تفسير المراغي - ج ٣٠

أحمد مصطفى المراغي

ثم ذكر أن أمره مع الحاضرين مجلسه انحصر فى شيئين :

(١) (أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى. فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى) أي أما من استغنى بماله وقوّته عن الإيمان ، وعما عندك من المعارف التي يشتمل عليها الكتاب المنزّل عليك ، فأنت تقبل عليه ، حرصا على إسلامه ، ومزيد الرغبة فى إيمانه.

(وَما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى؟) أي وأىّ عيب عليك فى بقائه كذلك ، وألا يتطهر من وسخ الجهالة؟ فما أنت إلا رسول مبلغ عن الله ، وقد أديت ما يجب عليك ، فما بالك يشتد بك الحرص على إسلامه.

وقصارى ذلك ـ لا يبلغنّ بك الحرص على إسلامهم ، والاشتغال بدعوتهم ، أن تعرض عن الذين سبقت لهم منا الحسنى.

(٢) (وَأَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى. وَهُوَ يَخْشى. فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى) أي وأما من جاءك مسرعا فى طلب الهداية والقرب من ربه ، وهو يخشاه ويحذر الوقوع فى الغواية ، فأنت تتلهى عنه ، وتتغافل عن إجابته إلى مطلبه.

(كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (١١) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (١٢) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (١٣) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (١٤) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (١٥) كِرامٍ بَرَرَةٍ (١٦))

شرح المفردات

كلا : كلمة يقصد بها زجر المخاطب عن الأمر الذي يعاتب عليه ، لئلا يعاوده ، وهنا هو التصدي للمستغنى والتلهي عن المستهدى ، تذكرة : أي موعظة ، ذكره : أي اتعظ به ، فى صحف مكرمة : أي مودعة فى صحف شريفة ، مرفوعة : أي عالية القدر ، مطهرة : أي من النقص لا تشوبها الضلالات ، سفرة : واحدهم سافر ، من سفر بين القوم إذا نصب نفسه وسيطا ليصلح من أمورهم ما فسد.

٤١

قال شاعرهم :

فما أدع السفارة بين قومى

ولا أمشى بغشّ إن مشيت

والمراد هنا الملائكة والأنبياء ، لأنهم وسائط بين الله وخلقه فى البيان عما يريد ، كرام : واحدهم كريم ، بررة : واحدهم بارّ ، والمراد أنهم كرام على الله ، أطهار لا يقارفون ذنبا.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه حادث ابن أم مكتوم وعتبه على رسوله فيما كان منه معه ، أردف ذلك ببيان أن الهداية التي يسوقها الله إلى البشر على ألسنة رسله ، ليست من الأمور التي يحتال لتقريرها فى النفوس وتثبيتها فى القلوب ، وإنما هى تذكرة يقصد بها تنبيه الغافل إلى ما جبل الخلق عليه من معرفة توحيده ؛ فمن أعرض عن ذلك فإنه معاند يقاوم ما يدعوه إليه حسه ، وتنازعه إليه نفسه.

فما عليك إلا أن تبلغ ما عرفت عن ربك ، لتذكر به الناس ، وتنبه الغافل ، أما أن تحابى القوىّ المعاند ، ظنا منك أن مداجاته ترده عن عناده ، فذلك ليس من شأنك ، «فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى».

وهذه الهداية أودعها سبحانه فى الصحف الإلهية الشريفة القدر ، المطهرة من النقائص والعيوب ، وأنزلها على الناس بوساطة ملائكته الكرام البررة.

الإيضاح

(كَلَّا إِنَّها تَذْكِرَةٌ) أي ما الأمر كما تفعل أيها الرسول ، بأن تعبس فى وجه من جاءك يسعى وهو يخشى ، وتقبل على من استغنى ، بل الهداية المودعة فى الكتب الإلهية وأجلّها القرآن ، تذكير ووعظ وتنبيه لمن غفل عن آيات ربه.

وقد وصف سبحانه تلك التذكرة بأوصاف تدل على ما لها من عظيم الشأن فقال :

٤٢

(فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ) أي إن هذه التذكرة بينة ظاهرة ، فلو أن إنسانا أراد أن يتدبرها ، ويتفهم معناها ، ويتعظ بها ، ويعمل بموجبها ـ لقدر على ذلك واستطاعه ، ولا يمنعه عن الاهتداء بها إلا عدم المشيئة عنادا واستكبارا.

