تفسير المراغي - ج ٩

أحمد مصطفى المراغي

١

٢

الجزء التاسع

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ (٨٨) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (٨٩))

المعنى الجملي

هذه الآيات من تتمة قصص شعيب ذكر فيها جواب الملإ من قومه عما أمرهم به :

من عبادة الله وحده ، وإيفاء الكيل والميزان ، وعدم الفساد فى الأرض ، وعما ختم به حديثه من التهديد والإنذار بقوله : فاصبروا حتى يحكم الله بيننا.

وتولى الرد عليه أشراف قومه كما هو الشأن فى بحث كبريات المسائل ومهامّ الأمور.

٣

الإيضاح

(قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا) أي قال أشراف قومه الذين استكبروا عن الإيمان وعن اتباع ما أمرهم به وما نهاهم عنه : قسما لنخرجنك يا شعيب أنت ومن آمن معك ـ من بلادنا كلها ـ بغضا لكم ودفعا لفتنتكم ، أو لترجعن إلى ديننا ومعتقداتنا التي ورثناها عن آبائنا ، وتدخلنّ فى زمرتنا وتندمجنّ فى غمارنا.

والخلاصة ـ ليكونن أحد الأمرين : إخراجكم من البلاد ، أو عودتكم فى الملة ، فاختاروا لأنفسكم ما ترونه أرفق بكم وأوفق لكم.

وشعيب عليه السلام لم يكن قبل النبوة على ملة أخرى غير ملة قومه ، فساغ لهم أن يطالبوه بالعود إلى ملتهم ، وكونه لم يشاركهم فى شركهم ولا بخس الناس أشياءهم ـ أمر سلبى لا يعدّه به جمهورهم خروجا عنهم ـ فلا منافاة بين هذا وعصمة الأنبياء عن الكفر.

(قالَ أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ) أي أتأمروننا أن نعود فى ملتكم وتهدوننا بالنفي من أوطاننا ، والإخراج من ديارنا إن لم نفعل ولو كنا كارهين لكل من الأمرين؟.

إنكم لقد جهلتم أن الدين عقيدة وأعمال يتقرّب بها إلى الله الذي شرعها لتكميل الفطرة البشرية ، كما جهلتم أن حب الوطن لا يبلغ منزلة حب الدين لدىّ ولدي قومى ، فظنتم فىّ وفيمن آمن معى أننا نؤثر التمتع بالإقامة فى الوطن ، على مرضاة الله بالتوحيد المطهّر من أدران الخرافات ، وبالفضائل المهذبة للنفوس والمرقّية لها فى معارج الكمال حتى تتم لنا سعادة الدنيا والآخرة.

فللدين منزلة فى النفوس لا تسمو إليها منزلة أخرى ، فإن تمكن صاحبه من إقامته فى وطنه وإصلاح أهله به فهم أحق به ، وإن فتن فى دينه فيه كان تركه واجبا عليه ،

٤

فإن لم يخرج منه شعيب ومن آمن معه إخراجا وهم كارهون ، كما أخرج خاتم النبيين مع صحبه السابقين الأولين إلى الإسلام ـ خرجوا مهاجرين كما فعل إبراهيم عليه السلام ـ كما حكى الله عنه : «وَقالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ».

وقد أوجب الله الهجرة على من يستضعف فى وطنه ، فيمنع من إقامة دينه فيه ، فإن لم يفعل ذلك دخل تحت وعيد قوله : «إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ؟ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ـ قالُوا : أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها؟ فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَساءَتْ مَصِيراً. إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَالنِّساءِ وَالْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً. فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكانَ اللهُ عَفُوًّا غَفُوراً».

ثم بين أحق الأمرين بالرفض وأجدرهما بالبغض متعجبا من كلامهم فقال :

(قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها) أي ما أعظم افتراءنا على الله إن عدنا فى ملتكم بعد إذ نجانا الله منها وهدانا الصراط المستقيم باتباع ملة إبراهيم.

وإذا كان اتباع ملتكم يعدّ افتراء على الله ، لأنه قول عليه لا علم لنا به بوحي ولا برهان من العقل ، فكيف بمن يفترى عليه ويضل عن صراطه على علم؟ ، فالكفر بالحق وغمطه بعد العلم به هو شر أنواع الكفر ، والافتراء على الله فيه أفظع ضروب الافتراء التي لا تقبل فيها الأعذار بحال.

