تفسير المراغي - ج ٣٠

أحمد مصطفى المراغي

المعنى الجملي

أمر سبحانه رسوله أن ينزه اسمه عن كل ما لا يليق به واسم الله ما يعرف به ، والله إنما يعرف بصفاته من نحو كونه عالما قادرا حكيما ، وهذا الاسم هو الذي يوصف بأنه ذو الجلال والإكرام ، وهو المراد بالوجه فى قوله : «وَيَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالْإِكْرامِ» وهو المذكور فى قوله : «وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها» أي علمه رسوم الأشياء وما تعرف به.

فالله يأمرنا بتسبيح هذا الاسم أي تنزيهه عن أن نصفه بما لا يليق به من شبه المخلوقات ، أو ظهوره فى واحد منها بعينه ، أو اتخاذه شريكا أو ولدا له ، فلا تتجه عقولنا إليه إلا بأنه خالق الكائنات وهو الذي أوجدها وسوّاها ، وأنه هو الذي أخرج المرعى ثم جعله جافّا حتى لفظه السيل بجانب الوادي.

الإيضاح

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) أي نزه اسم ربك عن كل ما لا يليق بجلاله فى ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله وأحكامه فلا تذكره إلا على وجه التعظيم له ، ولا تطلق اسمه على غيره زاعما أنه يشاركه فى صفاته.

ثم وصف ذلك الاسم الأعلى فقال :

(١) (الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى) أي الذي خلق الكائنات جميعا فسوى خلقها وجعلها منسقة محكمة ولم يأت بها متفاوتة غير ملتئمة ، دلالة على أنها صادرة عن عالم حكيم مدبّر ، أحسن تدبيرها ، فأحكم أسرها.

(٢) (وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى) أي والذي قدر كل واحد منها على ما يستحقه ، ويكون به استقرار شأنه ؛ فقدر السموات وما فيها من الكواكب ، وقدر الأرض وما فيها من المعادن ، وما يظهر على وجهها من النبات ، وما يعيش عليها من الحيوان

١٢١

ثم هدى كل دابة إلى استعمال ما يصلحها ، وما هو أمسّ بحاجتها ، بما خلق فيها من الميول والإلهامات ، لتحصيل ما لها من مقاصد وغايات.

(٣) (وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى) أي والذي أنبت النبات جميعه ، لترعاه الدوابّ والنّعم ، فما من نبت إلا وهو يصلح أن يكون مرعى لحيوان من الأجناس الحيّة.

(فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى) أي فجعل هذا المرعى بعد أن كان أخضر هشيما باليا كالغثاء يميل لونه إلى السواد ، فهو القادر على إنبات العشب ، وعلى تبديل حاله ، لا الأصنام التي عبدها الكفرة الفجرة.

وقصارى ما سلف ـ إنا مأمورون أن نعرف الله جل شأنه بأنه القادر العالم الحكيم الذي شهدت بصفاته آثاره فى خلقه ، وألا ندخل فى هذه الصفات ما لا يليق به ، كما أدخل الملحدون الذين اتخذوا من دونه شركاء ، أو وصفوه بما به يشبه خلقه.

وإنما توجه إلينا الأمر بتسبيح الاسم دون تسبيح الذات ، ليرشدنا إلى أن مبلغ جهدنا أن نعرف الصفات بما يدل عليها ، أما الذات فهى أعلى وأرفع من أن تتوجه إليها عقولنا إلا بما نلحظ من هذه الصفات بما يدل عليها.

(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (٦) إِلاَّ ما شاءَ اللهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى (٧) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (٨))

شرح المفردات

سنقرئك : أي نجعلك قارئا للقرآن ، فلا تنسى : أي فلا تنساه بل تحفظه ، واليسرى : أعمال الخير التي تؤدى إلى اليسر.

١٢٢

المعنى الجملي

بعد أن أمر رسوله بتسبيح اسمه ، وعلّم أمته المأمورة بأمر الله له ، كيف يمكنها أن تعرف الاسم الذي تسبحه على نحو ما ذكرنا ، ولا يكمل ذلك إلا بقراءة ما أنزل عليه من القرآن ، فكان هذا مدعاة إلى شدة حرصه صلى الله عليه وسلم على حفظه ومن ثم وعده بأنه سيقرئه من كتابه ما فيه تنزيهه ، وتبيين ما أوجب أن يعرف من صفاته ، وأحكام شرائعه كما وعده بأنّ ما يقرئه إياه لا ينساه.

الإيضاح

(سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى) أي سننزل عليك كتابا تقرؤه ، ولا تنسى منه شيئا بعد نزوله عليك.

