تفسير المراغي - ج ٣٠

أحمد مصطفى المراغي

سورة الفيل

هى مكية ، وآياتها خمس ، نزلت بعد سورة الكافرين.

ومناسبتها لما قبلها ـ أنه بين فى السورة السابقة أن المال لا يغنى من الله شيئا ؛ وهنا أقام الدليل على ذلك بقصص أصحاب الفيل.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (١) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (٢) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (٣) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (٤) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (٥))

شرح المفردات

الكيد : إرادة وقوع ضر بغيرك على وجه الخفاء ، والتضليل : التضييع والإبطال تقول ضلّلت كيد فلان إذا جعلته باطلا ضائعا ، والطير : كل ما صار فى الهواء ، صغيرا كان أو كبيرا ، والأبابيل : الجماعات ، لا واحد له من لفظه ، والسجيل : الطين الذي تحجر ، والعصف : ورق الزرع الذي يبقى بعد الحصاد ، وتعصفه الرياح : فتأكله الماشية ، مأكول : أي أكلت الدواب بعضه وتناثر بعضه الآخر من بين أسنانها.

المعنى الجملي

ذكّر الله سبحانه نبيه ومن تبلغه رسالته بعمل عظيم دالّ على بالغ قدرته ، وأن كل قدرة دونها فهى خاضعة لسلطانها ـ ذاك أن قوما أرادوا أن يتعززوا بفيلهم

٢٤١

ليغلبوا بعض عباده على أمرهم ، ويصلوا إليهم بشرّ وأذى ، فأهلكهم الله ، وردّ كيدهم ، وأبطل تدبيرهم ، بعد أن كانوا فى ثقة بعددهم وعددهم ولم يفدهم ذلك شيئا.

قصص أصحاب الفيل كما رواه أرباب السير

حادث الفيل معروف متواتر لدى العرب ، حتى إنهم جعلوه مبدأ تاريخ يحددون به أوقات الحوادث ، فيقولون : ولد عام الفيل ، وحدث كذا لسنتين بعد عام الفيل ، ونحو ذلك.

وخلاصة ما أجمع عليه رواتهم ـ أن قائدا حبشيا ممن كانوا قد غلبوا على اليمن أراد أن يعتدى على الكعبة المشرّفة ويهدمها ، ليمنع العرب من الحج إليها ، فتوجه بجيش جرار إلى مكة ، واستصحب معه فيلا أو فيلة كثيرة زيادة فى الإرهاب والتخويف ولم يزل سائرا يغلب من يلاقيه ، حتى وصل إلى «المغمّس» وهو موضع بالقرب من مكة ، ثم أرسل إلى أهل مكة يخبرهم أنه لم يأت لحربهم ، وإنما جاء لهدم البيت ، ففزعوا منه ، وانطلقوا إلى شعف الجبال ينظرون ما هو فاعل.

وفى اليوم الثاني فشا فى جند الحبشي داء الجدرىّ والحصبة ، قال عكرمة : وهو أول جدرىّ ظهر ببلاد العرب ، ففعل ذلك الوباء بأجسامهم ما يندر وقوع مثله ، فكان لحمهم يتناثر ويتساقط ، فذعر الجيش وصاحبه وولّوا هاربين ، وأصيب الحبشي ولم يزل لحمه يسقط قطعة قطعة ، وأنملة أنملة ، حتى انصدع صدره ومات فى صنعاء.

الإيضاح

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ؟) أي ألم تعلم الحال العجيبة والكيفية الهائلة الدالة على عظم قدرة الله تعالى وكمال علمه وحكمته ، فيما فعل بأصحاب الفيل الذين قصدوا هدم البيت الحرام ، فتلك حال قد جاءت على غير ما يعرف من

٢٤٢

الأسباب والعلل ، إذ لم يعهد أن يجىء طير فى جهة فيقصد قوما دون قوم ، وهم معهم فى جهة واحدة ، فذلك أمارة أنه من صنع حكيم مدبر بعثه لإنقاذ مقصد معين.

وإنما عبر عن العلم بالرؤية ، للإيماء إلى أن الخبر بهذا القصص متواتر مستفيض ، فالعلم به مساو فى قوة الثبوت مع الوضوح ـ للعلم الناشئ عن الرؤية والمشاهدة.

وخلاصة ذلك ـ إنك قد علمت ذلك علما واضحا لا لبس فيه ولا خفاء.

ثم بين الحال التي وقع عليها فعله فقال :

(أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ؟) أي إنك لترى ما كان عليه فعل الله بأولئك القوم ، فقد ضيع تدبيرهم ، وخيّب سعيهم.

ثم فصل تدبيره فى إبطال كيد أولئك القوم فقال :

(وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ. تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ) أي إنه تعالى أرسل عليهم فرقا من الطير تحمل حجارة يابسة سقطت على أفراد الجيش ، فابتلوا بمرض الجدري أو الحصبة حتى هلكوا.