(٢) (فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ. مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ. بِأَيْدِي سَفَرَةٍ. كِرامٍ بَرَرَةٍ) أي وقد أودعت هذه التذكرة فى الكتب الإلهية ذات الشرف والرفعة ، المطهرة من النقائص ولا تشوبها شوائب الضلالات ، تنزّل بوساطة الملائكة على الأنبياء ، وهم يبلغونها للناس.

وكل من الملك والنبي سفير ، وكل منهما رسول ، والملائكة كرام على الله كما قال : «بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ» وأبرار أطهار لا يقارفون ذنبا ، ولا يجترحون إثما ، كما قال سبحانه : «لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ».

(قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (١٧) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (١٨) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (١٩) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (٢٠) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (٢١) ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (٢٢) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (٢٣))

شرح المفردات

قدره : أي أنشأه فى أطوار وأحوال مختلفة ، طورا بعد طور ، وحالا بعد حال ، والسبيل : الطريق ، يسره : أي سهل له سلوك سبل الخير والشر ، فأقبره : أي جعل له قبرا يوارى فيه ، أنشره : أي بعثه بعد الموت ، كلا : زجر له عن ترفعه وتكبره.

المعنى الجملي

بعد أن بين حال القرآن وذكر أنه كتاب الذكرى والموعظة ، وأن فى استطاعة كل أحد أن ينتفع بعظاته لو أراد ـ أردف هذا ببيان أنه لا يسوغ للإنسان مهما

٤٣

كثر ماله ، ونبه شأنه ، أن يتكبر ويتعاظم ويعطى نفسه ما تهواه ، ولا يفكر فى منتهاه ، ولا فيمن أنعم عليه بنعمة الخلق والإيجاد ، وصوّره فى أحسن الصور ، فى أطوار مختلفة ، وأشكال متعددة ، ثم لا يلبث إلا قليلا على ظهر البسيطة حتى يعود إلى التراب كما كان ، ويوضع فى لحده ، إلى أمد قدره الله فى علمه ، ثم يبعثه من قبره ، ويحاسبه على ما عمل فى الدار الأولى ، ويستوفى جزاءه إن خيرا وإن شرا ، لكنه ما أكفره بنعمة ربه ، وما أبعده عن اتباع أوامره ، واجتناب نواهيه!

الإيضاح

(قُتِلَ الْإِنْسانُ) هذا دعاء عليه بأشنع الدعوات على ما هو المعروف فى لسانهم.

يقولون إذا تعجبوا من إنسان : قاتله الله ما أحسنه ، وأخزاه الله ما أظلمه! والمراد بيان قبح حاله ، وأنه بلغ حدا من العتوّ والكبر لا يستحق معه أن يبقى حيا.

(ما أَكْفَرَهُ) أي ما أشد كفرانه للنعم التي يتقلب فيها ، وأكثر ذهوله عن مسديها ، وعمن غمره بها من حين إيجاده ، إلى ساعة معاده! ثم شرع يفصل ما أجمله ، ويبين ما أفاض عليه من النعم فى مراتب ثلاث : المبدأ والوسط والمنتهى ، وأشار إلى الأولى بقوله :

(مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ؟) أي من شىء حقير ، فلا ينبغى له التجبر ولا التكبر.

وقد أجاب عن هذا الاستفهام بقوله :

(مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ) أي خلقه من ماء مهين ، وقدره أطوارا وأحوالا ، طورا بعد طور وحالا بعد حال ، وأتم خلقه بأعضاء تلائم حاجاته مدة بقائه ، وأودع فيه من القوى ما يمكنه من استعمال تلك الأعضاء وتصريفها فيما خلقت لأجله ، وجعل كل ذلك بمقدار محدود بحسب ما يقتضيه كمال نوعه.

٤٤

وقد أثر عن بعضهم : كيف يتكبر الإنسان ، وأوله نطفة مذرة ، وآخره جيفة قذرة ، وهو فيما بين الوقتين حمّال عذرة.

وروى عن علىّ كرم الله وجهه قوله : كيف يفخر الإنسان وقد خرج من موضع البول مرتين.

