تفسير المراغي - ج ٣٠

أحمد مصطفى المراغي

بالرجل منهم فيخيره ، فمن جزع من النار وخاف العذاب ورجع عن دينه ورضى اليهودية تركه ، ومن استمسك بدينه ولم يبال بالعذاب الدنيوي لثقته بأن الله يجزيه أحسن الجزاء ـ ألقاه فى النار وكان حولها يشرف على هلاكه.

ثم بيّن من هم أصحاب الأخدود فقال :

(النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ) أي إن أصحاب الأخدود هم أصحاب النار التي لها من الحطب الكثير ما يشتد به لهيبها ، لا جرم يكون حريقها عظيما ، ولهيبها متطايرا.

(إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ) أي قتلوا ولعنوا حين أحرقوا المؤمنين بالنار وهم قاعدون حولها يشرفون عليهم وهم يعذبون بها ، ويحرقون فيها كما أشار إلى ذلك بقوله :

(وَهُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ) أي إن أولئك الجبابرة الذين أمروا بإحراق المؤمنين كانوا حضورا عند تعذيبهم ، يشاهدون ما يفعله بهم من أتباعهم.

وفى هذا إيماء إلى قسوة قلوبهم ، وتمكن الكفر منهم ، إلى ما فيه من إشارة إلى قوة اصطبار المؤمنين وشدة جلدهم ، ورباطة جأشهم ، واستمساكهم بدينهم.

وقد يكون المعنى ـ يشهد بعضهم لبعض عند الملك أنه لم يقصر فى التنكيل بالمؤمنين.

(وَما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) أي إن هؤلاء الكفار لم يعاقبوا المؤمنين إلا على شىء لا يجوز العقاب عليه ، بل ينبغى لكل أحد أن يكون عليه ، ويدعو غيره إلى التمسك به ، وهو الإيمان بالله تعالى العزيز الغالب الذي يخشى عقابه ، وتهاب صولته ، المنعم الذي يرجى ثوابه ، وترتقب نعماؤه.

ثم أكد استحقاقه للعزة والحمد بقوله :

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) أي لأنه مالك الأمر كله فيهما ، فلا مفرّ لأولئك الظالمين من سلطانه ، وأن ما يلاقيه المؤمنون ليس إلا امتحانا وابتلاء مما يمحض الله به أهل طاعته ، ليبلوهم أيهم أحسن عملا.

١٠١

ثم وبخهم على ما صنعوا بالمؤمنين وأوعدهم بأنهم سيلاقون جزاء ما فعلوا فقال :

(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فهو عليم بما يكون من خلقه ومجازيهم عليه.

(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (١٠) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (١١))

شرح المفردات

فتنوا : أي ابتلوا وامتحنوا ، عذاب الحريق : هو عذاب جهنم ذكر تفسيرا وبيانا له ، الفوز الكبير : أي الذي تصغر الدنيا بأسرها عنده ، بما فيها من رغائب لا تفنى.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر قصة أصحاب الأخدود وبين ما فعلوه من الإيذاء والتنكيل بالمؤمنين وذيّل ذلك بما يدل على أنه لو شاء لمنع بعزته وجبروته أولئك الجبابرة عن هؤلاء المؤمنين ، وأنه إن أمهل هؤلاء الفجرة عن العقاب فى الدنيا فهو لم يهملهم ، بل أجّل عقابهم ليوم تشخص فيه الأبصار ـ ذكر ما أعد للكفار من العذاب الأليم ، جزاء ما اجترحت أيديهم من السيئات التي منها إيذاء المؤمنين ، وما أعد للمؤمنين من جميل الثواب ، وعظيم الجزاء.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ) أي إن الذين امتحنوا المؤمنين والمؤمنات بالتعذيب ، ليردوهم عن دينهم ،

١٠٢

وثبتوا على كفرهم وعنادهم ولم يتوبوا حتى أخذهم الموت ـ أعدّ الله لهم عذابا فى جهنم بالحريق.

وقد كان الضالون من كل أمة يؤذون أهل الحق والدعاة إليه ، حرصا على ما ألفوا من الباطل ، وتشيعا لما وجدوا عليه أنفسهم وآباءهم الأقربين ، على غير بصيرة ، ولا استشارة للعقل السليم ، ولا يزال هذا شأنهم إلى يوم الدين.

