تفسير المراغي - ج ٣٠

أحمد مصطفى المراغي

الشيطان على لسانه حين خالط عقله كما تزعمون ، فإنه قد عرف بصحة العقل ، وبالأمانة على الغيب ، فلا يكون ما يحدّث به من خبر الآخرة والجنة والنار من قول الشياطين.

وقد حكى الله سبحانه عن الأمم جميعا أنهم رموا أنبياءهم بالجنون فقال : «كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ».

ثم ذكر أنهم قوم قد ضلوا طريق التدبر ، وجهلوا سبيل الحكمة فقال :

(فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ) أي فأىّ سبيل تسلكونها وقد سدّت عليكم السبل ، وأحاط بكم الحق من جميع جوانبكم ، وبطلت مفتريانكم ، فلم يبق لكم سبيل تستطيعون الهرب منها.

ثم بيّن حقيقة القرآن فقال :

(إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ) أي وما هذا القرآن إلا عظة للخلق كافة يتذكرون بها ما غرز فى طباعهم من حب الخير ، وإنما أنساهم ذكره ما طرأ عليهم بمقتضى الإلف والعادة من ملكات السوء التي تحدثها أمراض البيئة والمجتمع ، والقدوة السيئة.

ثم بيّن أنه لا ينتفع بهذه النظم كل العالمين فقال :

(لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) أي إنه ذكر يتذكر به من وجّه إرادته للاستقامة على جادّة الحق والصواب ؛ أما من انحرف عن ذلك فلا يؤثر فيه هذا الذكر ولا يخرجه من غفلته.

والخلاصة ـ إن على مشيئة المكلف تتوقف الهداية ، وقد فرض عليه أن يوجه فكره نحو الحق ويطلبه ، ويجدّ فى كسب الخير ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

ثم دفع توهم أن إرادة الإنسان مستقلة فى فعل ما يريد ، وله الاختيار التام فيما يفعل ، وهو منقطع العلاقة فى إرادته من سلطان ربه فقال :

(وَما تَشاؤُنَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ) أي إن إرادتكم الخير لا تحصل لديكم إلا بعد أن يخلقها الله فيكم بقدرته ، الموافقة لإرادته ، فهو الذي يودع فيكم

٦١

إرادة فعل الخير فتنصرف هممكم إليه ، ولو شاء لسلبكم هذه الإرادة وجعلكم كالحيوانات لا إرادة لها.

وفى قوله : «رَبُّ الْعالَمِينَ» بيان لعلة هذا ، فإنه لما كان رب العالمين ، وهو الذي منحكم كل ما تتمتعون به من القوى كالإرادة وغيرها ، وهو صاحب السلطان عليكم ـ كانت إرادتكم مستندة إلى إرادته ، وخاضعة لسلطانه ، فلو شاء أن يوجهها إلى غير ما وجهت له توجهت ، ولو شاء أن يمحوها محيت ، فله الأمر وله الحكم وهو على كل شىء قدير.

موضوعات هذه السورة الكريمة

(١) أهوال يوم القيامة.

(٢) الإقسام بالنجوم وبالليل وبالصبح إن القرآن منزل من عند الله بوساطة ملائكته.

(٣) إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم.

(٤) بيان أن القرآن عظة وذكرى لمن أراد الهداية ، وتوجهت نفسه إلى فعل الخير.

(٥) مشيئة العبد تابعة لمشيئة الربّ سبحانه ، وليس لها استقلال بالعمل.

٦٢

سورة الانفطار

هى مكية ، وآياتها تسع عشرة ، نزلت بعد سورة النازعات.

وهى كسابقتها مبدوءة بوصف أهوال يوم القيامة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (١) وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (٢) وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (٤) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (٥))

شرح المفردات

انفطرت : أي انشقت ، انتثرت : أي تساقطت متفرقة ، فجرت : أي فتحت وشققت جوانبها فزال ما بينها من الحواجز واختاط عذبها بملحها ، بعثرت : أي قلب ترابها الذي حثى على موتاها ، وأزيل وأخرج من دفن فيها ، ما قدمت : أي من أعمال الخير ، وما أخرت : أي منها بالكسل والتسويف.