وفى قوله إذ نجانا أي نجا أصحابى منها فهو تغليب بإدخاله فى زمرتهم ، أو نجانى من الانتماء إلى هذه الملة التي ما كنت أو من بعقيدتها ولا أعمل بعمل أهلها ، ولم أهتد بعقلي ورأيى إلى ملة خير منها فوقفت موقف الحيرة فى شأنها ، كما جاء فى خطاب النبي صلى الله عليه وسلم قوله : «وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى» وقوله : «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ

٥

رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ وَلكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا».

(وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا) يقولون ما يكون لى أن أفعل كذا على معنى أنه غير مستطاع لى ولا جار على السنن المعقولة.

أي ليس من شأننا أن نعود فيها فى حال من الأحوال إلا حال مشيئة ربنا المتصرف فى جميع شئوننا ، فهو وحده القادر على ذلك ، لا أنتم ولا نحن ، لأنا موقنون بأن ملتكم باطلة ، وملتنا هى الحق التي بها صلاح حال البشر وعمران الأرض.

وهذه الجملة رفضن آخر للعود إلى ملتهم مؤكد أبلغ التأكيد ، مؤيس لهم من عودته ومن آمن معه إلى ملتهم ، فبعد أن نفى وقوع العود منهم باختيارهم نفاه نفيا مؤكدا بأنه ليس من شأنهم ولا يجىء من قبلهم بحال من الأحوال كالترغيب والترهيب بالرجاء فى المنافع والخوف من المضار كالإخراج من الديار ، إلا حالا واحدة وهى مشيئة الله ومشيئته تجرى بحسب علمه وحكمته فى خلقه ، وسنته فى خلقه أن ينصر أهل الحق على أهل الباطل ما داموا ناصرين له وقائمين بما هداهم إليه منه.

وخلاصة ذلك ـ لا تطمعوا أن يشاء ربنا الحفىّ بنا عودتنا فى ملتكم بعد إذ نجانا منها بفضله ، فما كان الله ليدحض حجته ويغيّر سنته.

(وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً) فهو سبحانه يعلم كل حكمة ومصلحة ، ومشيئته تجرى على موجب الحكمة ، فكل ما يقع فهو مشتمل عليها ، وفى هذا إيماء إلى عدم الأمن من مكر الله سبحانه : «فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ».

(عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا) أي إلى الله وحده وكلنا أمورنا مع قيامنا بكل ما أوجبه علينا من الحفاظ على شرعه ودينه ، فهو الذي يكفينا تهديدكم وما ليس فى استطاعتنا من جهادكم : «وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ» إذ من شروط التوكل الصحيح القيام بالأحكام الشرعية ومراعاة السنن الكونية والاجتماعية ، فمن يترك العمل بالأسباب فهو الجاهل المغرور لا المتوكل المأجور ، كيف وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم

٦

لمن سأله أيترك ناقته سائبة ويتوكل على الله؟ «اعقلها وتوكل» رواه الترمذي ، وقال تعالى مخاطبا رسوله بعد أن أمره بمشورة أصحابه فى غزوة أحد : «فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ» وإنما يكون العزم بعد الأخذ بالأسباب فقد لبس من يومئذ درعين وأعدّ العدة لقتال أعدائه ، ورتب الجيوش بحسب القوانين المعروفة فى ذلك العصر.

وخلاصة رد شعيب على الملأ من قومه ـ إنه عجب من تهديدهم وإنذارهم ، وأقام الأدلة على امتناع عودهم إلى ملة الكفر باختيارهم ، وعدم استطاعة أحد إجبارهم عليه غير الله الفعال لما يريد. ثم ثنى بذكر توكله على الله الذي يكفى من توكل عليه ما أهمّه مما هو فوق كسبه واختياره ، ثم ثلث بالدعاء الذي لا يكون مرجو الإجابة إلا بعد القيام بعمل ما فى الطاقة من الأعمال الكسبية مع التوكل على الله فقال :

(رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ) الفتح إزالة الأغلاق والأشكال ، وهو قسمان : حسى يدرك بالبصر كفتح العين والقفل والكلام الذي يكون من القاضي ، ومعنوى يدرك بالبصيرة كفتح أبواب الرزق والمغلق من مسائل العلم والنصر فى وقائع الحرب والمبهم من قضايا الحكم ، ويقال فتح الله عليه إذا جدّ وأقبلت عليه الدنيا ، وفتح الله عليه : نصره ، وفتح الحاكم بينهم وما أحسن فتاحته أي حكمه كما قال شاعرهم :

