تفسير المراغي - ج ٣٠

أحمد مصطفى المراغي

شرح المفردات

اقتحم الشيء : دخل فيه بشدة ، والعقبة : الطريق الوعرة فى الجبل يصعب سلوكها ، والمراد بها مجاهدة الإنسان نفسه وهواه ومن يسوّل له فعل الشر من شياطين الإنس والجن ، وفك الرقبة : عتقها أو المعاونة عليه ، والمسبغة : الجوع ، يقال سغب الرجل يسغب إذا جاع ، والمقربة : القرابة فى النسب ، تقول فلان من ذوى قرابتى ومن أهل مقربتى إذا كان قريبك نسبا ، والمتربة : الفقر ، تقول ترب الرجل إذا افتقر ، وأترب إذا كثر ماله حتى صار كالتراب ، تواصوا بالصبر : أي نصح بعضهم بعضا به ، والميمنة : طريق النجاة والسعادة ، والمشأمة : طريق الشقاء ، مؤصدة : أي مطبقة عليهم من آصدت الباب ، أي أغلقته ، قال :

تحنّ إلى أجبال مكة ناقتى

ومن دونها أبواب صنعاء موصده

المعنى الجملي

بعد أن وبخ سبحانه هؤلاء المرائين الذين ينفقون أموالهم طلبا للشهرة ، وحبّا فى الأحدوثة ، وأنّبهم على افتخارهم بما صنعوا مع خلوّ بواطنهم من حسن النية ، وبين لهم أن أفضل ما يتمتعون به من البصر والنطق والعقل المميز بين الخير والشر ، والنفع والضر هو منه سبحانه ، وهو القادر على سلبه منهم ـ أردفه بيان أنه كان عليهم أن يشكروا تلك النعم ، ويختاروا طريق الخير ، ويرجحوا سبيل السعادة ، فيفيضوا على الناس بشىء مما أفاض به عليهم ، وأفضل ذلك أن يعينوا على تحرير الأرقاء من البشر ، أو يواسوا الأيتام من أقاربهم حين العوز وعزة الطعام ، أو يطعموا المساكين الذين لا وسيلة لهم إلى كسب ما يقيمون به أودهم لضعفهم وعجزهم ، ثم هم مع ذلك يكونون صحيحى الإيمان ، صبورين على أذى الناس ، وعلى ما يصيبهم من المكاره فى سبيل الدعوة إلى الحق ، رحماء بعباده ، مواسين لهم حين الشدائد.

١٦١

هذه هى الطريق التي كان من حق العقل أن يرشد إليها ، لكن الإنسان قد خدعه غروره فلم يقتحم هذه العقبة ، ولم يسلك هذه السبيل القويمة ، ولم يسر فيما يرشد إليه العقل السليم.

الإيضاح

(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) أي فهلا جاهد النفس والشيطان وعمل أعمال البر ، وقد ضرب الله العقبة مثلا لهذا الجهاد ، لأن الإنسان يريد أن يرقى من عالم الحس عالم الأشباح إلى عالم الأنوار والأرواح ، وبينه وبين ذلك عقبات من ورائها عقبات ، وسبيل الوصول إلى غايته هذه هى فعل الخيرات.

ثم فخم شأن العقبة وعظم أمرها فقال :

(وَما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ) أي وأىّ شىء أعلمك ما اقتحام العقبة؟

ثم أرشد إلى أن اقتحامها يكون بفعل صنوف من الخير منها :

(١) (فَكُّ رَقَبَةٍ) أي عتق الرقبة أو الإعانة عليها ، وقد ورد فى الكتاب الكريم والسنة الترغيب فى العتق والحث عليه.

روى البراء بن عازب رضى الله عنه قال : «جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله دلّنى على عمل يدخلنى الجنة ، قال : عتق النسمة وفك الرقبة ، قال : يا رسول الله أو ليسا واحدا؟ قال لا : عتق الرقبة أن تنفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن تعين فى ثمنها».

والكلام بتقدير مضاف : أي وما أدراك ما اقتحام العقبة ، فك رقبة ، لأن فك الرقبة ليس هو العقبة نفسها ، وإنما هو اقتحامها لأنه سبب موصل إلى مجاوزة العقبة والوصول إلى عالم الأنوار.

(٢) (أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ. يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ) أي أو إطعام يتيم من أقاربه فى أيام الجوع والعوز.

١٦٢

وفى هذا جمع بين حقين : حق اليتيم وحق القرابة.

(٣) (أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ) أي أو إطعام المسكين الذي لا وسيلة له إلى كسب المال لضعفه وعجزه.

(ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) أي ثم كان مع اقتحامه العقبة من صادق الإيمان الذين يصبرون على الأذى وما يصيبهم من المكاره فى سبيل الدفاع عن الحق ، ويرحمون عباد الله ويواسونهم ويساعدونهم حين البأساء.

وإنما اشترط الإيمان مع فعل هذه المبارّ ، لأن من فعلها دون أن يكون مؤمنا لم ينتفع بها ، ولم يكن له ثواب عليها ، إذ لا ينفع مع الكفر برّ.

ثم بيّن مآل فاعلى هذه المبرات فقال :

(أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ) أي أولئك الذين اقتحموا العقبة ففكوا الرقاب ، وأطعموا المساكين ، وواسوا ذوى القربى فى يوم المسغبة هم السعداء الممتعون بجنات النعيم ، وهم الذين عناهم الله بقوله : «وَأَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ. فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ. وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ. وَظِلٍّ مَمْدُودٍ. وَماءٍ مَسْكُوبٍ. وَفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ لا مَقْطُوعَةٍ وَلا مَمْنُوعَةٍ. وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ».

ثم ذكر مقابل هؤلاء وهم الذين صدوا عن سبيل الله ، وتواصوا بالإثم وتواصوا بالعدوان ومعصية الرسول فقال :

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ) أي والذين جحدوا آياتنا الكونية وآياتنا السمعية التي جاءت على ألسنة الرسل كالقرآن وغيره من الكتب السماوية هم أصحاب المشأمة ، أي أهل الشمال الذين وصفهم الله بقوله : «وَأَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ. فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ. وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ. لا بارِدٍ وَلا كَرِيمٍ إِنَّهُمْ

١٦٣

كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ. وَكانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ وَكانُوا يَقُولُونَ أَإِذا مِتْنا وَكُنَّا تُراباً وَعِظاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ. أَوَآباؤُنَا الْأَوَّلُونَ».

(عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ) أي عليهم نار تطبق عليهم فلا يستطيعون الفكاك منها ولا الخلاص من عذابها. نجانا الله منها بمنه وكرمه ، وجعلنا من أصحاب الميمنة.

مقاصد هذه السورة

تشتمل هذه السورة على خمسة مقاصد :

(١) ما ابتلى به الإنسان فى الدنيا من النصب والتعب.

(٢) اغترار الإنسان بقوته.

(٣) نكران النعم التي أنعم الله بها عليه من العينين واللسان والعقل والفكر (٤) سبل النجاة الموصلة إلى السعادة.

(٥) كفران الآيات سبيل الشقاء.

١٦٤

سورة الشمس

هى مكية ، وآياتها خمس عشرة ، نزلت بعد سورة القدر.

ومناسبتها لما قبلها :

(١) أنه سبحانه ختم السورة السابقة بذكر أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ، وأعاد ذكر الفريقين فى هذه السورة بقوله : «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها. وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها».

(٢) ختم السورة السالفة بشىء من أحوال الكفار فى الآخرة ، وختم هذه بشىء من أحوالهم فى الدنيا.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها (١) وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها (٢) وَالنَّهارِ إِذا جَلاَّها (٣) وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (٤) وَالسَّماءِ وَما بَناها (٥) وَالْأَرْضِ وَما طَحاها (٦) وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها (٧) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها (٨) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (٩) وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (١٠))

شرح المفردات

ضحى الشمس : ضوؤها ، تلاها : أي تبعها ، يقال تلا فلان فلانا يتلوه إذا تبعه ، وجلاها : أي كشف الشمس وأتمّ وضوحها ، يغشاها : أي يزيل ضوءها ويحجبه ، والسماء : كل ما ارتفع فوق رأسك ، والمراد به هذا الكون الذي فوقك وفيه الشمس والقمر وسائر الكواكب التي تجرى فى مجاريها ، بناها : أي رفعها ، وجعل كل

١٦٥

كوكب من الكواكب بمنزلة لبنة من بناء سقف أو قبة تحيط بك ، وطحا الأرض بسطها وجعلها فراشا ، سوّاها : أي ركب فيها القوى الظاهرة والباطنة ، وجعل لكل منها وظيفة تؤديها ، ألهمها : عرّفها ومكّنها ، والفجور : ما يكون سببا فى الخسران والهلكة ، والتقوى : إتيان ما يحفظ النفس من سوء العاقبة ، أفلح : أي أصاب الفلاح ، وهو إدراك المطلوب ، وزكاها : أي طهرها من أدناس الذنوب ، وخاب :أي خسر ، ودسّاها : أي أنقصها وأخفاها بالذنوب والمعاصي قال :

ودسست عمرا فى التراب فأصبحت

حلائله منه أرامل ضيّعا

الإيضاح

(وَالشَّمْسِ وَضُحاها) أقسم سبحانه بالشمس نفسها غابت أو ظهرت ، لأنها خلق عظيم على قدرة مبدعها ، وأقسم بضوئها لأنه مبعث الحياة فى كل حى ، فلولاها ما أبصرت حيّا ولا رأيت ناميا ، ولولاها ما وجد الضياء ولا انتشر النور ، وإذا أرسلت خيوطها الذهبية على مكان فرّ منه السقم ، وولت جيوش الأمراض هاربة ، لأنها تفتك بها فتكا ذريعا.