المعنى الجملي

افتتح سبحانه هذه السورة بمثل ما افتتح به سابقتها من ذكر أمور تحدث حين خراب هذا العالم ، وتكون مقدمة ليوم العرض والحساب والجزاء ، وهو يوم القيامة منها أمران علويان هما : انفطار السماء وانتثار الكواكب ، وأمران سفليان هما تفجير البحار وبعثرة القبور. ثم أبان أنه فى ذلك اليوم تتجلى للنفوس أعمالها على حقيقتها.

فلا ترى خيرا فى صورة شر ، ولا تتخيل شرا فى مثال خير ، كما يقع فى الدنيا لأغلب

٦٣

النفوس. فيعرف أهل الخير أنهم ـ وإن نجوا ـ مقصرون ، فيأسفون على ما تركوا ويستبشرون بما عملوا ، ويعضّ أهل السوء بنان الندم ، ويوقنون بسوء المنقلب ، ويتمنون أن لو كانوا ترابا.

الإيضاح

(إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ) أي إذا انشقت السماء وتغير نظامها ، فلم يبق نظام الكواكب على ما نرى ، عند خراب هذا العالم بأسره.

وجاء نحو الآية قوله : «وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ» وقوله : «فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ» وقوله : «وَفُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً».

(وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ) أي سقطت وتفرقت. وهذا يجىء تاليا لما قبله.

إذ متى انشقت السماء وانتقض تركيبها ، واختل نظامها ـ انتثرت كواكبها.

(وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ) أي أزيل ما بينها من حواجز فاختلط عذبها بملحها.

وفاضت على سطح الأرض حينا من الدهر كما قال : «وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ» أي ملئت وفاض ماؤها ، لاضطراب الأرض وزلزالها الشديد ، ووقوع الخلل فى جميع أجزائها.

والخلاصة ـ إن هذا العالم تزول صفاته. وتتبدل أحواله. فتكون الأرض غير الأرض. والسماء غير السماء كما قال : «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّماواتُ».

(وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ) أي أثيرت وقلب أسفلها أعلاها. وباطنها ظاهرها.

ليخرج من فيها من الموتى أحياء.

٦٤

(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) أي علم كل أحد ما قدم لنفسه من عمل ولم يقصر فيه وعلم ما أخره وتكاسل عن أدائه.

وفى هذا ترغيب فى الطاعة ، وزجر عن المعصية.

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (٧) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (٨))

شرح المفردات

ما غرك : أي أىّ شىء خدعك وجرّأك على العصيان؟ الكريم : أي العلى العظيم فسواك : أي جعل أعضاءك سويّة سليمة معدّة لمنافعها ، فعدلك : أي جعلك معتدلا متناسب الخلق ، فى أي صورة ما شاء ركبك : أي ركبك فى صورة هى من أعجب الصور وأحكمها ، وكلمة (ما) جاءت زائدة لتفخيم المعنى وتعظيمه ، وهى طريقة متبعة فى كلامهم عند إرادة التهويل ، وسلوك سبيل التعظيم.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر فى صدر السورة أنه فى يوم القيامة يبدّل نظام هذا العالم ، ويسأل الخلائق عما قدمت أيديهم ، ويحاسبهم على ما اقترفوا من آثام ، ويقرّعهم على تكاسلهم فى أداء ما أمروا به ، ويجزيهم أحسن الجزاء على ما قدموا من عمل صالح ـ أردف هذا بخطاب الإنسان واستفساره عما دعاه إلى مخالفة خالقه ، وتماديه فى فجوره وطغيانه ، واسترساله مع دواعى النفس الأمارة بالسوء ؛ مع أنه لو تدبر فى نفسه وفى خلقه لوجد من شواهد ربوبية خالقه ما هو جدير بشكرانه ، ومداومته على

٦٥

طاعته وهو للذى خلقه فسواه وجعله على أحسن صورة. وكمله بالعقل والفهم والتدبر فى عواقب الأمور ومصايرها.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ. الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ) أي أيها الإنسان العاقل الذي أوتى من قوة الفكر ، وبسطة القدرة ما أوتى حتى صار بذلك أفضل المخلوقات ـ أىّ شىء خدعك وجرأك على عصيان ربك الكريم الذي أنعم عليك بنعمة الوجود والعقل والتدبر. ولا تزال أياديه تتوالى عليك ، ونعمه تترى لديك؟ ألا تشكر من برأك وصورك فأحسن صورتك ، وجعلك معتدل القامة ، تامّ الخلق.