وقد كان عليه الصلاة والسلام إذا نزل عليه القرآن أكثر من تحريك لسانه مخافة أن ينساه ، فوعد بأنه لا ينساه.

ونحو الآية قوله : «وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ» وقوله : «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ. إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ».

وخلاصة ذلك ـ إنا سنشرح صدرك ، ونقوّى ذا كرتك ، حتى تحفظه بسماعه مرة واحدة ، ثم لا تنساه بعدها أبدا.

ولما كان هذا الوعد على سبيل التأبيد يوهم أن قدرته تعالى لا تسع تغييره جاء بالاستثناء فقال :

(إِلَّا ما شاءَ اللهُ) أي فإن أراد أن ينسيك شيئا لم يعجزه ذلك.

قال الفرّاء : إنه ما شاء أن ينسى محمد صلى الله عليه وسلم شيئا ، إلا أن القصد من هذا الاستثناء بيان أنه لو أراد أن يصيّره ناسيا لقدر على ذلك كما جاء فى قوله : «وَلَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ».

١٢٣

وإنا لنقطع بأنه تعالى ما شاء ذلك.

وقصارى هذا ـ إن فائدة هذا الاستثناء بيان أنه تعالى قادر على أن ينسيه ، وأن عدم النسيان فضل من الله وإحسان لا من قوّته.

ثم أكد هذا الوعد مع الاستثناء فقال :

(إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَما يَخْفى) أي إن الذي وعدك بأنه سيقرئك ، وأنه سيجعلك حافظا لما تقرأ فلا تنساه ـ عالم بالجهر والسر ، فلا يفوته شىء مما فى نفسك ، وهو مالك قلبك وعقلك ، وخافى سرك وجهرك ، ففى مقدوره أن يحفظ عليك ما وهبك وإن كان من خفيات روحك ، ولو شاء لسلبه ولن تستطيع دفعه ، لأنه ليس فى قدرتك أن تخفى عنه شيئا.

ولما كان فى الوعد بالإقراء الوعد بتشريع الأحكام ، وفيها ما يصعب على المخاطبين احتماله ـ أردف ذلك الوعد بما يزيده حلاوة فى النفوس فقال :

(وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى) أي ونوفقك للشريعة السمحة التي يسهل على النفوس قبولها ، ولا يصعب على العقول فهمها ، ورحم الله البوصيرى حيث يقول :

لم يمتحنّا بما تعيا العقول به

حرصا علينا فلم نرتب ولم نهم

وقد جعلت الآية الإنسان هو الميسّر للفعل ، وليس الفعل هو الميسر للإنسان ، من قبل أن الفعل لا يحصل إلا إذا وجدت العزيمة الصادقة ، والإرادة النافذة لإيجاده ، مع التوفيق لسلوك أقوم الطرق التي توصل إليه ، كما جاء فى الحديث : «اعملوا ، فكل ميسّر لما خلق له».

(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (٩) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (١٠) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (١١) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (١٢) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى (١٣))

١٢٤

شرح المفردات

التذكر : أن يتنبه الإنسان إلى شىء كان قد علمه من قبل ثم غفل عنه ، ومن يخشى الله صنفان : مذعن معترف بالله وببعثه للعباد للثواب والعقاب ، ومتردد فى ذلك ، الأشقى : هو المعاند المصرّ على الجحد والإنكار ، المتمكن من نفسه الكفر ، يصلى النار : أي يذوق حرها. والنار الكبرى هى أسفل دركات الجحيم ، لا يموت : أي فيستريح ولا يحيا : أي حياة طيبة فيسعد كما أشار إلى ذلك شاعرهم فقال :

ألا ما لنفس لا تموت فينقضى

عناها ولا تحيا حياة لها طعم

المعنى الجملي

بعد أن وعد سبحانه رسوله بذلك الفضل العظيم وهو حفظ القرآن وعدم نسيانه ـ أمره بتذكيره عباده بما ينفعهم فى دينهم ودنياهم ـ وتنبيههم من غفلاتهم وتوجيههم إلى ما فيه الخير لهم ، وبين أن الذكرى لا تنجع إلا فى القلوب الخاشعة التي تخشى الله وتخاف عقابه. أما القلوب الجاحدة المعاندة فلا تجدى فيها الذكرى شيئا ، فهوّن على نفسك ، ولا يحزننّك جحدهم وعنادهم كما أشار إلى ذلك فى آية أخرى فقال : «فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً».

ثم ذكر أن أولئك الجحدة العصاة يكونون فى قعر جهنم لا هم يموتون ولا يسعدون بحياة طيبة.

