كله لله فقال :

(إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى) أي إن المرجع إلى ربك وحده ، وهو مالك أمرك وما تملك ، وسيتبين لك عظيم غرورك حينما تخرج من هذه الحياة ، وتظهر فى مظهر الذل ، وتحاسب على كل ما اجترحته فى حياتك الأولى ، قلّ أو كثر ، عظم أو حقر كما قال : «وَلا تَحْسَبَنَّ اللهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ، إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ ، مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ».

ثم أعقب ما تقدم بالوعيد والتهديد والتعجيب فقال :

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى. عَبْداً إِذا صَلَّى) أي أخبرنى عن حال هذا الأحمق ، فإن أمره لعجب ، فقد بلغ به الكبر والتمرد والعناد أن ينهى عبدا من عبيد الله عن صلاته ويعتقد أنه يجب عليه طاعته ، وهو ليس بخالق ولا رازق ، فكيف يستسيغ ذلك لنفسه ، ويعرض عن طاعة الخالق الرازق.

وقد روى أن عليا كرم الله وجهه رأى قوما يصلون قبل صلاة العيد فقال : ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل ذلك ، فقيل له : ألا تنهاهم؟ فقال : أخشى أن أدخل تحت قوله تعالى : «أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً إِذا صَلَّى».

(أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى. أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى) أي أخبرنى عن حال ذلك الطاغية لو تخلق بأخلاق المصلحين ، ودعا إلى البر وتقوى الله ، أما كان ذلك خيرا له من الكفر به والنهى عن طاعته ، فإن ذلك يفوّت عليه أعلى المراتب ، ويجعله فى أحط الدركات وأدناها.

٢٠٣

والخلاصة ـ أما كان الأفضل له أن يهتدى ويهدى غيره إلى خصال البر والخير ، وقد كانت هذه حال النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فعمله كان إما فى إصلاح نفسه بالعبادات من صلاة وصيام وغيرهما ، وإما فى إصلاح غيره بأمره بالتقوى ودعائه إليها.

(أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى. أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ يَرى) أي أنبئنى عن حال هذا الكافر ، إن كذب بدلائل التوحيد الظاهرة. وأمارات القدرة الباهرة ، وأعرض عن دعوتك والاستماع لهديك ، ودعا الناس إلى مثل ذلك أفلا يخشى أن تحل به قارعة ، ويصيبه من عذاب الله ما لا قبل له باحتماله؟ ألا عقل له يرشده إلى أن خالق هذا الكون مطلع على عمله ، وأنه حكيم لا يهمل عقابه ، وأنه سيؤاخذه بكل ما اقترف من جرم؟

ولا يخفى ما فى هذا من تهديد وتخويف للعصاة والمذنبين.

ثم زاد فى الزجر والوعيد فقال :

(كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ) أي لا يستمرنّ بهذا الكافر جهله وغروره وطغيانه ، قسما لئن لم ينته عن هذا الطغيان ، ويكفّ عن نهى المصلى عن صلاته لنأخذن بناصيته ولنذيقنه العذاب الأليم.

ألا إن تلك الناصية لكاذبة لغرورها بقوتها ، مع أنها فى قبضة خالقها ، فهي تزعم ما لا حقيقة له ، وإنها لخاطئة ، لأنها طغت وتجاوزت حدها ، وعتت عن أمر ربها.

ونسبة الكذب والخطيئة إلى الناصية ، والكاذب والمخطئ صاحبها ، من قبل أنها مصدر الغرور والكبرياء.

وقد أمر هذا الكافر على ضرب من التهكم والتوبيخ بأن يدعو أهل الدفاع من قومه وذوى النجدة والبطش لينقذوه مما سيحل به فقال :

(فَلْيَدْعُ نادِيَهُ. سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ) أي فليجمع أمثاله ممن ينتدى معهم ليمنع المصلين المخلصين ، ويؤذى أهل الحق الصالحين ، فإنه إن فعل ذلك تعرض لسخط

٢٠٤

ربه والتنكيل به ، وسندعو له من جنودنا كل قوىّ متين لا قبل له بمغالبته فيهلكه فى الدنيا ، أو يرديه فى النار فى الآخرة.

