تفسير المراغي - ج ٣٠

أحمد مصطفى المراغي

وضوء الأهلة فى عشر ليال من أول كل شهر يشق الظلام ، ثم لا يزال الليل يغالبه إلى أن يغلبه ، فيسدل على الكون حجبه ، وهذه الليالى العشر غير متعينة فى كل شهر فإن ضوء الهلال قد يظهر حتى تغلبه الظلمة فى أول ليلة من الشهر.

وقد يكون ضئيلا يغيب ضوؤه فى الشفق فلا يعدّ شيئا.

والخلاصة ـ إن الليالى العشر تارة تبتدئ من أول ليلة ، وأخرى من الليلة الثانية.

(وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) أي والزوج والفرد من هذه الليالى ؛ فهو سبحانه أقسم بالليالي جملة ثم أقسم بما حوته من زوج وفرد.

وبعد أن أقسم بضروب من الضياء أقسم بالليل مرادا منه الظلمة فقال :

(وَاللَّيْلِ إِذا يَسْرِ) أي والليل إذا يمضى ويذهب ، وهو كقوله : «وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ» وقوله : «وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ».

ونعمة الله على عباده بتعاقب الليل والنهار واختلاف مقاديرهما بحسب الأزمنة والفصول ـ مما لا يجحدها إلا مكابر ، لا جرم أقسم ربنا بهما تنبيها إلى أن تعاقبهما بتدبير مدبر حكيم ، عالم بما فى ذلك من المصلحة لعباده.

انظر إلى ما فى إقبال الصبح من عميم النفع ، فإنك لترى أنه يفرج كربة الليل وينبه إلى استقبال العمل ، وكذلك تدرك ما فى الليالى المقمرة من فائدة ، فهى تستميل النفس إلى النّقلة ، وتيسر للناس النّجعة ، وبخاصة فى أيام الحر الشديد فى بلاد كبلاد العرب.

وكذا نعرف ما فى الظلام من منفعة ، فإن فيه تهدأ النفوس ، وتسكن الخواطر وتستقر الجنوب فى مضاجها ، لتستريح من عناء العمل ، وتستعين بالنوم على إعادة القوى ، وتختفى الناس من مطاردة اللصوص ، ولله در المتنبي حيث يقول :

وكم لظلام الليل عندك من يد

تخبّر أنّ المانوية تكذب

١٤١

ثم قرر فخامة الأشياء التي أقسم بها قبل ، وكونها أهلا لأن تعظم فقال :

(هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) الحجر (بكسر الحاء وسكون الجيم) العقل ، ويقولون : فلان ذو حجر : إذا كان قاهرا لنفسه ، ضابطا لها ، مضيّقا عليها.

والمراد أن من كان ذا لبّ وعقل يفطن إلى أن فى القسم بهذه المخلوقات المشتملة على باهر الحكمة ، وعجيب الصنعة ، الدالة على وحدانية صانعها ـ مقنعا أيّما مقنع ، وكفاية أعظم كفاية.

وجاء الكلام بصورة الاستفهام لتأكيد المقسم عليه وتقريره ، كما تقول لمن يحاجّك فى أمر ثم تقيم له الحجة الناصعة التي تثبت ما تدّعى : هل فيما ذكرت لك كفاية ، ومرادك أنى قد ذكرت لك أقوى الحجج وأبينها ، فلست تستطيع جحد ما قلت بعد هذا.

وجواب القسم محذوف يدل عليه قوله بعد : «أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ» الآية ، ويقدر بنحو قوله إن ناصية المكذبين بيدي ، ولئن أمهلتهم فلن أهملهم ، ولآخذنهم أخذ الأمم قبلهم ، وقد ترك لتسترسل نفس القارئ فى تأمل ما مضى وما يتبع ليجد الجواب بينهما ، فيتمكن المعنى لديه فضل تمكن.

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (٦) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (٧) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (٨) وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (٩) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (١٠) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (١١) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (١٢) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (١٣) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (١٤))

شرح المفردات

عاد : جيل من العرب البائدة يقولون إنه من ولد عوص بن إرم بن سام بن نوح عليه السلام ، ويلقب أيضا بإرم ، وذات العماد : أي سكان الخيام ، وكانت منازلهم بالرمال والأحقاف إلى حضر موت.

١٤٢

وثمود : قبيلة من العرب البائدة كذلك وهى من ولد كاثر بن إرم بن سام ، ومنازلهم بالحجر بين الشام والحجاز ، جابوا الصخر : أي قطعوه ونحتوه ، بالواد : أي الوادي الذي كانوا يسكنون فيه ، وفرعون : هو حاكم مصر الذي كان فى عهد موسى عليه السلام ، والأوتاد : المبانى العظيمة الثابتة ، والطغيان : تجاوز القدر فى الظلم والعتوّ ، وصب : أي أفرغ وألقى ، وسوط عذاب : أي أنواعا من العقوبات التي أنزلها عليهم جزاء طغيانهم ، والمرصاد : هو المكان الذي يقوم فيه الرصد ، والرصد من يرصد الأمور : أي يترقبها ليقف على ما فيها من الخير والشر ، ويطلق أيضا على الحارس الذي يحرس ما يخشى عليه.

