تفسير المراغي - ج ٦

أحمد مصطفى المراغي

١

٢

الجزء السادس

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً (١٤٨) إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (١٤٩))

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه كثيرا من عيوب المنافقين ومفاسدهم لإقامة الحجة عليهم ، وحذّر المؤمنين من مثل أعمالهم وأخلاقهم كما قال : «وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ».

بين هنا حكم الجهر بالسوء من القول وإبداء الخير وإخفائه ، حتى لا يستدل المؤمنون بذكر عيوب المنافقين والكافرين فى القرآن على استحباب الجهر بالسوء من القول أو مشروعيته إذا كان حقا على الإطلاق فيفشو ذلك ، وفى هذا من الضرر ما سنذكره.

٣

الإيضاح

(لا يُحِبُّ اللهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ) حب الله لشىء هو الرضا به والإثابة عليه ، والجهر يقابل السر والإخفاء ، والسوء من القول ما يسوء من يقال فيه كذكر عيوبه.

ومساويه التي تؤذى كرامته.

والمعنى ـ أنه تعالى لا يحب من عباده أن يجهروا فيما بينهم بذكر العيوب والسيئات لما فى ذلك من المفاسد الكثيرة التي أهمها :

١) إنه مجلبة للعداوة والبغضاء بين من يجهر بالسوء ومن ينسب إليه هذا السوء ، وقد يصل الأمر إلى هضم الحقوق وسفك الدماء.

٢) إنه يؤثر فى نفوس السامعين تأثيرا ضارا بهم ، فقد جرت العادة بأن الناس يقتدى بعضهم ببعض ، فمن رأى إنسانا يسبّ آخر لضغائن بينه وبينه ، أو لكراهته إياه قلده فى ذلك ، ولا سيما إذا كان من الأحداث الذين يغلب عليهم التقليد أو من طبقة دون طبقته ، إذ عامة الناس يقلدون خواصهم ، فإذا ظهرت المنكرات فى الخاصة لا تلبث أن تصل إلى العامة وتفشو بينهم. ومن تميل نفسه إلى منكر أو فاحشة يجترئ على ارتكابهما إذا علم أن له سلفا وقدوة فيهما ، فسماع السوء كعمل السوء فذاك يؤثر فى نفس السامع وهذا يؤثر فى نفس الرائي والناظر ، وأقل هذه الأضرار أنه يضعف فى النفس استقباحه واستبشاعه خصوصا إذا تكرر السماع أو النظر.

وكثير من الناس يجهل مبلغ تأثير الكلام فى القلوب ، فلا ينزهون ألسنتهم عن السوء من القول ولا أسماعهم عن الإصغاء إليه.

والخلاصة ـ إن الله لا يحب الجهر بالسوء من القول ولا الإسرار به ، إذ هو قد نهى عن النجوى بالإثم والعدوان ومعصية الرسول ، لكنه خص الجهر هنا بالذكر لمناسبة بيان مفاسد الكفار والمنافقين فى هذا السياق.

٤

والجهر بالسوء أشد ضرارا من الإسرار به ، لأن ضرره وفساده يفشو فى جمهرة الناس ويعم سائر الطبقات.

(إِلَّا مَنْ ظُلِمَ) أي لكن من ظلمه ظالم فجهر بالشكوى من ظلمه شارحا ظلامته لحاكم أو غيره ممن ترجى نجدته ومساعدته على إزالة هذا الظلم فلا حرج عليه فى ذلك ، فإن الله لا يحب لعباده أن يسكتوا على الظلم ، ولا أن يخضعوا للضيم ، بل يحب لهم العزة والإباء.

فها هنا تعارضت مفسدتان : مفسدة الجهر بالشكوى من الظلم بقول السوء ، ومفسدة السكوت على الظلم وهو مدعاة فشوّه والتمادي فيه ، وذاك مما يؤدى إلى هلاك الأمم وخراب العمران ، وكانت ثانيتهما أخف الضررين فأجيزت للضرورة التي تقدّر بقدرها وإذا فلا يجوز للمظلوم أن يتمادى فى الجهر بالسوء بما لا دخل له فى دفع الظلم وفى الحديث «إن لصاحب الحق مقالا» رواه الإمام أحمد.