والمراد بهم الملائكة الذين أقامهم الله على تعذيب العصاة من خلقه ، وسمّوا زبانية لأنهم يزبنون الكفار فى النار أي يدفعونهم ويسوقونهم إليها.

روى أن أبا جهل قال للنبى صلى الله عليه وسلم حين أغلظ له فى القول : يا محمد بمن تهددنى؟ وإنى لأكبر هذا الوادي ناديا.

وروى أنه قال : لئن رأيت محمدا يصلى عند الكعبة لأطأن عنقه ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : لو فعل لأخذته الملائكة.

ثم بالغ فى زجر الكافر عن صلفه وكبريائه ، ونفى قدرته علي ما تهدد به فقال :

(كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ) أي إنه لن يصل إلى زعمه وأن يدعو نادى قومه ، ولئن دعاهم لا ينفعونه ولا ينصرونه ، فإنه أذل وأحقر من أن يقاومك ، فلا تطعه إذا نهاك عن عبادة ربك كما قال : «فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ» وتوفر على عبادته بالفعل وإبلاغ الرسالة للناس ، وتقرّب بذلك إليه ، ولا تبتعد عنه بتركها ، فإن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد.

وصلّ وسلم ربنا على من أمرته بالتقرب إليك ، ونهيته عن طاعة عدوك الصّلف المتكبر.

مقاصد هذه السورة

تشتمل هذه السورة على المقاصد الآتية :

(١) حكمة الله فى خلق الإنسان ، وكيف رقاه من جرثومة صغيرة إلى أن بسط سلطانه على جميع العوالم الأرضية.

(٢) إنه لكرمه وعظيم إحسانه علمه من البيان ما لم يعلم ، وأفاض عليه من العلوم ما جعل له القدرة على غيره مما فى الأرض.

(٣) بيان أن هذه النعم على توافرها قد غفل عنها الإنسان ، فإذا رأى نفسه غنيا صلف وتجبر واستكبر.

٢٠٥

سورة القدر

هى مكية ، وآياتها خمس ، نزلت بعد سورة عبس.

ومناسبتها لما قبلها ـ أن فى تلك أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بأن يقرأ القرآن باسم ربه الذي خلق ، واسم الذي علم الإنسان ما لم يعلم ، وفى هذه ذكر القرآن ونزوله وبيان فضله ، وأنه من عند ربه ذى العظمة والسلطان ، العليم بمصالح الناس وبما يسعدهم فى دينهم ودنياهم ، وأنه أنزله فى ليلة لها من الجلال والكمال ما قصته السورة الكريمة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (١) وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (٢) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (٣) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (٤) سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (٥))

شرح المفردات

القدر : العظمة والشرف ، من قولهم لفلان قدر عند فلان : أي منزلة وشرف ، تنزل الملائكة : أي تنزل وتتجلى للنفس الطاهرة التي هيأها الله لقبول تجليها ، وهى نفس النبي الكريم ، سلام : أي أمن من كل أذى وشر ، مطلع الفجر : أي وقت طلوعه.

تقدمة تبين ميقات هذه الليلة

أشار الكتاب الكريم إلى زمان نزول القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم فى أربعة مواضع من كتابه الكريم ، والقرآن يفسر بعضه بعضا.

٢٠٦

(١) فى سورة القدر : «إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ».

(٢) فى سورة الدخان : «حم وَالْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ. فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ. أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ. رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ».

(٣) فى سورة البقرة : «شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَبَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَالْفُرْقانِ».

(٤) فى سورة الأنفال : «وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ ، إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ ، وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ».

فآية القدر صريحة فى أن إنزال القرآن كان فى ليلة القدر ، وآية الدخان تؤكد ذلك وتبين أن النزول كان فى ليلة مباركة ، وآية البقرة ترشد إلى أن نزول القرآن كان فى شهر رمضان ، وآية الأنفال تدل على أن إنزال القرآن على رسوله كان فى ليلة اليوم المماثل ليوم التقاء الجمعين فى غزوة بدر ، التي فرق الله فيها بين الحق والباطل ، ونصر حزب الرحمن على حزب الشيطان ، ومن ذلك يتضح أن هده الليلة هى ليلة الجمعة لسبع عشرة خلت من شهر رمضان.

