تفسير المراغي - ج ٢٣

أحمد مصطفى المراغي

١
٢

الجزء الثالث والعشرون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ (٢٨) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (٢٩) يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (٣٠) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (٣١) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٣٢))

تفسير المفردات

الجند : العسكر ، والمراد بهم الجند من الملائكة ، والخمود : انطفاء النار ؛ والمقصود به الموت ، والحسرة على ما قال الراغب : الغم على مافات ، والندم عليه ؛ كأن المتحسر انحسرت عنه قواه من فرط الإعياء ، وإن : بمعنى ما ، ولما : بمعنى إلا ، محضرون : أي للحساب والجزاء.

٣

المعنى الجملي

تقدم أن قلنا غير مرة : إن تقسيم الكتاب الكريم إلى الأجزاء الثلاثين لوحظ فيه العدّ اللفظي لا الاتصال المعنوي ، إذ كثيرا ما تكون بداءة الجزء في أثناء القصّة الواحدة كما هنا ، فإنه بعد أن بين حال الناصح الشهيد ودخوله الجنة ـ أردف ذلك ذكر حال المتخلفين المخالفين له ، ثم ذكر سنة الله في أمثالهم في العذاب الدنيوي ثم هم يردّون إلى ربهم فيعذبهم في الآخرة.

الإيضاح

(وَما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَما كُنَّا مُنْزِلِينَ) أي وما أنزلنا على قوم هذا المؤمن الذي قتلوه لدعائه إياهم إلى الله ونصيحته لهم ـ من بعد مهلكه جندا من الملائكة ، بل كان الأمر أيسر من ذلك.

وإجمال المعنى : إنه انتقم من قومه بعد قتلهم إياه غضبا منه تبارك وتعالى ، لأنهم كذبوا رسله وقتلوا وليّه ، وما كاثرهم سبحانه بالجنود وإنزال الملائكة ، بل كان أمرهم أهون من ذلك ، إذ ليس من سنته أن يكون عذاب الاستئصال بجند كثير من السماء.

ثم بين ما كان من هلاكهم بقوله :

(إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ) أي ما كان هلاكهم إلا بصيحة واحدة فإذا هم أموات لاحراك بهم ، قد ذهبت منهم حرارة الحياة كما تذهب حرارة النار حين الخمود.

وفي هذا إيماء إلى أن الحىّ كشعلة النار ، والميت كالرماد ، وإلى هذا يشير لبيد :

وما المرء إلا كالشهاب وضوئه

يحور رمادا بعد إذ هو ساطع

٤

ويقول أبو العلاء :

وكالنار الحياة فمن رماد

أواخرها وأولها دخان

ولم يذكر لنا الكتاب الكريم ، كيف كانت الصيحة ، ولا كيف نزل بهم العذاب ، وتفصيل ذلك لا يعنينا ، فالعبرة تحصل بدون بيانه ، إذ المراد انتقام الله وعذابه لمن كذب أولياءه ، على أي نحو كان ذلك العذاب.

وفي هذا ما لا يخفى من تهوين أمرهم ، وتحقير شأنهم ، وتفخيم شأن رسل الله.

(يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ) المراد بالعباد هنا مكذّبو الرسل ، أي يا حسرتهم وندامتهم يوم القيامة إذا عاينوا العذاب على تكذيبهم رسل الله ومخالفة أوامره.

ثم بين سبب الحسرة والندامة فقال :

(ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ) أي ما جاءهم رسول إلا استهزءوا به وكذبوه ، وجحدوا ما أرسل به من الحق.

والخلاصة : إن المستهزئين بالناصحين المخلصين المنوط بنصحهم خير الدارين ، جديرون أن يتحسروا على أنفسهم ، إذ فوّتوا عليها السعادة الأبدية ، وعرّضوها لعذاب مقيم ، وكأنه قيل : يا حسرة احضرى ، فهذه شدة لا سبيل للخلاص منها.