المعنى الجملي

بعد أن أقسم سبحانه أنه سيعذب الكافرين جزاء كفرهم وإصرارهم على مخالفة أوامره ـ شرع يذكر بعض قصص الأمم السالفة ممن عاندوا الله ورسوله ولجوا فى طغيانهم فأوقع بهم شديد العذاب وأخذهم أخذ العزيز الجبار ، ليكون فى ذلك زجر لهؤلاء المكذبين. وتثبيت للمؤمنين الذين اتبعوا الرسول وناصروه ، وتطمين لقلوبهم بأن أعداءهم سيلقون ما يستحقون من الجزاء.

الإيضاح

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ. الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ؟) أي ألم تعلم أيها الإنسان ، كيف أهلك ربك عادا الأولى الذين كانوا أشد الناس أجساما وأطولهم قامة ، وأرفعهم مكانة ، والذين لم يخلق فى البلاد كلها مدينة كمدينتهم.

(وَثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ) أي وثمود الذين قطعوا الصخر ونحتوه وبنوا منه القصور والأبنية العظيمة كما قال فى آية أخرى : «وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ».

١٤٣

وفى هذا دليل على ما أنعم الله به عليهم من القوة والعقل وحسن التدبير.

(وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ) أي وفرعون ذى المبانى العظيمة التي شادها هو ومن قبله من فراعنة مصر فى قديم الأزمان كالأهرام وغيرها وما أجمل التعبير عما تركه المصريون من الأبنية الباقية بالأوتاد ، فإن شكل هياكلهم العظيمة شكل الأوتاد المقلوبة ، إذ يبتدئ البناء عريضا وينتهى بأدق مما بدأ.

ثم وصف من سبق ذكرهم بأقبح الأوصاف فقال :

(الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ. فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ) أي هؤلاء الذين سلف ذكرهم من عاد وثمود وفرعون قد استعملوا سلطانهم وقوتهم فى هضم حقوق الناس ، واغتروا بعظيم قدرتهم ، فكانوا سببا فى إفساد البلاد.

ذاك أن من اغتر بنفسه وتهاون بحقوق غيره واعتدى عليها ، وأخذ ما ليس له ولم يعط الذي عليه ـ يكون قد فكك شمل الجماعة وأفسد فى البلاد ، فيختل نظام العمران ، ويقف دولاب التعامل ، ويوجس كل امرئ خيفة من بنى جلدته ، ولا شك أن أمما هذه حالها تكون عاقبتها الخراب والدمار ، ومن ثم ذكر عاقبة أمرها فقال :

(فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ) أي فأنزل الله تعالى بهم ألوانا من البلاء ، وشديد العقاب.

وقد شبه سبحانه ما أوقعه بهم من صنوف العذاب ، وما صبّه عليهم من ضروب الهلاك ـ بالسوط ، من قبل أن السوط يضرب به فى العقوبات ، والله يوقع العذاب بالأمم عقوبة لها على ما يقع منها من أنواع التفريط فى أوامر دينه.

ثم ذكر العلة فى تعذيبه لهم فقال :

(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ) أي إن شأن ربك ألا يفوته من شئون عباده نقير

١٤٤

ولا قطمير ، ولا يهمل أمة تعدّت فى أعمالها حدود شرائعه القويمة ، بل يأخذها بذنوبها أخذ العزيز المقتدر ، كما يأخذ الراصد القائم على الطريق من يمر به بما يريد من خير أو شر ، لا يفرّط فيما رصد له.

وقد أجمل الله فى هذه الآيات ما أوقعه بهذه الأمم من العذاب ، وفصله فى غير موضع من كتابه الكريم ، فقال فى سورة الحاقة : «فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ وَأَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً. فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ. فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ» وقال : «وَجاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ. فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً».

والحكمة فى تكرار القصص فى القرآن الكريم ، وفى ذكر بعضها على طريق الإشارة فى بعض المواضع ، وبالتفصيل فى بعض آخر ـ أنه قد يكون الغرض تارة إقامة الحجة على قدرته تعالى ، وتوحده فى ملكه ، وقهره لعباده حينا ، وترقيق قلوب المخاطبين حينا آخر ، وإنذار عباده وإعذارهم مرة ثالثة ، ولا شك أن كل مقام من الكلام له لون منه من بسط أو إيجاز لا يكون لغيره.

وقد عرفت أن الغرض هنا تطييب خاطر الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه بأن الله سيمهل الكافرين ولا يهملهم ، وهو ليس بغافل عنهم ، وحينئذ تدرك أن الإشارة إلى أن هذه الأمم أخذت وعذبت ولم تترك سدى ـ كافية جدّ الكفاية لمن فكر وتدبر.