وقد يكون هذا الطير من جنس البعوض أو الذباب الذي يحمل جراثيم بعض الأمراض ، أو تكون هذه الحجارة من الطين اليابس المسموم الذي تحمله الرياح ، فيعلق بأرجل هذا الطير ، فإذا اتصل بجسم دخل فى مسامّه ، فأثار فيه قروحا تنتهى بإفساد الجسم وتساقط لحمه.

ولا شك أن الذباب يحمل كثيرا من جراثيم الأمراض ، فوقوع ذبابة واحدة ملوّثة بالمكروب على الإنسان كافية فى إصابته بالمرض الذي يحمله ، ثم هو ينقل هذا المرض إلى الجمّ الغفير من الناس ، فإذا أراد الله أن يهلك جيشا كثير العدد ببعوضة واحدة لم يكن ذلك بعيدا عن مجرى الإلف والعادة ، وهذا أقوى فى الدلالة على قدرة الله وعظيم سلطانه ، من أن يكون هلاكهم بكبار الطيور ، وغرائب الأمور ، وأدل على ضعف الإنسان وذله أمام القهر الإلهى ، وكيف لا وهو مخلوق تبيده ذبابة ، وتقضّ مضجعه بعوضة ، ويؤذيه هبوب الريح.

٢٤٣

قال الأستاذ الإمام : فهذا الطاغية الذي أراد أن يهدم البيت ، أرسل الله عليه ما يوصل إليه مادة الجدري أو الحصبة ، فأهلكته وأهلكت قومه قبل أن يدخل مكه ، وهى نعمة من الله غمر بها أهل حرمه على وثنيتهم ، حفظا لبيته حتى يرسل إليه من يحميه بقوة دينه صلى الله عليه وسلم ، وإن كانت نقمة من الله حلت بأعدائه أصحاب الفيل الذين أرادوا الاعتداء على البيت بدون جرم اجترمه ، ولا ذنب اقترفه.

(فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ) أي فجعل هؤلاء القوم كعصف وقع فيه الاكال وهو السوس ، أو أكلت الدواب بعضه ، وتناثر بعضه الآخر من بين أسنانها.

وصلّ ربنا على محمد الذي قصصت عليه ما فيه العبرة لمن ادّكر ، وأوحيت إليه ما فيه مزدجر ، لمن تدبر واعتبر ، إنك أنت العليم الحكيم.

سورة قريش

هى مكية ، وآياتها أربع ، نزلت بعد سورة التين.

ومناسبتها لما قبلها ـ أن كلا منهما تضمن ذكر نعمة من نعم الله على أهل مكة فالأولى تضمنت إهلاك عدوهم الذي جاء ليهدم بيتهم وهو أساس مجدهم وعزهم ؛ والثانية ذكرت نعمة أخرى هى اجتماع أمرهم ، والتئام شملهم ، ليتمكنوا من الارتحال صيفا وشتاء فى تجارتهم ، وجلب الميرة لهم.

ولوثيق الصلة بين السورتين كان أبىّ بن كعب يعتبرهما سورة واحدة ، حتى روى عنه أنه لم يفصل بينهما ببسملة.

٢٤٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (١) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ (٢) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (٣) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (٤))

شرح المفردات

تقول ألفت الشيء إلفا وإلافا ، وآلفته إيلافا : إذا لزمته وعكفت عليه مع الأنس به وعدم النفور منه ، وقريش : اسم للقبائل العربية من ولد النضر بن كنانة ، والرحلة : ارتحال القوم أي شدهم الرحال للمسير ، أطعمهم : أي وسع لهم الرزق ، ومهّد لهم سبيله ، وآمنهم : أي جعلهم فى أمن من التعدي عليهم ، والتطاول إلى أموالهم وأنفسهم.

الإيضاح

(لِإِيلافِ قُرَيْشٍ إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَالصَّيْفِ. فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) أي فلتعبد قريش ربها شكرا له على أن جعلهم قوما تجرا ذوى أسفار فى بلاد غير ذات زرع ولا ضرع ، لهم رحلتان رحلة إلى اليمن شتاء لجلب الأعطار والأفاويه التي تأتى من بلاد الهند والخليج الفارسي إلى تلك البلاد ؛ ورحلة فى الصيف إلى بلاد الشام لجلب الحاصلات الزراعية إلى بلادهم المحرومة منها.

وقد كان العرب يحترمونهم فى أسفارهم ، لأنهم جيران بيت الله وسكان حرمه ، وولاة الكعبة ، فيذهبون آمنين ، ويعودون سالمين ، لا يمسهم أحد بسوء على كثرة ما كان بين العرب من السلب والنهب والغارات التي لا تنقطع.

فكان احترام البيت ضربا من القوة المعنوية التي تحتمى بها قريش فى الأسفار ، ولهذا ألفتها نفوسهم ، وتعلقت بالرحيل ، استدرارا للرزق.