ألا أبلغ بنى وهب رسولا

بأنى عن فتاحتهم غنىّ

ويقال بينهم فتاحات أي خصومات ، وولى الفتاحة أي القضاء ، وعن ابن عباس : ما كنت أدرى ما قوله تعالى : «رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا» حتى سمعت بنت ذى يزن تقول لزوجها : تعالى أفاتحك ، وقالت أعرابية لزوجها : بينى وبينك الفتاح.

والمعنى ـ ربنا احكم بيننا وبين قومنا بالحق الذي مضت به سنتك فى التنازع بين المرسلين والكافرين ، وبين المحقين والمبطلين ، وأنت خير الحاكمين لإحاطة علمك بما يقع به التخاصم ، وتنزهك عن اتباع الظلم ، واتباع الهوى فى الحكم.

٧

(وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (٩٠) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (٩١) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (٩٢) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (٩٣))

تفسير المفردات

الرجف : الحركة والاضطراب ، والمراد بها الزلزلة ، ومنه : «يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ» وغنى بالمكان يغنى : كرضى يرضى ، إذا نزل به وأقام فيه ، والأسى : شدة الحزن.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه جواب الملأ من قوم شعيب وطلبهم منه العود إلى ملتهم وبين يأسهم منه بما كان من جوابه لهم الدال على ثباته فى مقارعتهم وأنه دائب النصح والتذكير لهم ، علّهم يرعون عن غيّهم.

ذكر هنا أنهم حذّروا من آمن منهم بالويل والثبور وعظائم الأمور ، إذ سيلحقهم الخسار فى دينهم والخسار فى دنياهم ، لعل ذلك يثنيهم عن عزيمتهم ويردّهم إلى الرشاد من أمرهم بحسب ما يزعمون ، فكانت عاقبة ذلك أن أصبحوا كأمس الدابر وأصبحت ديارهم خرابا يبابا لا أنيس فيها ولا جليس.

الإيضاح

(وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ : لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ) أي وقال الكافرون من قوم شعيب وهم الملأ الذين جحدوا آيات الله وكذبوا رسوله وتمادوا

٨

فى غيّهم لآخرين منهم : لئن اتبعتم شعيبا فيما يقول ، وأجبتموه إلى ما يدعوكم إليه من توحيد الله وأقررتم بنبوته ، إنكم إذا لخاسرون فى فعلكم وترككم ملتكم التي أنتم عليها مقيمون ، إلى دينه الذي يدعوكم إليه.

وعمموا الخسران ليشمل خسران الشرف والمجد إذ بإيثاركم ملته على ملة آبائكم وأجدادكم تعترفون بأنهم كانوا ضالين ومعذّبين عند الله وخسران الثروة والربح بما تحترفونه من تطفيف الكيل والميزان وبخس الغرباء أشياءهم لابتزاز أموالهم.

ووصف الملأ ـ أولا بالاستكبار ـ لأنه هو الذي جرأهم على تهديده وإنذاره بالإخراج من القرية وإشعاره بأنهم أرباب السلطان فيها ، وثانيا : بالكفر لأنه هو الحامل على الإغواء وصدهم عن الإيمان والأخذ بما جاء به ، ثم عللوا لهم صدهم بأن فى ذلك لهم مصلحة أيّما مصلحة وفائدة أيّما فائدة.

والخلاصة ـ إنه تعالى وصفهم أولا بالضلال ثم وصفهم ثانيا بالإغواء والإضلال ثم ذكر عاقبة أمرهم وما أصابهم من نكال فقال :

(فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ) أي فأخذتهم الزلزلة فأصبحوا فى دارهم منكبّين على وجوههم ميتين ، وقد عبر عنه هنا بالرّجفة ، وفى هود بالصيحة كعذاب ثمود ، وستعلم هناك وجه الجمع بينهما.

