تفسير المراغي - ج ٣٠

أحمد مصطفى المراغي

سورة العاديات

هى مكية ، وآياتها إحدى عشرة ، نزلت بعد سورة العصر.

ووجه المناسبة بينها وبين ما قبلها ـ أنه لما ذكر هناك الجزاء على الخير والشر أتبعه تعنيف الذين يؤثرون الحياة الدنيا على الآخرة ، ولا يستعدون لحياتهم الثانية ، بتعويد أنفسهم فعل الخير.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً (١) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (٢) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (٣) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (٤) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (٥) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (٦) وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (٧) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (٨) أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (٩) وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (١٠) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (١١))

شرح المفردات

العاديات : واحدها عادية من العدو وهو الجري ، والضبح : صوت أنفاس الخيل حين الجري. قال عنترة : والخيل تكدح حين تضبح فى حياض الموت ضبحا والموريات : واحدها مورية من الإيراء ، وهو إخراج النار ، تقول : أورى فلان إذا أخرج النار بزند ونحوه ، والقدح : الضرب لإخراج النار كضرب الزناد بالحجر ، والمغيرات : واحدها مغيرة من أغار على العدو إذا هجم عليه بغتة ليقتله أو يأسره ، أو يستلب ماله ، والإثارة : التهييج وتحريك الغبار ، والنقع : الغبار ، وسطن :

٢٢١

أو توسطن تقول وسطت القوم أسطهم وسطا : إذا صرت فى وسطهم ، والكنود : الكفور ، يقال كند النعمة أي كفرها ولم يشكرها وأنشدوا :

كنود لنعماء الرجال ومن يكن

كنودا لنعماء الرجال يبعّد

وأصل الكنود الأرض التي لا تنبت شيئا ، شبه بها الإنسان الذي يمنع الخير ويجحد ما عليه من واجبات ، لشهيد : أي لشاهد على كنوده وكفره بنعمة ربه ، والخير : المال كما جاء فى قوله : «إِنْ تَرَكَ خَيْراً» ، لشديد : أي لبخيل ، بعثر : أي بعث وأثير ، وحصّل : أي أظهر محصلا مجموعا ، ما فى الصدور : أي ما في القلوب من العزائم والنوايا.

الإيضاح

(وَالْعادِياتِ ضَبْحاً) أي قسما بالخيل التي تعدو وتجرى ويسمع لها حينئذ ضبح أي زفير شديد.

(فَالْمُورِياتِ قَدْحاً) أي والخيل التي تخرج النار بحوافرها ويتطاير منها الشرر أثناء الجري.

(فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً) أي والخيل التي تعدو لتهجم على العدو وقت الصباح ، لأخذه على غير أهبة واستعداد.

(فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً) أي فهيجن فى الصبح غبارا لشدة عدوهن.

(فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً) أي فتوسطن جمعا من الأعداء ففرقنه وشتتن شمله.

أقسم سبحانه بالخيل التي لها هذه الصفات ، والتي تعمل تلك الأعمال ، ليعلى من شأنها فى نفوس عباده المؤمنين أهل الجد والعمل ، وليعنوا بتربيتها وتعويدها الكرّ والفرّ ، وليحملهم على العناية بالفروسية والتدرب على ركوب الخيل والإغارة بها ليكون كل امرئ مسلم منهم عاملا ناصبا إذا جدّ الجد واضطرت الأمة إلى صد عدوّ أو بعثها باعث على كسر شوكته ، يرشد إلى ذلك قوله فى آية أخرى :

٢٢٢

«وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ».

وفى إقسام الله بها بوصف العاديات المغيرات الموريات ـ إشارة إلى أنه يجب أن تقنى الخيل لهذه الأغراض والمنافع لا للخيلاء والزينة ، وأن الركوب الذي يحمد ما يكون لكبح جماح الأعداء ، وخضد شوكتهم ، وصد عدوانهم.

وقصارى ذلك ـ إن للخيل فى عدوها فوائد لا يحصى عدّها ، فهى تصلح للطلب ، وتسعف فى الهرب ، وتساعد جد المساعدة فى النجاء ، والكر والفر على الأعداء وقطع شاسع المسافة فى الزمن القليل.

ثم ذكر المحلوف عليه بتلك الأيمان الشريفة فقال :

(إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) أي إن الإنسان طبع على نكران الحق وجحوده وعدم الإقرار بما لزمه من شكر خالقه والخضوع له إلا من عصمهم الله وهم الذين روّضوا أنفسهم على فعل الفضائل ، وترك الرذائل ، ما ظهر منها وما بطن.

روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «الكنود الذي يأكل وحده ، ويضرب عبده ، ويمنع رفده» أي إنه لا يعطى شيئا مما أنعم الله به عليه ، ولا يرأف بعباده ، كما رأف به ، فهو كافر بنعمته ، مجانف لما يقضى به العقل والشرع.