٢٤٥

وهذا الإجلال الذي ملك نفوس العرب من البيت الحرام ، إنما هو من تسخير رب البيت سبحانه ، وقد حفظ حرمته ، وزادها فى نفوس العرب ردّ الحبشة عنه حين أرادوا هدمه ، وإهلاكهم قبل أن ينقضوا منه حجرا ، بل قبل أن يدنوا منه.

ولو نزلت مكانة البيت من نفوس العرب ، ونقصت حرمته عندهم ، واستطالت الأيدى على سفّارهم لنفروا من تلك الرحلات ، فقلّت وسائل الكسب بينهم ، لأن أرضهم ليست بذات زرع ولا ضرع ، وما هم بأهل صناعة مشهورة يحتاج إليها الناس فيأتوهم وهم فى عقر ديارهم ليأخذوا منها ، فكانت تضيق عليهم مسالك الأرزاق وتنقطع عنهم ينابيع الخيرات.

(فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ) الذي حماه من الحبشة وغيرهم ، ومكّن منزلته فى النفوس ، وكان من الحق أن يفردوه بالتعظيم والإجلال.

ثم وصف رب هذا البيت بقوله :

(الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ) أي إنه هو الذي أوسع لهم الرزق ، ومهد لهم سبله ، ولولاه لكانوا فى جوع وضنك عيش.

(وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ) أي وآمن طريقهم ، وأورثهم القبول عند الناس ، ومنع عنهم التعدي والتطاول إلى أموالهم وأنفسهم ، ولولاه لأخذهم الخوف من كل مكان فعاشوا فى ضنك وجهد شديد.

وإذا كانوا يعرفون أن هذا كله بفضل رب هذا البيت ، فلم يتوسلون إليه بتعظيم غيره ، وتوسيط سواه عنده؟ مع أنه لا فضل لأحد ممن يوسطونه فى شىء من النعمة التي هم فيها ، نعمة الأمن ونعمة الرزق : وكفاية الحاجة.

اللهم ألهم قلوبنا الشكر على نعمك التي تترى علينا ، وزدنا بسطة فى العلم والرزق.

٢٤٦

سورة الماعون

هى مكية ، وآياتها سبع ، نزلت بعد سورة التكاثر.

ووجه مناسبتها لما قبلها :

(١) أنه لما قال فى السورة السابقة : «أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ» ذم فى هذه من لم يحضّ على طعام المسكين.

(٢) أنه قال فى السورة السابقة : «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ» وهنا ذم من سها عن صلاته.

(٣) أنه هناك عدّد نعمه على قريش وهم مع ذلك ينكرون البعث ويجحدون الجزاء وهنا أتبعه بتهديدهم وتخويفهم من عذابه.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (١) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (٢) وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (٣) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (٤) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (٥) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (٦) وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ (٧))

شرح المفردات

أرأيت : أي هل عرفت وعلمت ؛ والمراد بذلك تشويق السامع إلى تعرّف ما يذكر بعده مع تضمنه التعجب منه ، كما تقول : أرأيت فلانا ماذا صنع ، وأ رأيت فلانا كيف عرّض نفسه للمخاطر ـ أنت فى كل ذلك تريد بعث المخاطب على التعجب مما فعل ، والدين : هو الخضوع لما وراء المحسوس من الشؤون الإلهية التي لا يمكن الإنسان أن يعرف حقيقتها ، وإنما يجد آثارها فى الكون باعثة على الإذعان

٢٤٧

والتصديق ، كوجود الله ووحدانيته ، وبعثه الرسل مبشرين ومنذرين ، والتصديق بحياة أخرى يعرض الناس فيها على ربهم للجزاء ، يدعّ اليتيم : أي يدفعه ويزجره زجرا عنيفا كما جاء فى قوله : «يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا» يحض : أي يحث ويدعو الناس إلى ذلك ، يراءون : أي يفعلون بقدر ما يرى الناس أنهم يفعلون ذلك من غير أن تستشعر قلوبهم خشية الله بها ؛ وحقيقة الرياء طلب ما فى الدنيا بالعبادة وطلب المنزلة فى قلوب الناس ، ويكون فعل ذلك على ضروب (١) بتحسين السمت مع إرادة الجاه وثناء الناس.

(٢) بلبس الثياب القصار أو الخشنة ليأخذ بذلك هيبة الزهاد فى الدنيا.

(٣) بإظهار السخط على الدنيا ، وإظهار التأسف على ما يفوته من فعل الخير.

(٤) بإظهار الصلاة والصدقة ، أو بتحسين الصلاة لرؤية الناس له.

والماعون : ما جرت العادة بأن يسأله الفقير والغنى كالقدر والدلو والفأس.