وقد بيّن سبحانه فى سورة الشعراء أن الله أرسل شعيبا إلى أصحاب الأيكة وهم إخوة مدين فى النسب ، أخرج ابن عساكر عن ابن عباس فى قوله : «كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ» قال كانوا أصحاب غيضة بين ساحل البحر ومدين ـ وفى ذلك دليل على أن الله أرسله إلى أهل مدين وإلى من اتصل بهم إلى ساحل البحر ، وأن حال الفريقين فى الكفر والمعاصي كانت واحدة ، وكان ينذرهم متنقلا بينهم.

وكان عذاب مدين بالصيحة والرّجفة المصاحبة لها ، وعذاب أصحاب الأيكة بالسّموم والحر الشديد وقد انتهى ذلك بظلة من السحاب فزعوا إليها ينبردون بظلها فأطبقت عليهم فاختنقوا بها أجمعون.

٩

(الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا ، الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ) جاءت هذه الجملة بيانا من الله لما انتهى إليه أمرهم وكيف كانت عاقبة عملهم فكأن سائلا سأل عما آل إليه تهديدهم لشعيب وقومه بقولهم : «لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا» وقولهم لقومهم : «لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ» فأجاب عن الأول جوابا مناقضا له بقوله : الذين كذبوا شعيبا إلخ. أي الذين كذبوا شعيبا وأنذروه بالإخراج من قريتهم قد هلكوا وهلكت قريتهم فحرموها كأن لم يقيموا ولم يعيشوا فيها بحال ، وأجاب عن الثاني بقوله : الذين كذبوا شعيبا كانوا هم الخاسرين : أي الذين كذبوا وزعموا أن من يتبعه يكون خاسرا ـ كانوا هم الخاسرين لما كانوا موعودين به من سعادة الدنيا والآخرة ، دون الذين اتبعوه فإنهم كانوا هم الفائزين المفلحين.

وفى الآية إيماء إلى أن الحريص على التمتع بالوطن والاستبداد فيه على أهل الحق تكون عاقبته الحرمان الأبدى منه ، كما أن الحريص على الربح بأكل أموال الناس بالباطل ينتهى بالحرمان منه ومن غيره.

(فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقالَ : يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ) أي فأدبر شعيب عنهم وخرج من بين أظهرهم حين أتاهم عذاب الله ، وقال حزنا عليهم : يا قوم لقد أبلغتكم رسالات ربى وأدّيت إليكم ما بعثني به إليكم. وقد تقدم مثل هذا فى قصة صالح ، وقد اتحد إعذار الرسولين لاتحاد حال القومين.

(فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ) أي فكيف أحزن على قوم جحدوا وحدانية الله وكذبوا رسوله وأتوجع لهلاكهم بعد أن أعذرت إليهم وبذلت جهدى فى سبيل هدايتهم ونجاتهم فاختاروا ما فيه هلاكهم ، وإنما يأسى من قصّر فيما يجب عليه من النصح والإنذار.

١٠

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (٩٤) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ (٩٥))

تفسير المفردات

القرية : المدنية الجامعة لزعماء الأمة ورؤسائها (العاصمة) والبأساء : الشدة والمشقة كالحرب والجدب وشدة الفقر ، والضراء : ما يضر الإنسان فى بدنه أو نفسه أو معيشته ، والأخذ بها : جعلها عقابا لهم ، والتضرع : إظهار الضراعة أي الضعف والخضوع ، وعفوا : كثروا ونموا ، من قولك : عفا النبات والشعر إذا كثر ، وبغتة : فجأة.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه حال الأمم السابقة مع أنبيائها وبين ما فى قصصهم من العظة والعبرة فقد كانت العاقبة فى كل حال للمتقين ، والدائرة تدور على المبطلين.

أشار هنا إلى سنة الله فى الأمم التي تكذب رسلها أن ينزل بها البؤس وشظف العيش وسوء الحال فى دنياهم ليتضرعوا إلى ربهم وينيبوا إليه بالإقلاع عن كفرهم والتوبة من تكذيب أنبيائهم ، وفى هذا من التحذير لقريش والتخويف لهم ما لا يخفى.

ثم ذكر أنه بدل الرخاء بالبؤس ليعتبروا ويشكروا ، لكنهم لم يفعلوا فأخذهم أخذ عزيز مقتدر.