(وَكانَ اللهُ سَمِيعاً عَلِيماً) فلا يفوته قول من أقوال من يجهر بالسوء ولا يعزب عن علمه البواعث التي أدت إليه ، إذ لا يخفى عليه شىء من أقوال العباد ولا من أفعالهم ونياتهم فيها ، فمن جهر بالسوء الذي لا يحبه الله لعباده لضرره ومفسدته لظلم وقع عليه فالله لا يؤاخذه ، بل ربما أثابه على ذلك لإراحة الناس من شر فاعله ، فإن الظالم إن لم يؤاخذ على ظلمه يزدد فيه ضراوة وإصرارا.

(إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً) أي إن فاعلى الخير سرا وجهرا والعافين عمن يسىء إليهم يجزيهم ربهم من جنس ما عملوا ، فيعفو عن سيئاتهم ويجزل مثوبتهم ، والله من شأنه العفو وهو القدير الذي لا يعجزه الثواب الكثير على العمل القليل.

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا

٥

بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (١٥٠) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (١٥١) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً (١٥٢))

المعنى الجملي

بين سبحانه فى هذه الآيات أن للإيمان ركنين يبنى عليهما ما عداهما ، ولا يقبل الإيمان بدونهما ، وهما الإيمان به وبجميع رسله بدون تفرقة بين رسول وآخر. ومن أنكرهما أو أحدهما فقد كفر وعاقبته العذاب الأليم فى جهنم وبئس القرار.

الإيضاح

(إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً. أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا) ليس المراد أنهم يصرحون بالكفر بل هو ما تقتضيه آراؤهم ومذاهبهم ، وقوله : نؤمن ببعض ونكفر ببعض ، بيان لتفريقهم بين الله ورسله.

والخلاصة ـ إن الكافرين بالرسل فريقان : فريق لا يؤمن بأحد منهم ، لإنكارهم النبوات وزعمهم أن ما أتى به الأنبياء من الهدى والشرائع هو من عند أنفسهم لا من عند الله ، وأكثر الملحدين فى هذا العصر من ذلك الفريق. وفريق آخر يؤمن ببعض الرسل دون بعض كقول اليهود نؤمن بموسى ونكفر بعيسى ومحمد فهما ليسا برسولين ، وقول النصارى نؤمن بموسى وعيسى ونكفر بمحمد ، والفريقان كافرون مستحقون للعذاب ، ولا عبرة بما يدعونه إيمانا.

(وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً) أي وأعددنا لكل كافر سواء أكان منهم

٦

أم من غيرهم عذابا فيه ذل وإهانة لهم جزاء كفرهم الذي ظنوا فيه العزة والكرامة.

ذاك أن من يؤمن بالله ولا يؤمن بوحيه إلى رسله لا يكون إيمانه صحيحا ولا يهتدى إلى ما يجب له من الشكر ولا يعرف كيف يعبده على الوجه الذي يرضيه ، ومن ثم نرى أمثال هؤلاء ماديين لاتهمهم إلا شهواتهم كما أن من يؤمنون ببعض الرسل ويكفرون. ببعض كأهل الكتاب لا يعتدّ بقولهم ، لأن الإيمان بالرسالة على الوجه الحق إنما يكون بفهمها وفهم صفات الرسل ووظائفهم وتأثير هدايتهم.

ومن فهم هذا حق الفهم علم أن صفات الرسل قد ظهرت بأكملها فى محمد صلى الله عليه وسلم ، فهو قد جاء بكتاب حوى ما لم يحوه كتاب آخر مع أنه نشأ بين قوم أميين ، ونقل كتابه وأصول دينه بالتواتر القطعي والأسانيد المتصلة دون غيره من الكتب.

وبعد أن ذكر حال الفريقين السالفى الذكر ذكر حال فريق ثالث فقال :

(وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ) أي والذين آمنوا بالله وجميع الرسل وعملوا بشريعة آخرهم ، علما منهم بأن جميعهم مرسل من عند الله ، وما مثلهم إلا مثل ولاة يرسلهم السلطان إلى البلاد ومثل الكتب التي جاءوا بها مثل القوانين التي يصدر السلطان مراسيم للعمل بها ، فكل وال منهم إنما ينفذ أوامر السلطان وكل قانون يعمل به لأنه منه ، وكل قانون جديد ينسخ ما قبله ويمنع العمل به. وأولئك يؤتيهم الله أجورهم بحسب حالهم فى العمل ، لأنهم وقد صح إيمانهم به وبرسله يهديهم إلى العمل الصالح ، إذ هو الأثر اللازم لذلك الإيمان الصحيح.