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (١٥) وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (١٦))

١٤٥

شرح المفردات

ابتلاه : أي اختبره ببسط الرزق وإقتاره ، فأكرمه : أي صيره مكرما يرفل فى بحبوحة النعيم ، قدر عليه رزقه : أي صيره فقيرا مقترا عليه فى الرزق ، تقول قدرت عليه الشيء : أي ضيقته عليه ، وكأنك جعلته بقدر لا يتجاوزه كما قال : «وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللهُ».

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه أنه لا يفوته من شأن عباده شىء. وأنه يأخذ كل مذنب بذنبه ـ أردف ذلك ذكر شأن من شئون الإنسان ، وبين أنه لا يهتم إلا بأمور الدنيا وشهواتها ، فإذا أنعم الله عليه وأوسع له فى الرزق ظن أنه قد اصطفاه ورفعه على من سواه وجنبه منازل العقوبة ، فيذهب مع هواه ويفعل ما يشتهى ، ولا يبالى أكان ما يصنع خيرا أم شرا ، فيطغى ويفسد فى الأرض ، وإذا ضيق عليه الرزق (وقد يكون ذلك لتمحيص قلبه بالإخلاص أو لتظهر قوة صبره ، فإن الفقر لا يزيد ذوى العزائم إلا شكرا) يقول ربى قد أهاننى ، ومن أهانه الله وصغرت قيمته لديه لم يكن له عناية بعمله ، فكيف يؤاخذه بما يصدر منه من شر ، أو يكافئه على ما يصنع من خير ، فلا شكره يكافأ بإحسان ، ولا كفره يجازى بعقوبة ، فينطلق يكسب عيشه بأى وسيلة عنّت له ، ولا تحجزه شريعة ، ولا يقف أمام قانون ، ويسلك سبيل الجبارين ، ويبخس الحقوق ، ويفسد نظم المجتمع ، ولا تزال أحوال الناس هكذا كما وصف الله ؛ فأرباب السلطان يظنون أنهم فى أمن من عقاب ربهم ولا يذكرونه إلا بألسنتهم ، ولا يعرف له سلطان على قلوبهم ، والفقراء الأذلاء صغرت نفوسهم عند أنفسهم ، لا يبالون ماذا يفعلون؟

١٤٦

الإيضاح

(فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) أي إن الإنسان إذا أنعم الله عليه وأوسع له فى الرزق ـ زعم أن هذا الذي هو فيه من السعة ـ إكرام من الله له ، وخيّل إليه الوهم أن الله لا يؤاخذه غلى ما يفعل ، فيطغى ويفسد فى الأرض.

(وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ) أي وإن رأى أن رزقه لا يأتيه إلا بقدر ظن أن ذلك إهانة من الله له وإذلال لنفسه.

والإنسان فى الحالين مخطئ مرتكب أشنع وجوه الغفلة ، لأن إسباغ النعمة فى الدنيا على أحد لا يدل على أنه مستحق لذلك ، ولو دل على هذا لما رأيت عاصيا موسعا عليه فى الرزق ، ولا شاهدت كافرا ينعم بصنوف النعم.

ولعل من حكمة الله فى بسط الرزق على بعض الناس وتضييقه على بعض آخر أن وجدان المال سبب للانغماس فى الشهوات ، وأنه قاطع عن الاتصال بالله ، وأن فقدانه وسيلة لتمحيص المرء وابتلائه ليكون من الصابرين الذين وعدوا بالجنة.

انظر إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم فيما كان يدعو به ربه من قوله : «اللهم أحينى مسكينا ، وأمتنى مسكينا ، واحشرني فى زمرة المساكين» تدرك سر ذلك.

إلى أن من يمتحنهم الله بإسباغ النعمة عليهم يظنون أن الله قد اصطفاهم على عباده ورفعهم فوق سائر خلقه ، ثم لا يزال بهم شيطان الغواية حتى يذهبوا مع أهوائهم كل مذهب ، ويسيروا فى طريق شهواتهم المهلكة إلى أبعد غاية ، لا يرجعون إلى ربهم ، ولا يدركون أن ما عنده خير وأبقى.