الإيضاح

(فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى) أي فذكر الناس بما أوحينا به إليك ، واهدهم إلى ما فيه من بيان الأحكام الدينية. فإن أصرّ المعاندون على عنادهم ولم يزدهم

١٢٥

وعظك إلا تماديا فى الجحود والإنكار «فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ» حرصا على إيمانهم ، وحزنا على بقائهم على كفرهم ، وادع من تعلم أنه يجيبك ولا يحبهك ولا يؤذيك ؛ وإلى ذلك أشار بقوله :

(سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى) أي إنما ينتفع بتذكيرك من يخشى الله ويخاف عقابه ، لأنه هو الذي يتأمل فى كل ما تذكره له ، فيتبين له وجه الصواب ، ويظهر له سبيل الحق الذي يجب المعوّل عليه.

وفى التعبير بقوله (سَيَذَّكَّرُ) إيماء إلى أن ما جاء به الرسول بلغ حدّا من الوضوح لا يحتاج معه إلا إلى التذكير فحسب ، وإنما الذي يحول بينهم وبين اتباعه واقتفاء آثاره ـ تقليد الآباء والأجداد فكأنهم عرفوه واستيقنوا صحته ، ثم زالت هذه المعرفة بانتهاجهم خطة آبائهم من قبل.

ثم أشار إلى عدم جدواها بالنظر للمعاندين الجاحدين فقال :

(وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى. الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى) أي ويبتعد عن هذه التذكرة المعاند المصرّ على الجحود عنادا واستكبارا ، وهو الذي يذوق حر النار الكبرى فى دركات جهنم كما قال : «إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ» إذ لا يليق بحكمة الحكيم المتعالي أن يسوّى بين من اجترأ عليه وتهاون بأمره وارتكب أشنع الذنوب ومن كان نقىّ الصحيفة ميمون النقيبة ، مطيعا لأمره ، مؤديا فرائضه منتهيا عن الفحشاء والمنكر.

وقصارى ما سلف ـ إن الناس بالنظر إلى دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم أقسام ثلاثة :

(١) عارف صحتها ، موقن بصدقها ، لا يدور بخلده تردّد ولا شكّ ، وهذا هو المؤمن الكامل الذي يخشى ربه.

(٢) متردد متوقف إلى أن يقوم لديه البرهان ، فإذا هو سنح له بادر إلى التصديق بها ، وهذا أدنى من سابقه.

١٢٦

(٣) شقىّ معاند لا يلين قلبه للذكرى ، ولا تنال الدعوة من نفسه قبولا ، وهو شر لأقسام الثلاثة ، وأبعدها من الخير.

ثم بيّن عاقبة هذا الأشقى ومآل أمره فقال :

(ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى) أي ومن شقى هذا الشقاء ، ولقى هذا العذاب بتلك النار ـ يخلد فيها ، ولا يقف عذابه عند غاية ، ولا يجد لآلامه نهاية ، فلا هو يموت فيستريح ، ولا يحيا الحياة الطيبة فيسعد بها.

ونحو الآية قوله : «لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا. وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها».

والعرب تقول لمن هو مبتلى بمرض يقعده : لا هو حىّ فيرجى ، ولا ميت فينعى.

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (١٤) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (١٥) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (١٦) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى (١٧) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (١٨) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى (١٩))

شرح المفردات

أفلح : أي فاز ونجا من العقاب وتزكى : أي تطهر من دنس الرذائل ، ورأسها جحد الحق وقسوة القلب ، وذكر اسم ربه : أي ذكر فى قلبه صفات ربه من الكبرياء والجلال ، فصلى : أي فخشع وخضعت نفسه لأوامر بارئه ، تؤثرون : أي تفضلون.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر وعيد الذين أعرضوا عن النظر فى الدلائل التي تدل على وجود الله ووحدانيته وإرسال الرسل وعلى البعث والحساب ـ أتبعه بالوعد لمن زكى نفسه

١٢٧

وطهرها من أدران الشرك والتقليد للآباء والأجداد ـ بالفوز بالفلاح والظفر بالسعادة فى دنياه وآخرته.

ثم ذكر أن من طبيعة النفوس حبّ العاجلة ، وتفضيلها على الآجلة ، ولو فكروا قليلا لا ستبان لهم أن الخير كل الخير فى تفضيل الثانية على الأولى.

ثم أرشد إلى أن أسس الدعوة الدينية فى كل الأديان واحدة ، فما فى القرآن هو ما فى صحف إبراهيم وموسى.

الإيضاح

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) أي قد أدرك الفلاح ، وظفر بالبغية من طهر نفسه ونقاها من أوضار الكفر ، وأزال عنها أدران الشرك والآثام.