أنظر إلى أصحاب الأخدود تجدهم قد عرضوا المؤمنين على النار وأحرقوهم بها ، وإلى كفار قريش ترهم قد فتنوا المؤمنين بالكثير من الإيذاء ، فعذبوا آل ياسر بفنون من العذاب ، وعذبوا بلالا بما لا يحصى من ضروب الأذى ، وفعلوا مثل هذا بكثير من أكابر المؤمنين ، حتى لقد آذوا الرسول الأكرم وألحقوا به كثيرا من العنت والأذى ، فرموه بالحجارة حتى أدموه ، بل فعلوا معه أكثر من هذا فخرجوا بخيلهم ورجلهم يقاتلونه وأصحابه ، ويتمنون لو يتمكنون منه ليقتلوه ، ولكن الله منعه منهم : «وَيَأْبَى اللهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ».

وفى قوله : «ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا» إيماء إلى أنهم لو تابوا قبل موتهم غفر الله لهم ما قدّموا قبل التوبة من ذنب.

وبعد أن ذكر ما أعد لأعدائه من النكال والعذاب الأليم ـ أرشد إلى ما يكون لأوليائه من النعيم المقيم ، ليكون ذلك أنكى للأعداء ، وأشد فى غيظهم ، وأبعث للأسى والحزن فى نفوسهم فقال :

(إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) أي إن الذين أقروا بوحدانية الله وعملوا صالح الأعمال ائتمارا بأوامره وكفوا عن نواهيه ابتغاء رضوانه ـ لهم بساتين تجرى من تحت أشجارها الأنهار ، وهذا هو الظفر الكبير لهم ، كفاء ما قدموا من إيمان وطاعة لربهم.

١٠٣

(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (١٢) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (١٣) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (١٤) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (١٥) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٦))

شرح المفردات

البطش : الأخذ بالعنف والشدة ، يبدئ ويعيد : أي هو الذي يبدأ الخلق ثم يفنيهم ثم يعيدهم أحياء مرة أخرى ، ليجازيهم بما عملوا فى حياتهم الأولى ، الغفور : أي الذي يعفو ويستر ذنوب عباده بمغفرته ، الودود : أي الذي يحب أولياءه ويتودّد إليهم بالعفو عن صغير ذنوبهم ، ذو العرش : أي صاحب الملك والسلطان والقدرة النافذة ، المجيد : أي السامي القدر المتناهي فى الجود والكرم ، تقول العرب : «فى كل شجر نار ، واستمجد المرخ والعفار» : أي تناهيا فى الاحتراق حتى يقتبس منهما.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر وعيد الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ، ووعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات. ووصف ما أعدّ لهم من الثواب كفاء أعمالهم ـ أردف ذلك كله بما يدل على تمام قدرته على ذلك ، ليكون ذلك بمثابة توكيد لما سبق من الوعيد والوعد فالملك لا يعظم سلطانه وهيبته فى النفوس إلا بأمرين :

(١) الجود الشامل والإنعام الكامل ، وبذا يرجى خيره.

(٢) الجيوش الجرارة والأساطيل العظيمة التي توقع بأعدائه وتنكل بهم ، وبذلك يهاب جانبه ، وإليهما معا أشار بقوله فيما سلف : «الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ» وهنا زاد الأمر إيضاحا بقوله «إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ» الآية.

١٠٤

الإيضاح

(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) أي إن انتقامه من الجبابرة والظلمة ، وأخذه إياهم بالعقوبة ـ لهو الغاية فى الشدة ، والنهاية فى الأذى والألم.

وفى هذا إرهاب لقريش ومن معها ، وتعزية لرسوله صلى الله عليه وسلم ولمن معه.

وقد زاد سبحانه أمر قدرته توكيدا فقال :

(إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) أي إنه يخلق الخلق ابتداء ، ثم يعيدهم بعد أن صيّرهم ترابا ، وإذا كان قادرا على البدء والإعادة فهو قادر على شديد البطش بهم ، لأنهم تحت قبضته ، وخاضعون لسلطانه.

فكأنه سبحانه يقول : إن مرجعكم إلى ربكم ، فإذا لم يعاقبكم فى هذه الحياة على ما تعملون مع أوليائه فلا تظنوا أن ذلك إهمال منه أو تقصير فى شأنهم ، بل أخر ذلك ليوم ترجعون إليه ، وهو اليوم الذي سيكون فيه البطش والانتقام منكم.

ثم ذكر سبحانه خمسة أوصاف من صفات الرحمة والجلال فقال :

(١) (وَهُوَ الْغَفُورُ) لمن يرجع إليه بالتوبة ، فيتجاوز عن سيئاته.

(٢) (الْوَدُودُ) لمن خلصت نفسه بالمحبة له.

(٣) (ذُو الْعَرْشِ) أي ذو الملك والعظمة ، والسلطان والقدرة النافذة ، والأمر الذي لا يردّ.