وسر هذه الجبلّة ـ أن الإنسان يحصر همه فيما حضره ، وينسى ماضيه ، وما عسى أن يستقبله ، فإذا أنعم الله عليه بنعمة غرته غفلته ، وقسا قلبه ، وامتلأ جفوة على عباده.

(وَإِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ) أي وإنه مع كنوده ، ولجاجته فى الطغيان ، وتماديه فى الإنكار والبهتان ، إذا خلّى ونفسه رجع إلى الحق ، وأذعن إلى أنه ما شكر ربه على نعمه ، إلى أن أعماله كلها جحود لنعم الله ، فهى شهادة منه على كنوده ، شهادة بلسان الحال ، وهى أفصح من لسان المقال.

٢٢٣

(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ) أي وإن الإنسان بسبب محبته للمال وشغفه به وتعلقه بجمعه وادخاره ـ لبخيل شديد فى بخله ، حريص متناه فى حرصه ، ممسك مبالغ فى إمساكه متشدد فيه ، قال طرفة :

أرى الموت يعتام الكرام ويصطفى

عقيلة مال الفاحش المتشدّد

ثم هدد الإنسان الذي هذه صفاته وتوعده بقوله :

(أَفَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ. وَحُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ؟. إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ) أي أفلا يعلم هذا الإنسان المنكر لنعم الله عليه ، الجاحد لفضله وأياديه ـ أنه سبحانه عليم بما تنطوى عليه نفسه ، وأنه مجازيه على جحده وإنكاره يوم يحصّل ما فى الصدور ويبعثر ما فى القبور؟

وقد عبر سبحانه عن مجازاتهم على ما كسبت أيديهم ـ بالخبرة بهم والعلم المحيط لأعمالهم ، وهذا كثير فى الكلام ، تقول لشخص فى معرض التهديد : سأعرف لك عملك هذا مع أنك تعرفه الآن قطعا ، وإنما عرفانه الآتي هو ظهور أثر المعرفة وهو مجازاته بما يستحق ، وقد جاء على هذا النسق قوله تعالى : «سَنَكْتُبُ ما قالُوا» مع أن كتابة أقوالهم حاصلة فعلا ، فالمراد سنجازيهم بما قالوا الجزاء الذي هم له أهل ، والله أعلم.

سورة القارعة

هى مكية ، وآياتها إحدى عشرة ، نزلت بعد سورة قريش.

ومناسبتها لما قبلها ـ أن آخر السابقة كان فى وصف يوم القيامة ، وهذه السورة يأسرها فى وصف ذلك اليوم ، وما يكون فيه من الأهوال.

٢٢٤

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(الْقارِعَةُ (١) مَا الْقارِعَةُ (٢) وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (٣) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (٤) وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (٥) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (٦) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (٧) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (٨) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (٩) وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ (١٠) نارٌ حامِيَةٌ (١١))

الإيضاح

(الْقارِعَةُ) من أسماء القيامة كالحاقة والصاخّة والطامّة والغاشية ؛ وسميت بذلك لأنها تقرع القلوب بهولها ، كما تسمى الحادثة العظيمة من حوادث الدهر قارعة ، قال تعالى : «وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ» أي حادثة عظيمة تقرعهم وتصك أجسادهم فيألمون لها.

(مَا الْقارِعَةُ؟) أي أىّ شىء هى القارعة ، وهذا أسلوب يراد به تهويل أمرها كأنها لشدة ما يكون فيها من الأهوال ، التي تفزع منها النفوس ، وتدهش لها العقول يصعب تصوّرها ، ويتعذر إدراك حقيقتها.

ثم زاد أمرها تعظيما فقال :

(وَما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ) أي وأىّ شىء يعرّفك بها ، كأنه لا شىء يحيط بها ؛ فمهما تخيلت أمرها وحدست شأنها فهى أعظم من تقديرك.

ولما ذكر سبحانه أن إدراك حقيقتها مما لا سبيل إليه ، أخذ يعرف بزمانها الذي تكون فيه ، وما يحدث للناس حينئذ من الأهوال فقال :

٢٢٥

(يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ) الفراش : هو الحشرة التي تراها تترامى على ضوء السراج ليلا ، وبها يضرب المثل فى الجهل بالعاقبة قال جرير :

إن الفرزدق ما علمت وقومه

مثل الفراش غشين نار المصطلى

والمبثوث : المفرق المنتشر ، تقول بثثت الشيء : أي فرقته.

أي إن الناس من هول ذلك اليوم يكونون منتشرين حيارى هائمين على وجوههم لا يدرون ماذا يفعلون ، ولا ماذا يراد بهم كالفراش الذي يتجه إلى غير جهة واحدة.

بل تذهب كل فراشة إلى جهة غير ما تذهب إليها الأخرى.

وجاء تشبيههم فى آية أخرى بالجراد المنتشر فى كثرتهم وتتابعهم فقال : «كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ».

(وَتَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ) العهن (بكسر العين وسكون الهاء) الصوف ذو الألوان ، والمنفوش : الذي نفش ففرقت شعراته بعضها عن بعض حتى صار على حال يطير مع أضعف ريح.

أي إن الجبال لتفتتها وتفرق أجزائها لم يبق لها إلا صورة الصوف المنفوش فلا تلبث أن تذهب وتتطاير ، فكيف يكون الإنسان حين حدوثها وهو ذلك الجسم الضعيف السريع الانحلال.

وقد كثر فى القرآن ذكر حال الجبال يوم القيامة فقال : «وَتَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ» وقال : «وَكانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً» وقال : «وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً» كل ذلك ليبين أن هذه الأجسام العظيمة التي من طبعها الاستقرار والثبات تؤثر فيها هذه القارعة ، فما بالك أيها المخلوق الضعيف الذي لا قوة له؟

وفى هذا تحذير للإنسان وتخويف له كما لا يخفى.

وبعد أن ذكر أوصاف هذا اليوم بما يكون من أحوال بعض الخلائق ـ أعقب ذلك بذكر الجزاء على الأعمال فقال :

٢٢٦

(فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ) يقال ثقل ميزان فلان إذا كان له قدر ومنزلة رفيعة ، كأنه إذا وضع فى ميزان كان له به رجحان ، وإنما يكون المقدار والقيمة لأهل الأعمال الصالحة ، والفضائل الراجحة ، فهؤلاء يجزون النعيم الدائم ويكونون فى عيشة راضية ، تقرّ بها أعينهم ، وتسر بها نفوسهم.

ويرى بعض المفسرين أن الذي يوزن هو الصحف التي تكتب فيها الحسنات والسيئات.

ولما ذكر نعيم أهل الخير أردفه عقاب أهل الشر فقال :

(وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ) يقال خف ميزانه : أي سقطت قيمته فكأنه ليس بشىء حتى لو وضع فى كفة ميزان لم يرجح بها على أختها ، ومن كان فى الدنيا كثير الشر ، قليل فعل الخير ، فدسّى نفسه بالشرك واجتراح المعاصي وعاث فى الأرض فسادا ، لم يكن شيئا ، فلا ترجح له كفة ميزان لو وضع فيها.

وعلى الجملة فعلينا أن نؤمن بما ذكره الله من الميزان فى هذه الآية وفى قوله : «وَنَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ» ومن وزن الأعمال ، وتمييز مقدار لكل عمل ، وليس علينا أن نبحث وراء ذلك ، فلا نسأل كيف يزن ، ولا كيف يقدر؟ فهو أعلم بغيبه ، ونحن لا نعلم.

أما أن الميزان له لسان وكفّتان فهذان لم يرد به نص عن المعصوم يلزمنا التصديق به ، وكيف يوزن بهذا الميزان الذي تعلمه الإنسان فى مهد البداوة الأولى ، ويترك ما هو أدق منه مما اخترع فيما بعد وهدى إليه الناس ، على أن جميع ما عمله البشر ، فهو ميزان للأثقال الجسمانية لا ميزان للمعانى المعقولة كالحسنات والسيئات ، فلنفوض أمر ذلك إلى عالم الغيب.

والمراد من كون أمه هاوية ـ أن مرجعه الذي يأوى إليه مهواة سحيقة فى جهنم يهوى فيها ، كما يأوى الولد إلى أمه ، قال أمية بن أبى الصلت :

فالأرض معقلنا وكانت أمّنا

فيها مقابرنا وفيها نولد

٢٢٧

(وَما أَدْراكَ ما هِيَهْ؟) أي وأىّ شىء يخبرك بما هى تلك الهاوية ، وأنها أىّ شىء تكون؟ ثم فسرها بعد إبهامها فقال :

(نارٌ حامِيَةٌ) أي هى نار ملتهبة يهوى فيها ليلقى جزاء ما قدّم من عمل ، وما اجترح من سيئات.

وفى هذا إيماء إلى أن جميع النيران إذا قيست بها ووزنت حالها بحالها لم تكن حامية ، وذلك دليل على قوة حرارتها ، وشدة استعارها.

وقانا الله شر هذه النار الحامية ، وآمننا من سعيرها بمنه وكرمه.

سورة التكاثر

هى مكية ، وآياتها ثمان ، نزلت بعد سورة الكوثر.

ومناسبتها لما قبلها ـ أن فى الأولى وصف القيامة وبعض أهوالها وجزاء الأخيار والأشرار ، وأن فى هذه ذكر الجحيم وهى الهاوية التي ذكرت فى السورة السابقة ، وذكر السؤال عما قدم المرء من الأعمال فى الحياة الدنيا ، وهذا بعض أحوال الآخرة.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (١) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (٢) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٣) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (٤) كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (٥) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (٦) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (٧) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (٨))

٢٢٨

شرح المفردات

اللهو : ما يشغل الإنسان ، سواء أكان مما يسرّ أم لا ، ثم خص بما يشغل مما فيه سرور ؛ وإذا ألهى المرء بشىء فهو غافل به عما سواه ، والتكاثر : التباهي بالكثرة بأن يقول كل للآخر أنا أكثر منك مالا ، أنا أكثر منك ولدا ، أنا أكثر منك رجال ضرب وحرب ، حتى زرتم المقابر : أي حتى صرتم من الموتى ، قال جرير :

زار القبور أبو مالك

فأصبح ألأم زوّارها

علم اليقين : أي علم الأمر الميقون الموثوق به ، والجحيم : دار العذاب. عين اليقين :

أي عين هى اليقين نفسه.

