تفسير المراغي - ج ٣٠

أحمد مصطفى المراغي

ذهن المخالف وتوجد عنده ضروب أخرى من الصور تقاوم أثر هذه فى النفس وتغلب عليها.

(٤) الكافرون الجاحدون بالله وبرسله وبما أنزل عليهم ، وهذان القسمان يشملهما (الْأَشْقَى) وقد أعدت النار لكل منهما ، إلا أن الفاسقين لا يخلدون فيها ، ويدخلها الكافرون وهم فيها خالدون.

اللهم ابعدنا عن هذه النار التي تتلظى ، وأدخلنا فسيح جناتك.

مقاصد هذه السورة

(١) بيان أن الناس فى الدنيا فريقان :

(١) فريق يهيئه الله للخصلة اليسرى ، وهم الذين أعطوا الأموال لمن يستحقها ، وصدقوا بما وعد الله من الإخلاف على من أنفقوا.

(٢) فريق يهيئه الله للخصلة المؤدية إلى العسر والشدة ، وهم الذين بخلوا بالأموال واستغنوا بالشهوات ، وأنكروا ما وعد الله به من ثواب الجنة.

(ب) الجزاء فى الآخرة لكل منهما وجعله إما جنة ونعيما ، وإما نارا وعذابا أليما.

١٨١

سورة الضحى

هى مكية ، وآياتها إحدى عشرة ، نزلت بعد سورة الفجر.

ومناسبتها لما قبلها ـ أنه ذكر فى السابقة «وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى» ولما كان سيد الأتقين رسول الله صلى الله عليه وسلم عقب ذلك سبحانه بذكر نعمه عزّ وجل عليه.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالضُّحى (١) وَاللَّيْلِ إِذا سَجى (٢) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى (٣) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (٤) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (٥))

شرح المفردات

الضحى : صدر النهار حين ترتفع الشمس وتلقى أشعتها على هذا الكون ، وسجى : أي سكن ؛ والمراد سكن الأحياء فيه وانقطعوا عن الحركة ، ما ودعك ربك : أي ما تركك ، وما قلى : أي وما قلاك وما أبغضك ، والقلى : شدة الكره والبغض.

المعنى الجملي

أجمع الرواة على أن سبب نزول هذه السورة حدوث فترة فى نزول الوحى على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنه حزن لذلك حزنا شديدا حتى غدا مرارا إلى الجبال ليتردّى من شواهقها ، وأنه ما كان يمنعه إلا تمثل الملك له وإخباره إياه أنه رسول الله حقّا.

وإنما حزن لهذه الفترة خيفة أن يكون ذلك من غضب أو قلى من ربه له ، بعد أن ذاق حلاوة الاتصال به ، وشاهد من جمال الأنس بالوحى ما يثير لواعج

١٨٢

شوقه إلى التزوّد منه ، وقد كان يعلم أنه بشر ، لا فضل له على غيره إلا بهذا القرب الذي يعلو به على من عداه ، وقد كان صلى الله عليه وسلم شديد الحرص على تكميل نفسه وإعدادها لتحمل ما هى بسبيله من أعباء الرسالة.

لا جرم يكون حزنه لهذه الفترة شديدا ، وأن يتوجس منه خيفة ، ولا عجب أن يدعوه ذلك إلى التفكير فيما كان يفكر فيه ، وأن يهمّ بتنفيذه.

ومن ثم نزلت هذه السورة حاملة له أجمل البشرى ، ملقية فى نفسه الطمأنينة ، معدّدة ما أنعم الله به عليه ، وكأنه تعالى يقول لرسوله : إن من أنعم عليك بكذا وكذا لم يكن ليتركك ولا ينساك بعد أن هيأك لحمل أمانته ، وأعدّك للاضطلاع بأعباء رسالته ، فلا تحزن على ما كان من فترة الوحى عنك ، ولا يكن فى صدرك حرج منها ، فما ذلك إلا لتثبيت قلبك ، وتقوية نفسك على احتمال مشاقّها.

الإيضاح

(وَالضُّحى. وَاللَّيْلِ إِذا سَجى. ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَما قَلى) أقسم سبحانه لرسوله بآيتين عظيمتين من آياته فى الكون ضحى النهار وصدره والليل وظلامه ـ إنه ما تركك وما أبغضك كما يقال لك وما تتوهم فى نفسك.