(٤) (الْمَجِيدُ) أي العظيم الكرم والفضل.

(٥) (فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ) أي لا يريد شيئا إلا فعله وفق إرادته ، فإذا أراد هلاك الجاحدين المعاندين ونصر أهل الحق الصادقين لم يعجزه ذلك ، وأين هم ممن سبقهم ممن كانوا أضل منهم وأشد قوة؟

١٠٥

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (١٧) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (١٨) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (١٩) وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (٢٠) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (٢١) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (٢٢))

شرح المفردات

الجنود : تطلق تارة على العسكر ، وتطلق أخرى على الأعوان ؛ والمراد بهم هنا الجماعات الذين تجندوا على أنبياء الله واجتمعوا على أذاهم ، فرعون : هو طاغية مصر ، ثمود : قبيلة بائدة من العرب لا يعرف من أخبارها إلا ما قصه الله علينا ، محيط : أي هم فى قبضته وحوزته كمن أحيط به من ورائه فانسدت عليه المسالك ، مجيد : أي شريف محفوظ : أي مصون من التحريف ، والتغيير والتبديل.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر قصص أصحاب الأخدود وبيّن حالهم ، ووصف ما كان من إيذائهم للمؤمنين ـ أردف ذلك ببيان أن حال الكفار فى كل عصر ، وشأنهم مع كل نبىّ وشيعته جار على هذا المنهج ، فهم دائما يؤذون المؤمنين ويعادونهم ، ولم يرسل الله نبيا إلا لقى من قومه مثل ما لقى هؤلاء من أقوامهم.

والغرض من هذا كله تسلية النبي وصحبه ، وشد عزائمهم على التدرّع بالصبر ، وأن كفار قومه سيصيبهم مثل ما أصاب الجنود : فرعون ، وثمود.

الإيضاح

(هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ) أي هل بلغك ما صدر من أولئك الجنود من التمادي فى الكفر والضلال ، وما حل بهم من العذاب والنكال.

١٠٦

والمعنى ـ إنه قد أتاك خبرهم وعرفت ما فعلوا ، وما جازاهم ربهم به ، فذكر قومك بأيام الله ، وأنذرهم أنه سيصيبهم مثل ما أصاب أمثالهم من أهل الضلال.

ثم بيّن من هم أولئك الجنود فقال :

(فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ) وحديث هذين مشهور متعارف بينهم ، فقد كانوا يعرفون من يهود المدينة وغيرهم ما كان من فرعون مع كليم الله موسى من العناد والإصرار على الكفر ، وما كان من عاقبة أمره وأن الله أغرقه فى اليمّ هو وقومه ، وأذاقه الوبال فى الآخرة والأولى.

كما كانوا يعرفون قصة ثمود مع صالح عليه السلام وأنهم عقروا الناقة التي جعلها الله لهم آية ، فدمّر بلادهم وأهلكهم ولم يترك لهم من باقية ، وهم يمرّون على ديارهم فى أسفارهم ويسمعون أخبارهم.

وخلاصة ذلك ـ إن الكفار فى كل عصر متشابهون ، وأنّ حالهم مع أنبيائهم لا تتغير ولا تتبدل ، فهم فى عنادهم واستكبارهم سواسية كأسنان المشط ، فقومك أيها الرسول ليسوا ببدع فى الأمم ، فقد سبقتهم أمم قبلهم وحلّ بهم من النكال ما سيحل بقومك إن لم يؤمنوا ، «فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ».

وقد أشار إلى أن هذه شنشنتهم فى كل عصر ومصر فقال :

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ) أي إن الكفار فى كل عصر غارقون فى شهوة التكذيب حتى لم يدع ذلك لعقلهم مجالا للنظر ، ولا متسعا للتدبر ، ولا يزالون فى غمرة حتى يؤخذوا على غرة.

ثم سلى رسوله من وجه آخر فقال :

(وَاللهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ) أي إنه سبحانه مقتدر عليهم وهم فى قبضته لا يجدون مهربا ، ولا يستطيعون الفرار ، إذا أرادوا.

فلا تجزع من تكذيبهم واستمرارهم على العناد ، فلن يفوتونى إذا أردت الانتقام منهم.

١٠٧

ثم رد على تماديهم فى تكذيب القرآن وادعائهم أنه أساطير الأولين فقال :

(بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) أي إن هذا الذي كذبوا به كتاب شريف متفرد فى النظم والمعنى ، محفوظ من التحريف ، مصون من التغيير والتبديل.

واللوح المحفوظ شىء أخبرنا الله به ، وأنه أودعه كتابه ، ولكن لم يعرّفنا حقيقته ، فعلينا أن نؤمن به ، وليس علينا أن نبحث فيما وراء ذلك مما لم يأت به خبر من المعصوم صلوات الله عليه وسلامه.