أسباب نزول السورة

أخرج ابن أبى حاتم عن أبى بريدة قال : نزلت «أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ» فى قبيلتين من الأنصار وهما بنو حارثة وبنو الحرث ، تفاخروا وتكاثروا ، فقالت إحداهما : أفيكم مثل فلان وفلان؟ وقالت الأخرى : مثل ذلك. تفاخروا بالأحياء ثم قالوا : انطلقوا بنا إلى القبور ، فجعلت إحدى الطائفتين تقول : أفيكم مثل فلان وتشير إلى القبر ، ومثل فلان ، وفعل الآخرون مثل ذلك فأنزل الله هذه السورة.

الإيضاح

(أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ) أي شغلكم التفاخر والتباهي بكثرة الأنصار والأشياع ، وصرفكم ذلك عن الجد فى العمل ، فكنتم فى لهو بالقول عن الفعل ، وفى غرور وإعجاب بالآباء والأعوان ، وصرفكم ذلك عن توجيه قواكم إلى العمل بما فرض عليكم من الأعمال لأنفسكم وأهليكم ، وما زال ذلك ديدنكم ودأبكم الذي سرتم عليه.

٢٢٩

وفى صحيح مسلم عن مطرّف عن أبيه قال : «أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ : ألهاكم التكاثر قال : يقول ابن آدم مالى ومالك ، يا ابن آدم ليس لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدّقت فأمضيت ، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس» وروى عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «لو أن لابن آدم واديا من ذهب أحب أن يكون له واديان : ولن يملأ فاه إلا التراب ويتوب الله على من تاب».

قال الأستاذ الإمام : وقد يكون معنى التكاثر التغالب فى الكثرة ، أي طلب كل واحد منهما أن يكون أكثر من الآخر مالا أو جاها ، والسعى إلى ذلك لمجرد المغالبة ، لا يبغي الساعي فى سعيه إلا أن يكون ماله أكثر من مال الآخر ، أو أن يكون عضده أقوى من عضده ، لينال بذلك لذة التعلى والظهور بالقوة كما هو شأن الجمهور الغالب من طلاب الثروة والقوة ، ولا ينظر الدائب منهم فى عمله إلى تلك الغاية الرفيعة غاية البذل مما يكسب فى سبل الخير ، أو النهوض بالقوة إلى نصر الحق ، وحمل المبطلين على معرفته والتوجه إليه ، ثم المحافظة بعد ذلك عليه.

وهذا معنى معقول ذهب إليه بعض المفسرين ، وهو يتفق كل الاتفاق مع ما يفهم من لفظ (أَلْهاكُمُ) فإن الذي يلهى الناس عن الحق فى كل حال ، ويصرف وجوههم عنه إلى الباطل : هو طمع كل واحد منهم أن يكون أكثر من الآخر مالا أو عدد رجال ، ليعلو عليه ، أو ليستخدمه لسلطانه ، بقدر ما يدخل فى إمكانه ، أما التفاخر بالأقوال فإنما يلهيهم فى بعض الأحوال ا ه.

(حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ) أي حتى هلكتم وصرتم من الموتى ، فأضعتم أعماركم فيما لا يجدى فائدة ، ولا يعود عليكم بمائدة ، فى حياتكم الباقية الخالدة.

قال العلماء : إن زيارة القبور من أعظم الدواء للقلب القاسي ، لأنها تذكر بالموت والآخرة ، وذلك يحمل على قصر الأمل والزهد فى الدنيا وترك الرغبة فيها ،

٢٣٠

ومن ثم قال صلى الله عليه وسلم : «كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تزهّد فى الدنيا وتذكركم الآخرة».

كما لا خلاف فى منع زيارتها إذا حدث فى ذلك منكرات وأشياء مما نهى عنه الدين كاختلاط الرجال بالنساء وحدوث فتن لا تحمد عقباها.

ثم نبههم إلى خطإ ما هم فيه ، وزجرهم عن البقاء على تلك الحال التي لها وخيم العاقبة فقال :

(كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) أي ازدجروا عن مثل هذا العمل الذي لا تكون عاقبته إلا القطيعة والهجران ، والضغينة والأحقاد ، والجئوا إلى التناصر على الحق ، والتكاثف على أعمال البر ، والتضافر على ما فيه حياة الأفراد والجماعات ، من تقويم الأخلاق ، وتطهير الأعراق ، وإنكم سوف تعلمون عاقبة ما أنتم فيه من التكاثر إذا استمر بكم هذا التفاخر بالباطل بدون عمل صحيح نافع لكم فى العقبى.