ثم ذكر له ما يثلج صدره ، وما فيه كمال الطمأنينة والبشرى فقال :

(وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى) أي وإن أحوالك فى مستأنف حياتك خير لك مما مضى منها ، وأن كل يوم ستزداد عزّ ، إلى عزّ ، وسيرتفع شأنك كل يوم عما قبله ، وسأمنحك كل آن جلالا فوق جلالك ، ورفعة فوق رفعتك ؛ وكأنه يقول له لا تظنّن أنى كرهتك أو تركتك ، بل أنت عندى اليوم أشد تمكينا وأقرب اتصالا.

ولقد صدق الله وعده ، فما زال يسمو بنبيه ، ويرفع درجته يوما بعد يوم حتى بلغ الغاية التي لم يبلغها أحد قبله ، فجعله رسول الرحمة والهداية والنور إلى جميع خلقه ،

١٨٣

وجعل محبته من محبة الله ، واتباعه والاقتداء به سببا للفوز العظيم بنعيمه ، وجعله وأمته شهداء على الناس جميعا ، ونشر دينه ، وبلّغ دعوته إلى أطراف المعمورة ، فأى فضل فوق ذلك الفضل؟ وأي نعمة أضفى من هذه النعمة؟ وأي إكرام فوق هذا الإكرام؟ وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.

ثم زاده فى البشرى فقال :

(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى) أي ولسوف يظاهر ربك عليك نعمه ، ويوالى عليك مننه ، ومنها توارد الوحى عليك بما فيه إرشادك وإرشاد قومك إلى ما فيه سعادتهم فى الدنيا والآخرة ، وسيظهر دينك على الأديان كلها ، وتعلو كلمتك ويرتفع شأنك على شئون الناس جميعا.

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (٦) وَوَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (٧) وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (٨) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (٩) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (١٠) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (١١))

شرح المفردات

ضالا فهدى : أي غافلا عن الشرائع فهداك إلى مناهجها ، عائلا : أي فقيرا ، فلا تقهر : أي فلا تستذل ، فلا تنهر : أي فلا تزجر ، فحدّث : أي فأدّ الشكر لموليها

المعنى الجملي

بعد أن ذكر رضاه عن رسوله ، ووعده له أن يمنحه من المراتب والدرجات ما يرضيه ، ويثلج قلبه ـ أردف ذلك بيان أن هذا ليس عجبا منه جل شأنه ، فقد أنعم عليه بالنعم الجليلة قبل أن يصير رسولا ؛ فكيف يتركه بعد أن أعده لرسالته ،

١٨٤

ثم نهاه عن أمرين : قهر اليتيم وزجر السائل ، لما لهما من أكبر الأثر فى التعاطف والتعاون فى المجتمع ، ولما فيهما من الشفقة بالضعفاء وذوى الحاجة ، ثم أمره بشكره على نعمه المتظاهرة عليه باستعمال كل منها فى موضعها وأداء حقها.

الإيضاح

(أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى) أي ألم تكن يتيما لا أب لك يعنى بتربيتك ، ويقوم بشئونك ، ويهتم بتنشئتك ؛ فما زال يحميك ويتعهدك برعايته ، ويجنبك أدناس الجاهلية وأوضارها حتى رقيت إلى ذروة الكمال الإنسانى.

وقد عاش النبي صلى الله عليه وسلم يتيما ، إذ توفى أبوه وهو فى بطن أمه ، فلما ولد عطف الله عليه قلب جده عبد المطلب ، فما زال يكفله خير كفالة حتى توفى والنبي صلى الله عليه وسلم يومئذ فى سن الثامنة ، فكفله عمه أبو طالب بوصية من عبد المطلب ، فكان به حفيّا ، شديد العناية بأمره ، وما زال يتعهده حتى كبر وترعرع ، حتى أرسله الله رسولا ، فقام يؤازره وينصره ، ويدفع عنه أذى قريش حتى مات ، فاستطاعت قريش أن تنال منه ، وتجرّأ عليه سفهاؤهم ، وسلطوا عليه غلمانهم ، حتى اضطروه إلى الهجرة.

ولو تدبر المنصف فى رعاية الله له ، وحياطته بحفظه وحسن تنشئته ، لوجد من ذلك العجب ، فلقد كان اليتيم وحده مدعاة إلى المضيعة وفساد الخلق ، لقلة من يحفل باليتيم ويحرص عليه ، وكان فى خلق أهل مكة وعاداتهم ما فيه الكفاية فى إضلاله لو أنه سار سيرتهم ، لكن عناية الله كانت ترعاه ، وتمنعه السير على نهجهم ، فكان الوفىّ الذي لا يمين ، والأمين الذي لا يخون ، والصّادق الذي لا يكذب ، والطاهر الذي لم يدنّس برجس الجاهلية.

(وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدى) أي ووجدك حائرا مضطربا فى أمرك ، مع اعتقادك أن قومك ليسوا على بصيرة من أمرهم ، فعبادتهم باطلة ، ومعتقداتهم فاسدة ، وكان

١٨٥

يفكر فى دين اليهودية ، ثم يرى اليهود أنفسهم ليسوا على حال خير من حال قومه ، إذ بدلوا دينهم ، وخالفوا ما كان عليه رسولهم ، فيبدو عليه الإعراض عنه ، ثم يفكر فى دين عيسى عليه الصلاة والسلام ، فيرى النصارى على حال شر من حال اليهود ، فيرجع عن التفكير فيه ، وهو أمي لا يقرأ ولا يكتب ، ولا يعرف ما حوته تلك الأديان من الأحكام والشرائع.

وأعظم أنواع حيرته ما كان يراه فى العرب أنفسهم من سخف فى العقائد ، وضعف فى البصائر ، باستيلاء الأوهام عليهم وفساد أعمالهم ، وشؤمها فى أحوالهم ، بتفرق الكلمة ، وتفانيهم فى سفك الدماء ، والإشراف على الهلاك باستبعاد الغرباء لهم وتحكمهم فيهم ؛ فالحبشة والفرس من جانب ، والرومان من جانب آخر.

فما العمل فى تقويم عقائدهم ، وتخليصهم من تحكم العادات فيهم؟ وأىّ الطرق ينبغى أن يسلك فى إيقاظهم من سباتهم؟

وقصارى ذلك ، إنه كان فى قرارة نفسه يعتقد أن قومه قد ضلوا سواء السبيل ، وبدلوا دين أبيهم إبراهيم ، وكانت حال أهل الأديان الأخرى ليسنت خيرا من حالهم لكن الإله الحكيم لم يتركه ونفسه ، بل أنزل عليه الوحى ببين له أوضح السبل كما قال : «وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَلَا الْإِيمانُ».

(وَوَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى) أي إنك كنت فقيرا لم يترك لك والدك من الميراث إلا ناقة وجارية ، فأغناك بما أجراه لك من الريح فى التجارة ، وبما وهبته لك خديجة من مالها.

وخلاصة ما تقدم ـ إن من آواك فى يتمك ، وهداك من ضلالك ، وأغناك من فقرك ، لا يتركك فى مستقبل أمرك.

وبعد أن بين نعمه السابقة طالبه بشكر هذه النعم وأداء حقها فقال :

١٨٦

(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ) أي لا تقهر اليتيم ولا تستذله ، بل ارفع نفسه بالأدب ، وهذّبه بمكارم الأخلاق ، ليكون عضوا نافعا فى جماعتك ، لا جرثومة فساد يتعدى أذاها إلى كل من يخالطها من أمتك.

ومن ذاق مرارة الضيق فى نفسه ، فما أجدره أن يستشعرها فى غيره ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يتيما ، فباعد الله عنه ذل اليتيم فآواه ، فمن أولى منه بأن يكرم كل يتيم شكرا لله على نعمته.

(وَأَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ) أي وأما المستجدى فلا تزجره ، ولكن تفضل عليه بشىء أو ردّه ردّا جميلا ، وقد يكون المراد من (السَّائِلَ) المسترشد وهو أيضا يطلب الرفق به وبيان ما أشكل عليه من الأمر.

(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) أي أوسع فى البذل على الفقراء بمالك ، وأفض من نعمه الأخرى على طالبيها ، وليس المراد مجرد ذكر الثروة والإفاضة فى حديثها ، فإن ذلك ليس من كرم الأخلاق فى شىء.

وقد جرت عادة البخلاء أن يكتموا مالهم ، لتقوم لهم الحجة فى قبض أيديهم عن البذل ، ولا تجدهم إلا شاكين من القلّ ؛ أما الكرماء فلا يزالون يظهرون بالبذل مما آتاهم الله من فضله ، ويجهرون بالحمد لما أفاض عليهم من رزقه وقد استفاضت الأحاديث بأنه صلى الله عليه وسلم كان كثير الإنفاق على الفقراء ، عظيم الرأفة بهم ، واسع الإحسان إليهم ، وكان يتصدق بكل ما يدخل فى ملكه ويبيت طاويا.

اللهم صل على محمد عبدك ورسولك الذي أوحيت إليه وأرضيته ، وشرحت صدره ، واجعلنا من الذين يقتفون آثاره ، ويتبعون سنته.

١٨٧

مقاصد السورة الكريمة

اشتملت هذه السورة على أربعة مقاصد :

(١) أن الله ما قلا رسوله ولا تركه.