الإيضاح

(إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) أي إنا بدأنا ننزل الكتاب الكريم فى ليلة الشرف ، ثم أنزلناه بعد ذلك منجما فى ثلاث وعشرين سنة بحسب الحوادث التي كانت تدعو إلى نزول شىء منه ، تبيانا لما أشكل من الفتوى فيها ، أو عبرة

٢٠٧

بما يقص فيه من قصص وزواجر ، ولا شك أن البشر كان فى حاجة إلى دستور يبين لهم ما التبس عليهم من أمر دينهم ودنياهم ، ويوضح لهم أمر النشأة الأولى وأمر النشأة الآخرة ، لأنهم كانوا أعجز من أن يفهموا مصالحهم الحقة حتى يسنّوا لأنفسهم من النظم ما يغنيهم عن الدين والتدين ، وحوادث الكون التي نراها رأى العين كفيلة بأن تبين وجه الحق فى ذلك ، فإن الناس من بدء الخليقة يبدئون ويعيدون. ويصححون ويراجعون فى قوانينهم الوضعية ، ثم يستبين لهم بعد قليل من الزمن أنها لا تكفى لهدى المجتمع والأخذ بيده إلى موضع الرشاد ، وتمنعه من الوقوع فى مهاوى الزلل ، ومن ثم قيل : لا غنى للبشر عن دين ولا عن وازع روحى يضع لهم مقابيس الأشياء وقيمها بعد أن أبان لهم العلم وصفها وخواصها ، كما لا غنى له عن الاعتقاد فى قوة غيبية يلجأ إليها حين يظلم عليه ليل الشك ، وتختلط عليه صروف الحياة وألوان مآسيها ا ه.

ثم أشار إلى أن فضلها لا يحيط به إلا هو فقال :

(وَما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ؟) أي ولم تبلغ درايتك وعلمك غاية فضلها ، ومنتهى علوّ قدرها.

وفى هذا إيماء إلى أن شرفها مما لا يحيط به علم العلماء ، وإنما يعلمه علام الغيوب الذي خلق العوالم وأنشأها من العدم.

ثم أوضح مقدار فضلها فقال :

(لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ) لأن ليلة يسطع فيها نور الهدى وتكون فاتحة التشريع الجديد الذي أنزل لخير البشر ، ويكون فيها وضع الحجر الأساسى لهذا الدين الذي هو آخر الأديان الصالح لهم فى كل زمان ومكان ، هى خير من ألف شهر من شهورهم التي كانوا يتخبطون فيها فى ظلام الشرك وضلال الوثنية ، حيارى لا يهتدون إلى غاية ، ولا يقفون عند حد.

٢٠٨

وقد يكون التحديد بالألف جاريا على ما يستعملونه فى تخاطبهم من إرادة الكثرة منه ، لا إرادة العدد المعين ، كما جاء فى قوله : «يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ».

والله تعالى يفضل ما شاء من زمان ومكان لمعنى من المعاني التي تدعو إلى التفضيل ، وله الحكمة البالغة.

وأي عظمة أعلى من عظمة ليلة يبتدئ فيها نزول هذا النور والهداية للناس بعد أن مضت على قومه صلى الله عليه وسلم حقب متتابعة وهم فى ضلال الوثنية.

وأىّ شرف أرفع من شرف ليلة سطع فيها بدر المعارف الإلهية على قلب رسوله صلى الله عليه وسلم رحمة بعباده ، يبشرهم وينذرهم ، ويهديهم إلى الصراط المستقيم ، ويجعل منهم أمة تحرر الناس من استعباد القياصرة ، وجبروت الأكاسرة ، ويجمعهم بعد الفرقة ، ويلمّ شعثهم بعد الشتات.

فحقّ على المسلمين أن يتخذوا هذه الليلة عيدا لهم ، إذ فيها بدأ نزول ذلك الدستور السماوي ، الذي وجه المسلمين تلك الوجهة الصالحة النافعة ، ويجددوا العهد أمام ربهم بحياطته بأنفسهم وأموالهم ، شكرا له على نعمه ، ورجاء مثوبته.