ولما بين حال الأولين نبه الحاضرين فقال :

(أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ؟) أي ألم يعتبروا بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل كعاد وثمود ، وأنهم لا رجعة لهم إلى الدنيا كما يعتقد الدّهريّة ، جهلا منهم بأنهم يعودون إليها كما كانوا.

وبعد أن ذكر أنه أهلكهم وبين طريق ذلك ، أعقب هذا بأن لهم حسابا وعقابا فقال :

(وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) أي وإن جميع الأمم ماضيها وحاضرها

٥

وآتيها ستحضر يوم القيامة بين يدى الله فيجازيهم بأعمالهم خيرها وشرها ، ولو أن من أهلك ترك لكان الموت راحة له ، وما أحسن قوله :

ولو أنا إذا متنا تركنا

لكان الموت راحة كل حىّ

ولكنا إذا متنا بعثنا

ونسأل بعده عن كل شىّ

ونحو الآية قوله : «وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ».

والخلاصة ـ إن الناس يجمعون للحساب والجزاء ويوفى كل عامل جزاء عمله من خير أو شر.

(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (٣٣) وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (٣٤) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلا يَشْكُرُونَ (٣٥) سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ (٣٦))

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه أن العباد كلهم محضرون إليه يوم القيامة للحساب والجزاء على ما قدموا من عمل ـ أردف ذلك ما يدل على أن البعث ممكن وليس بمستحيل ، وآية ذلك أن الأرض الميتة إذا نزل عليها المطر تحيا وتنبت من كل زوج بهيج ، ثم ذكر أنه كان يجب عليهم شكران هذه النعم بعبادة خالقها وترك عبادة غيره مما لا يجديهم نفعا ، ولا يدفع عنهم ضرا.

٦

الإيضاح

(وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَأَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) أي ومن الأدلة على قدرتنا على البعث إحياء الأرض الهامدة التي لا نبات فيها بإنزالنا الماء عليها ، فتهتز وتربو وتنبت نباتا مختلفا ألوانه وأشكاله ، وتخرج حبا هو قوت لكم ولأنعامكم ، وبه قوام حياتكم.

(وَجَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنابٍ ، وَفَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ) أي وأنشأنا في هذه الأرض التي أحييناها بساتين من نخيل وأعناب ، وجعلنا فيها أنهارا سارحة في أمكنة تنتشر فيها ، ليأكلوا من ثمر الجنات ومما عملت أيديهم مما غرسوا وزرعوا.

ثم لما عدد النعم طلب منهم الشكر فقال :

(أَفَلا يَشْكُرُونَ؟) أي أفلا يشكرون خالق هذه النعم على ما تفضل به عليهم من نعم لا تعدّ ولا تحصى.

ولما أمرهم سبحانه ، بالشكر وشكره تعالى بعبادته وقد تركوها وعبدوا غيره وأشركوا به سواه قال :

(سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ) أي تنزيها لمن خلق هذه الأنواع كلها من الزرع والثمار ومختلف النبات ، وخلق من أولادهم ذكورا وإناثا ، وخلق مما لا يعلمون من الأشياء التي لم يطلعهم عليها ، ولم يجعل لهم طريقا إلى معرفتها تفصيلا ، بل علمهم ذلك بطريق الإجمال بنحو قوله : «وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ» ليستدلوا بذلك على عظمة الخالق وسعة ملكه وجلالة قدره.

والخلاصة ـ تنزه ربنا خالق هذا الخلق العظيم من نبات وحيوان وإنسان ، وخالق ما لا نعلم مما لا ندرك كنهه ولا نعلم حقيقته وفيه الدليل على عظيم قدرته وواسع ملكه ـ عن كل نقص لا يليق بجليل عظمته.