ومن هذا تعلم أن تزكية النفس إنما تكون بالإيمان بالله ونفى الشركاء ، والتصديق بكل ما جاء به رسوله صلى الله عليه وسلم مع صالح العمل.

(وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) أي وأحضر فى قلبه صفات ربه من الجلال والكمال فخضع لجبروته وقهره. فإن المرء متى تذكر ربه العظيم وجل قلبه ، وخاف من سطوته وامتلأت نفسه خشية منه ورهبة لجلاله ، كما قال فى آية أخرى : «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ».

ثم رد سبحانه على قوم ممن قست قلوبهم ، ولم يأخذوا من العبادات إلا بصورها وظنوا أن ذلك هو غاية ما يطالب الله عباده بقوله.

(بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا ، وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقى) أي أنتم كاذبون فيما زعمتم لأنفسكم من حسن العمل ، لأنكم لو كنتم صادقين فيما ذهبتم إليه لكنتم تفضلون الآخرة على الدنيا ، كما يرشد إلى ذلك العقل ، ويهدى إليه الشرع ، فمتاع الآخرة دائم ونعيمها لا يزول ، ولا تنغيص فيه ولا منّ ، ومتاع الدنيا متاع زائل تشوبه الأكدار ، وتحوط به الآلام ، فمن استعجل هذا النعيم ، واستحب زينة الدنيا

١٢٨

لا يكون مصدّقا بالآخرة ونعيمها ، أو يكون إيمانه إيمانا لا يجاوز طرف لسانه ، ولا يصل إلى قلبه ، فلا يجازى عليه الجزاء الذي وعد به المؤمنون.

ثم بين أن الأصول العامة التي جاءت فى هذه الشريعة هى بعينها التي جاءت فى جميع الشرائع السماوية فقال :

(إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى) أي إن ما أوحى به إلى نبيه من أمر ونهى ووعد ووعيد هو بعينه ما جاء فى صحف إبراهيم وموسى ، فدين الله واحد ، وإنما تختلف صوره ، وتتعدد مظاهره ، فإذا كان المخاطبون قد آمنوا بإبراهيم أو بموسى فعليهم أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، لأنه لم يأت إلا بما جاء فى صحفهم ، وإنما هو مذكّر أو محى لما مات من شرائعهم.

ونحو الآية قوله : «وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ. نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ. عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ. بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ. وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ» وقوله جل شأنه : «شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ، وَما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَمُوسى وَعِيسى».

وقصارى ذلك ـ أن الرسول صلى الله عليه وسلم ما جاء إلا مذكرا بما نسيته الأجيال من شرائع المرسلين ، وداعيا إلى وجهها الصحيح الذي أفسده كرّ الغداة ومر العشىّ ، كما طمس معالمه اتباع الأهواء ، واقتفاء سنن الآباء والأجداد.

اللهم وفقنا لسلوك دينك الحق ، واهدنا إلى صراطك المستقيم ، صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين.

١٢٩

سورة الغاشية

هى مكية ، وآياتها ست وعشرون ، نزلت بعد سورة الذاريات.

ومناسبتها لما قبلها ـ أنه أشير فى السورة السابقة إلى المؤمن والكافر والجنة والنار إجمالا ، وبسط الكلام فيها هنا.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (١) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (٢) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (٣) تَصْلى ناراً حامِيَةً (٤) تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (٥) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (٦) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (٧))

شرح المفردات

الغاشية : القيامة ، سميت بذلك لأنها تغشى الناس بشدائدها وأهوالها ، خاشعة : أي ذليلة : عاملة : أي وقع منها عمل فى الدنيا ، ناصبة : أي تعبة من قولهم نصب فلان بالكسر : أي تعب ، تصلى من قولهم صلى النار (بالكسر) أي قاسى حرها ، حامية : أي متناهية فى الحرّ من قولهم حميت النار إذا اشتد حرها ، والعين : ينبوع الماء ، والآنية الشديدة الحر ، والضريع : شجر ذو شوك لائط بالأرض ، فإذا كان رطبا سمى بالشّبرق ، قال أبو ذؤيب الهذلي :

رعى الشبرق الريان حتى إذا ذوى

وصار ضريعا بان عنه النحائص

الإيضاح

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) أي هل بلغك نبأ يوم القيامة وعلمت قصصه ، وإننا سنعلمك شأنه الخطير.

١٣٠

وهذا أسلوب من الكلام لا يراد منه حقيقة الاستفهام ، بلى يراد منه تعجيب السامع مما سيذكر بعد ، وتشويقه إلى استماعه ، وتوجيه فكره إلى أنه من الأحاديث التي من حقها أن تتناقلها الرواة ، ويحفظها الوعاة.