(وَالْقَمَرِ إِذا تَلاها) أي والقمر إذا تلا الشمس فى الليالى البيض من الليلة الثالثة عشرة من الشهر إلى السادسة عشرة وقت امتلائه أو قربه من الامتلاء حين يضىء الليل كله من غروب الشمس إلى الفجر.

وهذا قسم بالضوء فى طور آخر ، وهو ظهوره وانتشاره الليل كله.

وقد يكون المراد ـ بتلاها أي تبعها فى كل وقت ، لأن نوره مستمد من نور الشمس فهو لذلك يتبعها ، وقد قال بهذا الفرّاء قديما وأثبته علماء الفلك حديثا.

(وَالنَّهارِ إِذا جَلَّاها) أي والنهار إذا جلّى الشمس وأظهرها وأتمّ وضوحها ، إذ كلما كان النهار أجلى ظهورا كانت الشمس أكمل وضوحا.

١٦٦

وأقسم بهذه المخلوقات ، للإشارة إلى تعظيم أمر الضوء وإعظام أمر النعمة فيه ، وفيه لفت لأذهاننا إلى أنه آية من آيات ربنا الكبرى ، ونعمة من نعمه العظمى.

وفى قوله : جلاها بيان للحال التي يكشف فيها النهار تلك الحكمة البالغة ، والآية الباهرة.

وبعد أن أقسم بالضياء فى أطوار مختلفة أقسم بالليل فى حال واحدة فقال :

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشاها) أي والليل إذا يغشى الشمس فيزيل ضوءها فى الليالى الحالكة التي لا أثر لضوء الشمس فيها ، لا مباشرة كما فى النهار ، ولا بالواسطة كضوء القمر المستفاد منها ، وهى قليلة فإنها ليلة أو ليلتان أو بعض ليال فى الشهر.

وفى هذا إيماء إلى أن الليل يطرأ على هذا الكواكب العظيم فيذهب ضوءه ، ويحيل نور العالم ظلاما فهو على جليل نفعه وعظيم فائدته ، لا يتخذ إلها لأن الإله لا يحول ولا يزول ، ولا يعتريه تغير ولا أفول.

وفيه ردع وتأنيب للمشركين على تأليهه وعبادته.

وبعد أن ذكر الأوصاف الدالة على عظمة هذه الأجرام ـ أردفه ذكر صفات تدل على حدوثها فقال :

(وَالسَّماءِ وَما بَناها) أي والسماء ومن قدّرها على النحو الذي اقتضته مشيئته وحكمته.

وفى ذكر البنيان إشارة إلى ما انطوى عليه رفعها وتسويتها من بارع الحكمة وتمام القدرة ، وأن لها صانعا حكيما قد أحكم وضعها وأجاد تقديرها ، فإنه شد هذه الكواكب بعضها إلى بعض برباط الجاذبية العامة كما تربط أجزاء البناء الواحد بما يوضع بينها حتى يتماسك.

ولما كان الخطاب موجها إلى قوم لا يعرفون الله بجليل صفاته ، وكان القصد منه أن ينظروا فى هذا الكون نظرة من يطلب للأثر مؤثرا ، فينتقلوا من ذلك إلى معرفته تعالى ـ عبر عن نفسه بلفظ (ما) التي هى الغاية فى الإبهام.

١٦٧

(وَالْأَرْضِ وَما طَحاها) أي والأرض والذي بسطها ومهدها للسكنى ، وجعل الناس ينتفعون بما على ظهرها من نبات وحيوان ، وبما فى باطنها من مختلف المعادن.

ونحو الآية قوله : «الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَالسَّماءَ بِناءً».

وقصارى ما سلف ـ إنه بعد أن أقسم سبحانه بالضياء والظلمة ، أقسم بالسماء وما فيها من الكواكب ، وبالذي بناها وجعلها مصدرا للضياء ، وبالأرض والذي جعلها لنا فراشا ومصدرا للظلمة ، فإنها هى التي يحجب بعض أجزائها ضوء الشمس عن بعضها الآخر فيظهر فيه الظلام.