٧

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (٣٧) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (٣٨) وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (٣٩) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (٤٠))

تفسير المفردات

أصل السلخ : كشط الجلد عن الشاة ونحوها ؛ واستعمل هنا في كشف الضوء من مكان الليل وموضع الفاء ظله ، مظلمون : أي داخلون في الظلام ، لمستقر لها : أي حول مستقر لها وهو مركز مدارها ، وقدرناه : أي صيرنا مسيره في منازل ، والمنازل واحدها منزل : وهو المسافة التي يقطعها القمر في يوم وليلة ، عاد : أي صار في أواخر سيره وقربه من الشمس كالعرجون في رأى العين ، والعرجون : هو العود الذي عليه الشماريخ ، فإذا أتى عليه الحول تقوس ودقّ واصفرّ.

قال أعشى بنى قيس :

شرق المسك والعبير بها

فهى صفراء كعرجون القمر

ينبغى لها : أي لا يتيسر لها ، أن تدرك القمر : أي تجتمع معه في وقت واحد فتداخله وتطمس نوره ، لأن لكل منهما دورة خاصة في فلكه سيأتى ذكرها بعد ، والفلك : مجرى الكواكب ، سمى بذلك لاستدارته ، والسباحة : الجري في الماء للسمك ونحوه ، ثم استعمل في سير الكوكب في الفضاء في مداره الخاص.

٨

المعنى الجملي

بعد أن استدل على إمكان البعث والنشور بأحوال الأرض وما يطرأ عليها من تغير مما هو دليل القدرة الشاملة ـ أردف ذلك ذكر أحوال الأزمنة من اختلاف الليل والنهار وجريان الشمس والقمر والأجرام السماوية ، وهى مخلوقات عظيمة واقعة تحت قبضته ، يتصرف فيها بعظيم سلطانه.

الإيضاح

(وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ) أي ومن آيات قدرته الدالة على إمكان البعث والحشر والنشر ، وعلى قدرته على فعل كل ما يشاء : الليل ينزع عنه النهار ، فتأتى الظلمة ، ويذهب النهار ، فإذا الخلق قد صاروا في ظلمة بمجىء الليل الذي كان الضياء ساترا له.

وفي الضياء سرور ولذة وراحة للنفس ، وسعى على الرزق ، وفي زواله وحشة وانقباض تشعر بألمه النفوس ؛ كما أن فيه تركا للعمل الذي به قوام الحياة ، ومن ثم جعل الآية ظهور الليل ولم يجعلها مجىء النهار ، والآية تحصل بكل منهما.

والخلاصة ـ إن تعاقب الليل والنهار على ظهر البسيطة من أكبر الأدلة على قدرة المولى سبحانه ، وفيه عبرة لمن يعى ويفهم ، وإن البعث والنشور من أيسر الأمور عليه سبحانه.

(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ) أي والشمس تجرى حول مركز مدارها الثابت الذي تسير حوله بحسب وضعها النجمى ، فقد ثبت أن لها حركة رحويّة حول هذا المركز تقدّر بمائتي ميل في الثانية ، وهذا الوضع العجيب من تقدير العزيز القاهر لعباده ، القابض على زمام مخلوقاته ، العليم بأحوالها الذي لا تخفى عليه خافية من أمرها.

٩

(وَالْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ) أي وجعلنا لسير القمر منازل ، وهى ثمانية وعشرون منزلا ينزل في كل واحد منها كل ليلة ثم يستتر ليلتين أو ليلة إذا نقص الشهر ، فإذا كان فى آخر منازله دقّ وتقوس ، وهذا ما يشير إليه قوله :

(حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ) أي يسير في منازله إلى آخرها حتى يدقّ ويتقوس ويصفرّ ويكون كالعود الذي عليه الشماريخ إذا أتى عليه الحول.

(لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ) أي لا يصح للشمس ولا يسهل عليها أن تدرك القمر في سرعة سيره ، لأن الشمس تجرى مقدار درجة في اليوم ، والقمر يسير مقدار ١٣ درجة في اليوم ، ولأن لكل منهما مدارا خاصا لا يجتمع مع الآخر فيه.

(وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ) أي ولا تسبق آية الليل وهى القمر ، آية النهار وهى الشمس فيحل سلطانه محلها ، إذ أنهما يجريان بحساب منتظم لا يتغير ولا يتبدل.

(وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) أي وكل من : الأرض والشمس والقمر يسبح فى فلكه كما يسبح السمك في الماء ، فالشمس تجرى في مدارها ، والأرض تجرى حول الشمس في سنة وحول نفسها في يوم وليلة ، والقمر يجرى حول الأرض كل شهر.

وعلماء الفلك قديما جعلوا الكواكب مركوزة في الأفلاك على ما نراه في كتبهم فليس للكوكب أن يسبح من تلقاء نفسه ، بل لا بد له من حامل يحمله وهو الذي يدور به ، وكيف يسبح ما لا حرية له ولا قدرة له على السير بل هو محمول على غيره؟ هكذا كان الرأى عندهم ، ولكن رأى علماء الفلك المحدثين : أن جميع الكواكب تسير في مدارات في عالم الأثير ، فهى إذا كأنها سمك في بحر لجىّ.

فاعجب أيها القارئ الكريم للقرآن كيف أثبت مادل على صحته الكشف

١٠

الحديث ، ودحض تلك الآراء التي كانت شائعة عصر التنزيل لدى علماء الفلك من اليونان والهند والصين.

وقد طلبت إلى الأستاذ عبد الحميد سماحة وكيل المرصد الفلكي المصري بحلوان أن يدلى إلىّ بما أثبته علماء الفلك حديثا في النظريات التي تضمنتها الآيات ، فكتب إلىّ مايلى :

الآية الأولى

من آيات الله وبديع صنعه تعاقب الليل والنهار دائبين. وقد جاء ذكر ذلك مرارا في القرآن الكريم ، لما لهذه الظاهرة الفلكية من الأهمية العظمى في حياة الجنس البشرى وكافة الأحياء التي على ظهر البسيطة ، فهى من الأمور الجديرة بالتفكير للاستدلال بها على عظمة الخالق جل شأنه ؛ فالليل يسلخ من النهار والنهار يسلخ من الليل ، نتيجة لدوران الأرض حول محورها من الغرب إلى الشرق ، فتشرق الشمس على بعض الآفاق ، وتغيب عن البعض الآخر بانتظام تام بديع.

الآية الثانية

وزيادة على دوران الشمس الظاهري وسط النجوم الناشئ عن دوران الأرض حول الشمس مرة في السنة ـ ثبت

لدى العلماء أخيرا أن للشمس حركتين أخريين حقيقيتين :

إحداهما : حول محورها مرة في كل ست وعشرين يوما تقريبا وتدل عليها أرصاد كلف الشمس ؛ وهى نقط سوداء تظهر على سطحها بين حين وآخر ، وتتغير مواقعها بالنسبة إلى السطح ، وتقطع المسافة بين حافتى القرص في زمن قدره ١٣ يوما.

ثانيتهما : دوران الشمس (ومن حولها توابعها الكواكب السيارة وأقمارها) حول مركز النظام النجومى بسرعة تقدر بنحو مائتى ميل في الثانية ، فالشمس

١١

واحدة من ملايين النجوم التي تكوّن النظام النجومى ، والذي ثبت أنه يدور حول مركزه ، ونظرا لأن الشمس لا تقع عند مركزه فإن لها حركة دورانية.

والذي يفهمه الفلكي أو الرياضي من المستقر لجسم متحرك حركة دورانية ، أنه المحور الثابت الذي تكون الحركة حوله ، أو مركز المدار الدائرى لهذه الحركة ، ففى الحالة الأولى يكون المستقر هو الخط الواصل بين قطبى الشمس ، وفي الحالة الثانية : يكون هو مركز النظام النجومى بأسره الذي تدور حوله الشمس وكافة النجوم الأخرى.