١٤٧

(كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (١٧) وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (١٨) وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (١٩) وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (٢٠))

شرح المفردات

ولا تحاضون : أي لا يأمر بعضكم بعضا ، والتراث : الميراث ، لمّا : أي شديدا ، جمّا : أي كثيرا قال :

إن تغفر اللهمّ تغفر جمّا

وأىّ عبد لك لا ألمّا

المعنى الجملي

بعد أن بين خطأ الإنسان فيما يعتقد إذا بسط له الرزق أو قتر عليه ـ أردف ذلك زجرهم عما يرتكبون من المنكرات ، وأبان لهم أنه لو كان غنيهم لم يعمه الطغيان ، وفقيرهم لم يطمس بصيرته الهوان ، وكانوا على الحال التي يرتقى إليها الإنسان ـ لشعرت نفوسهم بما عسى يقع فيه اليتيم من بؤس ، فعنوا بإكرامه فإن الذي يفقد أباه معرّض لفساد طبيعته إذا أهملت تربيته ، ولم يهتم بما فيه العناية به ورفع منزلته ، ولو كانوا على ما تحدثهم به أنفسهم من الصلاح لوجدوا الشفقة تحرك قلوبهم إلى التعاون على طعام المسكين الذي لا يجد ما يقتات به مع العجز عن تحصيله ، إلى أنهم يأكلون المال الذي يتركه من يتوفى منهم ، ويشتدون فى أكله حتى يحرموا صاحب الحق حقه ويزداد حبهم للمال إلى غير غاية.

وصفوة القول ـ إن شرههم فى المال ، وقرمهم إلى اللذات ، وانصرافهم إلى التمتع بها ، ثم قسوة قلوبهم إلى ألا يألموا إلى ما تجر إليه الاستهانة بشئون اليتامى من فساد أخلاقهم ، وتعطيل قواهم. وانتشار العدوى منهم إلى معاشريهم. فينتشر

١٤٨

الداء فى جسم الأمة ـ دليل على أن ما يزعمون من اعتقادهم بإله يأمرهم وينهاهم ، وأن لهم دينا يعظهم ، زعم باطل ، وإذا غشّوا أنفسهم وادّعوا أنهم يتذكرون الزواجر ، ويراعون الأوامر ، فذلك مقال تكذبه الفعال.

الإيضاح

(كَلَّا) أي لم أبتل الإنسان بالغنى لكرامته عندى ، ولم أبتله بالفقر لهوانه علىّ ، فالكرامة والإهانة لا يدوران مع المال سعة وقلة ، فقد أوسّع على الكافر لا لكرامته ، وأضيّق على المؤمن لا لهوانه ، وإنما أكرم المرء بطاعته ، وأهينه بمعصيته ، وقد أوسع على المرء بالمال لأختبره أيشكر أم يكفر؟ وأضيق عليه لأختبره أيصبر أم يضجر؟

ثم انتقل وترقى من ذمهم بقبيح الأقوال إلى النعي عليهم بقبيح الأفعال فقال :

(بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ) أي بل لكم أفعال وأحوال شر من أقوالكم تدل على تهالككم على المال ، فقد يكرمكم الله بالمال الكثير فلا تؤدون ما يلزمكم فيه من إكرام اليتيم وبره والإحسان إليه وقد جاء فى الحديث الحث على ذلك ، فلقد قال صلى الله عليه وسلم : «أحب البيوت بيت فيه يتيم مكرم» وورد أيضا : «أنا وكافل اليتيم كهاتين فى الجنة» وقرن بين أصبعيه الوسطى والتي تلى الإبهام.

قال مقاتل : أنزلت الآية فى قدامة بن مظعون وكان يتيما فى حجر أمية ابن خلف.

(وَلا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ) أي ولا يحث بعضكم بعضا على إطعامه وإصلاح شأنه ، وإذا لم تكرموا اليتيم ولم يوص بعضكم بعضا بإطعام المسكين فقد كذبت مزاعمكم فى أنكم قوم صالحون.

وإنما ذكر التحاضّ على الطعام ولم يكتف بالإطعام ، فيقول ولم تطعموا

١٤٩

المسكين ـ ليبين أن أفراد الأمة متكافلون ، وأنه يجب أن يوصى بعضهم بعضا بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر مع التزام كلّ بفعل ما يأمر به أو ينهى عنه.

ثم بين أن إهمالهم أمر اليتيم ، وخلوّ قلبهم من الرحمة بالمسكين لم يكونا زهدا فى لذائذ الحياة وتخلصا من متاعبها ، وعكوفا على شئون أنفسهم ، بل جاء من محبتهم للمال فقال :

(وَتَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا) أي إنكم تأكلون المال الذي يتركه من يتوفى منكم أكلا شديدا ، فتحولون بينه وبين من يستحقه ، وتجمعون بين نصيبكم منه ونصيب غيركم.

(وَتُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا) أي وتميلون إلى جمع المال ميلا شديدا ، ميراثا كان أو غيره.

وخلاصة ذلك ـ أنتم تؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ، إذ لو كنتم ممن غلب عليه حب الآخرة ، لا نصرفتم عما يترك الموتى ميراثا لأيتامهم ، ولكنكم تشاركونهم فيه ، وتأخذون شيئا لا كسب لكم فيه ، ولا مدخل لكم فى تحصيله وجمعه ، ولو كنتم ممن استحبوا الآخرة لما ضريت نفوسكم على المال تأخذونه من حيث وجدتموه ، من حلال أو من حرام.