ووصف نفسه بالكريم دون القهار ، إيذانا بأن ذلك مما لا يصلح أن يكون مدارا لاغتراره ، وإغواء الشيطان له بنحو قوله : افعل ما شئت فإن ربك كريم قد تفضل عليك فى الدنيا وسيفعل مثل ذلك فى الآخرة ، بل هذا يصلح للمبالغة فى الإقبال على الإيمان والطاعة.

والخلاصة ـ كأنه قيل ما حملك على عصيان ربك الذي من صفاته الكرم ، الزاجر لك عن عصيانه ومخالفة أمره؟

قال عمر بن الخطاب وقد تلا الآية : غرّه جهله وقرأ : «إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً» وقال قتادة : غرّه عدوه المسلّط عليه.

ثم أجمل ما فصله أوّلا بقوله :

(فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ) أي ركبك فى صورة هى من أبهى الصور وأجملها ، وأدّ لها على بقائك الأبدى فى نشأة أخرى بعد هذه النشأة. فإن الكريم يوفّى كل مرتبة من الوجود حقها ، فمن خص بهذه المنزلة الرفيعة لا ينبغى أن يعيش

٦٦

كما يعيش سائر الحيوان ، ويموت كما يموت الوحش وصغار الذرّ ، وإنما الذي يليق بعقله وقوة نفسه أن تكون له حياة أبدية لا حد لها ، ولا فناء بعدها ، يوفّى فيها كل ذى حق حقه ، وكل عامل جزاء عمله.

(كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (٩) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (١٠) كِراماً كاتِبِينَ (١١) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (١٢) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (١٣) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (١٤) يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (١٥) وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (١٦) وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٧) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (١٨) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (١٩))

شرح المفردات

كلا : كلمة تفيد نفى شىء قد تقدم وتحقيق غيره ، والدين : الجزاء ، حافظين أي يحصون أعمالكم خيرا كانت أو شرا ، والأبرار : واحدهم برّ ، وهو من يفعل البر (بكسر الباء) ويتقى الله فى كل أفعاله ، والفجار : واحدهم فاجر ، وهو التارك لما شرعه الله وحدّه لعباده ، يصلونها : أي يقاسون حرها ، يوم الدين : أي يوم الجزاء ، ما أدراك : أي ما أعلمك وعرفك.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أن من دلائل نعمه على الإنسان خلقه على أحسن صورة. وأن ذلك يدل على أن له حياة أخرى غير هذه الحياة : فيها يجازى بما عمل من خير أو شر ـ أعقب هذا بيان أنه لا شىء يمنعه عن التصديق بهذا اليوم إلا العناد

٦٧

والتكذيب ، فالشعور النفسي يوحى به ، والدليل النقلى الذي أتى به الرسول يصدقه ، والله لم يترك عملا لعباده إلا أحصاه وحفظه ، ليوفى كل عامل أجره ، فقد وكل الكرام الكاتبين المطهرين عن الغرض والنسيان بكتابته وضبطه.

ثم ذكر أن الناس فى هذا اليوم فريقان ، بررة مطيعون لربهم فيما به أمر وعنه نهى ، وهؤلاء يتقلبون فى النعيم ، وفجرة يتركون أوامر الدين ، وأولئك يكونون فى دار العذاب والهوان يقاسون حر النار ، وأنه فى هذا اليوم لا يجد المرء ما يعوّل عليه سوى ما قدمت يداه ، فيجفوه الأولياء ، ويخذله الشفعاء ، ويتبرأ منه الأقرباء فلا شفيع ولا نصير ، ولا وزير ولا مشير ، والحكم لله وحده ، وهو المهيمن على عباده ، وبيده تصريف أمورهم ، وهو الصادق فى وعده ، العدل الحكيم فى وعيده ، فلا مهرب لعامل مما أعدّ له من الجزاء على عمله.

الإيضاح

(كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ) أي ارتدعوا عن الاغترار بكرمى لكم. فإنكم لا تستقيمون على ما توجبه نعمى عليكم ، ويدعوه إرشادى لكم ، بل تجترئون على ما هو أعظم منه. فتكذبون بيوم الجزاء والحساب على القليل والكثير ، يوم تبعثون للفصل بينكم ، فتجازى كل نفس بما عملت ، وما قدمت وأخرت.