وإذا علمنا أن هاتين الحركتين الحقيقيتين للشمس لم تثبتا بالبرهان العلمي والأرصاد الفلكية إلا حديثا أدركنا ما في هذه الآية الكريمة من إعجاز عظيم.

الآية الثالثة

قسم الفلكيون القدماء النجوم التي تقع حول مدار القمر ثمانيا وعشرين مجموعة تسمى منازل القمر ، وقد جاء ذكرها هنا وفي آيات أخرى كقوله تعالى «هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ».

ولما كانت الشمس تنتقل باستمرار وسط النجوم ، فتحجب عن الرؤية كل النجوم ومجموعات النجوم التي تكون موجودة فوق الأفق نهارا ، نجد أن ما يكون موجودا من منازل القمر فوق الأفق ليلا يتغير تدريجا من ليلة إلى أخرى ، ومن شهر إلى آخر ، وهكذا نجد في معرفة مواقع القمر بالنسبة لهذه المنازل وسيلة لحساب الأوقات.

وقد كان العرب يعرفون بها الأنواء ويقيسون بالنسبة إليها مواقع الكواكب السيارة والشمس ، وأسماؤها هى : الشّرطان ، البطين ، الثريا ، الدّبران ، الهقعة ،

١٢

الهنعة ، الذراع المبسوطة ، النّثرة ، الطرف ، جبهة الأسد ، الزّبرة ، الصّرفة العوّا ، السّماك الأعزل ، الغفر ، الزّبانا ، الإكليل ، قلب العقرب ، الشّولة ، النعائم ، البلدة ، سعد الذابح ، سعد بلع ، سعد السعود ، سعد الأخبية ، الفرع المقدم ، الفرع المؤخر ، الرّشاء أو بطن الحوت.

وبعد أن يتم القمر دورته في مداره متنقلا بين منازله هذه يعود كما بدأ هلالا صغيرا مقوسا في بادئ الشهر ، ويرى في ضوء الشفق بعد مغيب الشمس ، ويكون لونه مصفرا كعرجون النخل ، لأن مركبات ضوئه الأخرى تشتت في الطبقة الهوائية قبل وصولها إلى عين الراصد ، كما نرى لون الشمس مصفرا حين الشروق ، أو حين الغروب.

الآية الرابعة

المقصود هنا أن الله سبحانه بديع السموات والأرض جعل لكل من الشمس والقمر مدارا مستقلا يسبح فيه ، فلا يحجب أحدهما ضوء الآخر إلا نادرا حين ما يحدث كسوف الشمس أو خسوف القمر.

فالشمس كما ذكرنا تدور حول الأرض في حركة ظاهرية تنشأ عن دوران الأرض حولها ، وهى تشبه ما يبدو للمسافر في القطار من حركة الأشجار وأعمدة التلغراف والقرى دون أن يحس بحركته المكتسبة من وجوده في القطار. وهكذا تتحرك الشمس وسط النجوم في مدار واسع نسبيا ، نصف قطره ٩٣ مليون ميل وتتم دورة كاملة في زمن مقداره سنة ، ويدل على هذه الحركة تنقلها وسط البروج بمعدّل برج في كل شهر أو درجة واحدة تقريبا في كل يوم.

أما القمر فمداره حول الأرض أصغر نسبيا ، ويقدر طول نصف قطر مداره بحوالى ٢٤ ألف ميل يقطعه في شهر ، أي بمعدل منزل في كل يوم أو ١٣ درجة

١٣

فى اليوم ، وحركته حول الأرض حركة حقيقية ، ويمكن ملاحظتها بسهولة من مراقبة موقعه بين النجوم ليلة بعد أخرى.