(٢) وعد رسوله بأنه سيكون فى مستأنف أمره خيرا من ماضيه.

(٣) تذكيره بنعمه عليه فيما مضى وأنه سيواليها عليه.

(٤) طلب الشكر منه على هذه النعم.

سورة الشرح

هى مكية ، وآيها ثمان ، نزلت بعد سورة الضحى.

وهي شديدة الاتصال بما قبلها حتى روى عن طاوس وعمر بن عبد العزيز أنهما كانا يقولان : هما سورة واحدة ، وكانا يقرآنهما فى الركعة الواحدة ، وما كانا يفضلان بينهما بالبسملة ، ولكن المتواتر كونهما سورتين وإن كانتا متصلتين معنى ، إذ فى كل منهما تعداد النعم وطلب الشكر عليها.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (١) وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (٢) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (٣) وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (٤))

شرح المفردات

الشرح : البسط والتوسعة ، والعرب تطلق عظم الصدر وتريد به القوة وعظيم المنة والمسرة وانبساط النفس ، ويفخرون بذلك فى مدائحهم ، من قبل أن سعة

١٨٨

الصدر تعطى الأحشاء فسحة للنمو والراحة ، وإذا تم ذلك للمرء كان ذهنه حاضرا لا يضيق ذرعا بأمر ، والوزر : الحمل الثقيل ، وأنقض : أي أثقل ، والظهر إذا أثقله الحمل سمع له نقيض ، أي صوت خفى.

الإيضاح

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) أي إنا شرحنا لك صدرك ، فأخرجناك من الحيرة التي كنت تضيق بها ذرعا ، بما كنت تلاقى من عناد قومك واستكبارهم عن اتباع الحق ، وكنت تتلمس الطريق لهدايتهم ، فهديت إلى الوسيلة التي تنقذهم بها من التهلكة ، وتجنبهم الردى الذي كانوا مشرفين عليه.

وقصارى ذلك ـ إنا أذهبنا عن نفسك جميع الهموم حتى لا تقلق ولا تضجر ، وجعلناك راضى النفس ، مطمئنّ الخاطر ، واثقا من تأييد الله ونصره ، عالما كل العلم أن الذي أرسلك لا يخذلك ، ولا يعين عليك عدوا.

(وَوَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ) أي حططنا عنك ما أثقل ظهرك من أعباء الرسالة حتى تبلغها ، فجعلنا التبليغ عليك سهلا ، ونفسك به مطمئنة راضية ، ولو قوبلت بالإساءة ممن أرسلت إليهم ، كما يرضى الرجل بالعمل لأبنائه ويهتم بهم ، فالعبء مهما ثقل عليه يخففه ما يجيش بقلبه من العطف عليهم ، والحدب على راحتهم ، ويتحمل الشدائد وهو راض بما يقاسى فى سبيل حياطتهم وتنشئتهم.

(وَرَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ) أي وجعلناك عالى الشأن ، رفيع المنزلة ، عظيم القدر ، وأىّ منزلة أرفع من النبوة التي منحكها الله؟ وأي ذكر أنبه من أن يكون لك فى كل طرف من أطراف المعمورة أتباع يمتثلون أوامرك ، ويجتنبون نواهيك ، ويرون طاعتك مغنما ، ومعصيتك مغرما.

وهل من فخار بعد ذكرك فى كلمة الإيمان مع العلىّ الرحمن؟ وأي ذكر أرفع

١٨٩

من ذكر من فرض الله على الناس الإقرار بنبوته ، وجعل الاعتراف برسالته بعد بلوغ دعوته ، شرطا فى دخول جنته.

هذا إلى أنه صلى الله عليه وسلم أنقذ أمما كثيرة من رقّ الأوهام ، وفساد الأحلام ، ورجع بهم إلى الفطرة الأولى من حرية العقل والإرادة ، والإصابة فى معرفة الحق ، ومعرفة من يقصد بالعبادة ، فاتحدت كلمتهم فى الاعتقاد بإله واحد بعد أن كانوا متفرقين طرائق قددا ، عبّاد أصنام وأوثان ، وشموس وأقمار ، لا يجدون إلى الهدى سبيلا ، ولا للوصول إلى الحق طريقا ؛ فأزاح عنهم تلك الغمّة ، وأنار لهم طريق الهدى والرشاد.

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٥) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (٦) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (٧) وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (٨))

شرح المفردات

العسر : الفقر والضعف وجهالة الصديق وقوة العدو وإنكار الجميل ، فرغت : أي من عمل : فانصب : أي اتعب.