ثم ذكر سبحانه بعض مزايا هذه الليلة المباركة فقال :

(تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) أي تنزلت الملائكة من عالمها الروحاني حتى تمثلت لبصره صلى الله عليه وسلم ، وتمثل له الروح (جبريل) مبلّغا للوحى ، وهذا التجلي على النفس الكاملة كان بإذن ربهم بعد أن هيأه لقبوله ليبلغ عباده ما فيه الخير والبركة لهم.

ونزول الملائكة إلى الأرض شأن من شئونه تعالى ، لا نبحث عن كيفيته ، فنحن نؤمن به دون أن نحاول معرفة تفاصيله وأسراره ، فما عرف العالم بعد علمه

٢٠٩

المادي بشتى وسائله إلا النذر اليسير من الأكوان كما قال تعالى : «وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً».

والخلاصة ـ إن هذه الليلة عيد للمسلمين لنزول القرآن فيها ، وليلة شكر على الإحسان والإنعام بذلك ، تشاركهم فيها الملائكة بما يشعر بعظمتها ، ويشعر بفضل الإنسان وقد استخلفه الله فى الأرض.

(سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) أي هذه الليلة التي حفّها الخير بنزول القرآن ، وشهود ملائكة الرحمن ، ليلة كلها سلامة وأمن ، وكلها خير وبركة ، من مبدئها إلى نهايتها ؛ ففيها فرّج الله الكرب عن نبيه ، وفتح له سبل الهداية والإرشاد.

وصل وسلم ربّنا على محمد الذي أكرمته بإنزال الدستور الشامل لخير البشر إلى يوم القيامة.

٢١٠

سورة البينة

هى مدنية ، وآياتها ثمان ، نزلت بعد سورة الطلاق.

ووجه مناسبتها لما قبلها ـ أن قوله : «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا» إلخ كالعلة لإنزال القرآن ، كأنه قيل : إنا أنزلناه ؛ لأنه لم يكن الذين كفروا منفكين عن كفرهم حتى يأتيهم رسول يتلو صحفا مطهرة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (١) رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (٢) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (٣) وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (٤) وَما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (٥) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (٦) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (٧) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (٨))

شرح المفردات

أهل الكتاب : اليهود والنصارى ، المشركون : عبدة الأوثان والأصنام من العرب وغيرهم ، منفكين : أي مفارقين ما هم عليه ، والبينة : الحجة الواضحة ، والمراد

٢١١

بها النبي صلى الله عليه وسلم ، والصحف : واحدها صحيفة : وهى ما يكتب فيه ، مطهرة : أي مبرأة من الزور والضلال ، والقيمة : المستقيمة التي لا عوج فيها لاشتمالها على الحق ، والبينة : الثابتة الدليل ، والإخلاص : أن يأتى بالعمل خالصا له تعالى ، لا يشرك به سواه ، الدين : العبادة ، وإخلاص الدين لله : تنقيته من أدران الشرك ، حنفاء : واحدهم حنيف ، وهو فى الأصل المائل المنحرف ؛ والمراد به المنحرف عن الزيغ إلى إسلام الوجه لله ، والبرية : الخليقة ، خشى الله : أي خاف عقابه.

المعنى الجملي

كان اليهود والنصارى من أهل الكتاب فى ظلام دامس من الجهل بما يجب الاعتقاد به والسير عليه من شرائع أنبيائهم ، إلا من عصم الله ، لأن أسلافهم غيروا وبدّلوا فى شرائعهم ، وأدخلوا فيها ما ليس منها ، إما لسوء فهمهم لما أنزل على أنبيائهم ، وإما لاستحسانهم ضروبا من البدع توهموها مؤيدة للدين ، وهى هادمة لأركانه ، وإما لإفحام خصومهم ، والرغبة فى الظفر بهم.

وقد توالت على ذلك الأزمان ، وكلما جاء جيل زاد على ما وضعه من قبلهم حتى خفيت معالم الحق ، وطمست أنوار اليقين.