ثم حذرهم من تماديهم فى غيهم ببيان أن أعمالهم محصاة عليهم فقال :

(وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ. كِراماً كاتِبِينَ. يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ) أي إن أعمالكم محصاة عليكم ، فقد وكل بكم ملائكة حفظة ، كرام كاتبون يحصون كل ما تعملون من خير وشر.

وقد ذكر ذلك فى غير موضع من الكتاب الكريم كقوله : «عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ. ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ» وقوله : «وَهُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً».

٦٨

وليس علينا أن نبحث عن كنه هؤلاء الحفظة ، ولا أن نعرف من أي شىء خلقوا وما عملهم ، وكيف يحفظون الأعمال ، وهل عندهم أوراق وأقلام ، أو هناك ألواح ترسم فيها الأعمال ، أو هم أرواح تتجلى فيها تلك الأعمال ، فتبقى فيها بقاء المداد فى القرطاس. كل ذلك لم نكلّف العلم به ، وإنما نكلف الإيمان بصدق الخبر ، وتفويض الأمر فى حقيقته إلى الله.

ثم ذكر نتيجة الحفظ والكتابة من الثواب والعقاب ، وبين أن العاملين فى ذلك اليوم فريقان ، وبين مآل كل منهما فقال :

(إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ. وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ. يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ) أي وإن أهل الثواب وهم الأبرار يكونون فى دار النعيم. وإن أهل العقاب وهم الفجار يكونون فى دار الجحيم ، دار العذاب الأليم يقاسون أهوالها.

ثم بين أن هذا العذاب حتم لا منجاة لهم منه ولا مهرب فقال :

(وَما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ) أي إنهم لا يغيبون عن الجحيم ، ولا ينفكون عن عذابها ، بل هم ملازمون لها.

ثم عاد إلى تفخيم ذلك اليوم وتهويل أمره فقال :

(وَما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ) أي إن أمرك أيها الإنسان لعجيب ، فأنت لاه عن هذا اليوم غير مبال به ، وقد كنت خليقا أن تتعرف حقيقة حاله ، لتأخذ لنفسك الحيطة ، وتتدبر أمرك ، ولا تركن إلى عفو ربك وكرمه وصفحه ، فإنك لا تدرى ما قدّر لك.

ثم زاده توكيدا وتعظيما فقال :

(ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ؟) أي ثم عجيب منك أن تتهاون بنبإ هذا اليوم.

كأنك قد أدركت كنهه. وعرفت وجه الخلاص مما يلقاك فيه من الأهوال. ولو عرفته حق معرفته للانت قناتك. ورجعت إلى ربك تائبا. وعدت إليه مستغفرا. طالبا الصفح عما قدمت يداك.

٦٩

ثم بين حقيقة أمره فقال :

(يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً) أي يوم لا تستطيع دفعا عنها ولا نفعا لها بوجه ولا أمر إلا الله وحده. فكل امرئ مشغول بما هو فيه ، كما قال : «وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً» وقال : «يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ».

ثم أكد ما سبق بقوله :

(وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ) وحده ، فلا أحد يحمى أحدا ، ولا يغنى أحد عن أحد شيئا.

وقد استأثر الله بالأمر كله ، فبيده تصريفه ، وإليه المرجع والمآب.

ربنا وآتنا ما وعدتنا على رسلك ، ولا تخزنا يوم القيامة ، إنك لا تخلف الميعاد.

ما فى هذه السورة من مقاصد

(١) وصف بعض أهوال يوم القيامة.

(٢) تقصير الإنسان فى مقابلة الإحسان بالشكران.

(٣) بيان أن أعمال الإنسان موكل بها كرام كاتبون.

(٤) بيان أن الناس فى هذا اليوم : إما بررة منعمون ، وإما فجرة معذبون.

٧٠

سورة المطففين

آياتها ست وثلاثون ، نزلت بعد سورة العنكبوت ، وهى آخر سورة نزلت بمكة.