المعنى الجملي

بعد أن أبان بعض نعمه على رسوله من شرح الصدر ، ووضع الوزر ، ورفع الذكر ، بعد استحكام الكرب ، وضيق الأمر ـ ذكر أن ذلك قد وقع على ما جرت به سنته فى خلقه ، من إحداث اليسر بعد العسر ، وأكد هذا بإعادة القضية نفسها مؤكدة لقصد تقريرها فى النفوس وتمكينها فى القلوب.

الإيضاح

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) أي فإن مع الضيق فرجا ، ومع قلة الوسائل إلى إدراك المطلوب مخرجا إذا تدرّع المرء بالصبر وتوكل على ربه ، ولقد كان هذا حال النبي

١٩٠

صلى الله عليه وسلم فإنه قد ضاق به الأمر فى بادئ أمره قبل النبوة وبعدها إذ تألب عليه قومه ، لكن ذلك لم يثنه عن عزمه ، ولم يقلل من حدّه ، بل صبر على مكروههم وألقى بنفسه فى غمرات الدعوة متوكلا على ربه ، محتسبا نفسه عنده ، راضيا بكل ما يجد فى هذا السبيل من أذى ، ولم تزل هذه حاله حتى قيض الله له أنصارا أشربت قلوبهم حبه ، وملئت نفوسهم بالرغبة الصادقة فى الدفاع عنه وعن دينه ، ورأوا أن لا حياة لهم إلا بهدم أركان الشرك والوثنية ، فاشتروا ما عند الله من جزيل الثواب بأرواحهم وأموالهم وأزواجهم ، ثم كان منهم من فوّض دعائم الأكاسرة ، وأباد جيوش الأباطرة والقياصرة.

وقصارى ذلك ـ إنه مهما اشتد العسر ، وكانت النفس حريصة على الخروج منه ، طالبة كشف شدته ، مستعملة أجمل وسائل الفكر والنظر فى الخلاص منه ، معتصمة بالتوكل على ربها ، فإنها ولا ريب ستخرج ظافرة مهما أقيم أمامها من عقبات واعترضها من بلايا ومحن وفى هذا عبرة لرسوله صلى الله عليه وسلم بأنه سيبدّل حاله من الفقر إلى الغنى ، ومن قلة الأعوان إلى كثرة الإخوان ، ومن عداوة قومه إلى محبتهم إلى أشباه ذلك.

ثم أعاد الأسلوب للتوكيد فقال :

(إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً) إذا احتملت ذلك العزيمة الصادقة ، وعملت بكل ما أوتيت من قوة على التخلص منه ، وقابلت ما يقع من عسر بالصبر والأخذ بأسباب تفريجه ولم تستبطئ الفرج ، فيدعوها ذلك إلى التواني ، وفتور العزيمة.

وبعد أن بين نعمه على رسوله ووعده بتفريج كربه ـ طلب منه أن يقوم بشكر هذه النعم بالانقطاع لصالح العمل والاتكال عليه دون من عداه فقال :

(فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ) أي فإذا فرغت من عمل فاتعب فى مزاولة عمل آخر ، فإنك ستجد فى المثابرة لذة تقرّبها عينك ويثلج لها صدرك.

١٩١

وفى هذا حث له عليه الصلاة والسلام على المواظبة على العمل واستدامته.

(وَإِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ) أي ولا ترغب فى ثواب أعمالك وتثميرها ، إلا إلى ربك وحده ، فإنه هو الحقيق بالتوجه إليه والضراعة له ، والحمد لله رب العالمين ، وصلاته وسلامه على سيد المرسلين.

مقاصد السورة

تشتمل هذه السورة الكريمة على أربعة مقاصد :

(١) تعداد ما أنعم به على رسوله من النعم.

(٢) وعده له بإزالة ما نزل به من الشدائد والمحن.

(٣) أمره بالمداومة على الأعمال الصالحة.

(٤) التوكل عليه وحده ، والرغبة فيما عنده.

١٩٢

سورة التين

هى مكية ، وآياتها ثمان ، نزلت بعد سورة البروج.