ثم فصل شأن أهل الموقف فى ذلك اليوم ، وذكر أن أهله فريقان : فريق الكفرة الفجرة. وفريق المؤمنين البررة ، وقد أشار إلى الأولين بقوله :

(١) (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ) أي وجوه يومئذ يظهر عليها الخزي والهوان مما ترى وتشاهد من الهول.

ونحو الآية قوله : «وَلَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ» وقوله : «وَتَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ».

والخشوع والذل وإن كان فى الحقيقة لأرباب الوجوه ، نسب إلى الوجوه لما كان أثره يظهر عليها.

ثم وصف الوجوه بصفات أخرى فقال :

(عامِلَةٌ ناصِبَةٌ) أي إن هؤلاء الكفار كانوا فى حياتهم الدنيا يعملون ويجتهدون فى أعمالهم ، لكن لم يتقبلها ربهم ، لأنهم لم يقدّموا عليها الإيمان بالله ورسوله ، وهو الدعامة الأولى فى قبول العمل عنده ، ولأنهم لم يقصدوا بها وجهه تعالى ، ولأنهم كانوا يجتهدون فى مشاقة الله ورسوله ويسعون فى الأرض فسادا.

والخلاصة ـ إن هؤلاء الكفار وقع منهم فى الدنيا عمل ، وأصابهم فيه تعب ونصب ، لكنهم لم يستفيدوا منه شيئا ، فآثار الخيبة وحبوط العمل بادية على وجوههم.

ثم ذكر جزاءها فى هذا اليوم فقال :

(تَصْلى ناراً حامِيَةً) أي هذه الوجوه تقاسى حر النار وتعذب بها ، لأن أعمالها

١٣١

فى الدنيا كانت خاسرة ، غلبها الشر ، وجانبها الخير ، وهذه النار الحامية لا نعرف كنهها ، ولكن علينا أن نؤمن بها ، وبأن حلفاء الباطل يصلونها.

(تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) أي إن أهل النار إذا عطشوا فى تلك الدار وطلبوا ما يطفئ غتّهم ، جىء لهم بماء من ينبوع بلغ من الحرارة غايتها ، فهو لا يطفىء لهبا ، ولا ينقع غلّة.

وبعد أن ذكر شرابهم أردفه بوصف طعامهم فقال :

(لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ) أي إنهم إذا أحسوا بالجوع وطلبوا الطعام أتى لهم بالضريع وهو ذلك المرعى السوء الذي لا تعقد عليه السائمة شحما ولا لحما ، وإن لم تفارقه إلى غيره ساءت حالها ، والمراد بهذا كله أنه يؤتى لهم بردىء الطعام.

ثم وصف هذا الضريع بأنه لا يجدى ولا يفيد فقال :

(لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) أي إن هذا الطعام لا يدفع جوعا ، ولا يفيد سمنا ، فليس له فائدة الطعام التي لأجلها يؤكل فى الدنيا ، وقد سمى الله ذلك الطعام بالضريع تشبيها له ، وإلا فذلك العالم ليس فيه نمو أبدان ولا تحلل مواد على النحو الذي يكون فى الدنيا ، بل هو عالم خلود وبقاء ، واللذائذ فيه لذائذ سعادة ، والآلام آلام شقاء ، فكل ما فى ذلك العالم إنما يقع بينه وبين ما فى عالمنا نوع مشابهة ، لا اتفاق ولا مجانسة.

وقد جاء فى سورة الحاقة فى طعام الكافرين : «وَلا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ» وفى سورة الواقعة : «ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ. لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ» وفى سورة الدخان : «إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ».

فهذا كله يدل على أن طعام النار شىء يوافق النشأة الآخرة ، عبر عنه بعبارات مختلفة ، ليصور فى أذهاننا بشاعته وخبثه ، لتنفر منه نفوسنا ، وتطلب كل وسيلة للفرار منه ، فتبتعد عن العقائد الفاسدة ، والأعمال الخاسرة.

١٣٢

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (٨) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (٩) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (١٠) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (١١) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (١٢) فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (١٣) وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (١٤) وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (١٥) وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (١٦))

شرح المفردات

ناعمة : أي ذات بهجة وحسن ، عالية : أي فى المكان ؛ لأن الجنة منازل ودرجات بعضها أعلى من بعض ، واللاغية : اللغو والكذب والبهتان ، عين جارية :

أي ينبوع ماء جار ، والسرر : واحدها سرير وهو ما يجلس أو ينام عليه ، وأفضله ما كان مرفوعا عن الأرض ، والأكواب : واحدها كوب وهو ما لا عروة له من الكيزان ، موضوعة : أي معدة ومهيأة للشراب ، والنمارق : واحدها نمرقة (بضم النون وكسرها) وهى الوسادة قال :

كهول وشبّان حسان وجوههم

على سرر مصفوفة ونمارق

والزرابيّ : واحدها زربىّ (بكسر الزاى) وزربية وهو البساط ، وأصل الزرابي أنواع النبات إذا احمرت واصفرت وفيها خضرة ، ويقال أزرب النبات إذا صار كذلك سموا بهذا البسط لشبهها به ، ومبثوثة : أي مفرقة فى المجالس بحيث يرى فى كل مجلس شىء منها كما يرى فى بيوت ذوى الثراء.