وفضلا عن ذلك فالمداران السالفا الذكر ليسا في مستوى واحد ، بل يميل أحدهما على الآخر ، ولو لا ذلك لتكرر كل من الكسوف والخسوف مرة في كل شهر ، وهكذا يتبين كيف إن لكل من : الشمس والقمر فلكا أو مدارا مستقلا يسبح فيه ا ه.

(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (٤١) وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (٤٢) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ (٤٣) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ (٤٤))

تفسير المفردات

الذرية : أصلها صغار الأولاد ، ثم استعملت في الصغار والكبار ، ويقع على الواحد والجمع ؛ وهى من ذرأ الله الخلق فتركت همزته نحو بريّة ، الفلك : السفينة ، المشحون : المملوء ، ما يركبون : هى الإبل فإنها سفائن البر لكثرة ما تحمل ، فلا صريخ : أي فلا مغيث لهم يحفظهم من الغرق.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه على سبيل المنة على عباده أنه أحيا الأرض وهى مكان الحيوان ـ أردف ذلك ذكر نعمة أخرى على الإنسان ، وهى أنه جعل له طريقا يتخذه في البحر ويسير فيه كما يسير في البر جلبا لأرزاقه وتحصيلا لأقواته من أقاصى البلاد فى أنحاء المعمورة.

١٤

الإيضاح

(وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ) أي ومن آيات قدرته الدالة على رحمته بعباده أن جعل أولادهم يركبون السفن الموقرة بسائر السلع التي ينقلونها من بلد إلى آخر ليستفيدوا مما تحمله من الأقوات وسائر حاجهم المعيشية ، ولو لا ذلك لما بقي للآدمى نسل ولا عقب من بعده.

ونحو الآية قوله : «أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ».

(وَخَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ) أي وخلقنا من مثل تلك السفن البحرية سفنا برية ، وهى الإبل التي تسير في الصحارى كما قال شاعرهم :

سفائن برّ والسراب بحارها

ونحوها قطر السكك الحديدية والسفن الهوائية من مطاود وطائرات تسير في الجوّ حاملة للناس السلع المختلفة والذخائر الحربية ، ومن جرّاء هذا لم يعين الكتاب الكريم ما يركبون لما سيظهر في عالم الوجود مما هو مخبّأ في صحيفة الغيب ، وهذا من إعجاز الكتاب الكريم.

ونحو الآية : «وَالْخَيْلَ وَالْبِغالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَزِينَةً ، وَيَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ».

ثم ذكر لطفه بعباده حين ركوبهم تلك السفن فقال :

(وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَلا هُمْ يُنْقَذُونَ) أي وإن نشأ إغراقهم في الماء مع ما حملته السفن والزوارق فلا مغيث لهم يحفظهم من الغرق وينجيهم من الموت ، ولكن رحمة منّا بهم وتمتيعا لهم إلى حين بلذات الحياة الدنيا أبقيناهم وحفظناهم من الغرق ، وإلى هذا أشار بقوله :

(إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتاعاً إِلى حِينٍ).

١٥

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (٤٥) وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (٤٦) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٤٧))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أنهم أعرضوا عن النظر في الآيات التي يشاهدونها في الآفاق ـ أردف هذا ذكر إعراضهم عن الآيات المنزلة من عند ربهم مما فيه تحذيرهم بأن يحلّ بهم من المثلات مثل ما حل بمن قبلهم ، ثم أعقبه بذمهم على ترك الشفقة على خلق الله ، إذ قيل لهم أنفقوا فلم يفعلوا.

الإيضاح

(وَإِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) أي وإذا قيل لهؤلاء المكذبين بما نزّل الله من الآيات : احذروا ما مضى بين أيديكم من نقم الله ومثلاته التي حلّت بمن قبلكم من الأمم ، وخافوا أن يحل بكم مثلها من جراء شرككم وتكذيبكم لرسوله ـ وما خلفكم أي وما بعد هلاككم مما أنتم قادمون عليه إن متم على كفركم الذي أنتم عليه ، لعل ربكم يرحمكم ويغفر لكم ما اجترحتم من السيئات ـ أعرضوا نأوا ونكصوا على أعقابهم مستكبرين.