ثم أكد هذا وزاد فى التهديد فقال :

(ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) وهذا وعيد بعد وعيد فى مقام الزجر والتوبيخ كما يقول السيد لعبده : أقول لك لا تفعل ، ثم أقول لك لا تفعل.

(كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ) أي ارتدعوا عن تغريركم بأنفسكم ، فإنكم لو تعلمون عاقبة أمركم لشغلكم ذلك عن التكاثر ، وصرفكم إلى صالح الأعمال ، وإنّ ما تدعونه علما ليس فى الحقيقة بعلم ، وإنما هو وهم وظن لا يلبث أن يتغير ، لأنه لا يطابق الواقع ، والجدير بأن يسمى علما هو علم اليقين المطابق للواقع ، بناء على العيان والحس ، أو الدليل الصحيح الذي يؤيده العقل ، أو النقل الصحيح عن المعصوم صلى الله عليه وسلم.

وإنما ذكر سبحانه هذا زيادة فى زجرهم لتغريرهم بأنفسهم ، فقد جرت عادة الغافلين أنهم إذ ذكّروا بعواقب حالهم أن يقولوا : إنهم يعلمون العواقب ، وأنهم فى منتهى اليقظة وسداد الفكرة.

٢٣١

ثم ذكر لهم بعض ما ينهى إليه هذا اللهو ، وهو عذاب الآخرة بعد خزى الدنيا فقال :

(لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) أي إن دار العذاب التي أعدت لمن يلهو عن الحق لا ريب فيها ولترونّها بأعينكم ، فاجعلوا صورة عذابها حاضرة فى أذهانكم ، لتنبهكم إلى ما هو خير لكم مما تلهون به.

والمراد برؤية الجحيم ذوق عذابها ، وهذا استعمال شائع فى الكتاب الكريم.

ثم كرر ذلك للتأكيد فقال :

(ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ) أي لترونها رؤية هى اليقين نفسه ، إلى أي دين أو إلى أي شخص كانت نسبتكم فلتتقوا الله ربكم ، ولتنتهوا عما يقذف بكم فيها ، ولتنظروا إلى ما أنتم فيه من نعمة ، ولترعوا حق الله فيها ، فاستعملوها فيما أمر أن تستعمل فيه ، ولا تجترحوا السيئات وتقترفوا المنكرات ، إنكم لتمنون أنفسكم بأنكم ممن يعفو الله عنهم ، ويزحزحهم من النار بمجرد نسبتكم إلى الدين الإسلامى وتلقيبكم بألقابه ، مع مخالفتكم أحكام القرآن وعملكم عمل أعداء الإسلام.

ثم شدد عليهم وزاد فى تأنيبهم فقال :

(ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) أي إن هذا النعيم الذي تتفاخرون به وتعدونه مما يباهى بعضكم بعضا ـ ستسألون عنه ـ ماذا صنعتم به؟ هل أديتم حق الله فيه.

وراعيتم حدود أحكامه فى التمتع به ، فإن لم تفعلوا ذلك كان هذا النعيم غاية الشقاء فى دار البقاء.

روى عن عمر رضى الله عنه أنه قال : «أىّ نعيم نسأل عنه يا رسول الله ، وقد أخرجنا من ديارنا وأموالنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ظلال المساكن والأشجار ، والأخبية التي تقيكم الحر والبرد ، والماء البارد فى اليوم الحار».

٢٣٢

وروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «من أصبح آمنا فى سربه ، معافى فى بدنه ، عنده قوت يومه ، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها».

اللهم وفقا لشكر نعمتك وأداء حقها ، لنجد الجواب حاضرا حين سؤالنا عنها ، اللهم آمين.

سورة العصر

هى مكية ، وآياتها ثلاث ، نزلت بعد سورة الشرح.

ومناسبتها لما قبلها ـ أنه ذكر فى السورة السابقة أنهم اشتغلوا بالتفاخر والتكاثر وبكل ما من شأنه أن يلهى عن طاعة الله ، وذكر هنا أن طبيعة الإنسان داعية له إلى البوار ، وموقعة له فى الدمار إلا من عصم الله وأزال عنه شرر نفسه ، فكأن هذا تعليل لما سلف ـ إلى أنه ذكر فى السالفة صفة من اتبع نفسه وهواه ، وجرى مع شيطانه حتى وقع فى التهلكة ، وهنا ذكر من تجمل بأجمل الطباع ، فآمن بالله وعمل الصالحات ، وتواصى مع إخوانه على الاستمساك بعرى الحق ، والاصطبار على مكارهه.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالْعَصْرِ (١) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (٢) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ (٣))

شرح المفردات

العصر : الدهر ، والإنسان : هو هذا النوع من المخلوقات ، والخسر والخسران النقصان وذهاب رأس المال ، والمراد به ما ينغمس فيه الإنسان من الآفات المهلكة ،

٢٣٣

والحق : هو ما تقرر من حقيقة ثابتة أرشد إليها دليل قاطع ، أو عيان ومشاهدة ، أو شريعة صحيحة جاء بها نبى معصوم ، والصبر : قوة للنفس تدعوها إلى احتمال المشقة فى العمل الطيب ، وتهوّن عليها احتمال المكروه فى سبيل الوصول إلى الأغراض الشريفة.