وأشار إلى المرتبة الوسطى بقوله :

(ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ) أي ثم جعله متمكنا من سلوك سبيلى الخير والشر ، فآتاه قدرة العمل ، ووهبه العقل الذي يميز به بين الأعمال ، وعرّفه عاقبة كل عمل ونتيجته كما قال «وَهَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» وبعث إليه الرسل مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتب المشتملة على الحكم والمواعظ والدعوة إلى أنواع البر ، والتحذير من الشر ، والحاوية لما فيه سعادة البشر فى معاشهم ومعادهم.

وأشار إلى المرتبة الأخيرة بقوله :

(ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ. ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ) أي ثم قبض روحه ولم يتركه مطروحا على الأرض جزرا للسباع ، بل تفضل عليه وجعل فى غريزة نوعه أن يوارى ميته تكرمة له ، ثم إذا شاء بعثه بعد موته للحساب والجزاء فى الوقت الذي قدّره فى علمه.

وفى قوله : «إِذا شاءَ» إشعار بأن وقت الساعة لا يعلمه إلا هو ، فهو الذي استأثر بعلمه ، وهو القادر على تقديمه وتأخيره ، وهو القاهر فوق عباده ، وذو السلطان عليهم فى إحيائهم وإماتتهم. وبعثهم وحشرهم. وحسابهم على ما قدموا من عمل. خيرا كان أو شرا.

ثم أكد كفرانه بالنعم فقال :

(كَلَّا لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ) أي حقا إن حال الإنسان لتدعو إلى العجب. فإنه بعد أن رأى فى نفسه مما عددناه من عظيم الآيات ، وشاهد من جلائل الآثار.

٤٥

ما يحرك الأنظار ، ويسير بها إلى صواب الآراء ، وصحيح الأفكار ـ لم يقض ما أمره به من التأمل فى دلائل قدرته ، والتدبر فى معالم هذا الكون المنبئة بوحدانية خالقه ، الناطقة بأن لها موجدا يستحق أن يقصده وحده دون سواه ، ويتوجه إليه بالعبادة والامتثال إلى ما يأمره به.

والخلاصة ـ إن الإنسان قد بلغ فى جحده آيات خالقه مبلغا لا ينتهى منه العجب إذ قد رأى فى نفسه وفى السموات والأرض وسائر ما يحيط به من العوالم ، الآيات الناطقة بوحدانية الخالق ، الدالة على عظيم قدرته ، ثم هو لا يزال مستمرا فى نكران نعمته عليه ، فإذا ذكّر لا يتذكر ، وإذا أرشد إلى الهدى لم يسلك سبيله الأقوم ولا يزال يرتكب ما نهى عنه ، ويترك ما أمر به.

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (٢٤) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (٢٥) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (٢٦) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (٢٧) وَعِنَباً وَقَضْباً (٢٨) وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً (٢٩) وَحَدائِقَ غُلْباً (٣٠) وَفاكِهَةً وَأَبًّا (٣١) مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ (٣٢))

شرح المفردات

القضب : الرطبة ، وهى ما يؤكل من النبات غضا طريا ؛ وسمى قضبا لأنه يقضب أي يقطع مرة بعد أخرى ، غلبا : واحدها غلباء أي ضخمة عظيمة ، والأبّ : المرعى لأنه يؤب : أي يؤم وينتجع ، متاعا لكم ولأنعامكم : أي أنبتناه لكم لتتمتعوا به وتننفعوا وتنتفع أنعامكم.

٤٦

المعنى الجملي

بعد أن ذكر الدلائل على قدرته تعالى وهى كامنة فى نفسه ، يراها فى يومه بعد أمسه ـ أردفها ذكر الآيات المنبثة فى الآفاق الناطقة ببديع صنعه ، وباهر حكمته.

الإيضاح

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ) أي فليتدبر الإنسان شأن نفسه ، وليفكر فى أمر طعامه وتدبيره وتهيئته حتى يكون غذاء صالحا تقوم به بنيته ، ويجد فى تناوله لذة تدفعه إليه ، ليحفظ بذلك قوّته مدى الحياة التي قدرت له.

وقد فصل ذلك بقوله :

(أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا) أي أنزلناه من المزن إنزالا بعد أن بقي حينا فى جو السماء مع ثقله.

(ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا) أي ثم شققنا الأرض شقا مشاهدا مرئيا لمن نظر إليها بعد أن كانت متماسكة الأجزاء.

وقد اقتضت حكمته ذلك ، ليدخل الهواء والضياء فى جوفها ، ويهيئانها لتغذية النبات.