فهذه أدلة ترشد إلى أنكم لستم على ما ادعيتم من صلاح وإصلاح ، وأنكم على ملة إبراهيم خليل الرحمن.

(كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (٢١) وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (٢٢) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى (٢٣) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (٢٤) فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (٢٦))

١٥٠

شرح المفردات

الدكّ : حط المرتفع بالبسط والتسوية ؛ ومنه اندكّ سنام البعير إذا انغرس فى ظهره ، دكا دكا : أي دكا بعد دك : أي كرّر عليها الدك وتتابع حتى صارت كالصخرة الملساء ، صفا صفا : أي صفا بعد صف بحسب منازلهم ومراتبهم فى الفضل ، وجىء يومئذ بجهنم : أي كشفت للناظرين بعد أن كانت غائبة عنهم ، وأنى له الذكرى؟ أي ومن أين له فائدة التذكر وقد فات الأوان ، والوثاق : الشدّ والربط السلاسل والأغلال.

المعنى الجملي

بعد أن أنكر عليهم أقوالهم وادعاءهم أن الغنى إكرام لهم ، وأن الفقر إهانة لهم ، ونعى عليهم أفعالهم من حرصهم على الدنيا واستفراغ الجهد فى تحصيلها ، وتكالبهم على جمعها من حلال وحرام ـ أردفه بيان أن ما يزعمونه من أنهم لربهم ذاكرون مع فراغ قلوبهم من الرأفة بالضعفاء وامتلائها بحب المال والميل إلى الشهوات ـ زعم لا حقيقة له ، وإنما يتذكرون ربهم فى ذلك اليوم العظيم حين يشهدون الهول. ويعوزهم الحول ، ويظهر لهم مكانهم من النكال والوبال ، ولكن هذه الذكرى قد فات أوانها ، وانتهى إبّانها ، فإن الدار دار جزاء لا دار أعمال ، فلا يبقى فيها لأولئك الخاسرين إلا الحسرة والندامة ، وقول قائلهم : «لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي» ويكون لهم من العذاب ما لا يقدر قدره ، ومن الإهانة ما يحل عن التشبيه والتمثيل.

الإيضاح

(كَلَّا) زجر لهم وإنكار لأفوالهم وأفعالهم ، أي لا ينبغى أن يكون هذا شأنهم فى الحرص على الدنيا من حيث تتهيأ لهم سواء كانت من حلال أو حرام ، وكأنهم يتوهمون أن لا حساب ولا جزاء ، وسيأتى يوم يندمون فيه أشد الندم ،

١٥١

ولكن لا تنفعهم الندامة ، ويتمنون لو كانوا أفنوا حياتهم فى التقرب إلى ربهم بصالح الأعمال.

ثم بين ذلك اليوم ووصفه بأوصاف ثلاثة فقال :

(١) (إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا) أي إذا دكت الأرض دكا بعد دك ، وتتابع عليها. ذلك حتى صارت كالصخرة الملساء ، وذهب كل ما على وجهها من جبال وأبنية وقصور.

(٢) (وَجاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا) أي وتجلت لأهل الموقف السطوة الإلهية ، كما تتجلى أبّهة الملك للأعين إذا جاء الملك فى جيوشه ومواكبه ، ولله المثل الأعلى.

(٣) (وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) أي وكشفت جهنم للناظرين بعد أن كانت غائبة عنهم.

ونحو الآية قوله : «وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى» أي أظهرت حتى رآها الخلق وعاينوها ، وليس المراد أنها نقلت من مكانها إلى مكان آخر.

(يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ) أي حينئذ تذهب الغفلة ، ويتذكر المرء ما كان قد فرّط فيه ، وعرف أن ما كان فيه كان ضلالا ، وأنه كان يجب أن يكون على حال خير مما كان عليها.

ثم بين أن هذه الذكرى لا فائدة منها فقال :

(وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرى) أي ومن أين لهذه الذكرى فائدة ، أو ترجع إليه بعائدة ؛ وقد فات الأوان ، وحمّ القضاء.

والخلاصة ـ إنه إذا حدثت هذه الأحداث انكشفت عن الإنسان الحجب ، ووضح له ما كان عليه ، وذهبت عنه الغفلة ، وإذ ذاك يتمنى أن يعود ليعمل صالحا ، ولكن أنى له ذلك؟

ثم بين تذكره بقوله :

(يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) أي يتمنى أن يكون قد عمل صالحا ينفعه فى حياته الأخروية التي هى الحياة الحقيقية.

١٥٢

ثم بين مآله وعاقبة أمره فقال :

(فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ وَلا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ) أي فيومئذ لا يصاب أحد بعذاب مثل ذلك العذاب الذي يصيب ذلك الإنسان الذي أبطره الغنى فجحد نعمة الله عليه ، أو أفسده الفقر حتى عثا فى الأرض فسادا ، ولا يوثق أحد من الخلائق وثاقا مثل هذا الوثاق الذي يوثقه ذلك الإنسان.