وقال جار الله : ولا يكون الرجل مرائيا بإظهار العمل الصالح إن كان فريضة ، فمن حق الفرائض الإعلان بها وتشهيرها

لقوله عليه الصلاة والسلام : «ولا غمّة فى فرائض الله»

لأنها أعلام الإسلام ، وشعائر الدين ، ولأن تاركها يستحق الذم والمقت ، فوجب إماطة التهمة بالإظهار ، وإن كان تطوعا فحقه أن يخفى ، لأنه مما لا يلام بتركه ولا تهمة فيه ، فإن أظهره قاصدا الاقتداء به كان جميلا ، وإنما الرياء أن يقصد بالإظهار أن تراه الأعين فيثنى عليه بالصلاح ، وعن بعضهم أنه رأى رجلا فى المسجد قد سجد سجدة الشكر وأطالها فقال : ما أحسن هذا لو كان فى بيتك؟

وإنما قال هذا لأنه توسم فيه الرياء والسمعة.

على أن اجتناب الرياء صعب إلا على المرتاضين بالإخلاص ، ومن ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «الرياء أخفى من ديب النملة السوداء فى الليلة الظلماء على المسح الأسود» ا ه.

المسح : كساء خشن من صوف يلبسه الزهاد.

٢٤٨

الإيضاح

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ) أي هل عرفت ذلك الذي يكذب بما وراء إدراكه من الأمور الإلهية ، والشئون الغيبية ، بعد أن ظهر له بالدليل القاطع ، والبرهان الساطع ، فإن كنت لا تعرفه بذاته ، فاعرفه بصفاته وهى :

(١) (فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ) أي فذلك المكذب بالدين هو الذي يدفع اليتيم ويزجره زجرا عنيفا إن جاء يطلب منه حاجة ، احتقارا لشأنه وتكبرا عليه.

(٢) (وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي ولا يحث غيره على إطعامه ، وإذا كان لا يحث غيره على ذلك ولا يدعو إليه ، فهو لا يفعله بالأولى.

وفى هذا توجيه لأنظارنا إلى أنا إذا لم نستطع مساعدة المسكين كان علينا أن نطلب من غيرنا معونته ونحثه على ذلك كما تفعل جماعات الخير : «الجمعيات الخيرية».

وقصارى ما سلف ـ إن للمكذب بالدين صفتين : أولاهما أن يحتقر الضعفاء ويتكبر عليهم. وثانيتهما أن يبخل بماله على الفقراء والمحاويج ، أو يبخل بسعيه لدى الأغنياء ، ليساعدوا أهل الحاجة ممن تحقق عجزهم عن كسب ما ينقذهم من الضرورة ، ويقوم لهم بكفاف العيش.

وسواء أكان المحتفر للحقوق ، البخيل بالمال والسعى لدى غيره مصليا أو غير مصلّ فهو فى وصف المكذبين ، ولا تخرجه صلاته منهم ، لأن المصدق بشىء لا تطاوعه نفسه على الخروج مما صدّق به ، فلو صدّق بالدين حقا لصار منكسرا متواضعا لا يتكبر على الفقراء ولا ينهر المساكين ولا يزجرهم ؛ فمن لم يفعل شيئا من ذلك فهو مراء فى عمله ، كاذب فى دعواه ، ومن ثم قال سبحانه :

(فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ. الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ) أي فعذاب لمن يؤدى الصلاة بجسمه ولسانه من غير أن يكون لها أثر فى نفسه ، ومن غير أن تؤتى ثمرتها التي

٢٤٩

شرعت لأجلها ، لأن قلبه غافل عما يقوله اللسان ، وتفعله الجوارح ، فيركع وهو لاه عن ركوعه ، ويسجد وهو لاه عن سجوده ، ويكبر وهو لا يعى ما يقول ؛ وإنما هى حركات اعتادها ، وكلمات حفظها ، لا تدرك نفسه معناها ، ولا تصل إلى معرفة ثمرتها.

(الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ) أي إنهم يفعلون أفعالا ظاهرة بقدر ما يرى الناس ، دون أن تستشعر قلوبهم بها ، أو تصل إلى معرفة حكمها وأسرارها.

(وَيَمْنَعُونَ الْماعُونَ) أي ويمنعون ما لم تجر العادة بمنعه مما يسأله الفقير والغنى ، وينسب منعه إلى لؤم الطبع وسوء الخلق كالقدر والفأس ، والقدوم ونحو ذلك.

قال الأستاذ الإمام : فأولئك الذين يصلّون ، ولا يأتون من الأعمال إلا ما يرى للناس ، مما لا يكلفهم بذل شىء من مالهم ، ولا يخشون منه ضررا يلحق بأبدانهم ، أو نقصا يلمّ بجاههم ، ثم يمنعون ما عونهم ، ولا ينهضون بباعث الرحمة إلى سدّ حاجة المعوزين ، وتوفير ما يكفل راحتهم وأمنهم وطمأنينتهم ـ لا تنفعهم صلاتهم ، ولا تخرجهم عن حد المكذبين بالدين ، لا فرق بين من وسموا أنفسهم بسمة الإسلام أو غيره ، فإن حكم الله واحد ، لا محاباة فيه للأسماء المنتحلة ، التي لا قيمة لها إلا بمعانيها الصحيحة المنطبقة على مراده تعالى من تحديد الأعمال وتقرير الشرائع.