ولم يقل فى هؤلاء إنهم هم المؤمنون حقا كما قال فى أولئك هم الكافرون حقا ، لئلا يدور بخلد أحد أن كمال الإيمان يوجد بدون العمل الصالح فيغتر بذلك ويترك العمل النافع وهذا مما لا يتلاءم مع نصوص الدين ، فلقد وصف الله المؤمنين حقا بقوله : «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ. الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ. أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ».

٧

(وَكانَ اللهُ غَفُوراً رَحِيماً) أي وكان الله غفورا لهفوات من صح إيمانه ولم يشرك بربه أحدا ، ولم يفرّق بين أحد من رسله ، رحيما به يعامله بالإحسان ويضاعف حسناته ويزيد على ما وعد تفضلا منه ورحمة.

(يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (١٥٣) وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (١٥٤) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (١٥٥) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (١٥٦) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً (١٥٧) بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٥٨) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (١٥٩))

٨

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه فى سابق الآيات حال الذين يكفرون بالله ورسله ويفرقون بين الله ورسله فيقولون نؤمن ببعض ونكفر ببعض وهم أهل الكتاب ، بين فى هذه الآيات بعض حوادث لليهود تدل على شديد تعنتهم وجهلهم بحقيقة الدين.

الإيضاح

(يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ) فقد قالوا إن موسى عليه السلام جاء بالألواح من عند الله فائتنا بألواح من عنده تكون بخط سماوى يشهد أنك رسول الله إلينا.

أخرج ابن جرير عن ابن جريج قال : إن اليهود قالوا لمحمد صلى الله عليه وسلم لن نبايعك على ما تدعونا إليه حتى تأتينا بكتاب من عند الله يكون فيه (من الله تعالى إلى فلان إنك رسول الله وإلى فلان إنك رسول الله ، وهكذا ذكروا أسماء معينة من أحبارهم ، وما مقصدهم من ذلك إلا التعنت والتحكم لا طلب الحجة لأجل الاقتناع) وقال الحسن لو سألوه ذلك استرشادا لأعطاهم ما سألوا (فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللهَ جَهْرَةً) أي عيانا ننظر إليه ونشاهده : أي لا تعجب أيها الرسول من سؤالهم وتستنكره فقد سألوا موسى أكبر من ذلك ، وكل من السؤالين يدل على جهل أو عناد.

ذاك أن سؤال الرؤية جهرة دليل على الجهل بالله ، إذ هم ظنوا أن الله جسم محدود تدركه الأبصار ، وأما سؤال إنزال الكتاب فهو دليل إما على العناد لأنهم اقترحوا ما اقترحوا تعجيزا ومراوغة ، وإما على الجهل بمعنى النبوة والرسالة مع ما ظهر فيهم من أنبياء ، إذ هم لا يميزون بين الآيات الصحيحة التي يؤيد الله بها رسله وبين الشعوذة وحيل السحرة المخالفة للعادة ، وكتبهم قد بينت لهم أنه يقوم فيهم أنبياء كذبة وأن النبي

٩

يعرف بدعوته إلى التوحيد والحق لا بمجرد أعجوبة يعملها كما نصت على ذلك التوراة فى سفر تثنية الاشتراع وغيره.

وأيا ما كان فلا فائدة فى إجابتهم إلى ما طلبوا كما قال تعالى : «وَلَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ».

ونسب سؤال موسى إليهم والذين سألوا إنما هم سلفهم ، لأن الخلف والسلف سواسية فى الأخلاق والصفات ، فالأبناء يرثون الآباء ولا سيما اليهود الذين يأبون مصاهرة الغرباء ، ولأن سنة القرآن قد جرت على أن الأمة تعد كالشخص الواحد فى اتباع خلفها لسلفها ، فينسب إلى المتأخر ما فعله المتقدم كما سبق هذا فى سورة البقرة فى مخاطبة اليهود وغيرهم.

(فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ) الصواعق نيران جوية تنشأ من اتحاد الكهرباء الموجبة بالكهرباء السالبة ، وقوله بظلمهم : أي بسبب ظلمهم : أي إن الله تعالى عاقبهم على جهلهم بإنزال الصاعقة عليهم عذابا لهم ، إذ شبهوا الخالق بالمخلوق ورفعوا أنفسهم فوق أقدارها كما قال تعالى «وَما قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ».

(ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ) تقدم هذا فى سورة البقرة : أي وبعد أن جاءتهم المعجزات على يد موسى عليه السلام من قلب العصا حية واليد بيضاء وفلق البحر وغيرها ، اتخذوا العجل إلها وعبدوه ، فعفونا عن ذلك الذنب حين تابوا ، فتوبوا أنتم مثلهم حتى نعفو عنكم مثلهم.

(وَآتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً) السلطان هنا بمعنى السلطة : أي إننا أعطيناه سلطة ظاهرة فأخضعناهم له على تمردهم وعنادهم حتى فى قتل أنفسهم.

وفى هذا بشارة للنبى صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء الكفار وإن كانوا يعاندون فإنك ستتغلب عليهم آخرا وتقهرهم.

ثم حكى عز اسمه عنهم سائر جهالاتهم وإصرارهم على أباطيلهم وقد تقدم بعضها فى سورة البقرة فقال :

١٠

(وَرَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ) الطور الجبل المعروف رفع فوقهم كأنه ظلة وقد كانوا فى واديه ، وقوله بميثاقهم : أي بسبب ميثاقهم أن يأخذوا ما أنزل إليهم بقوة ويعملوا به مخلصين ثم امتنعوا من العمل بما جاء به فرفع عليهم الجبل فخافوا وقبلوا العمل به.

(وَقُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً) الباب هو باب المدينة وهى بيت المقدس وقيل أريحا ، وقوله سجدا : أي خاضعى الرءوس مائلى الأعناق ذلة وانكسارا لعظمته : أي وقلنا لهم على لسان يوشع عليه السلام ادخلوا باب هذه القرية بذلة وانكسار.

(وَقُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ) والاعتداء تجاوز الحد ، والاعتداء فى السبت هو اصطياد الحيتان فيه : أي وقلنا لهم على لسان داود عليه السلام لا تتجاوزوا حدود الله فيه بالعمل الدنيوي ، وقد خالفوا فى السبت وفى دخول الباب.

(وَأَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً) الميثاق الغليظ العهد المؤكد : أي وأخذنا منهم عهدا مؤكدا ليأخذنّ التوراة بقوة ، وليقيمنّ حدود الله ولا يتعدونها ، ويتبع ذلك البشارة بعيسى ومحمد عليهما السلام وهو موجود إلى الآن فى الفصل التاسع والعشرين وما بعده من سفر تثنية الاشتراع وهو آخر التوراة التي بأيديهم.

(فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآياتِ اللهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) أي فبسبب نقض أهل الكتاب للميثاق الذي واثقهم الله به فأحلوا ما حرمه وحرموا ما أحله ، وكفرهم بآياته وحججه الدالة على صدق أنبيائه ، وقتل الأنبياء الذين أرسلوا لهدايتهم كزكريا ويحيى عليهما السلام.

(وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ) جمع أغلف وهو ما عليه غلاف : أي لا ينفذ إليها شىء مما جاء به الرسول ولا يؤثر فيها وهذا كقوله حكاية عن المشركين «وَقالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ» وغير ذلك من سيئاتهم التي ستذكر بعد ـ فعلنا بهم ما فعلنا من لعن إلى غضب إلى ضرب الذلة والمسكنة وإزالة الملك والاستقلال ، لأن هذه الذنوب فرقت شملهم وذهبت بقوتهم وأفسدت أخلاقهم إلى غير ذلك من أنواع البلاء التي سببها الكفر والعصيان.

١١

(بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ) طبع الله عليها جعلها كالسكة المطبوعة (الدراهم مثلا) فى قساوتها وجعلها بوضع خاص لا تقبل غيره : أي ليس ما وصفوا به قلوبهم هو الحق الواقع ، بل لأن الله ختم عليها بسبب كفرهم الكسبي وماله من الأثر القبيح فى أعمالهم وأخلاقهم ، فهم باستمرارهم على ذلك الكفر لا ينظرون فى شىء آخر نظر استدلال واعتبار ، مع أنه من الأمور التي يصل إليها اختيارهم ، ولكنهم لا يختارون إلا ما ألفوا وتعودوا.

(فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلاً) أي إلا قليلا من الإيمان لا يعتد به ، لأنه تفريق بين الله ورسله ، فالكفر ببعضهم كالكفر بجميعهم ، وهم قد كفروا بعيسى ومحمد عليهما السلام.

(وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً) المراد بالكفر هنا الكفر بعيسى عليه السلام بدليل ما بعده ، وبالكفر الذي قبله الكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم بقرينة قوله : وقالوا قلوبنا غلف ، والبهتان : الكذب الذي يبهت من يقال فيه : أي يدهشه ويحيّره لبعده وغرابته ، والمراد به هنا رميها بالفاحشة.