ثم أقسم بعد هذا بالنفس الإنسانية لما لها من شرف فى هذا الوجود فقال :

(وَنَفْسٍ وَما سَوَّاها) أي قسما بالنفس ومن سواها وركب فيها قواها الباطنة والظاهرة ، وحدد لكل منها وظيفة تؤديها ، وألف لها الجسم الذي تستخدمه من أعضاء قابلة لاستعمال تلك القوى.

ثم بين أثر هذه التسوية فقال :

(فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَتَقْواها) أي فألهم كل نفس الفجور والتقوى وعرفها حالهما ، بحيث تميز الرشد من الغىّ ، ويتبين لها الهدى من الضلال ، وجعل ذلك معروفا لأولى البصائر.

وبعد أن ذكر أنه ألهم النفوس معرفة الخير والشر ذكر ما تلقاه جزاء على كل منهما فقال :

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها) أي قد ربح وفاز من زكى نفسه ونمّاها حتى بلغت غاية ما هى مستعدة له من الكمال العقلي والعملي ، حتى تثمر بذلك الثمر الطيب لها ولمن حولها.

(وَقَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها) أي وخسر نفسه وأوقعها فى التهلكة من نقصها حقها بفعل المعاصي ومجانبة البر والقربات ، فإن من سلك سبيل الشر ، وطاوع داعى

١٦٨

الشهوة فقد فعل ما تفعل البهائم ، وبذلك يكون قد أخفى عمل القوة العاقلة التي اختص بها الإنسان ، واندرج فى عداد الحيوان.

ولا شك أنه لا خيبة أعظم ، ولا خسران أكبر من هذا المسخ الذي يجلبه الشخص لنفسه بسوء أعماله.

والمحلوف عليه الذي افتتحت به السورة ـ محذوف للعلم به من نظائره ، وكأنه قيل : «وَالشَّمْسِ وَضُحاها ...» لينزلنّ بالمكذبين منكم مثل ما نزل بثمود إذ كذبت نبيّها فأصابها العذاب ، ودليل ذلك قوله بعد : «كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها» الآيات ، فإنها ترشد إلى أن الله يعاقب من يكذب رسله ، نحو ما سبق فى سورة البروج.

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (١١) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (١٢) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها (١٣) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (١٤) وَلا يَخافُ عُقْباها (١٥))

شرح المفردات

الطّغوى والطغيان : مجاوزة الحد المعتاد ، انبعث : أي قام بعقر الناقة ، أشقاها : أي أشقى ثمود وهو قدار بن سالف ، رسول الله : هو صالح عليه السلام ، ناقة الله ، أي احذروا التعرض لناقة الله ، وسقياها : أي شربها الذي اختصها به فى يومها ، فعقروها : أي فنحروها ، فدمدم : أي فأطبق عليهم العذاب ، يقال : دمدم عليه القبر : أي أطبقه عليه ، فسواها : أي فسوى القبيلة فى العقوبة فلم يفلت منها أحد ، عقباها : أي عاقبة الدمدمة وتبعتها.

١٦٩

المعنى الجملي

جرت عادة القرآن أن يذكر بعض أخبار الأمم السابقة وما كان منهم مع رسلهم وما قابلوه به من التكذيب والإيذاء ، ثم يذكر ما جرت به سنته سبحانه من الإيقاع بالمكذبين ، وأخذهم بظلمهم وبما عملوا مع أنبيائهم ، ليكون فى ذلك سلوة للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه لم يلق إلا ما لقى إخوانه الأنبياء ، ولم يكابد من قومه إلا مثل ما كابدوا ، وليكون فى ذلك تخويف لأولئك المكذبين الذين يعاندون رسول الله ويلحفون فى تكذيبه ، بأنهم إذا استمروا على ذلك حاق بهم مثل ما حاق بالأمم السالفة ونالوا من الجزاء مثل ما نالوا.

الإيضاح

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها) أي كذبت ثمود نبيّها صالحا بسبب طغيانها وبغيها.

ثم بين أمارة ذلك التكذيب فقال :

(إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها) أي كان انطلاق الأشقى لعقر الناقة والقوم راضون عنه علامة ظاهرة على تكذيبهم لنبيهم

الذي جعلها دليل نبوته ، وبرهانا على صدق رسالته ، وأوعدهم إذا هم تعرضوا لها ، وسكوت قومه على ما يفعل دليل رضاهم عن فعله ، فكانوا مكذبين مثله.