مقاصد هذه السورة

(١) إظهار عظمة الله وجليل صفاته.

(٢) إنه يبيد الأمم الطاغية فى كل حين ، ولا سيما الذين يفتنون للمؤمنين والمؤمنات.

١٠٨

سورة الطارق

هى مكية ، وآياتها سبع عشرة نزلت بعد سورة البلد.

مناسبتها لما قبلها :

(١) أنه ابتدأ هذه بالحلف بالسماء كالسورة قبلها.

(٢) أنه ذكر فى السابقة تكذيب الكفار للقرآن ، وهنا وصف القرآن بأنه القول الفصل ، وفيه ردّ على أولئك المكذبين.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالسَّماءِ وَالطَّارِقِ (١) وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (٢) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (٣) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (٤))

شرح المفردات

السماء : كل ما علاك فأظلك ، الطارق : هو الذي يجنيئك ليلا ، النجم الثاقب : هو الذي يثقب ضوؤه الظلام كأن الظلام جلد أسود والنجم يثقبه ، حافظ : أي رقيب يراقبها فى أطوار وجودها ، وهو الله تعالى.

المعنى الجملي

أقسم سبحانه فى مستهل هذه السورة بالسماء ونجومها الثاقبة ـ إن النفوس لم تترك سدى ولم ترسل مهملة ، بل قد تكفل بها من يحفظها ويحصى أعمالها وهو الله سبحانه.

وفى هذا وعيد للكافرين وتسلية للنبى صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فكأنه يقول لهم : لا تخزنوا لإيذاء قومكم لكم ، ولا يضق صدركم لأعمالهم ، ولا تظننّ أنا نهملهم ونتركهم سدى ، بل سنجازيهم على أعمالهم بما يستحقون ، لأنا نحصى عليهم أعمالهم

١٠٩

ونحاسبهم عليها يوم يعرضون علينا «فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا» والعدّ إنما يكون للحساب والحزاء.

الإيضاح

(وَالسَّماءِ) أكثر فى القرآن الحلف بالسماء وبالشمس وبالقمر وبالليل ، لأن فى أحوالها وأشكالها وسيرها ومطالعها ومغاربها من عجائب وغرائب ـ دلائل لمن يتدبر ويتفكر بأن لها خالقا مدبرا يقوم بشئونها ويحصى أمرها ، لا يشركه سواه فى هذا الإبداع والصنع.

(وَالطَّارِقِ) أي الكوكب البادي ليلا.

(وَما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ؟) يقولون : وما أدراك ما كذا أي وأىّ شىء يعلمك حقيقته؟ وهو أسلوب من كلامهم يراد به التفخيم والتعظيم ، كأنه فى فخامة أمره لا يمكن الإحاطة به ولا إدراكه.

ثم فسر هذا الطارق بقوله :

(النَّجْمُ الثَّاقِبُ) أي لا أقسم بكل طارق من الكواكب ، بل أقسم بطارق معين هو النجم المضيء الذي يثقب الظلام ونهتدى به فى ظلمات البر والبحر ، ونقف به على أوقات الأمطار وغيرها من أحوال يحتاج إليها الإنسان فى معاشه ، وهو الثريا عند جمهرة العلماء ، ويرى الحسن أن المراد كل كوكب لأن له ضوءا ثاقبا لا محالة.

ثم ذكر المقسم عليه فقال :

(إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ) أي أحلف بالسماء وبالنجم الثاقب إن للنفوس رقيبا يحفظها ويدبر شئونها فى جميع أطوار وجودها حتى ينتهى أجلها ، وذلك الحافظ والرقيب هو ربها المدبر لشئونها ، المصرّف لأمورها فى معاشها ومعادها.

١١٠

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (٨) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (٩) فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ (١٠))

شرح المفردات

دافق : أي منصبّ بدفع وسيلان وسرعة ، والصلب : الظهر ، والترائب :

عظام صدر المرأة ، والمراد من بين صلب الرجل وترائب المرأة ، وقال الحسن وروى عن قتادة : يخرج من صلب كل وأحد من الرجل والمرأة ، وترائب كل منهما وهو الموافق لما أثبته العلم حديثا كما سيأتى ، ورجعه : أي إعادته ، تبلى : أي تختبر وتمتحن ؛ والمراد تظهر ، والسرائر : ما يسرّ فى القلوب من العقائد والنيات وما خفى من الأعمال ، واحدها سريرة ، قال الأحوص :