والمعنى ـ إن الله طبع على قلوبهم بكفرهم بعيسى وأمه ورميهم إياها بالكذب العظيم ، وأي بهتان تبهت به العذراء التقية أعظم من هذا؟.

والخلاصة ـ إن هذا الكفر والبهتان من أسباب ما حل بهم من غضب الله.

(وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللهِ) أي وبسبب قولهم هذا القول المؤذن بالجرأة على الباطل والاستهزاء بآيات الله.

وذكروه بوصف الرسالة تهكما واستهزاء بدعوته ، بناء على أنه إنما ادعى النبوة والرسالة فيهم لا الألوهية كما ادعت النصارى ، إذ جاء فى إنجيل يوحنا (وهذه هى الحياة الأبدية أن يعرفوك أنت الإله الحقيقي وحدك ويسوع المسيح الذي أرسلته).

(وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) أي والحال أنهم ما قتلوه كما ادعوا ، وما صلبوه كما زعموا وشاع بين الناس ، ولكن وقع لهم الشبه فظنوا أنهم صلبوا عيسى

١٢

وهم إنما صلبوا غيره ، ومثل هذا الشبه يحدث كثيرا فى كل زمان وتحكى عنه نوادر وحوادث غاية فى الغرابة لكنها قد وقعت فعلا.

فقد ذكر بعض المؤلفين فى الطب الشرعي من الإنجليز حادثة وقعت سنة ١٥٣٩ فى فرنسا استحضر فيها ١٥٠ شخصا لمعرفة شخص يدعى (مارتين جير) جزم أربعون منهم بأنه هو هو وقال خمسون انه غيره والباقون ترددوا ولم يمكنهم أن يبدوا رأيا ثم اتضح من التحقيق أن هذا الشخص كان غير مارتين جير وانخدع به هؤلاء الشهود المثبتون وعاش مع زوجته مارتين محوطا بأقاربه وأصحابه ومعارفه ثلاث سنوات وكلهم مصدق أنه مارتين ، ولما حكمت المحكمة عليه بظهور كذبه بالدلائل القاطعة استأنف الحكم فى محكمة أخرى فأحضر ثلاثون شاهدا أقسم عشرة منهم بأنه هو مارتين ، وقال سبعة إنه غيره وتردد الباقون.

على أن هذا الحادث من خوارق العادات التي أيد الله بها نبيه عيسى بن مريم وأنقذه من أعدائه فألقى شبهه على غيره وغيّر شكله ، فخرج من بينهم وهم لا يشعرون ، وفى أناجيلهم وكتبهم نصوص متفرقة تؤيد هذا الوجه ؛ وإذا قال قائل : وإذا كان المسيح قد نجا من أعدائه فأين ذهب؟ والجواب أنا إذا قلنا إنه رفع بروحه وجسده إلى السماء فلا ترد هذه الشبهة ، وإذا قلنا إن الله توفاه فى الدنيا ثم رفعه إليه كما رفع إدريس عليهما السلام فلا غرابة فى ذلك ، فإن أخاه موسى عليه السلام قد انفرد عن قومه فى مكان لم يعرفه أحد منهم ، وكانوا ألوفا عدة خاضعين لأمره ونهيه ، فكيف يستغرب أن يفرّ عيسى عليه السلام من قوم هم أعداء له ، لا ولى له فيهم ولا نصير إلا أفراد من الضعفاء قد انفضّوا من حوله وقت الشدة ، وقد أنكره أمثلهم بطرس الحوارى ثلاث مرات؟.

(وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِّ) قال فى لسان العرب : الشك ضد اليقين ، فالشك فى صلب المسيح هو التردد فيه أهو المصلوب أم غيره؟

١٣

والمعنى ـ وإن الذين اختلفوا فى شأن عيسى من أهل الكتاب لفى تردد من حقيقة أمره ، إذ ليس لهم به من علم قطعىّ الثبوت ، وإنما هم يتبعون الظن والقرائن التي ترجح بعض الآراء على بغض ، وقد جاء فى بعض الأناجيل التي يعوّلون عليها أنه قال لتلاميذه (كلكم تشكّون فى هذه الليلة) أي الليلة التي يطلب فيها للقتل (إنجيل متى من ٢٦ ـ ٣١ ومرقس من ١٤ ـ ٢٧).