والتواصي بالحق : أن يوصى بعضهم بما لا سبيل إلى إنكاره وهو كل فضيلة وخير ، والتواصي بالصبر : أن يوصى بعضهم بعضا به ويحثه عليه ، ولا يكون ذلك نافعا مقبولا إلا إذا كمّل المرء نفسه به وإلا صدق عليه قول أبى الأسود الدؤلي :

يا أيها الرجل المعلم غيره

هلا لنفسك كان ذا التعليم

تصف الدواء لذى السّقام وذى الضنى

كيما يصح به وأنت سقيم

الإيضاح

(وَالْعَصْرِ) أقسم ربنا سبحانه بالدهر لما فيه من أحداث وعبر يستدل به على قدرته وبالغ حكمته وواسع علمه ، انظر إلى ما فيه من تعاقب الليل والنهار وهما آيتان من آيات الله كما قال : «وَمِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ» وإلى ما فيه : من سراء وضراء ، وصحة وسقم ، وغنى وفقر ، وراحة وتعب ، وحزن وفرح ، إلى نحو ذلك مما يسترشد به حصيف الرأى إلى أن للكون خالقا ومدبرا ، وهو الذي ينبغى أن يوجه إليه بالعبادة ويدعى لكشف الضر وجلب الخير ـ إلى أن الكفار كانوا يضيفون أحداث السوء إلى الدهر ، فيقولون هذه نائبة من نوائب الدهر ، وهذا زمان بلاء ، فأرشدهم سبحانه إلى أن الدهر خلق من خلقه ، وأنه ظرف تقع فيه الحوادث خيرها وشرّها ، فإن وقعت للمرء مصيبة فبما كسبت يداه ، وليس للدهر فيها من سبب.

(إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ) أي إن هذا الجنس من المخلوقات ـ لخاسر فى أعماله ضربا من الخسران إلا من استثناهم الله ، فأعمال الإنسان هى مصدر شقائه ، لا الزمان

٢٣٤

ولا المكان ، وهى التي توقعه فى الهلاك ، فذنب المرء فى حق بارئه ، ومن يمنّ عليه بنعمه الجليلة ، وآلائه الجسيمة ، جريمة لا تعد لها جريمة أخرى.

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ) فاعتقدوا اعتقادا صحيحا أن للعالم كله إلها خالقا قادرا يرضى عن المطيع ، ويغضب على العاصي ، وأن هناك فرقا بين الفضيلة والرذيلة ، فدفعهم ذلك إلى عمل البر والخير ـ وجماع ذلك نفع المرء نفسه ونفعه للناس أجمعين.

وخلاصة أمرهم ـ أنهم باعوا الفاني الخسيس ، واشتروا الباقي النفيس ، واستبدلوا الباقيات الصالحات بالغاديات الرائحات ، فيالها من صفقة ما أربحها ، ومنقبة جامعة للخير ما أوضحها.

(وَتَواصَوْا بِالْحَقِّ) أي وأوصى بعضهم بعضا بالأمر الثابت الذي لا سبيل إلى إنكاره ، ولا زوال فى الدارين لمحاسن آثاره ، وهو الخير كله من إيمان بالله عز وجل واتباع لكتبه ورسله فى كل عقد وعمل.

(وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ) أي وأوصى بعضهم بعضا بالصبر عن المعاصي التي تشتاق إليها النفس بحكم الجبلة البشرية ، وعلى الطاعات التي يشق عليها أداؤها ، وعلى ما يبتلى الله تعالى به عباده من المصايب ويتلقاها بالرضا ظاهرا وباطنا ، فلا بد للنجاة من الخسران أن يعرف الناس الحق ويلزموه أنفسهم ويمكّنوه من قلوبهم ، ثم يحمل بعضهم بعضا على سلوك طريقه ، وأن يبعدوا بأنفسهم وبغيرهم عن الأوهام والخيالات التي لا قرار للنفوس عليها ، ولا دليل يهدى إليها.

وخلاصة ما سلف ـ إن الناس جميعا فى خسران إلا من اتصفوا بأربعة أشياء : الإيمان ، والعمل الصالح ، والتواصي بالحق ، والتواصي بالصبر ، فيعملون الخير ويدعون إلى العمل به ، ولا يزحزحهم عن الدعوة إليه ما يلاقونه من مشقة وبلاء.