وكان إلى جوار هؤلاء عبدة الأوثان من العرب وغيرهم ممن مرنت نفوسهم على عبادتها ، والخنوع لها ، وأصبح من العسير تحويلهم عنها ، زعما منهم أن هذا دين الخليل إبراهيم عليه الصلاة والسلام.

وكان الجدل ينشب حينا بين المشركين واليهود ، وحينا آخر بين المشركين والنصارى ، وكان اليهود يقولون للمشركين : إن الله سيبعث نبيا من العرب من أهل مكة ، وينعتونه لهم ويتوعدونهم بأنه متى جاء نصروه ، وآزروه ، واستنصروا به عليهم حتى يبيدهم.

قد كان هذا وذاك ، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم قام المشركون يناوئونه

٢١٢

ويرفعون راية العصيان فى وجهه ، وألّبوا الناس عليه ، وآذوا كل من اتبعه وسلك سبيله ممن أنار الله بصائرهم ، وشرح صدورهم لمعرفة الحق.

كذلك قلب له اليهود ظهر المجنّ بعد أن كانوا من قبل يستفتحون به ، إذا وجدوا نعته عندهم فى التوراة ، فزعموا أن ما جاء به من الدين ليس بالبدع الجديد ، بل هو معروف فى كتبهم التي جاءت على لسان أنبيائهم ، فلا ينبغى أن يتركوا ما هم عليه من الحق ، ليتبعوا رجلا ما جاء بأفضل مما بين أيديهم ، بل قد بلغ الأمر بهم أن كانوا عليه مع المشركين الذين كانوا يعاندونهم ويتهددونهم بأنهم سيتبعون هذا النبي وينصرونه.

ففى الرد على مزاعم هؤلاء الكافرين الذين يجحدون واضح الحق ، ويغمضون أعينهم عن النظر فيه ـ نزلت هذه السورة.

الإيضاح

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) أي لم يكن الذين جحدوا رسالة

حمد صلى الله عليه وسلم ، وأنكروا نبوته من اليهود والنصارى والمشركين بمفارقين لكفرهم ، تاركين لما هم عليه من الغفلة عن الحق ، والوقوف عند ما كان عليه آباؤهم ولو كانوا لا يعقلون شيئا ، حتى يأتيهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، فيحدث مجيئه رجّة فيما رسخ من عقائدهم ، وتمكن من عاداتهم ، ومن ثم أخذوا يحتجون لعنادهم بأن ما جاء به هو ما كان بين أيديهم وليس بمستحسن أن يتبع ، والبقاء على ما هم عليه أجدر وأجمل ، والسير على نهج الآباء أشهى إلى النفس وأسلم.

ثم فسر البينة التي تعرّفهم وجه الحق فقال :

(رَسُولٌ مِنَ اللهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ) أي هذه البينة هى محمد صلى الله عليه وسلم يتلو لهم صحف القرآن المطهرة من الخلط والزيغ والتدليس ، والتي

٢١٣

تنبعث منها أشعة الحق كما قال : «لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ» وفيها الصحيح القويم من كتب الأنبياء السابقين كموسى وعيسى وإبراهيم كما قال «وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ» ، وقال : «إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى».

وقد يكون المراد بالكتب سور القرآن وآياته فإن كل سورة منه كتاب قويم ، أو الأحكام والشرائع التي تضمنها كلام الله ، والتي بها يتبين الحق من الباطل كما قال : «الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً ، قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ».

وقصارى ذلك ـ إن حال الكافرين من اليهود والنصارى والمشركين بعد محى الرسول تخالف حالهم قبلها ، فقد كانوا قبل مجيئه كفارا يتيهون فى عماية من الأهواء والجهالات ، فلما بعث آمن به قوم منهم ، فلم تبق حالهم كما كانت قبل ، إلى أنهم قبل بعثته صلى الله عليه وسلم كانوا جازمين بما هم عليه ، واثقين بصحته ، فلما بعث إليهم تغيرت حال جميعهم ، فمنهم من آمن به ، واعتقد أن ما كان فيه ضلال وباطل ، ومنهم من لم يؤمن ولكنه صار مترددا فى صحة ما هو عليه ، أو هو واثق بعدم صحته ، ولكن يمنعه العناد والتكبر والاقتداء بالآباء من متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثم سلّى رسوله صلى الله عليه وسلم عن تفرق القوم فى شأنه فقال :