فخاصة المصدّق بالدين التي تميزه عن سواه من المكذبين هو العدل والرحمة وبذل المعروف للناس ، وخاصة المكذب التي يمتاز بها عن المصدقين هى احتقار حقوق الضعفاء وقلة الاهتمام بمن تلذعهم آلام الحاجة ، وحب الأثرة بالمال ، والتعزز بالقوة ، ومنع المعروف عمن يستحقه من الناس.

فهل للمسلمين الذين يزعمون أنهم يؤمنون بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما جاء به أن يقيسوا أحوالهم وما يجدونه من أنفسهم بما يتلون فى هذه السورة الشريفة؟ ليعرفوا هل هم من قسم المصدقين أو المكذبين؟ وليقلعوا عن الغرور برسم هذه الصلاة التي لا أثر لها إلا فى ظواهر أعضائهم ، وبهذا الجوع الذي يسمونه صياما

٢٥٠

ولا أثر له إلا فى عبوس وجوههم ، وبذاذة ألسنتهم ، وضياع أوقاتهم فى اللهو والبطالة ، ويرجعوا إلى الحق من دينهم ، فيقيموا الصلاة ، ويحيوا صورتها بالخشوع للعلىّ الأعلى فلا يخرجون من الصلاة إلا وهم ذاكرون أنهم عبيد لله يلتمسون رضاه فى رعاية حقوقه بما يراه ، ويجعلوا من الصوم مؤدبا للشهوة ، ومهذّبا للرغبة ، رادعا للنفس عن الأثرة ، فلا يكون فى صومهم إلا الخير لأنفسهم ولقومهم ، ثم يؤدون الزكاة المفروضة عليهم ، ولا يبخلون بالمعونة فيما ينفع الخاصة والعامة ا ه والله أعلم :

سورة الكوثر

هى مكية وآياتها ثلاث ، نزلت بعد سورة العاديات.

ومناسبتها لما قبلها ـ أنه وصف فى الأولى الذي يكذب بالدين بأمور أربع : البخل. الإعراض عن الصلاة. الرياء. منع المعونة ـ وهنا وصف ما منحه رسوله صلى الله عليه وسلم من الخير والبركة ، فذكر أنه أعطاه الكوثر وهو الخير الكثير ، والحرص على الصلاة ودوامها ، والإخلاص فيها والتصدّق على الفقراء.

أسباب نزول هذه السورة

كان المشركون من أهل مكة والمنافقون من أهل المدينة يعيبون النبي صلى الله عليه وسلم ويلمزونه بأمور :

(١) أنه إنما اتبعه الضعفاء ولم يتبعه السادة الكبراء ، ولو كان ما جاء به الدين صحيحا لكان أنصاره من ذوى الرأى والمكانة بين عشائرهم ، وهم ليسوا ببدع فى هذه المقالة ، فقد قال قوم نوح له فيما قصه الله علينا : «وَما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ».

٢٥١

وقد جرت سنة الله فى خلقه أن يسرع فى إجابة دعوة الرسل الضعفاء ، من قبل أنهم لا يملكون ما لا فيخافوا أن يضيع فى سبيل الدعوة الجديدة ، ولا جاها ونفوذا فيخافوا أن يضيعا أمام الجاه الذي منحه صاحب الدعوة ـ وأن يتخلف عنها السادة الكبراء حتى يدخلوا فى دين الله وهم له كارهون ، ومن ثم يظل الجدل بين أولئك الصناديد ورسل الله ، ويأخذون فى انتقاصهم. وكيل التهم لهم تهمة بعد تهمة ، والله ينصر رسله ويؤيدهم ويشدّ أزرهم.

وعلى هذا السّنن سار أهل مكة مع النبي صلى الله عليه وسلم ، فقد تخلف عنه سادتهم وكبراؤهم حسدا له ولقومه الأدنين.

(٢) إنهم كانوا إذا رأوا أبناءه يموتون ، يقولون : انقطع ذكر محمد وصار أبتر ، يحسبون ذلك عيبا فيلمزونه به ويحاولون تنفير الناس عن اتباعه.

(٣) إنهم كانوا إذا رأوا شدة نزلت بالمؤمنين طاروا بها فرحا وانتظروا أن تدول الدّولة عليهم وتذهب ريحهم ، فتعود إليهم مكانتهم التي زعزعها الدين الجديد.