الإيضاح

(وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ) أي إن سنتنا قد جرت (ولا مبدل لها) أننا إذا أرسلنا نبيّا فى قوم وكذبوه أنزلنا بهم الشدائد والمصائب لنعدّهم ونؤهلهم للتضرع والإخلاص فى دعائنا بكشفها ، وقد ثبت بالتجارب لدى علماء الأخلاق أن الشدائد تربى الناس وتصلح فساد أحوالهم ،

١١

فالمؤمن قد يشغله هناء العيش عن حاجته إلى ربه ، لكن الشدائد تذكره به ، والكافر بالنعم قد يعرف قيمتها له بفقدها ، وتنبهه الشدائد والأهوال إلى وجود الرّب الخالق المدبر لأمور الخلق وتذكره الأهوال بمصدر هذا النظام فى الكون.

(ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ) أي ثم أعطينا بدل ما كانوا فيه من البلاء والمحنة ، الرخاء والسعة.

(حَتَّى عَفَوْا) أي حتى كثر عددهم ونموا ، إذ أن الرخاء مما يكون سببا فى كثرة النسل وبه تتم النعمة فى الدنيا على الموسرين ، ومن هذه الحسنات ما حدث لقوم هود من النعم التي بطروا بها وذكرهم هود بها فى قوله : «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً ، فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ» وكذا ما قاله صالح لقومه : «وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللهِ وَلا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ»

(وَقالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ) أي وقالوا قولا يدل على أنهم لا يعتبرون بأحداث الزمان. قالوا قدمس آباءنا من قبلنا ما يسوء وما يسر ، وما نحن إلا مثلهم فيصيبنا مثل ما أصابهم ، والدهر بالناس قلّب. وتلك عادة الدهر بأبنائه ، فلا الضراء عقاب على ذنب يرتكب ، ولا السراء جزاء على صالحات تكتسب.

وخلاصة هذا ـ إنهم لم يفهموا السنن التي وضعها المولى سبحانه فى أسباب السعادة والشقاء فى البشر والتي أرشد إليها قوله : «إِنَّ اللهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ» ومن ثم لم يتذكروا ولم يعتبروا حين ذكرهم رسولهم ، بل أعرضوا ونأوا.

(فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) أي فكان عاقبة أمرهم أن أخذناهم بالعذاب فجأة وهم لا شعور لديهم بما سيحل بهم ، إذ هم قد جهلوا سنن الله التي وضعها فى شئون

١٢

الاجتماع ، فلاهم اهتدوا إليها بعقولهم ، ولا هم صدقوا الرسل فيما أنذروهم به ، وجاء بمعنى الآية قوله تعالى فى سورة الأنعام : «فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ».

فالكافرون إذا مسهم الشر يئسوا وابتأسوا ، وإذا مسهم الخير بطروا واستكبروا وبغوا فى الأرض وأهلكوا الحرث والنسل ، والمؤمنون بالله وما جاء به رسله تكون الشدائد والمصايب تربية لهم وتمحيصا.

ولما ترك المسلمون هدى القرآن فى حكوماتهم ومصالحهم العامة ، فى أعمال الأفراد سلبهم الله ما أعطاهم من أنواع العلم والحكمة واتبعوا سنن من قبلهم شبرا بشبر وذراعا بذراع ، فاتبعوا أهل الكتاب فى خرافاتهم وحفلهم وتقليد آبائهم وأجدادهم وطلب النفع والضر من دجّالى الأحياء وقبور الأموات ، فغشيهم الجهل ، والنابتة منهم قلدوا الإفرنج فى الفسق والفجور وشر ما وصلوا إليه فى طور فساد حضارتهم وقلدوهم حتى فيما لا يوافق أحوالهم وبلادهم ومصالحهم.

وهكذا ضلت الفئتان عن هدى القرآن ، وأضاعتا ما بقي من ملك الإسلام.

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ (٩٧) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (٩٨) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (٩٩) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (١٠٠))

١٣

تفسير المفردات

بركات السماء : تشمل معارف الوحى العقلية ونفحات الإلهام الربانية ، والمطر ونحوه مما يوجب الخصب والخير فى الأرض ، وبركات الأرض : الخصب والمعادن ونحوهما ، والبأس : العذاب وبياتا : أي وقت بيات وهو الليل ، والضحى : انبساط الشمس وامتداد النهار ويسمى به الوقت ، ويلعبون : أي يلهون من فرط غفلتهم ، المكر : التدبير الخفي الذي يفضى بالممكور به إلى ما لا يحتسب ، وهداه السبيل وهداه إليه وهداه له : أي دلّه عليه وبيّنه له.