ثم ذكر سبحانه ثمانية أنواع من النبات :

(١) (فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا) كالحنطة والشعير والأرز وهو الأصل فى الغذاء.

(٢) (وَعِنَباً) وهو من وجه غذاء ، وفاكهة من وجه آخر.

(٣) (وَقَضْباً) وهو كما قال ابن عباس والضحاك ومقاتل واختاره الفراء وأبو عبيدة والأصمعى ـ الرطبة : هى ما يؤكل من النبات غضّا طريا.

(٤ ، ٥) (وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً) وقد تقدم بيان منافعهما ، وسيأتى أيضا.

٤٧

(٦) (وَحَدائِقَ غُلْباً) أي وبساتين ذات أشجار ضخمة مثمرة ذات حوائط تحيط بها ، وعظم الحدائق إما بالتفاف أشجارها وكثرتها ، وإما بعظم كل شجرة وغلظها وكبرها.

وفى ذكرها بهذا الوصف إيماء إلى أن النعمة فى الأشجار بجملتها ، وليست فى ثمرها خاصة ، فمن خشبها يتخذ أرقى أنواع الأثاث وأدوات العمل وآلاته لمختلف الحرف والصناعات ، وكذا الوقود لتدبير الطعام والخبز على ضروب شتى ، وتستعمل فى صهر الحديد وأنواع المعادن المختلفة.

(٧) (وَفاكِهَةً) يتمتع بلذتها الإنسان خاصة كالتين والتفاح والخوخ وغيرها.

(٨) (وَأَبًّا) أي مرعى للحيوان خاصة.

ثم ذكر الحكمة فى خلق هذه الأشياء فقال :

(مَتاعاً لَكُمْ وَلِأَنْعامِكُمْ) أي أنبتنا ذلك ، لتتمتعوا به وتنتفعوا به أنتم وأنعامكم ، منه ما ينتفع به الإنسان ، ومنه ما يأكله الحيوان.

(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (٣٣) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (٣٤) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (٣٥) وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (٣٦) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (٣٧) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (٣٨) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (٣٩) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (٤٠) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (٤١) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (٤٢))

شرح المفردات

الصخّ : الضرب بالحديد على الحديد ، وبالعصا الصّلبة على شىء مصمت ، فيسمع إذ ذاك صوت شديد ؛ والمراد هنا بالصاخة هو المراد بالقارعة فى سورتها ،

٤٨

وهى الطامة الكبرى ، ويكون نذيرها ذلك الصوت الهائل الذي يحدث من تخريب الكون ووقع بعض أجرامه على بعض ، ومن ثمّ سميت صاخة وقارعة ، شأن : أي شغل ، يغنيه : أي يصرفه ويصده عن مساعدة ذوى قرابته ، قال شاعرهم :

سيغنيك حرب بنى مالك

عن الفحش والجهل فى المحفل

مسفرة : أي مضيئة مشرقة ؛ يقال : أسفر الصبح إذا أضاء ، مستبشرة : أي فرحة بما نالت ، والغبرة : ما يصيب الإنسان من الغبار ، ترهقها : أي تغشاها ، والقترة : سواد كالدخان ، والفجرة : واحدهم فاجر ، وهو الخارج عن حدود الله المنتهك لحرماته.

المعنى الجملي

بعد أن عدد سبحانه آلاءه على عباده ، وذكّرهم بإحسانه إليهم فى هذه الحياة ، وبين أنه لا ينبغى للعاقل بعد كل ما رأى أن يتمرد عن طاعة صاحب هذه النعم الجسام ـ أعقب هذا بتفصيل بعض أحوال يوم القيامة وأهوالها التي توجب الفزع والخوف منه ، ليدعوه ذلك إلى التأمل فيما مضى من الدلائل التي ترشد إلى وحدانيته وقدرته ، وصحة البعث وأخبار يوم القيامة التي جاءت على ألسنة رسله ، ويتزوّد بصالح الأعمال التي تكون نبراسا يضىء أمامه فى ظلمات هذا اليوم.

وذكر أن الناس حينئذ فريقان : فريق ضاحك مستبشر ، فرح فرح المحب يلقى حبيبه ، وهو من كان يعتقد الحق ويعمل للحق ، وفريق تعلو وجهه الغبرة ، وترهقه القترة ، وهو الذي تمرد على الله ورسوله ، وأعرض عن قبول ما جاءه من الحقّ ، ولم يعمل بما أمر به من صالح الأعمال.