ومناسبتها لما قبلها. أنه قال هناك : «وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ» وذكر هنا ما يكتبه الحافظون : «كِتابٌ مَرْقُومٌ» يجعل فى عليين أو فى سجّين.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (١) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (٢) وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (٣) أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (٤) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (٥) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (٦))

شرح المفردات

ويل : أي هلاك عظيم ، والتطفيف : البخس فى الكيل والوزن ؛ وسمى بذلك لأن ما يبخس شىء حقير طفيف ، اكتالوا على الناس : أي اكتالوا من الناس حقوقهم ، يستوفون : أي يأخذونها وافية كاملة ، كالوهم : أي كالوا لهم ، يخسرون : أي ينقصون الكيل والميزان ، يقوم الناس لرب العالمين : أي يقف الناس للعرض على خالقهم ، ويطول بهم الموقف إجلالا لعظمة ربهم.

المعنى الجملي

فصل سبحانه فى هذه السورة ما أجمله فى سابقتها ، فذكر فيها نوعا من أنواع الفجور وهو التطفيف فى المكيال والميزان ، ثم نوعا آخر وهو التكذيب بيوم الدين ثم أعقبه بذكر جزائهم على هذا التكذيب وتوبيخهم عليه.

٧١

الإيضاح

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ) أي عذاب وخزى شديد يوم القيامة لمن يطفف فى المكيال والميزان.

وقد خص سبحانه المطففين بهذا الوعيد ، من قبل أنه كان فاشيا منتشرا بمكة والمدينة ، فكانوا يطففون المكيال ويبخسونه ولا يوفون حق المشترى.

روى أنه كان بالمدينة رجل يقال له أبو جهينة له كيلان أحدهما كبير والثاني صغير ، فكان إذا أراد أن يشترى من أصحاب الزروع والحبوب والثمار اشترى بالكيل الكبير ، وإذا باع للناس كال للمشترى بالكيل الصغير.

هذا الرجل وأمثاله ممن امتلأت نفوسهم بالطمع ، واستولى على نفوسهم الجثع ـ هم المقصودون بهذا الوعيد الشديد ، وهم الذين توعّدهم النبي صلى الله عليه وسلم وتهددهم بقوله : «خمس بخمس : ما نقض قوم العهد إلا سلط الله عليهم عدوهم ، وما حكموا بغير ما أنزل الله إلا فشا فيهم الفقر ، وما ظهرت فيهم الفاحشة إلا فشا فيهم الموت ، ولا طفّفوا الكيل إلا منعوا النبات ، ولا منعوا الزكاة إلا حبس عنهم المطر».

وقد بين سبحانه عمل المطففين الذي استحقوا عليه هذا الوعيد بقوله :

(الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ. وَإِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) أي إذا كان لهم عند الناس حق فى شىء من المكيلات لم يقبلوا أن يأخذوه إلا وافيا كاملا ، وإذا كان لأحد عندهم شىء وأرادوا أن يؤدوه له أعطوه ناقصا غير واف.

واقتصر النظم على الاكتيال حين الاستيفاء ، وذكر الكيل والميزان فيه حين الإخساء ، لأن التطفيف فى الكيل يكون بشىء قليل لا يعبأ به فى الأغلب ، دون التطفيف فى الوزن ، فإن أدنى حيلة فيه يفضى إلى شىء كثير ، ولأن ما يوزن أكثر

٧٢

قيمة فى كثير من الأحوال مما يكال ، فإذا أخبرت الآية بأنهم لا يبقون على الناس ما هو قليل مهين من حقوقهم ، علم أنهم لا يبقون عليهم والكثير الذي لا يتسامح فيه إلا نادرا بالطريق الأولى.

وكما يكون التطفيف فى الكيل والميزان يكون فى أشياء أخرى ، فمن استأجر عاملا ووقف أمامه يراقبه ويطالبه بتجويد عمله ، ثم إذا كان هو عاملا أجيرا لم يراقب ربه فى العمل ولم يقم به على الوجه الذي ينبغى أن يقوم به ـ يكون واقعا تحت طائلة هذا الوعيد ، مستوجبا لأليم العذاب ، مهما يكن عمله ، جلّ أو حقر ؛ وإذا كان هذا الإنذار للمطففين الراضين بالقليل من السحت ؛ فما ظنك بأولئك الذين يأكلون أموال الناس بلا كيل ولا وزن ، بل يسلبونهم ما بأيديهم ، ويغلبونهم على ثمار أعمالهم ، فيحرمونهم التمتع بها ، اعتمادا على قوة الملك أو نفوذ السلطان أو باستعمال الحيل المختلفة.