فجاءت هذه السورة لتؤكد لرسوله أن ما يرجف به المشركون وهم لا حقيقة له ، ولتمحص نفوس الذين لم تصلب قناتهم ، ولتردّ كيد المشركين فى نحورهم ، ولتعلمهم أن الرسول منتصر لا محالة. وأن أتباعه هم المفلحون.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (١) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (٢) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (٣))

٢٥٢

شرح المفردات

الكوثر : المفرط فى الكثرة ، قيل لأعرابية رجع ابنها من السفر : بم آب ابنك؟ قالت : آب بكوثر ، ويقال للرجل الكثير العطاء هو كوثر ، قال الكميت الأسدى :

وأنت كثير يا ابن مروان طيّب

وكان أبوك ابن العقائل كوثرا

والمراد به هنا النبوة والدين الحق والهدى وما فيه سعادة الدنيا والآخرة ، والشانئ : المبغض ، وأصل الأبتر : الحيوان المقطوع الذنب ، والمراد به هنا ما لا يبقى له ذكر ولا يدوم له أثر ـ شبه بقاء الذكر الحسن واستمرار الأثر الجميل بذنب الحيوان من حيث إنه يتبعه وهو زينة له. وشبه الحرمان منه ببتر الذنب وقطعه.

الإيضاح

(إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ) أي إنا أعطيناك من المواهب الشيء الكثير الذي بعجز عن بلوغه العدّ ، ومنحناك من الفضائل ما لا سبيل للوصول إلى حقيقته ، وإن استخف به أعداؤك واستقلوه ، فإنما ذلك من فساد عقولهم ، وضعف إدراكهم.

(فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ) أي اجعل صلاتك لربك وحده ، وانحر ذبيحتك وما هو نسك لك لله أيضا ، فإنه هو الذي رباك وأسبغ عليك نعمه دون سواه كما قال : تعالى آمرا له : «قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيايَ وَمَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ. لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ».

وبعد أن بشر رسوله صلى الله عليه وسلم بأعظم البشارة ، وطالبه بشكره على ذلك ، وكان من تمام النعمة أن يصبح عدوه مقهورا ذليلا ، أعقبه بقوله :

(إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ) أي إن مبغضك كائنا من كان هو المقطوع ذكره من

٢٥٣

خيرى الدنيا والآخرة ، وأما أنت فستبقى ذريتك ، ويبقى حسن صيتك ، وآثار فضلك إلى يوم القيامة.

وشانئوه ما كانوا يبغضونه لشخصه ، لأنه كان محبّبا إلى نفوسهم ، بل كانوا يمقتون ما جاء به من الهدى والحكمة ، لأنه سفّه أحلامهم ، وعاب معبوداتهم ، ونادى بفراق ما ألفوه ونشئوا عليه.

وقد حقق الله فى شانئيه من العرب وغيرهم فى زمنه صلى الله عليه وسلم ما يستحقونه من الخذلان والخسران ، ولم يبق لهم إلا سوء الذكر ؛ أما النبي صلى الله عليه وسلم ، ومن اهتدى بهديه فإن الله رفع منزلتهم فوق كل منزلة ، وجعل كلمتهم هى العليا.

قال الحسن رحمه الله : عنى المشركون بكونه أبتر : أنه ينقطع عن المقصود قبل بلوغه ، والله بيّن أن خصمه هو الذي يكون كذلك ا ه.

وصلّ ربنا على نبيك محمد الذي أعليت ذكره ، وأذللت شانئه ، صلاة تبقى ما بقي الدهر.

سورة الكافرون

هى مكية ، وآياتها ستّ ، نزلت بعد سورة الماعون.

ومناسبتها لما قبلها ـ أنه فى السورة السابقة أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بعبادته ، والشكر له على نعمه الكثيرة ، بإخلاص العبادة له ، وفى هذه السورة التصريح بما أشير إليه فيما سلف.

٢٥٤

أسباب نزول السورة

روى أن الوليد بن المغيرة والعاص بن وائل السهمي والأسود بن عبد المطلب وأمية بن خلف فى جماعة آخرين من صناديد قريش وساداتهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا له : هلمّ يا محمد فاتبع ديننا ونتبع دينك ، ونشر كك فى أمرنا كله. تعبد آلهتنا سنة ، ونعبد إلهك سنة ، فإن كان الذي جئت به خيرا كنا قد شركناك فيه ، وأخذنا حظا منه ، وإن كان الذي بأيدينا خيرا كنت قد شركتنا فى أمرنا ، وأخذت حظك منه ، فقال : معاذ الله أن نشرك به غيره ، وأنزل الله ردا على هؤلاء هذه السورة فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد الحرام وفيه الملأ من قريش ، فقام على رءوسهم ، ثم قرأ عليهم حتى فرغ من السورة ، فأيسوا منه عند ذلك ، وطفقوا يؤذونه ويؤذون أصحابه حتى كانت الهجرة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (١) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (٢) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٣) وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (٤) وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (٥) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (٦))