الإيضاح

بعد أن وفى الكفرة الفجرة حقهم من الوصف ـ وصف أهل الإخلاص والصدق لتقرّ أعينهم بما سيلقون من فضله فقال :

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ) أي ووجوه يومئذ ذات نضرة وبهجة كما قال : «تَعْرِفُ

١٣٣

فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ» ولا تكون كذلك إلا إذا كانت منعمة فرحة بما لاقت جزاء سعيها فى الدنيا ورضى الله عنها ومن ثم قال :

(لِسَعْيِها راضِيَةٌ) أي إنهم جميعا يسعون فى العمل لله حين رأوا ثمرته وعاقبته الحسنى ، كالرجل يعمل العمل فيجزى عليه الجميل ، ويظهر له منه عاقبة حميدة ، فيقول ما أحسن ما عملت ، ولقد وفقت إلى الصواب فيما فعلت.

وبعد أن وصف أهل الثواب وصف ديارهم بسبعة أوصاف فقال :

(١) (فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ) أي عالية المكان مرتفعة على غيرها من الأمكنة ، لأن الجنة منازل ودرجات بعضها أعلى من بعض ، كما أن النار دركات بعضها أسفل من بعض.

وقد يكون المراد منه العلوّ فى الدرجة ، لأن نعيم الجنة بعضه أرفع من بعض ؛ فالنعيم الذي يتمتع به السابقون من الأنبياء والشهداء والصالحين أعلى منزلة وأرفع قدرا مما يتمتع به الذين اتبعوهم بإحسان.

(ب) (لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً) أي إنها منزهة عن اللغو ، إذ أنها منزل جيران الله وأحبائه ، وقد نالوها بالجد والعمل لا باللغو ، ومنازل أهل الشرف فى الدنيا تكون مبرأة من اللغو والكذب والبهتان ، فكيف بأرفع المجالس فى جوار رب العالمين ، ومالك قلوب الخلق أجمعين.

(ح) (فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ) أي فى تلك الجنة ينبوع ماء جار ، والمياه الجارية من الينابيع تكون صافية ، وفى منظرها مسرة للنفوس ، وقرّة للعيون ، وقد افتخر بمثلها فرعون فقال : «أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي».

(د) (فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ) أي مرفوعة عالية إذا جلس عليها المؤمن رأى جميع ما أعطاه الله من النعيم ورأى من فى الجنة وفى ذلك من التشريف والتكريم ما لا خفاء فيه.

١٣٤

(ه) (وَأَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ) على حافات العيون كلما أرادوا الشرب وجدوها.

(و) (وَنَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ) أي ووسائد مصفوف بعضها إلى جوانب بعض ، فإن شاءوا جلسوا عليها ، وإن أرادوا استندوا إليها ، وإن أحبوا أن يجلسوا على بعضها ويستندوا إلى بعض فعلوا.

(ز) (وَزَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ) أي وبسط مبسوطة فى المجالس ، بحيث يرى فى كل مجلس من مجالسهم منها شىء ، كما يرى فى بيوت المترفين وذوى الثراء فى الدنيا.

وقد ذكر سبحانه كل ما سلف تصويرا لترف أهل الجنة تصويرا يقرّبه من عقولهم ، ويستطيعون به إدراكه وفهمه ، وإلا فإن نعيم الجنة مما يسمو على الفكر ويعلو فوق متناول الإدراك ؛ فالأشياء التي عدّدها سبحانه تتشابه مع نظائرها التي فى هذه الحياة بأسمائها ، فأما حقائقها وذواتها فليست مثلها ولا قريبا منها ، كما أثر عن ابن عباس أنه قال : ليس فى الدنيا مما فى الآخرة إلا الأسماء.

(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (١٧) وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (١٨) وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (١٩) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (٢٠))

شرح المفردات

الإبل : واحدها بعير ولا واحد لها من لفظها كنساء وقوم ، ورفع السماء.

إمساك ما فوقنا من شموس وأقمار ونجوم ، ونصب الجبال : إقامتها أعلاما للسائرين ، وملجأ للحائرين ، وسطح الأرض : تمهيدها وتوطئتها للإقامة عليها والمشي فى مناكبها.