لا جرم أن هؤلاء لا يحسبون إلا فى عداد الجاحدين المنكرين ليوم الدين ، وإن زعموا بألسنتهم أنهم من المؤمنين المخبتين.

ثم هوّل فى شأن هذا العمل فقال :

(أَلا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ) أي إن تطفيف الكيل والميزان واختلاس أموال الناس بهذه الوسيلة ـ لا يصدر إلا عن شخص لا يظن أنه سيبعث يوم القيامة ويحاسب على عمله ، إذ لو ظن ذلك لما طفف الكيل ولا بخس الميزان.

والخلاصة ـ إنه لا يجسر على فعل هذه القبائح من كان يظن بوجود يوم يحاسب الله فيه عباده على أعمالهم ، فما بالك بمن يستيقن ذلك.

ثم وصف هذا اليوم فقال :

(يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ) أي هذا اليوم هو اليوم الذي يقف فيه الناس للعرض والحساب ، ويطول بهم الموقف إعظاما لجلاله تعالى.

٧٣

ولا يخفى ما فى الوصف برب العالمين من الدلالة على عظم الذنب وتفاقم الإثم فى التطفيف ، إذ أن الميزان هو قانون العدل الذي قامت به السموات والأرض.

وعن ابن عمر أنه كان يمر بالبائع فيقول : اتق الله تعالى وأوف الكيل ، فإن المطففين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن ، حتى إن العرق ليلجمهم.

وعن عكرمة أنه قال : أشهد أن كل كيال ووزان فى النار ، فقيل له : إن ابنك كيال ، فقال : أشهد إنه فى النار ، وكأنه أراد المبالغة وبيان أن الغالب فيهم التطفيف.

(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (٧) وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (٨) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٩) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١٠) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (١١) وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (١٢) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (١٣))

شرح المفردات

سجين : اسم للكتاب الذي دوّنت فيه أعمال الفجرة من الثقلين ، مرقوم : من رقم الكتاب إذا جعل له علامة ، والعلامة تسمى رقما ، معتد : أي متجاوز منهج الحق ، أثيم : أي يكثر من ارتكاب الآثام : وهى المعاصي ، أساطير الأولين : أي أخبار الأولين أخذها محمد عن بعض السابقين.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أنه لا يقيم على التطفيف إلا من ينكر ما أوعد الله به من العرض والحساب وعذاب الكفار والعصاة ـ أمرهم بالكف عما هم فيه ، وذكر أن الفجار

٧٤

قد أعدّ لهم كتاب أحصيت فيه جميع أعمالهم ليحاسبوا بها ، فويل للمكذبين بيوم الجزاء ، وما يكذب به إلا كل من تجاوز حدود الدين وانتهك حرماته ، وإذا تليت عليهم آيات القرآن قالوا ما هى إلا أقاصيص الأولين نقلها محمد عن السابقين ، وليست وحيا يوحى كما يدعى.

الإيضاح

(كَلَّا) أي ازدجروا عما أنتم عليه من التطفيف والغفلة عن الحساب.

ثم علل هذا بقوله :

(إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ) أي كفوا عما أنتم عليه ، فإن الفجار سيحاسبون على أعمالهم ، وقد أعد الله لهم كتابا أحصى فيه أعمالهم يسمى (سجّينا).

(وَما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ؟) أي ليس ذلك مما تعلمه أنت ولا قومك.

ثم فسره له فقال :

(كِتابٌ مَرْقُومٌ) أي كتاب قد جعلت له علامة بها يعرف من رآه أنه لا خير فيه.

وقصارى ما سلف ـ إن للشر سجلا دونت فيه أعمال الفجار وهو كتاب مسطور بيّن الكتابة ، وهذا السجل يشتمل عليه السجل الكبير المسمى بسجين. كما تقول : إن كتاب حساب قرية كذا فى السجل الفلاني المشتمل على حسابها وحساب غيرها من القرى فلكل فاجر من الفجار صحيفة. وهذه الصحائف فى السجل العظيم ، المسمى بسجين.

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ) أي شدة وعذاب لمن يكذب بيوم الجزاء ، سواء كان بجحد أخباره أو بعدم المبالاة بما يكون فيه من عقاب وعذاب.