(وَما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) أي لا تبخع نفسك عليهم حسرات ، ولا يكوننّ فى صدرك حرج منهم ، فإن هذا شأنهم الذي درجوا عليه ، وديدنهم وديدن أسلافهم الذين بدلوا وافتروا على أنبيائهم ، وتفرقوا طرائق قددا حتى صار أهل كل مذهب يبطل ما عند غيره بغيا وعدوانا وقولا بالتشهى والهوى ، ولم يكن تفرقهم لقصور حجتك أو خفاء شأنك عليهم ، فهم إن يجحدوا

٢١٤

ييّنتك فقد جحدوا بينة من قبلك ، وإن أنكروا نبوتك فقد أنكروا آيات الله بعد ما استيقنتها أنفسهم.

وإذا كانت هذه حال أهل الكتاب فما ظنك بالمشركين وهم أعرق فى الجهالة وأسلس مقادة للهوى.

ثم أنّبهم ووبخهم على ما صاروا إليه من الأفعال ، وعلى ما بلغوه من فساد العقل والضلال فقال :

(وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ) أي إنهم تفرقوا واختلفوا وهم لم يؤمروا إلا بما يصلح دينهم ودنياهم ، وما يجلب لهم سعادة فى معاشهم ومعادهم من إخلاص لله فى السر والعلن ، وتخليص أعمالهم من الشرك به ، واتباع ملة إبراهيم الذي مال عن وثنية أهل زمانه إلى التوحيد وإخلاص العبادة له كما قال : «ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً» وقال : «ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَلا نَصْرانِيًّا وَلكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً».

والمراد من إقامة الصلاة الإتيان بها مع إحضار القلب لهيبة المعبود ، ليعتاد الخضوع له ، وإيتاء الزكاة إنفاقها فيما عين لها فى الكتاب الكريم من المصارف.

(وَذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي هذا الذي ذكر من إخلاص العبادة للخالق ، والميل عن الشرك مع إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، هو الدين الذي جاء فى الكتب القيمة.

وقصارى ما سلف ـ إن أهل الكتاب افترقوا فى أصول الدين وفروعه ، مع أنهم ما أمروا إلا بأن يعبدوا الله ويخلصوا له فى عقائدهم وأعمالهم ، وألا يقلدوا فيها أبا ولا رئيسا ، وأن يردوا إلى ربهم وحده كل ما يعرض لهم من خلاف.

وهذا ما نعاه الله من حال أهل الكتاب فى افتراقهم فى دينهم ، فما بالنا نحن المسلمين وقد ملأنا ديننا بدعا ومحدثات ، وتفرقنا فيه شيعا ، أفليس ما نحن فيه من ذلّ وهوان ، وضعف بين الأمم جزاء من ربنا لما صرنا إليه من انحراف عن منهج الشرع القويم ، والسير على الصراط المستقيم؟.

٢١٥

ثم بين جزاء الذين جحدوا رسالة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها) أي إن هؤلاء الذين دسّوا أنفسهم بقبيح الشرك واجتراح المعاصي ، وإنكار الحق الواضح بعد أن عرفوه كما يعرفون أبناءهم ، يجازيهم ربهم بالعقاب الذي لا يخلصون منه أبدا ، فيدخلهم نارا تلظى جزاء ما كسبت أيديهم ، وجزاء إعراضهم عما دعا إليه الداعي ، وهدت إليه الفطرة.

ثم حكم عليهم بحكم آخر فقال :

(أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) أي هم شر الخليقة على الإطلاق ، إذ منكر الحق بعد معرفته ، وقيام الدليل عليه منكر لعقله ، جالب لنفسه الدمار والوبال.

وبعد أن ذكر جزاء الجاحدين الكافرين ، أردفه جزاء المؤمنين المخبتين فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) أي إن الذين سطع نور الدليل فى قلوبهم ، فاهتدوا به وصدقوا بما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم وعملوا صالح الأعمال ، فبذلوا النفس فى سبيل الله وجهاد أعدائه ، وبذلوا نفيس المال فى أعمال البر ، وأحسنوا معاملة خلقه ، أولئك هم خير الخليقة ، لأنهم بمتابعة الهدى أدّوا حق العقل الذي شرفهم الله به ، وبعملهم للصالحات حفظوا الفضيلة التي جعلها الله قوام الوجود الإنسانى.