ومناسبتها لما قبلها ـ أنه ذكر فى السورة السابقة حال أكمل خلق الله صلى الله عليه وسلم ، وذكر هنا حال النوع الإنسانى وما ينتهى إليه أمره ، وما أعد سبحانه لمن آمن يرسوله.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (١) وَطُورِ سِينِينَ (٢) وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (٣) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (٤) ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (٥) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (٦) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (٧) أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (٨))

شرح المفردات

المراد بالتين كما قال الأستاذ الإمام هنا : عهد الإنسان الأول الذي كان يستظل فيه بورق التين حينما كان يسكن الجنة ؛ والمراد بالزيتون : عهد نوح عليه السلام وذريته حينما أرسل الطير فحمل إليه ورقة من شجر الزيتون ، فاستبشر وعلم بأن الطوفان انحسر عن الأرض ، وطور سينين : الجبل الذي كلم الله تعالى موسى عنده ، والبلد الأمين : مكة التي كرمها الله بالكعبة ، والتقويم : جعل الشيء على ما ينبغى أن يكون عليه فى التأليف والتعديل ؛ يقال قوّمه تقويما : واستقام الشيء وتقوّم : إذا جاء وفق التقويم ، وممنون : أي مقطوع ، والدّين : الجزاء بعد البعث.

١٩٣

الإيضاح

(وَالتِّينِ) أي قسما بعصر آدم أبى البشر الأول ، وهو العهد الذي طفق فيه آدم وزوجه يخصفان عليهما من ورق الجنة.

(وَالزَّيْتُونِ) أي وقسما بعصر الزيتون عصر نوح عليه السلام وذريته حينما أهلك الله من أهلك بالطوفان ، ونجّى نوحا فى سفينته ، وبعد لأى ما جاءته بعض الطيور حاملة ورقة من هذا الشجر فاستبشر ، وعلم أن غضب الله قد سكن وأذن للأرض أن تبتلع ماءها لتعمر ويسكنها الناس ، ثم أرسى السفينة ونزل هو وأولاده وعمروا الأرض.

وقصارى ذلك ـ إن التين والزيتون يذكّران بهذين العصرين عصر آدم أبى البشر الأول ، وعصر نوح أبى البشر الثاني.

(وَطُورِ سِينِينَ) وهو تذكير بما كان عند ذلك الجبل من الآيات الباهرات التي ظهرت لموسى وقومه ، وما كان بعد ذلك من إنزال التوراة عليه ، وظهور نور التوحيد بعد أن تدنست جوانب الأرض بالوثنية ، وما زال الأنبياء بعده يدعون أقوامهم إلى التمسك بهذه الشريعة ، ثم عرضت لها البدع ، فجاء عيسى مخلّصا لها مما أصابها ، ثم أصاب قومه ما أصاب الأمم قبلهم من الاختلاف فى الدين ، حتى منّ الله على الناس بعهد النور المحمدي ، وإليه الإشارة بقوله :

(وَهذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) الذي شرفه الله بميلاد رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وكرّمه بالبيت الحرام.

وخلاصة ما سلف ـ إن الله أقسم بهذه العهود الأربعة التي كان لها أثر بارز فى تاريخ البشر ، وفيها أنقذ الناس من الظلمات إلى النور.

١٩٤

ثم ذكر المحلوف عليه فقال :

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) أي لقد خلقنا الإنسان فى أحسن صورة ، فجعلناه مديد القامة ، حسن البزّة ، يتناول ما يريد بيده لا كسائر الحيوان يتناول ما يريد بفيه ؛ إلى أنه خصه بالعقل والتمييز والاستعداد لقبول العلوم والمعارف ، واستنباط الحيل التي بها يستطيع أن يكون له السلطان على جميع الكائنات ، وله من الحول والطّول ما يمتد إلى كل شىء.

لكن قد غفل عما ميّز به ، وظنّ نفسه كسائر المخلوقات ، وراح يعمل ما لا يبيحه له العقل ، ولا ترضى عنه الفطرة ، وانطلق يتزوّد من متاع الدنيا والاستمتاع بشهواتها ما استطاع إلى ذلك سبيلا ، وأعرض عن النظر فيما ينفعه فى معاده ، وما يرضى به ربه وما يوصله إلى النعيم المقيم ، «يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَلا بَنُونَ. إِلَّا مَنْ أَتَى اللهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ».

وهذا ما أشار إليه بقوله :

(ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ) أي إنه استشرى فيه الفساد ، وأمعن فى سبيل الضلالة ، ونسى فطرته وعاد إلى حيوانيته ، وتردّى فى هاوية الشرور والآثام ، إلا من عصمهم الله فظلوا على فطرتهم التي فطرهم عليها ، وهم من عناهم سبحانه بقوله :

(إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي إلا الذين أشربت قلوبهم عقيدة الإيمان ، وعرفوا أن لهذا الكون موجدا دبّر أمره ، ووضع لخلقه شرائع يسيرون على نهجها ، وأيقنوا أن للشر جزاء وللخير مثله.

وهؤلاء سيعطون أجر صالح أعمالهم إذا انتقلوا إلى الحياة الثانية ، وهم أتباع الأنبياء ومن هداهم الله إلى الحق من كل أمة.