٧٥

وأعظم دليل على عدم المبالاة هو الإصرار على الجرائم ، والمداومة على اقتراف السيئات.

ثم بين أوصاف من يكذب بهذا اليوم فقال :

(وَما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ) أي وما يكذب بهذا اليوم إلا من اعتدى على الحق ، وعمى عن الإنصاف ، واعتاد ارتكاب الجرائم ، إذ يصعب عليه الإذعان بأخبار الآخرة ، لأنه يأبى النظر فى أدلتها ، وتدبر البينات المرشدة إلى صدقها ، إلى أنه يعلل نفسه بالإنكار ، ويهوّن عليها الأمر بالتغافل ، أو التعلق بالأمانى من نصرة الأولياء ، أو توسط الشفعاء.

أما من كان ميالا إلى العدل ، واقفا عند ما حدّ الله لعباده فى شرائعه وسننه فى نظام الكون. فأيسر شىء التصديق باليوم الآخر ، وهو أعون له على ما تميل إليه نفسه.

(إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) أي وإذا قرئ عليه القرآن أنكر كونه منزلا من عند الله ، وزعم أنه أخبار الأولين ، أخذها محمد من غيره من السابقين.

ونحو الآية قوله : «وَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلَّا إِفْكٌ افْتَراهُ وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَزُوراً. وَقالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً. قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً».

وقد يكون المعنى ـ إنها أباطيل ألقيت على آبائهم الأولين فكذبوها ولم تجز عليهم ، فلسنا أول من يكذب بها حتى تزعمون أن تكذيبنا بها يعتبر عجلة منا ، فإنا إنما تأسّينا فى تكذيبنا بها بآبائنا الأولين الذين سبقونا.

٧٦

(كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (١٤) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (١٥) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (١٦) ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (١٧))

شرح المفردات

ران على قبله : أي غطى عليه ، قال الزجاج : الرين كالصدإ يغشى القلب كالغيم الرقيق. وقال أبو عبيدة : ران على قلوبهم غلب عليها ، قال الفرّاء : كثرت منهم المعاصي والذنوب ، فأحاطت بقلوبهم فذلك الرين عليها ، لمحجوبون : أي لمطرودون عن أبواب الكرامة ، لصالوا الجحيم : أي لداخلوا النار وملازموها.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أنهم قالوا : إن القرآن أساطير الأولين وليس وحيا من عند الله ـ أردف ذلك بيان أن الذي جرأهم على ذلك هى أفعالهم القبيحة التي مرنوا عليها ، فعمّيت عليهم وجوه الآراء حتى صاروا لا يميزون بين الأسطورة والحجة الدامغة.

ثم ردّ عليهم فرية كانوا يقولونها ، ويكثرون من تردادها ـ وهى إن كان ما يحدّث به محمد صحيحا فنحن سنكون فى منزلة الكرامة عند ربنا ، فأبان لهم أنهم كاذبون ، فإنهم سيطردون من رحمته ولا ينالون رضاه ، ثم يؤمر بهم إلى النار فيدخلونها ويصلون سعيرها ، ويقال لهم هذا العذاب جزاء ما كنتم به تكذبون مما أوعدكم به الرسول.

الإيضاح

(كَلَّا) زجر لكل معتد أثيم يقول الزور ويزعم أن القرآن أساطير الأولين.

٧٧

ثم بين سبب الذي حملهم على ذلك فقال :

(بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي ليس الأمر كما يقولون من أنه أساطير الأولين ، بل الذي جرأهم على ذلك هو أفعالهم التي دربوا عليها واعتادوها فصارت سببا لحصول الرين على قلوبهم ، فالتبست عليهم الأمور ولم يدركوا الفرق بين الكذب الفاضح ، والصدق الواضح ، والدليل اللائح.

وبعد أن بين منزلة الفجار والمكذبين بيوم الدين ـ دحض ما كانوا يقولون من أن لهم الكرامة والمنزلة الرفيعة يوم القيامة فقال :

(كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ) أي ارتدعوا عما تقولون من أنكم يوم القيامة تكونون مقربين إلى الله ، فإنكم ستطردون من رحمته ولا تنالون رضاه ، ولا تدركون ما زعمتم من القرب والزلفى عنده كما قال : «وَلا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ».