الإيضاح

(قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ. لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ) أي قل لهم : إن الإله الذي تزعمون أنكم تعبدونه ليس هو الذي أعبده ، لأنكم تعبدون من يتخذ الشفعاء أو الولد ، أو يتجلى فى شخص أو يتجلى فى صورة معينة أو نحو ذلك مما تزعمون ، وأنا أعبد إلها لا مثيل له ولا ندّ ، وليس له ولد ولا صاحبة ، ولا يحل فى جسم ، ولا تدرك

٢٥٥

كنهه العقول ، ولا تحويه الأمكنة ، ولا تمر به الأزمنة ، ولا يتقرّب إليه بالشفعاء ، ولا تقدم إليه الوسائل.

وعلى الجملة فبين ما تعبدون وما أعبد ، فارق عظيم ، وبون شاسع ، فأنتم تصفون معبودكم بصفات لا يجمل بمعبودى أن يتصف بها.

(وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي إنكم لستم بعابدين إلهى الذي أدعو إليه لمخالفة صفاته لإلهكم ، فلا يمكن التوفيق بينهما بحال.

وبعد أن نفى الاختلاف فى المعبود نفى الاختلاف فى العبادة ، من قبل أنهم كانوا يظنون أن عبادتهم التي يؤدونها أمام شفعائهم. أو فى المعابد التي أقاموها لها أو فى خلواتهم وهم على اعتقادهم بالشفعاء عبادة خالصة لله ، وأن النبي صلى الله عليه وسلم لا يفضلهم فى شىء فقال :

(وَلا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ. وَلا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ) أي ولا أنا بعابد عبادتكم ولا أنتم عابدون عبادتى قاله أبو مسلم الأصفهانى.

وخلاصة ما سلف ـ الاختلاف التامّ فى المعبود ، والاختلاف البيّن فى العبادة فلا معبودنا واحد ، ولا عبادتنا واحدة ، لأن معبودى منزه عن الندّ والنظير ، متعال عن الظهور فى شخص معين ، وعن المحاباة لشعب أو واحد بعينه ، والذي تعبدونه أنتم على خلاف ذلك.

كما أن عبادتى خالصة لله وحده ، وعبادتكم مشوبة بالشرك ، مصحوبة بالغفلة عن الله تعالى ، فلا تسمى على الحقيقة عبادة.

ثم هددهم وتوعدهم فقال :

(لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) أي لكم جزاؤكم على أعمالكم ولى جزائى على عملى كما جاء فى قوله تعالى : «لَنا أَعْمالُنا وَلَكُمْ أَعْمالُكُمْ».

وصل ربنا على محمد الذي جعل الدين لك خالصا ، وعلى آله وصحبه أجمعين.

٢٥٦

سورة النصر

هى مدنية ، وآياتها ثلاث ، نزلت بعد سورة التوبة.

ومناسبتها لما قبلها ـ أنه لما ذكر فى السورة السابقة اختلاف دين الرسول الذي يدعو إليه ، ودين الكفار الذي يعكفون عليه ـ أشار فى هذه السورة إلى أن دينهم سيضمحل ويزول ، وأن الدين الذي يدعو إليه سيغلب عليه ، ويكون هو دين السواد الأعظم من سكان المعمورة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ (١) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً (٢) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (٣))

شرح المفردات

النصر : العون ؛ يقال نصره على عدوه ينصره نصرا : أي أعانه ، ونصر الغيث الأرض : إذا أعان على إظهار نباتها ومنع من قحطها ، قال شاعرهم :

إذا دخل الشهر الحرام فجاوزى

بلاد تميم وانصرى أرض عامر

والفتح : الفصل بينه وبين أعدائه وإعزاز دينه وإظهار كلمته ، والأفواج : واحدهم فوج ؛ وهو الجماعة والطائفة ، واستغفره : أي اسأله أن يغفر لك ذنوبك ولقومك الذين اتبعوك ، توّابا : أي كثير القبول لتوبة عباده.

المعنى الجملي

كان المؤمنون أيام قلتهم وفقرهم وكثرة عدد عدوهم وقوته ، يمر الضجر بنفوسهم ويقضّ مضاجعهم ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزن ويضيق صدره ،

٢٥٧

لتكذيب قومه له على وضوح الحق وسطوع البرهان ، كما قال تعالى مخاطبا رسوله : «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً» وقال : «فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ ، إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ» وقال : «قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ. فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَلكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللهِ يَجْحَدُونَ».

وفى هذا القلق والضجر استبطاء لنصر الله للحق الذي بعث به نبيّه ، بل فيه سهو عن وعد الله بتأييد دينه ، كما جاء فى قوله : «وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللهِ»؟.