ثم ذكر ما توعدهم به الرسول على فعلهم فقال :

(فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ : ناقَةَ اللهِ وَسُقْياها) أي فقال لهم صالح : احذروا ناقة الله التي جعلها آية نبوّتى ، واحذروا شربها الذي اختصّت به فى يومها ، فلا تؤذوها ولا تتعدوا عليها فى شربها ولا فى يوم شربها ، وكان صالح عليه السلام قد اتفق معهم على أن للناقة شرب يوم ، ولهم ولمواشيهم شرب يوم ، فكانوا يجدون فى أنفسهم حرجا لذلك ويتضررون منه ، فهمّوا بقتلها فحذّرهم أن يفعلوا ذلك ،

١٧٠

وخوّفهم عذاب الله وعقابه الذي ينزله بهم إن هم أقدموا على هذا الفعل ، لكنهم كذبوه ولم يستمعوا لنصحه كما أشار إلى ذلك بقوله :

(فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها) أي إنهم لم يتورّعوا عن تكذيبه ، ولم يحجموا عن عقر الناقة ، ولم يبالوا بما أنذرهم به من العذاب وأليم العقاب.

وقد تقدم أن قلنا : إنهم لما رضوا بهذا الفعل نسب إليهم جميعا ، وكأنهم صنعوه معه.

ثم بين عاقبة عملهم وذكر ما يستحقونه من الجزاء فقال :

(فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ) أي فأطبق عليهم العذاب ، وأهلكهم هلاك استئصال ولم يبق منهم ديّارا ولا نافخ نار ، كما أشار إلى ذلك بقوله :

(فَسَوَّاها) أي فسوّى القبيلة فى العقوبة ولم يفلت منها أحد ، بل أخذ بها كبيرهم وصغيرهم ، ذكرهم وأنثاهم : «وَكَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى وَهِيَ ظالِمَةٌ».

وقد يكون المعنى ـ جعل الأرض فوقهم مستوية كأن لم تثر ، ودمّر مساكنها على ساكنيها.

(وَلا يَخافُ عُقْباها) أي إن الله أهلكهم ولا يخاف عاقبة إهلاكهم ، لأنه لم يظلمهم فيخيفه الحق ، وليس هو بالضعيف حتى يناله منهم مكروه ، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.

والمراد أنه بالغ فى عذابهم إلى غاية ليس فوقها غاية ، فإن من يخاف العاقبة لا يبالغ فى الفعل ، أما الذي لا يخاف العاقبة ولا تبعة العمل فإنه يبالغ فيه ليصل إلى ما يريد.

وقد علمت أن القصص مسوق لتسلية رسوله بأنه سينزل بالمكذبين به مثل ما أنزل بثمود ، ولقد صدق الله وعده ، فأهلك من أهلك من أهل مكة فى وقعة

١٧١

بدر بأيدى المؤمنين ، ثم لم يزل يحل بهم الخزي والعذاب بالقتل تارة وبالإبعاد أخرى حتى لم يبق فى جزيرة العرب مكذّب ، ولو سارت الدعوة إلى الإسلام سيرتها فى عهد الصحابة لما بقي فى الأرض مكذب ، ولله الأمر من قبل ومن بعد.

مقاصد هذه السورة

اشتملت هذه السورة على مقصدين :

(١) الإقسام بالمخلوقات العظيمة على أن من طهر نفسه بالأخلاق الفاضلة فقد أفلح وفاز ، وأن من أغواها ونقصها حقها بجهالته وفسوقه فقد خاب.

(٢) ذكر ثمود مثلا لمن دسى نفسه فاستحق عقاب الله الذي هو له أهل.

١٧٢

سورة الليل

هى مكية ، وآياتها إحدى وعشرون ، نزلت بعد سورة الأعلى.

ومناسبتها لما قبلها ـ أنه ذكر هناك فلاح المطهرين لأنفسهم وخيبة المدسّين لها وهنا ذكر ما يحصل به الفلاح وما تحصل فيه الخيبة ، فهى كالتفصيل لسابقتها.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى (١) وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى (٢) وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى (٣) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (٤))

شرح المفردات

يغشى : أي يغطى كل شىء فيواريه بظلامه ، تجلى : أي ظهر وانكشف بظهوره كل شىء ، وما خلق : أي والذي خلق ، وشتى : واحدها شتيت ، وهو المتباعد بعضه من بعض.

المعنى الجملي

أقسم سبحانه بما أقسم بأن سعى البشر مختلف ، فأقسم :

(١) بالليل الذي يأوى فيه كل حيوان إلى مستقره ، ويسكن عن الاضطراب إذ يغشاه النوم الذي فيه راحة لبدنه وجسمه.

(٢) بالنهار الذي يتحرك فيه الناس لمعاشهم ، وفيه تغدو الطير من أو كارها وتخرج الهوامّ من أجحارها.