سيبقى لها فى مضمر القلب والحشا

سريرة ودّ يوم تبلى السرائر

المعنى الجملي

بعد أن بيّن سبحانه أن الإنسان لم يترك سدى ، ولم يخلق عبثا نبهه إلى الدليل الواضح على صحة معاده ، وأنه لا بد أن يرجع إلى ربه ليجازيه على ما عمل ، فذكّره بنفسه ، ولفت نظره إلى كيفية خلقه ومنشئه ، وأنه خلق من الماء الدافق الذي لا تصوير فيه ، ولا تقدير للآلات التي يظهر فيها عمل الحياة كالأعضاء وغيرها ، ثم أنشأه خلقا كاملا مملوءا بالحياة والعقل والإدراك ، قادرا على القيام بالخلافة فى الأرض.

فالذى خلقه على هذه الأوضاع قادر أن يعيده إلى الحياة فى يوم تتكشف فيه المستورات ، وتبين الخفايا ، فيكون إبداؤها زينا فى وجوه بعض الناس ، وشينا

١١١

فى وجوه بعض آخرين ، وليس للمرء حينئذ قوة يدفع بها عن نفسه ما يحل به من العذاب ، ولا ناصر يعينه على الخلاص من الآلام.

الإيضاح

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ؟) أي فلينظر بعقله ، وليتدبر فى مبدأ خلقه ليتضح له قدرة واهبه ، وأنه إذا قدر على إنشائه من موادّ لم تشمّ رائحة الحياة قط فهو على إعادته أقدر فليعمل بما به يسرّ حين الإعادة.

ثم أجاب عن هذا السؤال بقوله :

(خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ. يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ) أي خلق من ماء مدفوق يخرج من الظهر والترائب لكل من الرجل والمرأة ، فهو إنما يكون مادة لخلق الإنسان إذا خرج من بين الرجل والمرأة ووقع فى رحم المرأة.

والخلاصة ـ إن الولد يتكوّن من منىّ مدفوق من الرجل ، فيه جرثومة حية دقيقة لا ترى إلا بالآلة المعظمة (الميكرسكوب) ، ولا تزال تجرى حتى تصل إلى جرثومة نظيرتها من جراثيم المرأة وهى البويضة ، ومتى التقت الجرثومتان اتحدتا وكوّنتا جرثومة الجنين.

وقد استفتيت فى نظرية الحمل وكيفية تكوين الجنين النطاسي البارع عبد الحميد العرابى بك وكيل مستشفى الملك سابقا ، فأجابنى حفظه الله بما يأتى :

كيفية حصول الحمل ونمو الجنين فى الرحم

قال الله تعالى : «فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ؟. خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ» وقال أيضا : «وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى».

١١٢

اعلم أخى وفقك الله أن فى هاتين الآيتين وما شاكلهما من الآيات سرّا من أسرار التنزيل ووجها من وجوه إعجازه ، إذ فيهما معرفة حقائق علمية تأخر العلم بها والكشف عن معرفتها وإثباتها ثلاثة عشر قرنا.

بيان هذا : أن صلب الإنسان هو عموده الفقرى (سلسلة ظهره) وترائبه هى عظام صدره ، ويكاد معناها يقتصر على حافة الجدار الصدرى السفلى.

وإذا رجعنا إلى علم الأجنة وجدنا فى منشأ خصية الرجل ومبيض المرأة ما يفسر لنا هذه الآيات التي حيرت الألباب ، وذهب فيها المفسرون مذاهب شتى على قدر ما أوتى كل منهم من علم ، وإن كان بعيدا عن الفهم الصحيح والرأى السديد.

ذاك أنه فى الأسبوع السادس والسابع من حياة الجنين فى الرحم ينشأ فيه ما يسمى (جسم وولف وقناته) على كل جانب من جانبى العمود الفقرى ، ومن جزء من هذا تنشأ الكلى وبعض الجهاز البولى ، ومن جزء آخر تنشأ الخصية فى الرجل والمبيض فى المرأة.

فكل من الخصية والمبيض فى بدء تكوينهما يجاور الكلى ويقع بين الصّلب والترائب ، أي ما بين منتصف العمود الفقرى تقريبا ومقابل أسفل الضلوع.

ومما يفسر لنا صحة هذه النظرية أن الخصية والمبيض يعتمدان فى نموهما على الشريان الذي يمدهما بالدم ، وهو يتفرع من الشريان الأورطي فى مكان يقابل مستوى الكلى الذي يقع بين الصلب والترائب ، ويعتمدان على الأعصاب التي تمد كلا منهما وتتصل بالضفيرة الأورطية ثم بالعصب الصدرى العاشر ، وهو يخرج من النخاع من بين الضلع العاشر والحادي عشر ، وكل هذه الأشياء تأخذ موضعها فى الجسم فيما بين الصلب والترائب.