ثم ذكر ما يكون لهم فوق ذلك فقال :

(ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ) أي وبعد أن يحجبوا فى عرصات القيامة عن الدنو من ربهم ، وإدراك أمانيهم التي كانوا يتمنونها ـ يقذف بهم فى النار ويصلون سعيرها ويقاسون حرها.

ثم أرشد إلى أنهم حينئذ يبكّتون ويوبخون فوق ما بهم من الآلام فقال :

(ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) أي هذا الذي عوقبتم به ـ هو جزاء ما كنتم تكذبون به من أخبار الرسول الصادق ، كزعمكم أنكم لن تبعثوا ، وأن القرآن أساطير الأولين ، وأن محمدا ساحر أو كذاب ، إلى نحو ذلك من مقالاتكم ، والآن قد تبين لكم حقيقة أمركم ، وعاينتم بأنفسكم أن ما كان يقوله نبيكم هو الحق الذي لا شك فيه.

٧٨

وما أشد على الإنسان إذا أصابه مكروه أن يذكّر وهو يتألم ، بأن وسائل نجاته من مصابه كانت فى متناول يديه وقد أهملها وألقى بها وراءه ظهريّا.

(كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (١٨) وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (١٩) كِتابٌ مَرْقُومٌ (٢٠) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (٢١) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (٢٢) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (٢٣) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (٢٤) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (٢٦) وَمِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (٢٧) عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (٢٨))

شرح المفردات

عليين : أي فى مكان عال وقد تقدم أن سجينا مكان فى نهاية السفلى ، فهما مكانان أودع فيهما أعمال الناجين وأعمال الخاسرين ، وليس علينا أن نعرف ما هما؟ أمن أوراق أو أخشاب أو معادن أخرى ، والأرائك. هى الأسرّة فى الحجال (والحجال واحدها حجلة وهى مثل القبة) وحجلة العروس بيت : أي خيمة تزين بالثياب والأسرّة والستور ، ونضرة النعيم : بهجته ورونقه ، ورحيق : أي شراب خالص لا غش فيه ، مختوم : أي ختمت أوانيه وسدت ، ختامه مسك : أي ما يختم به رأس قارورته هو المسك مكان الطين ، وأصل التنافس : التشاجر على الشيء والتنازع فيه بأن يحب كل واحد أن ينفرد به دون صاحبه ، والمراد فليستبق المتسابقون وليجاهدوا النفوس ، ليلحقوا بالعاملين ، والمزاج والمزج : الشيء الذي يمزج بغيره ، والمزج : خاط أحد الشيئين بالآخر ، والتسنيم : عين من ماء تجرى من أعلى

٧٩

إلى أسفل ، وهو أشرف شراب فى الجنة ، ويكون صرفا للمقرّبين ممزوجا لأصحاب اليمين وسائر أهل الجنة ، والمقربون : هم الأبرار الذين سلف ذكرهم.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه حال الفجار وحال المطففين ، وبين منزلتهم عند الله يوم القيامة ـ أتبعه ذكر حال الأبرار الذين آمنوا بربهم وصدّقوا رسولهم فيما جاء به عن خالقهم ، وعملوا الخير فى الحياة الدنيا ، فذكر أن الله قد أحصى أعمالهم فى كتاب مرقوم اسمه عليون يشهده المقربون من الملائكة.

وبعدئذ عدّد ما ينالون من الجزاء على البر والإحسان.

وفى ذلك ترغيب فى الطاعة ، وحفر لعزائم المحسنين ، ليزدادوا إحسانا ، ويدعو الطرق المشتبهة الملتبسة ويقيموا على الطريق المستقيم.

الإيضاح

(كَلَّا) أي ليس الأمر كما توهمه أولئك الفجار من إنكار البعث ، ومن أن كتاب الله أساطير الأولين.

(إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ) أي إن كتاب أعمال الأبرار مودع فى أعلى الأمكنة ، بحيث يشهده المقربون من الملائكة ، تشريفا لهم وتعظيما لشأنهم.

كما أن الغرض من وضع كتاب الفجار فى أسفل سافلين ـ إذلالهم وتحقير شأنهم ، وبيان أنه لا يؤبه بهم ولا يعنى بأمرهم.

ثم عظم شأن عليين وفخم أمره فقال :

(وَما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ) أي وما أعلمك أي شىء هو؟

ثم فسره وبين المراد منه فقال :

٨٠