والإنسان جميعه خسر مساعيه وضلّ مناهجه ، وصرف عمره فى غير مطالبه ، فهو قد جاء إلى الأرض ليخلص نفسه من الرذائل ويتحلى بالفضائل ، حتى إذا رجع

٢٣٥

إلى عالم الأرواح كان أقوى جناحا ، وأمضى سلاحا ، لكنه حين رجع إلى مقره فى عالم السموات بالموت لم يجد إلا نقصا يحيط به ، وجهلا يرديه ، فندم إلا طائفة منه عاشوا فى الدنيا مفكرين ، فآمنوا بأنبيائهم وصدقوا برسلهم ، وأحبوا بنى جنسهم ، وأحسنوا إلى إخوانهم فساعدوهم بأنفسهم وأموالهم ، وصاروا معهم متعاضدين متعاونين وصبروا على ما نزل بهم من الحدثان ، ورموا به من البهتان ، فهؤلاء فى الدنيا يفوزون بما يريدون ، وفى الآخرة بالنعيم يفرحون.

جعلنا الله فى زمرة أولئك العاملين الذين تواصوا بالحق وتواصوا بالصبر.

سورة الهمزة

هى مكية ، وآياتها تسع ، نزلت بعد سورة القيامة.

ومناسبتها لما قبلها ـ أنه لما ذكر سبحانه فى السورة السابقة أن جميع أفراد الإنسان منغمسون فى الضلال إلا من عصم الله ـ ذكر هنا بعض صفات أهل الضلال.

أسباب نزول هذه السورة

قال عطاء والكلبي : نزلت هذه السورة فى الأخنس بن شريق ، كان يلمز الناس ويغتابهم وبخاصة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقال مقاتل : نزلت فى الوليد بن المغيرة ، كان يغتاب النبي صلى الله عليه وسلم من ورائه ويطعن فيه فى وجهه.

وقال محمد بن إسحق صاحب السيرة : ما زلنا نسمع أن هذه السورة نزلت فى أمية ابن خلف.

٢٣٦

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (١) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ (٢) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (٣) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (٤) وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (٥) نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ (٦) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (٧) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (٨) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (٩))

شرح المفردات

ويل : أي خزى وعذاب ، وهو لفظ يستعمل فى الذم والتقبيح ؛ والمراد به التنبيه على قبح ما سيذكر بعد من صفاتهم ، والهمزة للمزة : الذي يطعن فى أعراض الناس ويظهر عيوبهم ويحقّر أعمالهم ، تلذذا بالحط منهم وترفعا عنهم ؛ وأصل الهمز : الكسر يقال همز كذا : أي كسره ، وأصل اللمز الطعن ، يقال لمزه بالرمح : أي طعنه ثم شاع استعمالها فيما ذكرنا ، قال زياد الأعجم :

إذا لقيتك عن شحط تكاشرنى

وإن تغيبت كنت الهامز اللمزه

وعن مجاهد وعطاء : الهمزة الذي يغتاب ويطعن فى وجه الرجل ، واللمزة : الذي يغتاب من خلفه إذا غاب ، ومنه قول حسان :

همزتك فاختضعت بذلّ نفس

بقافية تأجّج كالشواظ

عدّده : أي عده مرة بعد أخرى شغفا به ، أخلده : أي ضمن له الخلود فى الدنيا ، والنبذ : الطرح مع الإهانة والتحقير ، والحطمة : من الحطم وهو الكسر ، يقال رجل حطمة إذا كان شديدا لا يبقى على شىء. وفى أمثالهم : شرّ الرّعاء الحطمة : أي الذي يحطم ما شيته ويكسرها بشدة سوقها قال :

قد لفّها الليل بسواق حطم

ليس براعي إبل ولا غنم

ولا بجزّار على ظهر وضم

٢٣٧

والمراد بها النار ، لأنها تحطم العظام وتأكل اللحوم حتى تهجم على القلوب ، تطّلع على الأفئدة : أي تعلو أوساط القلوب وتغشاها ، مؤصدة : أي مطبقة من أوصدت الباب : أي أغلقته قال :

تحنّ إلى أجبال مكة ناقتى

ومن دونها أبواب صنعاء موصده

والعمد : واحدها عمود ، وممدّدة : أي مطولة من أول الباب إلى آخره.

الإيضاح

(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ) أي سخط وعذاب من الله لكل طعّان فى الناس ، أكال للحومهم ، مؤذ لهم فى غيبتهم أو فى حضورهم.

ثم ذكر سبب عيبه وطعنه فى الناس فقال :

(الَّذِي جَمَعَ مالاً وَعَدَّدَهُ) أي إن الذي دعاه إلى الحط من أقدار الناس والزراية بهم هو جمعه للمال وتعديده مرة بعد أخرى ، شغفا به وتلذذا بإحصائه ، لأنه يرى أن لا عزّ إلا به ، ولا شرف بغيره ، فهو كلما نظر إلى كثرة ما عنده ظن أنه بذلك قد ارتفعت مكانته ، وهزأ بكل ذى فضل ومزية دونه ، ثم هو لا يخشى أن تصيبه قارعة بهمزة ولمزه وتمزيقه أعراض الناس ، لأن غروره أنساه الموت ، وأعمى بصيرته عن النظر فى مآله ، والتأمل فى أحواله.