المعنى الجملي

بعد أن بين عز اسمه أخذه لأهل القرى الذين كذبوا رسلهم ، وكفروا بما جاءوا به وظلموا أنفسهم وظلموا الناس بما افتنّوا فيه من أفانين الشرك والمعاصي كما حكى الله فى محاورتهم لرسلهم وإجابة الرسل لهم بما سلف ذكره.

ذكر هنا لأهل مكة ولسائر الناس ما كان يكون من إغداق نعمه تعالى عليهم لو آمنوا بالرسل واهتدوا بهديهم واعتبروا بسنة الله فى الأمم من قبلهم ، فإن سنته تعالى فى الأمم واحدة لا تبديل فيها ولا تحويل.

الإيضاح

(وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ) أي ولو أن أهل مكة ومن حولهم من أهل القرى آمنوا بما دعاهم إليه خاتم الرسل صلوات الله عليه من عبادته تعالى وحده واتّقوا ما نهاهم عنه من الشرك والفساد فى الأرض بارتكاب الفواحش والآثام ـ لفتحنا عليهم أنواعا من بركات السماء والأرض لم يعهدوها من قبل ، فتكون لهم أبواب نعم وبركات غير التي عهدوا فى صفاتها ونمائها وثباتها وأثرها فيهم ، فأنزلنا عليهم الأمطار النافعة التي تخصب الأرض وتكسب

١٤

البلاد رفاهية العيش ، وآتيناهم من العلوم والمعارف وفهم سنن الكون ما لم يصل إلى مثله البشر من قبل.

والخلاصة ـ إنهم لو آمنوا لو سعنا عليهم الخير من كل جانب ويسرناه لهم بدل لما أصابهم من عقوبات بعضها من السماء وبعضها من الأرض.

والقاعدة التي أقرها القرآن الكريم أن الإيمان الصحيح ودين الحق سبب فى سعادة الدنيا ، ويشارك المؤمنين فى المادي منها الكفار كما قال تعالى : «فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْءٍ» أي إن ذلك الفتح كان ابتلاء واختبارا لحالهم ، وكان من أثره فيهم البطر والأشر بدلا من الشكر لمولى النعم فكان نقمة لا نعمة ، وفتنة لا بركة ، ولكن المؤمنين إذا فتح الله عليهم كان أثره فيهم شكر الله عليه والاغتباط بفضله واستعماله فى سبيل الخير دون الشر وفى الإصلاح دون الإفساد ، ويكون جزاؤهم على ذلك زيادة النعم فى الدنيا وحسن الثواب عليها فى الآخرة.

(وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ) أي ولكنهم لم يؤمنوا ولم يتقوا بل كذبوا فأخذناهم بما كانوا يعملون من أعمال الشرك والمعاصي التي تفسد نظم المجتمع البشرى.

وذلك الأخذ بالشدة أثر لازم لكسبهم المعاصي بحسب السنن التي وضعها المولى فى الكون ويكون فيه العبرة لأمثالهم إن كانوا يعقلون هذه النواميس العامة التي لا نبديل فيها ولا تغيير.

ثم عجب من حالهم وذكر من غفلتهم فقال :

(أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَهُمْ نائِمُونَ؟) أي أجهل أهل مكة وغيرهم من أهل القرى الذين بلغتهم الدعوة والذين ستبلغهم ما نزل بمن قبلهم وغرّهم ما هم فيه من نعمة فأمنوا أن يأتيهم عذابنا وقت بياتهم وهم نائمون؟.

١٥

(أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ؟) أي أو أمن أهل القرى أن يأتيهم عذابنا فى وقت الضحى وهم منهمكون فى أعمالهم التي كأنها لعب أطفال لعدم الفائدة التي تترتب عليها.

والخلاصة ـ إنه تعالى خوّفهم نزول العذاب بهم فى أوقات الغفلات ، إما حين النوم وإما وقت الضحى ، إذ يكثر فيه تشاغل الناس باللذات.

(أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ؟) أي أكان سبب أمنهم إتيان بأسنا بياتا أو ضحى وهم غافلون عن مكر الله بهم بإتيانهم ببأسنا من حيث لا يحتسبون ولا يقدرون؟ إن كان الأمر كذلك فقد خسروا أنفسهم فإنه لا يأمن مكر الله إلا القوم الخاسرون.