الإيضاح

(فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ) أي فإذا جاء يوم القيامة حين يحدث ذلك للصوت الهائل الذي يصخّ الأسماع ويصكها بشدته ـ فما أعظم أسف الكافرين ، وما أشد ندمهم.

٤٩

ثم فصل بعض أهوال هذا اليوم فقال :

(يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ. وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ. وَصاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ. لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ) أي يوم يشغل كلّ امرئ ما يصيبه من الأهوال ، فيفر ممن يتوهم أنه يتعلق به ، ويطلب معونته ، على ما هو فيه ، فيتوارى من أخيه ، بل من أمه وأبيه ، بل من زوجه التي هى ألصق الناس به ، وقد كان فى الدنيا يبذل النفس والنفيس فى الدفاع عنها ، بل من بنيه وهم فلذات كبده ، وقد كان فى الحياة الأولى يفديهم بماله وروحه ، وهم ريحانة الدنيا ونور الحياة أمام عينه.

ونحو الآية قوله : «يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً».

وإنما كان الأمر كذلك ، لأن لكل امرئ منهم من الرهب ، وما يرهب من الهول ، وما يخشى من مناقشة الحساب ـ شأنا يغنيه ، ويصدّه عن ذوى قرابته ، فليس لديه فضل فكر ولا قوة يمدّ بها غيره.

وقد يكون المعنى ـ يغنيه ذلك الهم الذي ركبه بسبب نفسه ، وشغله حتى ملأ صدره ، فلم يبق فيه متسع لهمّ آخر.

وبعد أن ذكر الأهوال التي تعرض للناس فى ذلك اليوم ، وأنها لا تسعف أحدا بمواساة أحد ولا الالتفات إليه مهما يكن عطفه واتصاله به ـ أردفه بيان أن الناس فى ذلك اليوم سعداء وأشقياء ، وأشار إلى الأولين بقوله :

(وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ. ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ) أي وجوه يومئذ متهللة ضاحكة فرحة بما تجد من برد اليقين بأنها ستوفّى ما وعدت به جزاء إيمانها وما قدمت من عمل صالح ، وبشكرها لنعم ربها وآلائه ، وإيثارها ما أمرها به على ما تهواه.

وأشار إلى الآخرين بقوله :

(وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ. تَرْهَقُها قَتَرَةٌ. أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ) أي ووجوه يعلوها غبار الذل وسواد الغم والحزن ، وهى وجوه الكفار الذين لم يؤمنوا

٥٠

بالله ، وبما جاء به أنبياؤه ، وخرجوا عن حدود شرائعه ، واجترحوا السيئات ، واقترفوا المعاصي.

وقصارى ما سلف ـ إن الناس إذ ذاك فريقان :

(١) فريق كان فى دنياه يطلب الحق وينظر فى الحجة ، ويعمل ما استقام عليه الدليل ، لا يثنيه عن الأخذ به قلة الآخذين ، ولا قوة المعاندين ، وهؤلاء سيطمئنون إلى ما أدركوا ، ويفرحون بما نالوا ، وتظهر على أسارير وجوههم علامات البشر والسرور.

(٢) فريق احتقر عقله ، وأهمل النظر فى نعم الله عليه ، وارتضى الجهل ، وانصرف عن الاستدلال إلى اقتفاء آثار الآباء والأجداد ، وظل يخبّ ويضع فى أهوائه الباطلة ، وعقائده الزائفة ـ وهؤلاء سيجدون كل شىء على غير ما كانوا يعرفون ، فتظهر عليهم آثار الخيبة والفشل ، وتعلو وجوههم الغبرة ، وترهقها القترة ، لأنهم كانوا فى حياتهم الدنيا كفرة فجرة.

اللهم احشرنا يوم القيامة ووجوهنا مسفرة ضاحكة مستبشرة ، وصلّ ربنا على نبيك وآله وصحبه.

ما جاء فى هذه السورة الكريمة من مقاصد

(١) عتاب الرسول صلى الله عليه وسلم على ما حدث منه مع ابن أم مكتوم الأعمى.

(٢) أن القرآن ذكرى وموعظة لمن عقل وتدبّر.

(٣) إقامة الأدلة على وحدانية الله بخلق الإنسان والنظر فى طعامه وشرابه.

(٤) أهوال يوم القيامة.

(٥) الناس فى هذا اليوم فريقان : سعداء وأشقياء ، وذكر حال كل منهما حينئذ.