ولا يخفى ما فى ذلك من تقوية الذكرى لمن له قلب يذكر ، ووجدان يشعر.

(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (٢٨) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (٢٩) وَادْخُلِي جَنَّتِي (٣٠))

شرح المفردات

المطمئنة. من الاطمئنان وهو الاستقرار والثبات ، إلى ربك : أي إلى ثوابه وموقف كرامته ، فى عبادى : أي فى زمرة عبادى المكرمين.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر حال الإنسان الذي خلّى وطبعه ، فاستولى عليه جشعه وحرصه على رغباته وشهواته ، حتى خرجت عن سلطان الحكمة والعقل ، ثم ذكر عاقبة أمره فى الآخرة ـ أعقب هذا بذكر حال الإنسان الذي ارتقى عن ذلك الطبع وسمت نفسه إلى مراتب الكمال ، فاطمأن إلى معرفة خالقه ، واستعلى برغائبه إلى المطامع الروحية ، ورغب عن اللذات الجسمانية ، فكان فى الغنى شاكرا لا يتناول إلا حقه ، وفى الفقر صابرا لا يمد يده إلى ما لغيره ، وبين أنه فى ذلك اليوم يكون بجوار ربه راضيا بعمله فى الدنيا ، مرضيا عنده ، يدخله فى زمرة الصالحين المكرمين من عباده.

١٥٣

الإيضاح

(يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ) أي يا أيتها النفس التي قد استيقنت الحق ، فلا يخالجها شك ، ووقفت عند حدود الشرع ، فلا تزعزعها الشهوات ، ولا تضطرب بها الرغبات.

(ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً) أي ارجعي إلى محل الكرامة بجوار ربك ، راضية عما عملت فى الدنيا ، مرضيا عنك ، إذ لم تكونى ساخطة لا فى الغنى ولا فى الفقر ، ولم تتجاوزى حدود الشرع فيما لك من حق وما عليك من واجب.

ثم ذكر جميل عاقبتها فقال :

(فَادْخُلِي فِي عِبادِي) أي فادخلى فى زمرة عبادى المكرمين ، وانتظمى فى سلكهم ، وكونى فى جملتهم ، فالنفوس القدسية كالمرايا المتقابلة ، يشرق بعضها على بعض ، وكأنها تربّى فى هذه الدنيا بالآلام وتزين بالمعارف والعلوم ، حتى إذا فارقت الأبدان جعلت فى أماكن متقاربة ، بينها صفاء ومودة ، وحسن صلة ومحبة.

(وَادْخُلِي جَنَّتِي) فتمتعى فيها بما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

اللهم اجعلنا من النفوس المطمئنة ، الراضية المرضية ، وأدخلنا فى جنتك مع المتقين ، من الأنبياء والشهداء والصالحين ، والحمد لله رب العالمين.

مقاصد هذه السورة

تشتمل هذه السورة على مقاصد ستة :

(١) القسم على أن عذاب الكافرين لا محيص منه.

(٢) ضرب المثل بالأمم البائدة كعاد وثمود.

١٥٤

(٣) كثرة النعم على عبد ليست دليلا على إكرام الله له ، ولا البلاء دليلا على إهانته وخذلانه.

(٤) وصف يوم القيامة وما فيه من أهوال.

(٥) تمنى الأشقياء العودة إلى الدنيا.

(٦) كرامة النفوس الراضية المرضية ، وما تلقاه من النعيم بجوار ربها.

سورة البلد

هى مكية ، وآياتها عشرون ، نزلت بعد سورة ق.

ومناسبتها لما قبلها :

(١) أنه ذم فى الأولى من أحب المال وأكل التراث ولم يحضّ على طعام المسكين ، وذكر هنا الخصال التي تطلب من صاحب المال من فك الرقبة ، والإطعام فى يوم المسبغة.

(٢) ذكر هناك حال النفس المطمئنة ، وذكر هنا ما يكون به الاطمئنان.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (١) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (٢) وَوالِدٍ وَما وَلَدَ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (٤))

شرح المفردات

البلد : مكة ، حلّ : أي حالّ مقيم فيه ، ووالد وما ولد : أي وأىّ والد وأىّ مولود من الإنسان والحيوان والنبات ، والكبد : المشقة والتعب ، قال لبيد يرثى أخاه أربد :

يا عين هل رأيت أربد إذ

قمنا وقام الخصوم فى كبد

١٥٥

الإيضاح

(لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ) تقدّم أن قلنا إن مثل هذا التعبير قسم مؤكد فى كلام العرب ، وقد أقسم ربنا بمكة التي شرفها فجعلها حرما آمنا ، وجعل فيها البيت الحرام مثابة للناس يرجعون إليه ويعاودون زيارته كلما دعاهم إليه الشوق ، وجعل فيه الكعبة قبلة لأهل المشرق والمغرب ، وأمر بالتوجه إليها فى الصلوات التي تكرر كل يوم فقال : «وَحَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ».

(وَأَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ) أي وأنت مقيم بهذا البلد حالّ فيه ، وكأنه سبحانه جعل من أسباب شرف مكة وعظمتها كونه صلى الله عليه وسلم مقيما فيه ، ولا شك أن الأمكنة تشرف بشرف ساكنيها ، والنازلين بها.

وأتى بهذه الجملة ليفيد أن مكة جليلة القدر فى كل حال حتى فى الحال التي لم يراع أهلها فى معاملتك تلك الحرمة التي خصها الله بها.

وفى هذا إيقاظ وتنبيه لهم من غفلتهم ، وتقريع على حط منزلة بلدهم.

(وَوالِدٍ وَما وَلَدَ) أي وكل والد وكل مولود من الإنسان وغيره.

وفى القسم بهذا لفت لأنظارنا إلى رفعة قدر هذا الطور من أطوار الوجود وهو طور التوالد ، وإلى ما فيه من بالغ الحكمة وإتقان الصنع ، وإلى ما يعانيه كل من الوالد والمولود فى إبداء النشء ، وتبليغ الناشئ وإبلاغه حده من النمو المقدّر له.

انظر إلى البذرة فى أطوار نموها ، كم تعانى من اختلاف الأجواء ، ومحاولة امتصاص الغذاء مما حولها من العناصر إلى أن تستقيم شجرة ذات فروع وأغصان ، وتستعد لأن تلد بذرة أو بذورا أخرى تعمل عملها ، وتزين الوجود بجمال منظرها.

وأمر الإنسان والحيوان فى ذلك أعجب وأعظم ، والتعب والعناء الذي يلاقيا كل منهما فى سبيل حفظ نوعه ، واستبقاء جمال الكون بوجوده أشد وأكبر.

١٥٦

ثم ذكر المحلوف عليه فقال :

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ) أي إنه تعالى جعل حياة الإنسان سلسلة متصلة الجهاد ، مبتدئة بالمشقة ، منتهية بها ؛ فهو لا يزال يقاسى من ضروبها ما يقاسى منذ نشأته فى بطن أمه إلى أن يصير رجلا ، وكلما كبر ازدادت أتعابه وآلامه ، فهو يحتاج إلى تحصيل أرزاقه وتربية أولاده ، وإلى مقارعة الخطوب والنوازل ، ومصابرة النفس على الطاعة والخضوع للواحد المعبود. ثم بعد هذا كله يمرض ويموت ، ويلاقى فى قبره وفى آخرته من المشاقّ والمتاعب ، ما لا يقدر عليه إلا يتيسير الله سبحانه.

والسر فى التنبيه إلى أن الإنسان قد خلق فى عناء ـ الرغبة فى تسلية رسوله صلى الله عليه وسلم ، وحضه على عمل الخير والمثابرة عليه ، وألا يعبأ بما يلاقيه من الشدائد والمشاقّ ، وأن ذلك لا يخلو منه إنسان.

إلى ما فيه من تنبيه المغرورين الذين يشعرون بالقوة فى أنفسهم ، ويظنون أنهم بها يستطيعون مصارعة الأقران ، وكأنه يقول لهم : لا تتمادوا فى غروركم ، ولا تستمروا على صلفكم وكبريائكم ، فإن الإنسان لا يخلو من العناء فى تصريف شئونه وشئون ذويه ، ومهما عظمت منزلته ، وقويت شكيمته. فهو لا يستطيع الخلاص من مشاقّ الحياة.

وقد جمع سبحانه بين البلد المعظم والوالد والولد ، ليشير إلى أن مكة على ما بها من عمل أهلها ستلد مولودا عظيما يكون إكليلا لمجد النوع الإنسانى وشرفه ، وهو دين الإسلام الذي جاء به محمد عليه الصلاة والسلام ؛ وأن العناء الذي يلاقيه إنما هو العناء الذي يصيب الوالد فى تربية ولده ، والمولود فى بلوغ الغاية فى سبيل نموه ؛ إلى ما فيه من الوعد بإتمام نوره ولو كره الكافرون.

١٥٧

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (٥) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (٦) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (٧) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (٨) وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ (٩) وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (١٠))

شرح المفردات

أيحسب : أي أيظن ، أهلكت : أي أنفقت ، لبدا : أي كثيرا ، والنجد : الطريق المرتفعة ؛ والمراد بالنجدين طريقا الخير والشر.

المعنى الجملي

بعد ذكر أنه لا ينبغى للمفتونين بقوة أبدانهم ، المغرورين بواسع جاههم ، أن يتمادوا فى صلفهم وكبريائهم ـ شرع يوبخهم على الاغترار بقوتهم الزائلة ؛ ويذكرهم بما أنعم به عليهم من النعم الكثيرة الحسية والعقلية.