وإذا كانت أناجيلهم تنطق بأنه أخبر تلاميذه أو عرف الناس له بأنهم سيشكون فيه فى ذلك الوقت ، وخبره صادق قطعا ، فهل من العجيب اشتباه غيرهم وشكّ من دونهم فى أمره؟.

(وَما قَتَلُوهُ يَقِيناً) أي وما قتلوا عيسى بن مريم وهم متيقنون أنه هو بعينه ، إذ هم لم يكونوا يعرفونه حق المعرفة ، والأناجيل التي يعوّل عليها صريحة فى أن الذي أسلمه إلى الجند هو يهوذا الاسخريوطي وقد جعل لهم علامة أن من قبله يكون هو المسيح فلما قبّله قبضوا عليه ، وإنجيل برنابا يصرح بأن الجنود أخذوا يهوذا الاسخريوطي نفسه ظنا أنه هو المسيح ، لأنه ألقى عليه شبهه ، ومن هذا تعلم أن الجند ما كانوا يعرفون شخص المسيح معرفة يقينية.

والخلاصة ـ إن روايات المسلمين جميعها متفقة على أن عيسى عليه السلام نجا من أعدائه ومريدى قتله فقتلوا آخر ظنا منهم أنه هو.

(بَلْ رَفَعَهُ اللهُ إِلَيْهِ) هذه الآية كآية آل عمران «إِذْ قالَ اللهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا» وقد روى عن ابن عباس أنه فسر التوفى بالإماتة ، وعن ابن جريج تفسيره بالأخذ والقبض والمراد منه ومن الرفع إنقاذه من الذين كفروا بعناية من الله بعد أن اصطفاه إليه وقربه.

وقال ابن جرير نقلا عن ابن جريج : فرفعه إياه توفيه إياه وتطهيره من الذين كفروا أي فليس المراد الرفع إلى السماء بالروح والجسد ولا بالروح فقط ، وفى تفسير ابن عباس

١٤

معنى الرفع رفع الروح ، ولكن المشهور بين جمهرة المفسرين وغيرهم أن الله تعالى رفعه بروحه وجسده إلى السماء بدليل حديث المعراج ، إذ أن النبي صلى الله عليه وسلم رآه هو وابن خالته يحيى فى السماء الثانية ، وأنت ترى أنه لا دليل لهم فى ذلك إذ لو دل هذا على ما يقولون لدل على رفع يحيى وسائر من رآهم من الأنبياء فى سائر السموات ولا قائل بذلك.

وقال الرازي ـ المعنى رافعك إلى محل كرامتى ، وجعله رفعا للتفخيم والتعظيم كقوله حكاية عن إبراهيم «إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي» وهو إنما ذهب من العراق إلى الشام ، والمراد رفعه إلى مكان لا يملك الحكم فيه عليه إلا الله اه.

(وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً) أي إن الله عزيز يغلب ولا يغلب ، وبهذه العزة أنقذ عبده ورسوله من اليهود الماكرين وحكام الروم الظالمين ، وبحكمته جازى كل عامل بعمله ، ومن ثم أحل باليهود ما أحل بهم من الذلة والمسكنة والتشريد فى الأرض ، وسيوفيهم جزاءهم يوم القيامة «يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ».

(وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ) أي وإن كل أحد من أهل الكتاب عند ما يدركه الموت ينكشف له الحق فى أمر عيسى وسواه من أمور الدين فيؤمن بعيسى إيمانا حقا لا زيغ فيه ولا ضلال ، فاليهودى يعلم أنه رسول صادق فى رسالته ليس بالكذاب ، والنصراني يعلم أنه عبد الله ورسوله وليس بإله وليس هو بابن لله.

وفائدة إخبارهم بذلك ـ بيان أنه لا ينفعهم حينئذ فعليهم أن يبادروا به قبل أن يضطرّوا إليه مع عدم الجدوى والفائدة.

(وَيَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً) أي ويوم القيامة يشهد عيسى عليهم بما تظهر به حقيقة حاله معهم كما حكى الله عنه من قوله : «ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ» فهو يشهد

١٥

للمؤمنين منهم بالإيمان حال التكليف والاختيار وعلى الكافر بالكفر ، إذ هو مرسل إليهم وكل نبى شهيد على قومه كما قال تعالى (فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً) وقد ورد فى الآثار ما يدل على اطلاع الناس قبل موتهم على منازلهم من الآخرة ، فيبشّرون برضوان الله أو بعذابه وعقوبته ، روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إن المؤمن إذا حضره الموت بشّر برضوان الله وكرامته ، وإن الكافر إذا حضر (حضره الموت) بشر بعذاب الله وعقوبته» وروى ابن مردويه عن ابن عباس «ما من نفس تفارق الدنيا حتى ترى مقعدها من الجنة أو النار».