(٣) بالقادر العظيم الذي خلق الذكر والأنثى وميّز بين الجنسين مع أن المادة

١٧٣

التي تكوّنا منها واحدة ، والمحل الذي تكوّنا فيه واحد ، وفى ذلك دليل على تمام العلم وعظيم القدرة كما قال : «يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَيَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ. أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَإِناثاً وَيَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ».

الإيضاح

(وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى) أي قسما بالليل حين يغشى الأشياء ويواريها فى ظلامه ، ويكون فيه مستراح للناس من أعمالهم ، بما يشملهم من النوم والهدوء.

(وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى) بزوال ظلمة الليل ، فيتحرك الإنسان والحيوان ، طلبا لمعاشهما ، وبهذا يظهر وجه المصلحة فى اختلافهما ، إذا لو كان الدهر كله ليلا لتعذر المعاش على الناس ، ولو كان كله نهارا لبطلت المصلحة ، فكان فى تعاقبهما آية بالغة يستدل بها على علم الصانع وحكمته ، اقرأ إن شئت قوله : «وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً».

(وَما خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثى) أي قسما بالقادر العظيم الذي خلق الذكر والأنثى من ماء واحد.

وفى هذا دليل على أنه عليم جدّ العلم بدقائق المادة وما فيها ، إذ لا يعقل أن يكون هذا التخالف بين الذكر والأنثى فى الحيوان بمحض الاتفاق من طبيعة لا شعور لها بما تفعل ، فإن الأجزاء الأصلية فى المادة متساوية النسبة فيهما ، فحدوث هذا التخالف فى الجنين دليل على أن واضع هذا النظام عالم بما يفعل ، حكيم فيما يصنع ويضع.

وقصارى ما سلف ـ إن بعض الماء يكون تارة سببا للحمل ، وأخرى يكون غير مستعدّ للتلقيح ، والأول يكون من بعضه الذكران ، ومن بعضه الإناث.

سبحانه ما أعظم قدرته ، وأجلّ حكمته ، لا إله إلا هو الفعال لما يريد.

١٧٤

ثم ذكر المحلوف عليه فقال :

(إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى) أي إن أعمالكم أيها الناس لمتباعدة متفرقة ، بعضها ضلال وعماية ، وبعضها هدى ونور ، وبعضها يستحق النعيم ، وبعضها يستحق العذاب الأليم كما قال : «أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ» وقال : «لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَأَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ».

(فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى (٥) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى (٦) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (٧) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى (٨) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى (٩) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (١٠) وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (١١))

شرح المفردات

أعطى : أي بذل ماله ، واتقى : أي ابتعد عن الشر وإيصال الأذى إلى الناس ، بالحسنى : أي بالخصلة الحسنى التي هى أفضل من غيرها ، لليسرى : أي للخصلة التي تؤدى إلى يسر وراحة بتمتعه بالنعيم ، استغنى : أي عدّ نفسه غنيا عما عند الناس بما لديه من مال ، فلا يجد فى قلبه راحة لضعفائهم ببذل المال والمعونة لهم ، بالحسنى : أي بالفضيلة وبأنها ركن من أركان الاجتماع ، للعسرى : أي الخصلة التي تؤديه إلى العسر ، ويقال تردى فلان من الجبل إذا هوى من أعلاه وسقط إلى أسفله.

المعنى الجملي

بعد أن أشار إلى اختلاف أعمال الناس فى أنواعها وصفاتها ، والجزاء الذي يعود على فاعلها ـ أخذ يفصل هذا الاختلاف ، ويبين عاقبة كل عمل منها.

١٧٥

الإيضاح

(فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَاتَّقى) أي فأما من أعطى المال وأنفقه فى وجوه الخير ، سواء كان واجبا عليه أم لا كالصدقات والنوافل كفك الأسارى وتقوية المسلمين على عدوهم ، وابتعد عن كل ما لا ينبغى ، فحمى نفسه عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وخاف من إيصال الأذى إلى الناس.

(وَصَدَّقَ بِالْحُسْنى) أي وصدق بثبوت الفضيلة والعمل الطيب ، ونحو ذلك مما هو مركوز فى طبيعة الإنسان ، وهو مصدر الصالحات وأفعال البر والخير.

ولا يكون تصديقا حقا ، ولا ينظر الله إليه إلا إذا صدر عنه الأثر الذي لا ينفك عنه وهو بذل المال ، واتقاء مفاسد الأعمال.

وكثير من الناس يظن نفسه مصدّقا بفضل الخير على الشر ؛ ولكن هذا التصديق يكون سرابا فى النفس ، خيّله الوهم ، لأنه لا يصدر عنه ما يليق به من الأثر ، فتراه قاسى القلب ، بعيدا عن الحق ، بخيلا فى الخير ، مسرفا فى الشر.