فإذا كانت الخصية والمبيض فى نشأتهما وفى إمدادهما بالدم الشرياني وفى ضبط نشئونهما بالأعصاب قد اعتمدتا فى ذلك كله على مكان فى الجسم يقع بين الصلب والترائب

١١٣

فقد استبان صدق ما نطق به القرآن الكريم ، وجاء به رب العالمين ، ولم يكشفه العلم إلا حديثا بعد ثلاثة عشر قرنا من نزول ذلك الكتاب.

هذا ، وكل من الخصية والمبيض بعد كمال نموه يأخذ فى الهبوط إلى مكانه المعروف فتهبط الخصية حتى تأخذ مكانها فى الصفن ، ويهبط المبيض حتى يأخذ مكانه فى الحوض بجوار بوق الرحم.

وقد يحدث فى بعض الأحيان ألا تتم عملية الهبوط هذه ، فتقف الخصية فى طريقها ولا تنزل إلى الصفن ، فتحتاج إلى عملية جراحية حتى تصل إلى وضعها فى الموضع الطبيعي.

هذا ، والإنسان يبدأ حياته جنينا ، والجنين يتكوّن من تلقيح بويضة تخرج من المبيض مندفعة نحو بوق الرحم بالحيوان المنوي الذي تفرزه خصية الرجل ، ويكون التلقيح فى الغالب فى داخل أحد البوقين أو فيهما معا ، ثم تسير البويضة فى طريقها إلى الرحم حتى تستقر فى قرار مكين إلى أجل مسمى.

هذا إذا صادفها أحد الحيوانات المنوية ، أما إذا أخطأها التلقيح فتكون ضمن الإفرازات الرحمية التي تطرد فى خارج الجسم.

ومما يلاحظ أن إفراز البويضات عند المرأة هو عملية فسيولوجية شهرية لا علاقة لها بالاجتماع الجنسي ، غير أن هذا الاجتماع ضرورى لعملية التلقيح بالحيوان المنوي الذي يسبح فى ماء الرجل.

ومما سبق تعلم أن الماء الدافق يكون من كل من الرجل والمرأة ، أما ماء الرجل فيتكون من الحيوانات المنوية وسوائل أخرى تفرزها الخصية والبر وستاتة والحويصلات المنوية ، وهذه السوائل كلها جعلت مباءة ومستقرا للحيوان المنوي الذي يدونه لا يتم التلقيح.

١١٤

وهكذا الحال فى البويضات التي يفرزها مبيض المرأة ، فإنها بعد أن تكون فى المبيض على شكل حويصلة صغيرة تسمى حويصلة (جراف) تنمو وتبلغ أشدها فى نحو شهر حتى تقترب من المبيض ثم تنفجر كما تنفجر الفقاعة وتندفع منها البويضات مع السائل الذي خرج من الفقاعة إلى البوق حيث يقابلها حيوان منوى يقوم بعملية التلقيح ـ وكلا الماءين ماء الرجل وماء المرأة دافق ، أي ينصبّ مندفعا ، وهذا هو الحاصل فعلا.

ومن هذا يتبين بوضوح أن الإنسان خلق ونشأ من الماء الدافق (ماء الرجل وأ همّ ما فيه الحيوان المنوي ؛ وماء المرأة وأ همّ ما فيه البويضة) الذي ينصب مندفعا من عضوين هما الخصية والمبيض ، ومنشؤهما وغذاؤهما وأعصابهما كلها بين الصلب والترائب.

وقد ثبت فى علم الأجنة أن البويضة ذات الخلية الواحدة تصير علقة ذات خلايا عدّة ، ثم تصير العلقة مضغة ذات خلايا أكثر عددا ، ثم تصير المضغة جنينا صغيرا وزعت خلاياه إلى طبقات ثلاث يخرج من كل طبقة منها مجموعة من الأنسجة المتشابهة فى أول الأمر ، فإذا تمّ نموها كونت جسم الإنسان.

وإذا هدى الفكر إلى كل هذا فى مبدإ خلق الإنسان ، سهل أن نصدق بما جاء به الشرع وهو البعث فى اليوم الآخر ، لأن خلق الإنسان من أجزاء منتشرة متفرقة فى الكون ؛ فالماء متولد من الأطعمة التي يتناولها الإنسان ، فجمعها الله ، ثم جمع الأبوين ، ثم جمع ماءهما فى مكان واحد ، ثم خلق منه الولد ، وليس فى إعادته مثل ذلك ، فهى أهون ، ومن ثم قال :

(إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ) أي إن الذي قدر على خلق الإنسان ابتداء من هذه المادة ـ قادر أن يرده حيّا بعد أن يموت.