وهذا يؤيد ما روى عن ابن عباس فى تفسير الآية من أن الملائكة تخاطب من يموت من أهل الكتاب قبل خروج روحه بحقيقة أمر المسيح ، مع الإنكار الشديد والتقبيح.

(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً (١٦٠) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (١٦١) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (١٦٢))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه فضائح اليهود وقبيح أعمالهم ، ذكر هنا تشديده عليهم فى الدنيا والآخرة ، أما فى الدنيا فبتحريم طيبات كانت محللة لهم ، وأما فى الآخرة فبما

١٦

بينه الله بقوله (وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) ثم بين أن فريقا منهم آمنوا إيمانا صادقا وعملوا الصالحات فأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وتوعدهم بالأجر العظيم يوم القيامة.

الإيضاح

(فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ) أي فبسبب ظلمهم استحقوا تحريم طيبات كانت محلّلة لهم ولمن قبلهم عقوبة وتربية لهم ، لعلهم يرجعون عن ظلمهم ، وكانوا كلما ارتكبوا معصية يحرم عليهم نوع من الطيبات وهم مع ذلك كانوا يفترون على الله الكذب ، ويقولون لسنا بأول من حرمت عليه ، بل كانت محرمة على نوح وإبراهيم فكذبهم الله فى مواضع كثيرة كقوله : «كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ».

أما الطيبات التي حرمها عليهم فهى ما بيّن فى قوله عز اسمه «وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ» الآية. وقد أبهمها الله هنا ، لأن الغرض من السياق العبرة بكونها عقوبة ، لا بيانها فى نفسها ، كما أبهم الظلم الذي كان سببا فى العقوبة ، ليعلم أن أىّ نوع منه يكون سببا للعقاب فى الدنيا قبل الآخرة.

والعقاب إما دنيوى كالتكاليف الشاقة زمن التشريع ، والجزاء الوارد فى الكتب على الجرائم كالحد والتعزير وما اقتضته السنن التي سنها الله فى نظم الاجتماع من كون الظلم سببا لضعف الأمم وفساد عمرانها واستيلاء الأمم الأخرى عليها ، وإما أخروىّ وهو ما بيّنه فى الكتاب الكريم من العذاب فى النار.

ثم بين هذا الظلم وفصله بعد ذكره إجمالا ، ليكون أوقع فى النفس ، وأبلغ فى الموعظة.

(وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللهِ كَثِيراً) الصدّ والصدود : المنع ، وهو يشمل صدهم أنفسهم عن سبيل الله بما كانوا يعصون به موسى ويعاندونه مرارا ، وصدّهم الناس عن سبيل الله بسوء القدوة ، أو بالأمر بالمنكر والنهى عن المعروف.

١٧

(وَأَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ) أي وبسبب أخذهم الربا وقد نهوا عنه على ألسنة أنبيائهم ، والتوراة التي بين أيديهم إنما تصرح بتحريم أخذهم الربا من شعبهم ومن إخوتهم دون الأجانب ، فقد جاء فى سفر الخروج (إن أقرضت فضة لشعبى الفقير الذي عندك فلا تكن له كالمرابى ، لا تضعوا عليه ربا) وفى سفر تثنية الاشتراع (لا تقرض أخاك بربا ، ربا فضة أو ربا شىء ما مما يقرض بربا ، للأجنبى تقرض بربا ، ولكن لأخيك لا تقرض بربا) وهذه عبارة التوراة التي كتبت بعد السبي ، وثبت تحريفها بالشواهد الكثيرة ، أما النسخة التي كتبها موسى فقد فقدت باتفاق اليهود والنصارى.

وبعض أنبيائهم قد نهوا عن الربا إطلاقا فلم يقيدوه بشعب إسرائيل كقول داود فى المزمور الخامس عشر : فضته لا يعطيها بالربا ، ولا يأخذ الرشوة من البريء ، وقول سليمان فى سفر الأمثال (المكثر ماله بالربا والمرابحة ، فلن يرحم الفقراء بجمعه) (وَأَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ) أي بالرشوة والخيانة ونحوهما مما أخذ فيه المال بلا مقابل يعتدّ به.

ونحو الآية قوله تعالى : «سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ» والسحت : الكسب الحرام فقد كانوا يأخذون أثمان الكتب التي يكتبونها بأيديهم ثم يقولون هى من عند الله.