ثم وبخ المشركين على التكذيب بالجزاء بعد ظهور الدليل عليه فقال :

(فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ؟) أي فأىّ سبب يحملك أيها الإنسان على التكذيب

١٩٥

بالجزاء على أعمالك بعد أن تظاهرت لديك الأدلة على ذلك ، فإن الذي خلقك من نطفة ثم صيّرك بشرا سويّا ـ قادر على أن يبعثك ويحاسبك فى نشأة أخرى ، ومن شاهد ذلك وتدبره وأعمل فيه فكره ثم بقي على عناده ، فقد طمس على بصيرته وضل سواء السبيل.

ثم زاد ما سلف توكيدا فقال :

(أَلَيْسَ اللهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ) صنعا وتدبيرا ، ومن ثم وضع الجزاء لهذا النوع الإنسانى ، ليحفظ له منزلته من الكرامة التي أعدها له بأصل فطرته ، ثم انحدر منها إلى المنازل السفلى بجهله وسوء تدبيره ، ولهذا أرسل له الرسل مبشرين ومنذرين ، وأنزل معهم الشرائع ليبينوها له ويدعوه إليها رحمة به.

سبحانك ، ما أعدلك وأحكمك ، وأنت اللطيف الخبير ، وإليك المرجع والمصير.

١٩٦

سورة العلق

هى مكية ، وآياتها تسع عشرة ، وهى أول ما نزل من القرآن.

ومناسبتها لما قبلها ـ أنه ذكر هناك خلق الإنسان فى أحسن تقويم ، وذكر هنا خلق الإنسان من علق ، إلى أنه ذكر هنا من أحوال الآخرة ما هو كالشرح والبيان لما سلف.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (١) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (٢) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (٣) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (٤) عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (٥))

تقدمة تاريخية

جاء فى صحيح الأحاديث أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يأتى غار حراء (حراء جبل بمكة) يتعبد فيه الليالى ذوات العدد ، ثم يرجع إلى خديجة فيتزوّد لمثلها ، حتى فجأه الوحى وهو فى الغار إذ جاءه الملك فقال له : اقرأ ، قال ما أنا بقارئ ، قال :

فأخذه ثانية فغطّه حتى بلغ منه الجهد ، ثم أرسله فقال : اقرأ ، قال ما أنا بقارئ. قال فأخذه ثالثة فغطّه حتى بلغ منه الجهد فقال : (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ. خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ. اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ. الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ. عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ).

قال الرواة : فرجع ترجف بوادره حتى دخل على خديجة فقال : زمّلونى زملونى ، فزملوه حتى ذهب عنه الرّوع ؛ فأخبر خديجة الخبر ، ثم قال : قد خشيت على نفسى ، فقالت له : كلّا ، أبشر ، فو الله لا يخزيك الله أبدا ، إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكلّ ، وتقرى الضيف ، وتعين على نوائب الحق.

١٩٧

ثم انطلقت به خديجة حتى أتت ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزّى (ابن عم خديجة) وكان امرأ قد تنصر فى الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العربي ، وكتب بالعبرانية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخا كبيرا قد عمى ، فقالت خديجة : أي ابن عم ، اسمع من ابن أخيك ، فقال ورقة : ابن أخى ما ترى؟

فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رأى ، فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على عيسى ، ليتنى فيها جذعا ، ليتنى أكون حيّا إذ يخرجك قومك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو مخرجىّ هم؟ فقال ورقة : نعم ، لم يأت أحد قط بمثل ما جئت به إلا عودى ، وإن يدركنى يومك أنصرك نصرا مؤزّرا ، ثم لم ينشب أن توفّى ، رواه الإمام أحمد والبخاري ومسلم.

ومن ذلك تعلم أن صدر هذه السورة هو أول ما نزل من القرآن الكريم ، وأول رحمة رحم الله بها عباده ، وأول خطاب وجّه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.

أما بقية السورة فهو متاخر النزول ، نزل بعد شيوع بعثته صلى الله عليه وسلم ، وبعد أن دعا قريشا إلى الإيمان به ، وآمن به قوم منهم ، وكان جمهرتهم يتحرشون بمن آمن به ويؤذونهم ، ويحاولون ردهم عن تصديقه ، والإيمان بما جاء به من عند ربه.

الإيضاح

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) أي صر قارئا بقدرة الله الذي خلقك وإرادته بعد أن لم تكن كذلك ، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يكن قارئا ولا كاتبا ، وقد جاءه الأمر الإلهى بأن يكون قارئا وإن لم يكن كاتبا ، وسينزل عليه كتابا يقرؤه ، وإن كان لا يكتبه.