ونحو الآية قوله : «قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ» وأصرح منهما قوله : «وَهُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ».

١١٥

ثم بيّن وقت الرجع فقال :

(يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ) أي هو قادر على أن يعيد الإنسان إلى الحياة فى اليوم الذي تنكشف فيه السرائر ، وتتضح الضمائر ، ويتميز الطيب من الخبيث ، فلا يبقى فى سريرة سرّ ، بل تنقلب كل خفيّة إلى الجهر ، ولا يكون جدال ولا حجاج ، ولا يبقى لذوى الأعمال إلا انتظار الجزاء على ما قدموا ، فإما حلول فى نعيم ، وإما مصير إلى عذاب أليم.

(فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلا ناصِرٍ) أي فلا تكون لأحد قوة على الإفلات مما قدّر له جزاء عمله إن كان مسيئا ، ولا ناصر ينصره فيحميه مما حتم أن يقع عليه.

والخلاصة ـ إن القوة التي بها يدافع الإنسان عن نفسه ، إما من ذاته وقد نفاها بقوله : «فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ» وإما من غيره وقد نفاها بقوله : «وَلا ناصِرٍ».

(وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (١١) وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (١٢) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (١٣) وَما هُوَ بِالْهَزْلِ (١٤) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (١٥) وَأَكِيدُ كَيْداً (١٦) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (١٧))

شرح المفردات

الرجع : إعادة الشيء إلى حال أو مكان كان فيه أوّلا ، والمراد به المطر ، وسمى بذلك لكونه يعاد إلى الأرض من السماء ، والصدع : الشق الناشئ من تفرق بعض أجزاء الأرض وانفصال بعضها من بعض بالنبات ، فصل : أي يفصل بين الحق والباطل ، ويقطع الجدل والمراء ، يكيدون كيدا : أي يعملون المكايد فى إبطال أمره ، وإطفاء نوره ، وأكيد كيدا : أي أقابلهم بكيدى فى إعلاء أمره ، وانتشار نوره ، رويدا : أي قريبا.

١١٦

المعنى الجملي

بعد أن بين قدرته تعالى على إعادة الإنسان بعد الموت ، ولفت النظر إلى التدبر فى برهان هذه القدرة ـ شرع يثبت صحة رسالة رسوله الكريم إلى الناس ، وصحة ما يأتيهم به من عند الله ، وأهمّ ذلك القرآن الكريم الذي كانوا يقولون عنه : إنه أساطير الأولين ، فأقسم بالسماء التي تفيض بمائها ، والأرض التي تقيم أمور المعاش للناس والحيوان بنباتها ، إنه لقول حق لا ريب فيه.

ثم بين أنه عليم بأن الذين يدافعون عن تلك الأباطيل التي هم عليها ـ قوم ما كرون لا يريدون بك إلا السوء ، وسيأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون ، فلا يحزنك ما ترى منهم ، ولا تستبطئ حلول النكال بهم ، بل أمهلهم قليلا وسترى ما سيحل بهم.

ولا يخفى ما هذا من وعيد شديد بأن ما سيصيبهم قريب ، سواء أكان فى الحياة الدنيا أو فيما بعد الموت ، ووعد للنبى صلى الله عليه وسلم ، ولكل داع إلى الحق بأنهم سيبلغون من النجاح ما يستحقه عملهم ، وأن المناوئين لهم هم الخاسرون.

الإيضاح

(وَالسَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ) أي قسما بالسماء ذات المطر ، وهو أنفع شىء ينتظره المخاطبون من السماء ، إذ يبدّل جدبهم خصبا ، ويعيد موات أرضهم حيّا ، ويصير به لهب صحرائهم هواء عليلا.

(وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ) أي والأرض التي تتصدع بالنبات والشجر والثمار مما به حياتهم وحياة أنعامهم ، وهم فى بلاد قفراء جدباء.

ونظير هذا قوله : «ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا» الآية.

ثم ذكر المقسم عليه فقال :

(إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ. وَما هُوَ بِالْهَزْلِ) أي قسما بالسماء والأرض إن هذا القول الذي

١١٧

جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم لقول حق لا مجال للريب فيه ، وهو جدّ لا هزل فيه ؛ فمن حقه أن يهتدى به الغواة ، وتخضع له رقاب العتاة.