وبعد أن ذكر وجوه الذنوب التي اقترفوها ، والجرائم التي ارتكبوها ، بين جزاءهم عليها فى الآخرة فقال :

(وَأَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً) أي وأعددنا للذين كفروا منهم برسل الله عذابا مؤلما فى نار جهنم خالدين فيها أبدا.

وبعد أن بين فى هذا السياق سوء حال اليهود وكفرهم وعصيانهم وأطلق القول فى ذلك ، وكان هذا مما يوهم أنه شامل لكل أفرادهم ، جاء الاستدراك عقبه ببيان حال خيارهم الذين لم يذهب عمى التقليد بنور عقولهم فقال :

(لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَما أُنْزِلَ مِنْ

١٨

قَبْلِكَ) أي لكن أهل العلم الصحيح بالدين منهم المستبصرون فيه غير التابعين للظن الذين لا يشترون به ثمنا قليلا من المال والجاه ، والمؤمنون من أمتك إيمان إذعان لا إيمان عصبية وجدل ، يؤمنون بما أنزل إليك من البينات والهدى وما أنزل على موسى وعيسى وغيرهما من الرسل ، ولا يفرقون بين الله ورسله بهوى ولا عصبية.

روى ابن إسحق والبيهقي فى الدلائل عن ابن عباس أن الآية نزلت فى عبد الله بن سلام وأسيد بن سعية وثعلبة بن سعية حين فارقوا يهود وأسلموا.

(وَالْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ) أي وأخص منهم المقيمين الصلاة الذين يؤدونها على وجه الكمال ، فهم أجدر المؤمنين بالرسوخ فى الإيمان ، إذ إقامتها بإتمام أركانها علامة كمال الإيمان واطمئنان النفس به.

(وَالْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ) أي والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر مثل المقيمين الصلاة فى استحقاق المدح بالتبع ، إذ إقامتها تستدعى إيتاء الزكاة ، فإن الذي يقيمها على الوجه الذي طلبه الدين لا يمنع الزكاة ، إذ هى مما تزكى النفس وتعلى الهمة وتهوّن على النفس المال ، قال تعالى : «إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً ، إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ، وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً إِلَّا الْمُصَلِّينَ» الآية.

(أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً) أي هؤلاء الذين وصفوا بما ذكر كله سنعطيهم أجرا عظيما لا يدرك وصفه إلا علّام الغيوب.

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْباطِ وَعِيسى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهارُونَ وَسُلَيْمانَ وَآتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (١٦٣) وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللهُ مُوسى تَكْلِيماً (١٦٤)

١٩

رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكانَ اللهُ عَزِيزاً حَكِيماً (١٦٥) لكِنِ اللهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفى بِاللهِ شَهِيداً (١٦٦))

المعنى الجملي

لا يزال الحديث مع أهل الكتاب ، فإنه ذكر عنهم أوّلا أنهم يفرقون بين الله ورسله فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ، ثم انتقل إلى ذكر شىء من عنادهم وإعناتهم للنبى صلى الله عليه وسلم وطلبهم أن ينزل عليهم كتابا من السماء ، وبيّن أنه لا غرابة فى ذلك فقد شاغبوا موسى من قبله وسألوه ما هو أكبر من ذلك ، ثم ذكر كفرهم بعيسى عليه السلام وبهتهم أمّه ومحاولتهم قتله وصلبه ، وفى كل هذا دليل على تأصل العناد فيهم ، ولولا ذلك لما شاغبوك ، فإن الدليل على نبوتك أوضح مما يدّعون الإيمان بمثله ممن قبلك ـ وهنا ختم الكلام فى محاجتهم ببيان أن الوحى جنس واحد ، ولو كان إيمانهم بالرسل السابقين صحيحا لما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم.

الإيضاح

(إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) الوحى لغة : الإيماء والإشارة كما قال تعالى : «فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا» والإلهام الذي يقع فى النفس كما قال : «وَأَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ» وما يكون غريزة دائمة كما قال : «وَأَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ» والإعلام فى خفاء بأن تعلم إنسانا بأمر تخفيه على غيره كما قال : «شَياطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ».

ووحي الله إلى أنبيائه عرفان يجده الشخص من نفسه مع اليقين بأنه من قبل الله بواسطة أو بغير واسطة ، والأول بصوت يتمثل لسمعه أو بغير صوت ، ويفرق بينه

٢٠