وإذا كانت الآية ناطقة بأن أمن الصالح المتعبد من مكر الله جهلا يورث الخسر فما بال من يأمن مكر الله وهو مسترسل فى معاصيه اتكالا على عفوه ومغفرته ورحمته؟

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر من الدعاء بقوله : «اللهم يا مقلّب القلوب والأبصار ثبّت قلبى على دينك». وذكر سبحانه أن الراسخين فى العلم يدعونه فيقولون : «رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً».

وكما أن الأمن من مكر الله خسران ومفسدة ، فاليأس من رحمة الله كذلك فكلاهما مفسدة تتبعها مفاسد.

(أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ؟) أي أكان ما ذكر آنفا مجهولا لأهل القرى وأنه هو سنة الله ولم يتبين لأولئك الذين يرثون الأرض من بعد أهلها قرنا بعد قرن وجيلا بعد جيل أن شأننا فيهم كشأننا فيمن سبقهم فهم خاضعون لمشيئتنا ، فلو نشاء أن نعذبهم بسبب ذنوبهم لعذبناهم كما أصبنا أمثالهم ممن قبلهم بمثلها وأهلكناهم كما أهلكناهم ، فإن لم نهلكهم بالعذاب نطبع على قلوبهم فلا يسمعون الحكم

١٦

والنصائح سماع تفقه وتدبر «وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ» إذ أن قلوبهم فد ملئت بمعتقدات وشهوات تصرفها عن غيرها فجعلتهم من «بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً ، الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً». وقد كان فى مثل هذا القصص عبرة للمسلمين أيّما عبرة ، فكتابهم يقصّ عليهم قصص الأمم قبلهم ويبين لهم أن ذنوب الأمم لا تغفر كذنوب الأفراد وسنته فيها لا تتبدل ولا تتحول فكان عليهم أن يتقوا كل ما قصه من ذنوب الأمم التي هلك بها من قبلهم وزالت بها الدّولة لأعدائهم ، ولكنهم قصّروا فى وعظ الأمة بها وإنذارهم عاقبة الإعراض عنها وترك الإعراض عن تدبرها ، وكان عليهم أن يعتبروا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : «شيبّتنى هود وأخواتها» وقوله تعالى : «أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ ، أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ».

(تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (١٠١) وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (١٠٢))

تفسير المفردات

العهد : الوصية. والوصية تارة يراد بها إنشاؤها وإيجادها ، وأخرى يراد بها ما يوصى به ، ويقال عهدت إليه بكذا أي وصيته بفعله أو حفظه ، وهو إما أن يكون بين طرفين وهو المعاهدة ، وإما من طرف واحد بأن يعهد إليك بشىء أو تلزم بشىء ، والميثاق : هو العهد الموثّق بضرب من ضروب التوكيد.

١٧

وقال الراغب : عهد الله تارة يكون بما ركزه فى عقولنا ، وتارة يكون بما أمرنا به فى الكتاب وألسنة رسله ، وتارة بما نلتزمه وليس بلازم فى أصل الشرع كالنذور وما يجرى مجراها ا ه.

والفسوق : الخروج عن كل عهد فطرى وشرعى بالنكث والغدر وغير ذلك من المعاصي ، ووجدنا الأولى بمعنى : ألفينا. والثانية بمعنى : علمنا.

المعنى الجملي

هذا خطاب وجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم تسلية وتثبيتا له على الصبر على دعوته بتذكيره بما فى قصص أولئك الرسل مع أقوامهم من وجوه العبر والموعظ ، وبيان أن ما يلاقيه منهم من ضروب العناد والاستكبار والإيذاء ليس بدعا بين الأمم ، بل ذلك طريق سلكه كثير من الأمم المجاورة لهم كعاد وثمود وأصحاب الأيكة وغيرهم ممن تقدم ذكرهم ، وقصصهم يدور على ألسنتهم بحكم الجوار لهم وطروق أرضهم فى حلهم وترحالهم فى رحلتى الشتاء والصيف.

الإيضاح

(تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها) أي تلك القرى التي بعد عهدها ، وطال الأمد على تاريخها وجهل قومك حقيقة حالها نقص عليك بعض أنبائها مما فيه العبرة لقومك ولك.