ثم ذكر جزاءه على ذلك فقال :

(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى) أي فسنهيئه لأيسر الخطتين وأسهلهما فى أصل الفطرة ، وهو تكميل النفس إلى أن تبلغ المقام الذي تجد فيه سعادتها ؛ فالإنسان إنما يمتاز عن غيره من الحيوان بالتفكير فى الأعمال ووزنها بنتائجها.

فإذا حصل ذلك وظهرت آثاره فيها سهل الله له ما هو مسوق إليه بأصل فطرته.

وفاعل الخير للخير يجد أريحيّة فى نفسه ، ويذوق لذة لا تعد لها لذة ، فتزيد فيه رغبته ، وتشتد لفعله عزيمته ؛ وهذا هو التيسير الإلهى الذي يوفق الله له الصالحين من عباده.

(وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنى) أي وأما من أمسك ماله أو أنفقه فى شهواته ، ولم ينفقه فيما يقرب من ربه ، وخدعته ثروته وجاهه ، فظن أنه بذلك لا يحتاج إلى أحد ولا يحس

١٧٦

بأنه واحد من الناس يصيبه ما أصابهم من السوء.

(وَكَذَّبَ بِالْحُسْنى) أي وكذب بأن الله يخلف على المنفقين فى سبيله ، فبخل بماله ولم ينفق إلا فيما يلذ له ويمتّعه فى حاضره ولا يبالى بما عدا ذلك.

ويدخل فى المكذبين بالحسنى أولئك الذين يتكلمون بها تقليدا لغيرهم ، ولا يظهر أثرها فى أعمالهم.

(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى) أي ومن مرنت نفسه على الشر وتعودت الخبث فيسهل الله له الخطة العسرى ، وهى الخطة التي يحط بها قدر نفسه ، وينزل بها إلى حضيض الآثام ويغمسها فى أوحال الخطيئة.

(وَما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى) أي وإذا يسرناه للعسرى فأى شىء يغنى عنه ماله الذي بخل به على الناس ولم ينفقه فى المصالح العامة ، وفيما يعود نفعه على الجماعة ، ولم يصحب منه شيئا إلى آخرته التي هى موضع حاجته وفقره كما قال : «وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ».

(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (١٢) وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى (١٣) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (١٤) لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (١٥) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٦) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (١٧) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (١٨) وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (١٩) إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (٢٠) وَلَسَوْفَ يَرْضى (٢١))

شرح المفردات

تلظى : أصله تتلظى ، أي تتوقد وتلتهب ، يقال : تلظت النار تلظيا بمعنى التهبت التهابا ومنه سميت النار لظى ، يصلاها : أي يحترق بها ، كذب : أي كذب

١٧٧

الرسول فيما جاء به عن ربه ، وتولى : أي أعرض عن طاعة ربه ، وسيجنبها : أي يبعد عنها ويصير منها على جانب ، والأتقى : المبالغ فى اتقاء الكفر والمعاصي : الشديد التحرز منهما ، يتزكى : أي يتطهر ، تجزى : أي تجازى وتكافأ ، ابتغاء وجه ربه : أن طلب مثوبته.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أن سعى الخلائق مختلف فى نفسه وعاقبته ، وأرشد إلى أن المحسن فى عمله يوفقه الله إلى أعمال البر ، وأن المسيء فيه يسهل له الخذلان ـ أردفه أنه قد أعذر إلى عباده بتقديم البيان الذي تنكشف معه أعمال الخير والشر جميعا ، ووضح السبيل أمام كل سالك ، فإن شاء سلك سبيل الخير فسلم وسعد ، وإن أراد ذهب فى طريق الشر فتردّى فى الهاوية.

روى أن الآيات نزلت فى أبى بكر رضى الله عنه. وقد كان من أمره أن بلال ابن رباح عليه الرضوان ، وكان مولى لعبد الله بن جدعان ـ جاء إلى الأصنام وسلح عليها ، فشكا كفار مكة إلى مولاه فوهبه لهم ، ووهب لهم مائة من الإبل ينحرونها لآلهتهم فجعلوا يعذبونه ويخرجونه إلى الرمضاء ، وكان يقول وهم يعذبونه : أحد أحد وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمر به وهو يعذب فيقول له : ينجيك أحد أحد ، ثم أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر رضى الله عنه بما يلقى بلال فى الله ، فحمل أبو بكر رطلا من ذهب وابتاعه من المشركين وأعتقه ، فقال المشركون : ما فعل ذلك أبو بكر إلا ليد كانت لبلال عنده ، فنزل قوله : «وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى» الآيات.