ثم بين ما سيلقون من جزاء عند ربهم فقال :

(جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً) أي هؤلاء يجازيهم ربهم بجنات يقيمون فيها أبدا ، وفيها من اللذائذ ما هو أكمل وأوفر من لذات الدنيا.

وعلينا أن نؤمن بالجنة ولا نبحث عن حقيقتها ، ولا أين موضعها ، ولا كيف نتمتع فيها ، فإن علم ذلك عند ربنا لا يعلمه إلا هو ، فهو من علم الغيب الذي استأثر بعلمه.

٢١٦

ثم ذكر أسباب هذا الجزاء فقال :

(رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) أي إنهم حازوا رضا الله بالتزام حدود شريعته ، فحمدوا مغبة أعمالهم ، ونالوا ما يرضيهم فى دنياهم وآخرتهم.

(ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) أي هذا الجزاء الحسن إنما يكون لمن ملأت قلبه الخشية والخوف من ربه.

وفى ذلك تحذير من خشية غير الله ، وتنفير من إشراك غيره به فى جميع الأعمال ؛ كما أن فيه ترغيبا فى تذكر الله ورهبته لدى كل عمل من أعمال البر حتى يكون العمل له خالصا ، إلى أن فيه إيماء إلى أن أداء بعض العبادات كالصلاة والصوم بحركات وسكنات مجردين عن الخشية لا يكفى فى نيل ما أعد للذين آمنوا وعملوا الصالحات من الجزاء ، لأن الخشية لم تحلّ قلوبهم ، ولم تهذب نفوسهم.

نسأل الله أن يطهر قلوبنا ، وينير بصائرنا ، حتى لا نرهب سواه ، ولا نخشى إلا إياه ، والحمد لله رب العالمين.

سورة الزلزلة

هى مدنية ، وآياتها ثمان ، نزلت بعد سورة النساء.

ووجه مناسبتها لما قبلها ـ أنه لما ذكر فيما سلف جزاء المؤمنين والكافرين ، بين هنا وقت ذلك الجزاء وعلاماته.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (١) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (٢) وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها (٣) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (٤) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (٥) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (٦) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (٧) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (٨))

٢١٧

شرح المفردات

الزلزلة : الحركة الشديدة مع اضطراب ، والأثقال : واحدها ثقل ، وهو فى الأصل متاع البيت كما قال : «وَتَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ» والمراد هنا ما فى جوف الأرض من الدفائن كالموتى والكنوز ، وتقول أوحيت له وأوحيت إليه ووحي له ووحي إليه ، أي كلمه خفية أو ألهمه كما جاء فى قوله : «وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ» يصدر : أي يرجع ، فالوارد هو الآتي للماء ليشرب أو يستقى ، والصادر : هو الراجع عنه ، أشتاتا : واحدهم شتيت أي متفرقين متمايزين لا يسير محسنهم ومسيئهم فى طريق واحدة ، الذرة : النملة الصغيرة ، أو هى الهباء الذي يرى فى ضوء الشمس إذا دخلت من نافذة ، ومثقال الذرة : وزنها ، وهو مثل فى الصغر.

سبب نزول هذه السورة

كان الكفار كثيرا ما يسألون عن يوم الحساب فيقولون «أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ» ويقولون : «مَتى هذَا الْوَعْدُ؟» وما أشبه ذلك ، فذكر لهم فى هذه السورة علامات ذلك فحسب ، ليعلموا أنه لا سبيل إلى تعيين ذلك اليوم الذي يعرض الناس فيه على ربهم لعقاب المذنبين وثواب المؤمنين.

الإيضاح

(إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها) أي إذا اضطربت الأرض وتحركت حركة شديدة ونحو الآية قوله : «إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا» ، وقوله : «يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ».