روى أن قوله : «أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ»؟ نزل فى أبى الأشد أسيد بن كلدة الجمحي ، وكان مغترا بقوته البدنية ؛ وأن قوله : «يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً» نزل فى الحرث بن نوفل وكان يقول : أهلكت مالا لبدا فى الكفارات منذ أطعت محمدا.

وسواء أكانت هذه الآيات نزلت فى هؤلاء أم فى غيرهم فإن معناها عام كما علمت.

الإيضاح

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ؟) أي أيظن ذلك المغترّ بقوته ، المفتون بما أنعمنا به عليه ـ أنه مهما عظمت حاله ، وقوى سلطانه ، يبلغ منزلة لا يقدر عليه فيها

١٥٨

أحد؟ ما أجهله إذا ظن ذلك ، فإن فى الوجود قوة جميع القوى هى المهيمنة على كل قوة ، والمسيطرة على كل قدرة ، وهى القوّة التي أبدعته ، والقدرة التي أنشأته.

ثم ذكر صنفا آخر من الأغنياء البخلاء المرائين فقال :

(يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً) أي إنهم إذا طلب إليهم أن يعملوا عملا من أعمال البر قالوا : إننا ننفق الكثير من أموالنا فى المفاخر والمكارم ، ولم يعلموا أن المكرمة ما عدّه الله مكرمة ، والبرّ ما اعتبره الله برا ، فليس من البر إنفاقهم المال فى مشاقة الله ورسوله ، ولا إنفاقهم طائل الأموال فى الصدّ عن سبيل الله ، والكيد للذين آمنوا بالله ورسوله.

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) أي أيظن ذلك المغتر بماله ، المدعى أنه أنفقه فى سبيل الخير ـ أن الله لم يطلع على أفعاله ؛ ولم يعلم ما دعاه إلى الإنفاق؟ إنه لا ينبغى له أن يظن ذلك ، فإن البارئ له مطلع على قرارة نفسه ، عالم بخبيئات قلبه ، لا يعزب عنه شىء فى الأرض ولا فى السماء ، عليم بأنه لم ينفق شيئا من ماله فى سبيل الخير المشروع والبر المحمود ، وإنما أنفق ما أنفق للرياء والسمعة ، أو لمشاقة الله ورسوله ، أو فى وجوه أخرى يظنها خيرا وهى خسران وضلال مبين.

وبعد أن أنكر على هؤلاء اغترارهم بقوتهم وكثرة أموالهم ـ شرع يذكر آثار قدرته الغالبة ، ليبين لهم أن هناك قوة لها من الآثار ما هم يشاهدون فقال :

(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) فهو إذا أبصر شيئا فإنما يكون ذلك بما خلقنا له من العينين ، فهذه النعمة التي يعتز بها إنما هى من عملنا.

(وَلِساناً وَشَفَتَيْنِ) فإذا أبان عما فى نفسه ، فإنما يبين بما وهبنا له من لدنا من تلك الجارحة التي يتكلم بها ، فإذا غرّه حديثه ، أو قوة حجته ، فليس فضل ذلك راجعا إليه ، وإنما الفضل لمن وهبه ذلك.

١٥٩

(وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ) أي وأودعنا فى فطرة الإنسان التمييز بين الخير والشر ، وجعلنا له من العقل والفكر ما يكون مذكرا ومنبها ، ونصبنا له الدلائل على حسن الخير ؛ وأرشدناه إلى ما فى الشر من هنوات وعيوب ، ثم أقدرناه على أن يسلك أىّ الطريقين شاء ، بعد أن آتيناه قوة التمييز ، والقدرة على الاختيار والترجيح ، ليسلك الطريق التي أراد منهما.

فليكن نجد الخير أحبّ إلى أحدكم من نجد الشر ؛ فمن نازعته نفسه واتجهت إلى نجد الشر فليقمعها بالنظر فى آيات الله ، والتدبر فى دلائله ، ليعلم أن ذلك الطريق مظلم معوجّ يهوى بصاحبه إلى طريق الردى ، ويوقعه فى المهالك.

وإنما سماهما الله نجدين ، للإشارة إلى أنهما واضحان كطريقين عاليين يراهما ذوو الأبصار ، وإلى أن فى كل منهما وعورة يشق معها السلوك ، ولا يصبر عليها إلا من جاهد نفسه وراضها.

وفى ذلك إيماء إلى أن طريق الشر ليست بأهون من طريق الخير ، بل الغالب أن طريق الشر أصعب وأشق وأحوج إلى بذل الجهد حتى تقطع إلى النهاية وتوصّل إلى الغاية.

(فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ (١٣) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (١٤) يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (١٥) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (١٦) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (١٧) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (١٨) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (١٩) عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (٢٠))

١٦٠