هذا الضجر ليس بنقص يعاب به النبي صلى الله عليه وسلم ، لكن الله يعدّه على أقرب عباده إليه ، كما قالوا : حسنات الأبرار سيئات المقربين ، وقد يراه النبي صلى الله عليه وسلم إذا رجع إلى نفسه وخرج من غمرة شدته ذنبا يتوب إلى الله منه ويستغفره ، ومن ثم ورد الأمر الإلهى بالاستغفار مما كان منه من حزن وضجر فى أوقات الشدة حين يجىء الفتح والنصر.

الإيضاح

(إِذا جاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ) أي إذا رأيت نصر الله لدين الحق ، وانهزام أهل الشرك وخذلانهم ، وفتح الله بينك وبين قومك ، بجعل الغلبة لك عليهم ، وإعزاز أمرك ، وإعلاء كلمتك.

(وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْواجاً) أي ورأيت الناس يدخلون فى دينك ، وينضوون تحت لوائك جماعات لا أفرادا كما كان فى بدء أمرك وقت الشدة.

٢٥٨

(فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ) أي إذا تمّ لك كل ذلك فنزّه ربك وقدّسه عن أن يهمل الحق ، ويدعه للباطل يتغلب عليه ، وعن أن يخلف وعده الذي وعدك به ، بأن يجعل كلمتك العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى ، ويتم نعمته عليك ولو كره الكافرون.

وليكن تنزيهه بحمده على ما أولاك من نعم ، وشكره على ما منحك من خير ، والثناء عليه بما هو له أهل ، فإنه هو القادر الذي لا يغلبه غالب ، والحكيم الذي إذا أمهل الكافرين ، فلن يضيع أجر العاملين.

(وَاسْتَغْفِرْهُ) أي واسأله أن يغفر لك ولمن اتبعك من أصحابك ما كان منهم من القلق والضجر والحزن والأسى لتأخر النصر.

والتوبة من هذا القلق إنما تكون بتكميل الثقة بوعد الله ، وتغليبها على خواطر النفس التي تحدثها الشدائد ، وإن كان ذلك مما يشق على نفوس البشر ، ولكن الله قد علم أن نفس رسوله قد تبلغ ذلك الكمال ، ومن ثم أمره به ، وهكذا يحدث فى نفوس الكملة من أصحابه وأتباعه ما يقارب ذلك ، والله يتقبله منهم.

ثم علل طلب الاستغفار بقوله :

(إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً) أي إنه سبحانه كثير القبول لتوبة عباده ، لأنه يربى النفوس بالمحن ، فإذا وجدت الضعف أنهضها إلى طلب القوة ، وشدّد عزيمتها بحسن الوعد ، ولا يزال بها حتى تبلغ مرتبة الكمال.

وخلاصة ما سلف ـ إذا حصل الفتح وتحقق النصر ، وأقبل الناس على الدين الحق فقد زال الخوف ، فعليك أن تسبّح ربك وتشكره وتنزع عما كان من خواطر النفس وقت الشدة ، فلن تعود الشدائد تأخذ نفوس المخلصين من عباده ماداموا على تلك الكثرة ، ينزل بساحتهم الإخلاص وتجمعهم الألفة.

٢٥٩

وقد فهم النبي صلى الله عليه وسلم من هذا أن الأمر قد تمّ ، ولم يبق إلا أن يلحق بالرفيق الأعلى ، فقال فيما روى عنه : إنه قد نعيت إليه نفسه.

قال ابن عمر : نزلت هذه السورة بمنى فى حجة الوداع ، ثم نزلت «الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي» فعاش بعدها ثمانين يوما ، ثم نزلت آية الكلالة فعاش بعدها خمسين يوما ، ثم نزلت : «لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ» فعاش بعدها خمسة وثلاثين يوما ، ثم نزلت : «وَاتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ» فعاش بعدها واحدا وعشرين يوما.

وصلّ وسلّم ربّنا على محمد وآله وأصحابه الذين هاجروا وجاهدوا ورابطوا فى سبيل الله.

سورة المسد

هى مكية ، وآياتها خمس ، نزلت بعد سورة الفتح.

ومناسبتها لما قبلها ـ أنه ذكر فى السورة السابقة أن ثواب المطيع حصول النصر والاستعلاء فى الدنيا ، والثواب الجزيل فى العقبى. وهنا ذكر أن عاقبة العاصي الخسار فى الدنيا والعقاب فى الآخرة.

أسباب نزول هذه السورة

روى البخاري عن ابن عباس أنه قال : «خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى البطحاء فصعد الجبل فنادى (يا صباحاه) فاجتمعت إليه قريش ، فقال : أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبّحكم أو ممسّيكم أكنتم تصدقونى؟ قالوا نعم ، قال : فإنى نذير لكم بين يدى عذاب شديد» فقال أبو لهب : ألهذا جمعتنا؟ تبّا لك!! وفى رواية : إنه قام ينفض يديه ويقول : تبّا لك سائر اليوم ، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله «تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ».

٢٦٠