ثم بين خطأه فى ظنه فقال :

(يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ) أي يظن هذا الهماز العياب أن ما عنده من المال قد ضمن له الخلود فى الدنيا ، وأعطاه الأمان من الموت ، فهو لذلك يعمل عمل من يظن أنه باق حيّا أبد الدهر ، ولا يعود إلى حياة أخرى يعاقب فيها على ما كسب من سىء الأعمال.

٢٣٨

وبعد أن توعد من هذه صفاته بشديد العقاب ، وأردفه ذكر السبب الذي حمله على ارتكاب هذه الخلال للمقوتة ، من ظنه أن ماله يضمن له الأمان من الموت ، أعقبه بتفصيل ما أعدّ له من هذا العذاب المحتوم فقال :

(كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ) أي ازدجر أيها العيّاب عما خيل إليك من أن المال يخلدك ويبقيك ، بل الذي ينفع هو العلم وصالح العمل ، فإنك والله مطروح فى النار لا محالة ، لا يؤبه لك ولا ينظر إليك.

وأثر عن علىّ كرم الله وجهه من عظة له : يا كميل هلك خزّان المال وهم أحياء ، والعلماء باقون ما بقي الدهر ، أعيانهم مفقودة ، وأمثالهم فى القلوب موجودة.

يريد أن خزان الأموال ممقوتون مكروهون عند الناس ، لأنهم لا ينالون منهم شيئا ، أما العلماء فالثناء عليهم مستمر ما بقي على الأرض إنسان ينتفع بعلمهم ، ويغترف من بحار فضلهم.

ثم أخذ يهوّل أمر هذه النار ويعظم شأنها فقال :

(وَما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ) أي إن هذه الحطمة مما لا تحيط بها معرفتك ، ولا يقف على حقيقتها عقلك ، فلا يعلم شأنها ، ولا يقف على كنهها ، إلا من أعدها لمن يستحقها.

ثم فسر هذه الحطمة بعد إبهامها فقال :

(نارُ اللهِ الْمُوقَدَةُ) أي إنها النار التي لا تنسب إلا إليه سبحانه ، إذ هو الذي أنشأها وأعدها لعقاب العصاة والمذنبين ، وفى وصفها بالموقدة إيماء إلى أنها لا تخمد أبدا بل هى ملتهبة التهابا لا يدرك حقيقته إلا من أوجدها.

ثم وصفها بأوصاف تخالف نيران الدنيا ليؤكد مخالفتها لها فقال :

(١) (الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ) أي إنها تتغلب على الأفئدة وتقهرها ، فتدخل فى الأجواف حتى تصل إلى الصدور ، فتأكل الأفئدة ، والقلب أشد أجزاء البدن تألما ، فإذا استولت عليه النار فأحرقته ، فقد بلغ العذاب بالإنسان غاية لا يقدرها قدرها.

٢٣٩

وقد يكون المراد بالاطلاع المعرفة والعلم ، وكأن هذه النار تدرك ما فى أفئدة الناس يوم البعث ، فتميز العاصي عن المطيع ، والخبيث عن الطيب ، وتفرق بين من اجترحوا السيئات فى حياتهم الأولى ، ومن أحسنوا أعمالهم ، وإنا لنكل أمر ذلك إلى علام الغيوب.

وفى وصفها بالاطلاع على الأفئدة التي أودعت باطن الإنسان فى أخفى مكان منه ـ إشارة إلى أنها إلى غيره أشد وصولا وأكثر تغلبا.

(٢) (إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ) أي إنها مطبقة عليهم لا يخرجون منها ، ولا يستطيعون الخروج إذا شاءوا ، فهم «كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها».

(٣) (فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) قال مقاتل : إلا الأبواب أطبقت عليهم ، ثم شدّت بأوتاد من حديد ، فلا يفتح عليهم باب ، ولا يدخل عليهم روح ا ه.

والمراد بذلك تصوير شدة إطباق النار على هؤلاء وإحكامها عليهم ، والمبالغة فى ذلك ليودع فى قلوبهم اليأس من الخلاص منها.

وعلينا أن نؤمن بذلك ولا نبحث عن كون العمد من نار أو حديد ولا فى أنها تمتد طولا أو عرضا ، ولا فى أنها مشبهة لعمد الدنيا ، بل نكل أمر ذلك إلى الله ، لأن شأن الآخرة غير شأن الدنيا ، ولم يأتنا خبر من الرسول صلى الله عليه وسلم يبين ذلك ، فالكلام فيه قول بلا علم ، وافتراء على الله الكذب.

نسأل الله أن يحفظنا من غضبه ، وبقينا شر النار الموصدة ، بمنه وكرمه.

٢٤٠