١٩٨

وقصارى ذلك ـ إن الذي خلق الكائنات وأوجدها ، قادر أن يوجد فيك القراءة ، وإن لم يسبق لك تعلمها.

ثم بين كيفية الخلق فقال :

(خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ) العلق : الدم الجامد ، أي إن الذي خلق الإنسان وهو أشرف المخلوقات كلها من العلق ، وآتاه القدرة على التسلط على كل شىء مما فى هذا العالم الأرضى ، وجعله يسوده بعلمه ، ويسخره لخدمته ، قادر أن يجعل من الإنسان الكامل كالنبى صلى الله عليه وسلم قارئا وإن لم يسبق له تعلّم القراءة.

والخلاصة ـ إن من كان قادرا على أن يخلق من الدم الجامد إنسانا حيا ناطقا يسود المخلوقات الأرضية جميعها ، قادر أن يجعل محمدا صلى الله عليه وسلم قارئا وإن لم يتعلم القراءة والكتابة.

(اقْرَأْ) أي افعل ما أمرت به من القراءة.

وكرر الأمر لأن القراءة لا تكسبها النفس إلا بالتكرار والتعود على ما جرت به العادة ؛ وتكرار الأمر الإلهى يقوم مقام تكرار المقروء ، وبذلك تصير القراءة ملكة للنبى صلى الله عليه وسلم ، تدبر قوله تعالى : «سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى».

ثم أزاح العذر الذي بينه صلى الله عليه وسلم لجبريل حين قال له اقرأ فقال ما أنا بقارئ ، أي إنى أمي لا أقرأ ولا أكتب فقال :

(وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ) أي وربك أكرم لكل من يرتجى منه الإعطاء ، فيسير عليه أن يفيض عليك نعمة القراءة من بحار كرمه.

ثم أراد أن يزيده اطمئنانا بهذه الموهبة الجديدة فقال :

(الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) أي الذي جعل القلم واسطة التفاهم بين الناس على بعد الشّقّة ، كما أفهمهم بواسطة اللسان ؛ والقلم آلة جامدة لا حياة فيها وليس من شأنها الإفهام ، فمن جعل من الجماد الميت الصامت آلة للفهم والبيان. أفيصعب عليه أن يجعل منك قارئا مبيّنا ، وتاليا معلّما ، وأنت إنسان كامل؟

١٩٩

وقد وصف سبحانه نفسه بأنه خلق الإنسان من علق ، وأنه علمه بالقلم ليبين.

أحوال هذا الإنسان ، وأنه خلق من أحقر الأشياء ، وبلغ فى كماله الإنسانى أن صار عالما بحقائق الأشياء ، فكأنه قيل : تدبر أيها الإنسان تجد أنك قد انتقلت من أدنأ المراتب وأخسها ، إلى أعلى الدرجات وأرفعها ، ولا بد لذلك من مدبر قادر حكيم أحسن كل شىء خلقه.

ثم زاد الأمر بيانا بتعداد نعمه فقال :

(عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ) أي إن من صدر أمره بأن يكون رسوله صلى الله عليه وسلم قارئا ، هو الذي علم الإنسان جميع ما هو متمتع به من العلم ، وممتاز به عن غيره من الحيوان ، وكان فى بدء أمره لا يعلم شيئا ، فهل من عجب أن يعلمك القراءة ، ويعلمك كثيرا من العلوم سواها ، ونفسك مستعدة لقبول ذلك.

وفى الآية دليل على فضل القراءة والكتابة والعلم.

ولعمرك لولا القلم ما حفظت العلوم ، ولا أحصيت الجيوش ، ولضاعت الديانات ، ولا عرف الأواخر معارف الأوائل ، وعلومهم ومخترعاتهم وفنونهم ، ولما سجّل تاريخ السابقين : المسيئين منهم والمحسنين ، ولا كان علمهم نبراسا يهتدى به الخلف ، ويبنى عليه ما به ترقى الأمم ، وتتقدم المخترعات.

كما أن فيها دليلا على أن الله خلق الإنسان الحي الناطق مما لا حياة فيه ولا نطق ، ولا شكل ولا صورة ، وعلمه أفضل العلوم وهى الكتابة ، ووهبه العلم ولم يكن يعلم شيئا ، فما أعجب غفلتك أيها الإنسان!.

(كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (٦) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (٧) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (٨) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (٩) عَبْداً إِذا صَلَّى (١٠) أَرَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (١١) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (١٢) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (١٣)

٢٠٠