أخرج الترمذي والدارمي عن علىّ كرم الله وجهه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : «إنها ستكون فتنة ، قلت : فما المخرج منها يا رسول الله؟ قال : كتاب الله ، فيه نبأ من قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، هو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن ابتغى الهدى فى غيره أضله الله ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم. هو الذي لا تزيغ فيه الأهواء ، ولا تشبع منه العلماء ، ولا تلتبس به الألسن ، ولا يخلق على كثرة الردّ ، ولا تنقضى عجائبه. هو الذي لم تنته الجن لما سمعته أن قالوا : «إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ» من قال به صدق ، ومن حكم به عدل ، ومن عمل به أجر ، ومن هدى به هدى إلى صراط مستقيم».

ثم بين ما يدبرونه للمؤمنين وما تحويه صدورهم من غلّ لهم فقال :

(إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً) أي إنهم يمكرون بالناس بدعوتهم إلى مخالفة القرآن بإلقاء الشبهات كقولهم : «إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا» قولهم : «مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَهِيَ رَمِيمٌ؟» أو بالطعن فيه بكون الرسول ساحرا أو مجنونا أو شاعرا ، أو تبييتهم قتله ، كما جاء فى قوله : «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ».

بعدئذ ذكر ما قابلهم ربهم به وما جازاهم عليه كفاء عملهم فقال :

(وَأَكِيدُ كَيْداً) أي وأقابل كيدهم بنصر الرسول وإعلاء دينه ، وجعل كلمته العليا وكلمة الذين كفروا السفلى ، وقد سمى مجازاتهم كيدا منه ، للتجانس فى اللفظ كما قال : «نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ». وقال عمرو بن كلثوم :

ألا لا يجهلن أحد علينا

فنجهل فوق جهل الجاهلينا

١١٨

ثم أمر رسوله أن يتأنى عليهم ، ليرى أخذه تعالى لهم فقال :

(فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ) أي سر فى دعوتك ولا تستعجل عذابهم ، فإنا سنمهلهم ليزدادوا إثما ، حتى إذا أخذناهم لم يبق لهم من راحم.

ثم أكد طلب الإمهال وأقته بوقت قريب فقال :

(أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً) أي إنا سنمهلهم قليلا ، وسترى ما يحل بهم من العذاب والنكال.

وفى هذا بعث للطمأنينة إلى قلوب المؤمنين الذين كانوا يخشون صولة الكفار ويحذرون اعتداءاتهم التي لا حد لها ، وتخويف لهم من عاقبة إصرارهم على ما هم فيه من الكفر والمشاقّة لله ورسوله وللمؤمنين.

ونحو الآية قوله : «نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ».

وصلّ ربنا على محمد وآله ، وقنا عذاب الجحيم.

مقاصد السورة

(١) إن كل نفس عليها حافظ.

(٢) إقامة الأدلة على أن الله قادر على بعث الخلق كرة أخرى.

(٣) إن القرآن منزل من عند الله وأن محمدا رسول الله.

(٤) أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بالانتظار حتى يحل العقاب بالكافرين.

١١٩

سورة الأعلى

هى مكية وآياتها تسع عشرة ، نزلت بعد سورة التكوير.

ومناسبتها لما قبلها ـ أنه ذكر فى تلك خلق الإنسان ، وأشار إلى خلق النبات بقوله : «وَالْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ». وذكر هنا خلق الإنسان فى قوله : «خَلَقَ فَسَوَّى». وخلق النبات فى قوله : «أَخْرَجَ الْمَرْعى فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى» وقصة النبات هنا أوضح وببسط أكثر ، وخلق الإنسان هناك أكثر تفصيلا.

أخرج الإمام أحمد ومسلم وأبو داود والترمذي عن النعمان بن بشير «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ فى العيدين ويوم الجمعة (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى) ـ و (هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ) وإن وافق يوم الجمعة قرأهما جميعا».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (١) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (٢) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (٣) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (٤) فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (٥))

شرح المفردات

التسبيح : التنزيه ، خلق : أي خلق الكائنات ، فسوى : أي فسواها ووضع خلقها على نظام كامل ، لا تفاوت فيه ولا اضطراب ، قدّر : أي قدّر لكل حى ما يصلحه مدة بقائه ، فهدى : أي هداه وعرّفه وجه الانتفاع بما خلق له ، والمرعى :

كل ما تخرجه الأرض من النبات والثمار والزروع المختلفة ، والغثاء : ما يقذف به السيل إلى جانب الوادي من الحشيش والنبات ، والأجوى : الذي يضرب لونه إلى السواد. قال ذو الرمة :

لمياء فى شفتيها حوّة لعس

وفى اللّثات وفى أنيابها شنب

١٢٠