والمراد بها القرى المعهودة فى هذا القصص ، والحكمة فى تخصيصها بالذكر أنها كانت فى بلاد العرب وما جاورها ، وكان أهل مكة وغيرهم ممن وجّهت إليهم الدعوة أول الإسلام يتناقلون بعض أخبارها وهى جميعا طبعت على غرار واحد فى تكذيب الرسل والمماراة فيما جاءوا به من النذر فحل بهم النكال بعذاب الاستئصال ، فالعبرة فى جميعها واحدة ، ومن ثم فصلها من قصة موسى الآتية لأن قومه آمنوا به وإنما كذب فرعون وملؤه فعذبوا.

١٨

(وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ) أي ولقد جاء أهل تلك القرى رسلهم بالبينات الدالة على صدق دعوتهم وبالآيات التي اقترحوها عليهم لإقامة حجتهم ، فجاء كل رسوله قومه بما أعذر به إليهم ، ولكن لم يكن من شأنهم أن يؤمنوا بعد مجىء البينات بما كذبوا به من قبل مجيئها حين بدء الدعوة إلى التوحيد وعبادة الله وحده بما شرعه وترك الشرك والمعاصي.

ذاك أن شأن المكذبين عنادا أو تقليدا أن يصروا على التكذيب بعد إقامة البينة ، إذ لا قيمة لها فى نظرهم ، فهم إما جاحدون معاندون ضلوا على علم ، وإما مقلدون يأبون النظر والفهم.

وفى معنى الآية قوله فى سورة يونس : «ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ».

(كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ) أي مثل ما ذكر من عناد هؤلاء وإصرارهم على الضلال وعدم تأثير الدلائل والبينات فى عقولهم يكون الطبع على قلوب من ران الكفر على قلوبهم وصار العناد ديدنهم سنة الله فى أخلاق البشر وأحوالهم ، إذ هم يأنسون بالكفر وأعماله وتستحوذ أوهامه على عقولهم ويملأ حب الشهوات أفئدتهم فلا يقبلون بحثا ولا فيما هم عليه نقدا ، فما مثلها إلا مثل السكة التي طبعت على طابع خاص أثناء صهر معدنها ، وإذابته ثم جمدت فلا تقبل بعد ذلك نقضا ولا شكلا آخر.

وفى الآية تسلية للنبى صلى الله عليه وسلم وإعلام له بأن أهل مكة قد وصلوا إلى حال من الجمود والعناد وفساد الفطرة وإهمال النظر والعقل لا تؤثر فيها البينات وإن وضحت ، ولا الآيات وإن اقترحت.

وقد كانوا يقترحون عليه الآيات ، وكان يتمنى أن يؤتيه الله ما اقترحوا منها حرصا

١٩

على إيمانهم ، حتى بيّن الله له طباعهم وأخلاقهم ليعرف مبلغ أمرهم فى قبول دعوته وأنه لا أمل له فيهم بحال.

(وَما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ) أي وما وجدنا لأكثر أولئك الأقوام عهدا ما يفون به سواء كان عهد الفطرة التي فطر الله الناس عليها ـ إذ قد فطر الله أنفس البشر على الشعور بسلطان غيبى فوق جميع القوى ، وعلى إيثار الحسن واجتناب غيره وعلى حب الكمال وكراهة النقص ـ أم كان العهد الذي أخذه ربهم عليهم وهم فى الأصلاب أنه ربهم ومليكهم وأنه لا إله إلا هو ، وأقروا بذلك وشهدوا على أنفسهم به وخالفوه وتركوه وراء ظهورهم وعبدوا معه غيره بلا دليل ولا حجة من عقل ولا شرع ، وقد جاء فى صحيح مسلم : «يقول الله : إنى خلقت عبادى حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم» وفى الصحيحين : «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه».

(وَإِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ) أي وإننا وجدنا أكثرهم خارجين على كل عهد فطرى وشرعى وعرفى ، فهم ناكثون غادرون للعهود مرتكبون أفانين المعاصي.

وفى التعبير بالأكثر إيماء إلى أن بعضهم قد آمن والتزم كل عهد عاهده الله عليه أو تعاهد عليه مع الناس.

وهذا من دأب القرآن فى تحقيق الحقائق على وجه الصدق بحيث لا تشوبها شبهات المبالغة بما يسلب أحدا حقه أو يعطى أحدا حق غيره.

قصص موسى عليه السلام

(ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَمَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (١٠٣) وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (١٠٤) حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ

٢٠