١٣٥

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه مجىء يوم القيامة ، وبين أن الناس حينئذ صنفان أشقياء وسعداء ؛ وأن الأشقياء يكونون فى غاية الذل والهوان ، وأن السعداء يكونون يومئذ مستبشرين بادية على وجوههم علائم المسرة ـ أعقب هذا بإقامة الحجة على الجاحدين المنكرين لذلك ، وتوجيه أنظارهم إلى آثار قدرته فيما بين أيديهم ، وما يقع تحت أبصارهم من سماء تظلّ ، وأرض تقلّ ، وإبل ينتفعون بها فى حلّهم وترحالهم ، ويأكلون من لحومها وألبانها ويلبسون من أوبارها ، وجبال تهديهم فى تلك الفيافي والقفار.

أخرج عبد بن حميد فى آخرين عن قتادة قال : لما نعت الله تعالى ما فى الجنة تعجب من ذلك أهل الضلالة ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات.

الإيضاح

(أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ) أي أينكر هؤلاء المشركون ما ذكرنا من أمر البعث وما يتصل به من سعادة وشقاء ، ويستبعدون وقوعه ، ولا يتدبرون فى الإبل التي هى نصب أعينهم ، ويستعملونها فى كل حين؟ ولو أنهم تدبروا فى خلقها لرأوا خلقا بديعا لا يشاكل خلق أكثر الحيوان ، فلها من عظم الجثة ، وشدة القوة ، وعظيم الصبر على الجوع والعطش ما لا يشاركها فيه حيوان آخر ـ إلى أنها تحتمل المشاقّ ، وتنهض بالأوقار ، وتقطع شاسع المسافات ، حتى لقبوها : سفينة الصحراء ـ قال شاعرهم :

ما فرّق الألا

ف بعد الله إلا الإبل

وما غراب

البين إلا ناقة أو جمل

إلى أنها تنقاد للصغير والكبير وتحمل أذاهما. قال العباس بن مرداس :

وتضربه الوليدة بالهراوى

فلا غير لديه ولا نكير

١٣٦

وتكتفى فى المرعى بما تيسر لها من الشوك والشجر ، إلى أنها أعجب ما عندهم ، وهم واقفون على أحوالها ، عالمون بطباعها.

وجاء الكلام بطريق الاستفهام ، إنكارا عليهم ، وتوبيخا لهم على جحد أمر البعث.

(وَإِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ) أي ألا يشاهدون السماء وقد رفعت رفعا سحيق المدى بغير عمد؟

(وَإِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ) أي وإلى الجبال كيف وضعت وضعا ثابتا لا ميدان فيه ولا اضطراب ، فيتسنى ارتقاؤها فى كل حين ، وتجعل أمارة للسالكين فى تلك الفيافي والقفار ، وتنزل عليها المياه التي ينتفع بها فى سقى النبات ورىّ الحيوان.

(وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ) ومهدت على ما يقتضيه صلاح أمور ساكنيها وانتفاعهم بما فى ظاهرها من المنافع وما فى باطنها من المعادن.

وقصارى ما سلف ـ إنه لو نظر هؤلاء الجاحدون المعاندون فيما تقع عليه أنظارهم من هذه الأشياء وفكروا فيها ، لعلموا أنها صنعة لا توجد إلا بموجد عظيم ، ولا تحفظ إلا بحافظ قدير ، ولأدركوا أن القادر على خلق هذه المخلوقات وسوّاها وحفظها ووضعها على قواعد الحكمة ـ قادر على أن يرجع الناس فى يوم يوفى فيه كل عامل جزاء عمله ، وأن ينشئ النشأة الآخرة من غير أن يعرفوا طريق إنشائها ، فلا ينبغى أن يكون جهلهم بكيفية يوم القيام سببا فى جحده وإنكاره.

وإنما خص هذه المخلوقات بالذكر ، لأن الناظر منهم يفكر فى أقرب الأشياء إليه ، فهو يرى بعيره الذي يمتطيه ، ثم إذا هو رفع رأسه فوق رأى السماء ، ثم إذا التفت يمنة أو يسرة رأى ما حواليه من الجبال ؛ فإذا مدّ ناظريه أمامه أو تحته رأى الأرض ، فالعربى يرى ذلك كل يوم ، ومن ثمّ أمره الله بالتدبر فيها.