ثم بين أن الإعراض ديدنهم ، وليس ببدع منهم فقال :

(وَما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ) أي وما تجىء هؤلاء المشركين حجة من حجج الله الدالة على توحيده وتصديق رسوله إلا بادروا

١٦

بتكذيبها وأعرضوا عنها وتركوا النظر الصحيح المؤدى إلى الإيمان به ، ومعرفة صدق رسوله.

والخلاصة ـ إنه ما ظهرت لهم آية من الآيات الناطقة ببدائع صنع الله وسوابغ آلائه الموجبة للإقبال عليها والإيمان بها إلا أعرضوا عنها مكذبين مستهزئين ، ولم يكلفوا أنفسهم مشقة البحث في صدقها ، والاستدلال بها على وحدانيته وصدق رسوله.

وبعد أن ذكر إعراضهم عن الخالق بين قسوتهم على المخلوقين فقال :

(وَإِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللهُ أَطْعَمَهُ) أي وإذا أمروا بالإنفاق مما رزقهم الله على الفقراء والمحاويج من المسلمين قالوا لمن طلب منهم ذلك : لو شاء الله لأغناهم وأطعمهم من رزقه ، فنحن نوافق مشيئة الله فيهم.

وفي قوله : مما رزقكم الله ، ترغيب في الإنفاق على نهج قوله : «وَأَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللهُ إِلَيْكَ» وتنبيه إلى عظيم جرمهم في ترك الامتثال للأمر ، وذم لهم على ترك الشفقة على عباد الله.

وإجمال ذلك ـ إنهم لم يعظّموا الخالق ولم يشفقوا على المخلوق.

ثم ذكر أنهم على شحهم وبخلهم عابوا الآمر على الإنفاق ووصفوه بالضلال البين الذي لا شبهة فيه فقال :

(إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ) أي ما أنتم أيها القوم في قيلكم لنا أنفقوا مما رزقكم الله على مساكينكم ـ إلا في جور بيّن وبعد عن سبيل الرشاد لمن تأمل وتدبر.

وهذا معذرة البخلاء في كل عصر ومصر ، إذ تراهم دائما يقولون : لا نعطى من حرمه الله ، وتلك فرية منهم ، لأن الله أغنى بعض الخلق ، وأفقر بعضا ، ابتلاء منه لعباده ، ولأسباب نحن لا نعلمها لا بخلا منه وشحا ، وأمره الأغنياء بالإنفاق على الفقراء ليس لحاجة منه إلى ما لهم ، بل ليبلوهم ويرى أيمتثلون الأمر ويؤدون الواجب ، أم ينكصون على أعقابهم ويولون مدبرين؟.

١٧

ولا ينبغى لأحد أن يعترض على مشيئة ربه ، لأنه يجهل أسباب ما يشاهد ويرى في الكون.

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٤٨) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (٤٩) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (٥٠) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (٥١) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (٥٢) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (٥٣) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَلا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (٥٤))

تفسير المفردات

متى هذا الوعد : أي متى يتحقق ويجىء ما وعدنا به؟ ينظرون : أي ينتظرون ، صيحة واحدة : هى النفخة الأولى في الصور ؛ بها يموت أهل الأرض جميعا ، ونفخ فى الصور : أي النفخة الثانية ، والأجداث : واحدها جدث (بفتحتين) القبر ، ينسلون : أي يسرعون ، والويل : الهلاك ، من مرقدنا : أي موتنا ، محضرون : أي للحساب والجزاء.