الإيضاح

(إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى) أي إنا خلقنا الإنسان وألهمناه التمييز بين الحق والباطل ، وبين الخير والشر ، ثم بعثنا له الكملة من أفراده ، وهم الأنبياء وشرعنا لهم الأحكام

١٧٨

وبينا لهم العقائد تعليما وإرشادا ، ثم هو بعد ذلك يختار أحد السبيلين : سبيل الخير والفلاح ، والسبيل المعوجّ فيتردّى فى الهاوية.

وقصارى ذلك ـ إن الإنسان خلق نوعا ممتازا عن سائر الحيوان بما أوتيه من العقل ، وبما وضع له من الشرائع التي تهديه إلى سبيل الرشاد.

ثم زاد الأمر توكيدا فأبان عظيم قدرته فقال :

(وَإِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولى) أي وإنا لنحن المالكون لكل ما فى الدنيا وكل ما فى الآخرة ، فنهب ما نشاء لمن نريد ، ولا يضيرنا أن يترك بعض عبادنا الاعتداء بهدينا الذي بيّناه لهم ، ولا يزيد فى ملكنا اهتداء من اهتدى منهم ، لأن نفع ذلك وضره عائد إليهم ، فمن اهتدى فإنما يهتدى لنفسه ، ومن ضل فإنما يضل عليها ، وما ربك بظلام للعبيد.

وإذا كان ملك الحياتين لله كان هديه هو الذي يجب اتباعه فيهما ، لأن المالك لأمر عالم بوجوه التصرف فيه.

ثم بين سبيل الهداية الذي أوجبه على نفسه فقال :

(فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى. لا يَصْلاها إِلَّا الْأَشْقَى. الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) أي لرحمتنا بكم وعلمنا الكامل بمصالحكم أسدينا إليكم الهدى ، فأنذرناكم نارا تلتهب يعذب فيها من كذب الرسول صلى الله عليه وسلم فيما جاء به عن ربه من الآيات ، وأعرض عن اتباع شرائعه ، وانصرف عن وجهة الحق ولم يعد إليها تائبا نادما.

(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) أي وسيبعد عنها المبالغ فى اتقاء الكفر والمعاصي ، الشديد التحرز منهما بحيث لا يخطرهما له ببال.

ثم وصف الأتقى بأفضل مزاياه فقال :

(الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى) أي إن الأتقى هو الذي ينفق أمواله فى وجوه البر ، طالبا بذلك طهارة نفسه وقربها من ربه ، لا مريدا بذلك رياء ولا سمعة ولا طالبا مديح الناس له ، فإن ذلك ضرب من النفاق الذي يبطل معه العمل ، ولا يكون

١٧٩

لصاحبه عليه ثواب مهما أتعب نفسه وأجهدها ، فالله لا يقبل من العمل إلا ما كان خالصا لوجهه.

وقد أكد هذا بقوله :

(وَما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى) أي إنه لا يقصد بإنفاقه المال مكافأة أحد على نعمة كان قد أسلفها ، ولا جزاء معروف كان قد تقدم به إليه.

ثم أكده مرة ثانية فقال :

(إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى) أي لكنه يفعل ذلك قاصدا رضا ربه طالبا مثوبته وحده ، تقول : فعلت كذا أبتغى وجه فلان ، أي لم يحملنى على الفعل إلا إجلاله وقصد مرضاته ، وخيفة الوقوع فيما يغضبه.

ثم وعد ذلك الأتقى بالرضا عنه فقال :

(وَلَسَوْفَ يَرْضى) أي ولسوف يرضيه ربه فى الآخرة بثوابه وعظيم جزائه.

وفى قوله : (وَلَسَوْفَ) إيماء إلى أن الرضا يحتاج إلى بذل كثير ، ولا يكفى القليل من المال ، لأن يبلغ العبد منزلة الرضا الإلهى.

وقصارى ما سلف : إن الناس أصناف :

(١) الأبرار الذين منحهم الله من قوة العقل وصفاء اليقين ما يجعلهم يبتعدون عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن.

(٢) الذين يلون هؤلاء ، وهم من تغلبهم الشهوة أحيانا فيقعون فى الذنب ، ثم يثوب إليهم رشدهم فيتوبون ويندمون ، وهذان القسمان يدخلان فى (الْأَتْقَى).

(٣) من يخلط بين الخير والشر فيعتقد وحدانية الله ويقترف بعض السيئات ، ويصرّ عليها ولا يتوب منها ، فهذا الإصرار منه دليل على أنه غير مصدّق حق التصديق بما جاء فيها من الوعيد.

يرشد إلى ذلك قوله صلى الله عليه وسلم «لا يزنى الزاني حين يزنى وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن» والمراد أن صورة الوعيد تذهب عن

١٨٠