١٣٧

(فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (٢١) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (٢٢) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (٢٣) فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (٢٤) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (٢٥) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (٢٦))

شرح المفردات

فذكر : أي عظ قومك وابعثهم على النظر فى ملكوت السموات والأرض ، بمسيطر : أي بمسلط تجبرهم على ما تريد ، إيابهم : أي رجوعهم.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه دليل قدرته تعالى على بعث الأجساد ولفت أنظار الجاحدين إلى مظاهر قهره وغلبته لهذا العالم ، ثم وبخهم على إنكارهم وتماديهم فى باطلهم ، على وضوح الحجة وظهور البرهان ، أردف ذلك أمره صلى الله عليه وسلم أن يذكرهم بهذه الأدلة وأشباهها مما لا يبقى معه مجال للشك والتردد.

الإيضاح

(فَذَكِّرْ) بآياتى ، وعظهم بحججي ، وبلغهم رسالاتى ، وحذرهم أن يتركوا ذلك ، ثم بعدئذ لا تذهب نفسك عليهم حسرات إن لم يؤمنوا.

ثم علل الأمر بالتذكير فقال :

(إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ) أي إنما بعثت للتذكير فحسب ؛ وليس من الواجب عليك أن يؤمنوا : فما عليك إلا التبشير والتحذير ، فإن آمنوا فقد اهتدوا إلى ما تسوق إليه الفطرة ، وإن أعرضوا فقد تحكمت فيهم الغفلات ، وتغلبت عليهم الشهوات ، واستولت على عقولهم الأهواء والجهالات.

ثم أكد الإنذار وقرره بقوله :

١٣٨

(لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ) أي لست عليهم بمسلط تجبرهم على ما تريد ، وتتعهد أحوالهم ، وتكتب أعمالهم ، فلم نؤت قوة الإكراه على الإيمان ، والإلجاء إلى ما تدعوهم إليه كما قال : «أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ؟» وقال : «وَما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ».

(إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ. فَيُعَذِّبُهُ اللهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ) أي إنك وإن كنت داعيا وليس لك سلطان على ما فى نفوسهم ، فالله هو المسيطر عليهم ، وصاحب السلطان على سرائرهم ؛ فمن تول منهم وأعرض عن الذكرى ، وجحد الحق المعروض عليه ؛ فالله يعذبه العذاب الأكبر فى الآخرة ؛ وقد يضم إلى ذلك عذابا فى الدنيا من قتل أو سبى الذرية أو غنيمة للأموال ، إلى نحو أولئك من صنوف البلاء التي ينزلها بهم.

ثم أكد تعذيب الله لمن تولى وكفر فقال :

(إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ. ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ) أي لا مفرّ للمعرضين ، ولا خلاص لهم من الويل الذي أوعدوا به ؛ فإنهم راجعون إلينا ، وقد حق القول منا فى عقابهم وسنحاسبهم على ما كسبت أيديهم.

وفى هذا تسلية لقلب رسوله ، وإزالة أحزانه وآلامه ، لتكذيبهم إياه ، وإصرارهم على معاندته.

وصلى الله على محمد وآله البررة الكرام.

مقاصد هذه السورة

تضمنت هذه السورة ثلاثة مقاصد :

(١) وصف أهل الجنة ووصف أهل النار.

(٢) ذكر عجائب الصنعة الإلهية.

(٣) أمر رسوله صلى الله عليه وسلم بالتذكير بما أرسل إليه من الشرائع.

١٣٩

سورة الفجر

هى مكية ، وآياتها ثلاثون ، نزلت بعد سورة الليل.

ومناسبتها لما قبلها.

(١) أنه ذكر فى تلك الوجوه الخاشعة والوجوه الناعمة ، وذكر فى هذه طوائف من المكذبين المتجبرين الذين وجوههم خاشعة ، وطوائف من الذين وجوههم ناعمة.

(٢) أن القسم الذي فى أول السورة كالدليل على صحة ما تضمنته خاتمة السورة السابقة من الوعد والوعيد.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْفَجْرِ (١) وَلَيالٍ عَشْرٍ (٢) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (٤) هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (٥))

الإيضاح

(وَالْفَجْرِ) الفجر هو الوقت الذي ينشق فيه الضوء ، وينفجر النور ، وقد أقسم ربنا به ، لما يحصل فيه من انقضاء الليل ، وظهور الضوء ، وما يترتب على ذلك من المنافع كانتشار الناس وسائر الحيوان من الطير والوحش لطلب الرزق ، وهو كقوله : «وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ» وقوله : «وَالصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ».

(وَلَيالٍ عَشْرٍ) هى عشر ليال يتشابه حالها مع حال الفجر ، فيكون ضوء القمر فيها مطارد الظلام الليل إلى أن تغلبه الظلمة ، كما يهزم ضوء الصبح ظلمة الليل حتى يسطع النهار ، ولا يزال الضوء منتشرا إلى الليل الذي بعده.

١٤٠