المعنى الجملي

بعد أن أمرهم بتقوى الله وخوّفهم أن يحل بهم مثل ما حل بمن قبلهم من المثلات ـ أعقب هذا بذكر إنكارهم ليوم البعث ، واستعجالهم له ، استهزاء به وسخرية منه ،

١٨

ثم أتبعه ببيان أنه حق لا شك فيه وأنه سيأتيهم بغتة من حيث لا يشعرون ، وإذ ذاك يخرجون من قبورهم مسرعين إلى الداعي ثم ينادون بالويل والثبور ، وعظائم الأمور ، حين يرون العذاب ويقولون : من أخرجنا من قبورنا؟ فيجابون بأن ربكم هو الذي قدّر هذا ووعدكم به على ألسنة رسله وسيوفى كل عامل جزاء عمله.

الإيضاح

(وَيَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) أي ويقولون استهزاء وإنكارا ، متى يحصل هذا البعث الذي تهددوننا به تارة تصريحا وأخرى تلويحا؟ إن كنتم صادقين فيما تقولون وتعدون.

والخطاب لرسول الله صلّى الله عليه وسلم والمؤمنين من قبل أنهم كانوا يتلون عليهم الآيات الدالة عليه ، الآمرة بالإيمان به.

فأجابهم ربهم :

(ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ) أي ما ينتظرون بحلول العذاب إلا نفخة واحدة في الصور ، بها يموت أهل الأرض جميعا تأخذهم بغتة وهم يتنازعون في أمور معايشهم لا يخطر ببالهم مجيئها.

ونحو الآية قوله : «فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ».

روى ابن جرير عن ابن عمر قال : «لينفخنّ في الصور والناس في طرقهم وأسواقهم ومجالسهم ، حتى إن الثوب ليكون بين الرجلين يتساومانه ، فما يرسله أحدهما من يده حتى ينفخ في الصور فيصعق به وهى التي قال الله (ما يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ)».

وأخرج الشيخان عن أبى هريرة قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «لتقومنّ الساعة وقد نشر الرجلان ثوبهما بينهما فلا يتبايعانه ولا يطويانه ، ولتقومنّ

١٩

الساعة والرجل يليط حوضه فلا يسقى منه ، ولتقومنّ الساعة وقد انصرف الرجل بلبن نعجته فلا يطعمه ، ولتقومنّ الساعة وقد رفع أكلته إلى فمه فلا يطعمها».

ثم بين سرعة حدوثها وأنها كلمح البصر أو هى أقرب فقال :

(فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ) أي فلا يستطيعون أن يوصوا فى أموالهم أحدا ، إذ لا يمهلون بذلك ، ولا يستطيع من كان منهم خارجا من أهله أن يرجع إليهم ، بل تبغتهم الصيحة فيموتون حيثما كانوا ويرجعون إلى ربهم.

ثم بين أنهم بعد أن يموتوا ينفخ في الصور النفخة الثانية نفخة البعث من القبور فقال :

(وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ) أي ونفخ في الصور نفخة ثانية للبعث والنشور ، والخروج من القبور ، فإذا هم جميعا يسرعون للقاء ربهم للحساب والجزاء.

ونحو الآية قوله : «يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ».

ثم ذكر أنهم يعجبون حين يرون أنفسهم قد خرجوا من قبورهم للبعث ، كما حكى عنهم بقوله :

(قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا؟) أي قالوا يا قومنا انظروا هلاكنا وتعجبوا منه ، من بعثنا من قبورنا بعد موتنا؟ حينئذ يجيبهم المؤمنون فيقولون لهم :

(هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) أي هذا الذي ترون ما وعد به الرّحمن وصدق في الإخبار به المرسلون الذين أتونا بوعد الله ووعيده.

وهم قد سألوا عن الفاعل للبعث وأجيبوا بالفعل تذكيرا لهم بكفرهم وتقريعا عليه مع تضمن ذلك الإشارة إلى الفاعل.

ثم بين سرعة بعثهم من القبور فقال :

(إِنْ كانَتْ إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ) أي ما كانت

٢٠