وفى ذلك إيماء إلى شدة الحال يومئذ ، ولفت لأنظار الكافرين إلى أن يتدبروا

٢١٨

الأمر ويعتبروا ، وكان يقال لهم : إذا كان الجماد يضطرب لهول هذا اليوم ، فهل لكم أن تستيقظوا من غفلتكم ، وترجعوا عن عنادكم؟.

(وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها) أي وأخرجت الأرض ما فى جوفها من الكنوز والدفائن والأموات ، فإنها لشدة اضطرابها يثور باطنها ويقذف ما فيه.

ونحو الآية قوله : «وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ. وَأَلْقَتْ ما فِيها وَتَخَلَّتْ».

ومثال هذا ما نراه فى حياتنا الدنيا من جبال النار الثائرة (البراكين) كما حدث فى إيطاليا سنة ١٩٠٩ من ثوران بركان ويزوف وابتلاعه مدينة مسينا ولم يبق من أهلها ديّارا ولا نافخ نار.

(وَقالَ الْإِنْسانُ ما لَها؟) أي وقال من يكون من الناس مشاهدا لهذا الزلزال الذي يخالف أمثاله فى شدته ، ويحار العقل فى معرفة أسبابه ، ويصيبه الدّهش مما يرى ويبصر : ما لهذه الأرض ، وما الذي وقع لها مما لم يعهد له نظير من قبل؟ كما جاء فى آية أخرى : «وَتَرَى النَّاسَ سُكارى وَما هُمْ بِسُكارى».

(يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها) أي فى ذلك الوقت وقت الزلزلة تحدثك الأرض أحاديثها ، والمراد أن حالها وما يقع فيها من الاضطراب والانقلاب ، وما لم يعهد له نظير من الخراب ، تعلم السائل وتفهمه أن ما يراه لم يكن لسبب من الأسباب التي وضعت لأمثاله مما نراه حين استقر نظام هذا الكون.

ثم بين سبب ما يرى فقال :

(بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها) أي إن ما يكون للأرض يومئذ إنما هو بأمر إلهي خاص ، فيقول لها كونى خرابا كما قال لها حين بدء النشأة الأولى كونى أرضا ، وإنما سمى ذلك وحيا ، لأنه أتى على خلاف ما عهد منذ نشأة الأرض ، قاله الأستاذ الإمام.

(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ) أي يوم يقع الخراب العظيم لهذا العالم الأرضى ، ويظهر ذلك الكون الجديد كون الحياة الأخرى ، يصدر الناس متفرقين

٢١٩

متمايزين فلا يكون محسن فى طريق واحد مع مسىء ، ولا مطيع مع عاص ، ليريهم الله جزاء ما قدمت أيديهم ، ويجنوا ثمر ما غرسته أيمانهم.

ثم فصل ذلك بقوله :

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) أي فمن يعمل من الخير أدنى عمل وأصغره فإنه يجد جزاءه ، ومن يعمل الشر ولو قليلا يجد جزاءه ، لا فرق بين المؤمن والكافر.

وحسنات الكافرين لا تخلصهم من عذاب الكفر فهم به خالدون فى الشقاء ، وما نطق من الآيات بحبوط أعمال الكافرين وأنها لا تنفعهم ، فالمراد به أنها لا تنجيهم من عذاب الكفر وإن خففت عنهم بعض العذاب الذي كان يرتقبهم من السيئات الأخرى ، أما عذاب الكفر فلا يخفف عنهم منه شىء ، يرشد إلى ذلك قوله تعالى : «وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَكَفى بِنا حاسِبِينَ». فقوله : «فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً» صريح فى أن المؤمن والكافر فى ذلك سواء. وأن كلا يوفّى يوم القيامة جزاءه ، وقد ورد أن حاتما يخفف عنه لكرمه ، وأن أبا لهب يخفف عنه لسروره بولادة النبي صلى الله عليه وسلم ، هذا تلخيص ما قاله الأستاذ الإمام فى تفسير الآية.

مقاصد السورة

اشتملت هذه السورة الكريمة على مقصدين :

(١) اضطراب الأرض يوم القيامة ودهشة الناس حينئذ.

(٢) ذهاب الناس لموقف العرض والحساب ثم مجازاتهم على أعمالهم.

٢٢٠