٥١

سورة التكوير

هى مكية ، وآيها تسع وعشرون ، نزلت بعد المسد.

ومناسبتها لما قبلها ـ أن كلتيهما تشرح أحوال يوم القيامة وأهوالها.

أخرج الإمام أحمد والترمذي والحاكم عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «من سرّه أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأى عين فليقرأ : (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ).

و ـ (إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ). و ـ (إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ)».

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (١) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (٢) وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (٣) وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (٤) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (٥) وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (٦) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (٧) وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (٨) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (٩) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (١٠) وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (١١) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (١٢) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (١٣) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (١٤))

شرح المفردات

تكوير الشمس : لفها كتكوير العمامة ؛ والمراد منه اختفاؤها عن الأعين وذهاب ضوئها ، وانكدار النجوم : انتثارها وتساقطها حتى تذهب ويمحى ضوؤها ، وتسيير الجبال يكون حين الرجفة التي تزلزل الأرض ، فتقطّع أوصالها وتفصل منها أجبالها ، وتقذفها فى الفضاء والعشار : واحدها عشراء (بضم العين

٥٢

وفتح الشين) وهى الناقة التي مضى على حملها عشرة أشهر ، وهى أكرم مال لدى المخاطبين وقت التنزيل ، قال الأعشى فى المدح :

هو الواهب المائة المصطفا

ة إما مخاضا وإما عشارا

وتعطيلها : إهمالها وذهابها حيث تشاء ، لعظم الهول وشدة الكرب ، حشرت : أي ماتت وهلكت ، وتسجير البحار : تفجير الزلزال ما بينها حتى تختلط وتعود بحرا واحدا ، زوّجت : أي قرنت الأرواح بأجسادها ، الموءودة : هى التي دفنت وهى صغيرة ، وقد كان ذلك عادة فاشية فيهم فى الجاهلية ، وكان ذوو الشرف منهم يمنعون من هذا حتى افتخر بذلك الفرزدق فقال :

ومنا الذي منع الوائدات

وأحيا الوئيد فلم توءد

يريد جدّه صعصعة ، وكان يشتريهن من آبائهن ، فجاء الإسلام وقد أحيا سبعين موءودة ، والمراد بالصحف صحف الأعمال التي تنشر على العباد حين يقفون للحساب ، كشطت : أي كشفت وأزيلت عما فوقها كما يكشط جلد الذبيحة عنها ، سعرت : أي أوقدت إيقادا شديدا ، أزلفت : أي أدنيت من أهلها وقربت منهم ، ما أحضرت : أي ما أعدّ لها من خير أو شر.

المعنى الجملي

بدأ سبحانه هذه السورة الكريمة بذكر يوم القيامة ، وما يكون فيه من حوادث عظام ، ليفخّم شأنه ، وبين أنه حين تقع هذه الأحداث تعلم كل نفس ما قدمت من عمل خير أو شر ، ووجدت ذلك أمامها مائلا ، ورأت ما أعدّ لها من جزاء وتمنت إن كانت من أهل الخير أن لو كانت زادت منه ، وإن كانت من أهل الشر أن لو لم تكن فعلته ، واستبان لها أن الوعيد الذي جاء على ألسنة الرسل كان وعيدا صادقا ، لا تهويل فيه ولا تضليل.

٥٣

الإيضاح

(إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ) أي إذا كورت الشمس وأمحى ضوؤها وسقطت حين خراب العالم الذي يعيش فيه الحىّ فى حياته الدنيا ، ولا يبقى فى عالمه الآخر الذي ينقلب إليه شىء من هذه الأجرام.

(وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ) أي وإذا النجوم تناثرت وذهب لألاؤها كما جاء فى قوله : «وَإِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ».

(وَإِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ) أي وإذا الجبال قلعت عن الأرض وسيرت فى الهواء حين زلزلة الأرض ، فتقطع أوصالها وتقذف فى الفضاء ، وتمر على الرءوس مرّ السحاب ونحو الآية قوله : «وَسُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً» وقوله : «وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً».

(وَإِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ) أي وإذا النوق العشار وهى أكرم الأموال لديهم ، وأعزها عندهم ـ أهملت ولم يعن بشأنها لاشتداد الخطب ، وفداحة الهول.

وهذا على وجه المثل ، لأن يوم القيامة لا تكون فيه ناقة عشراء ، ولكن مثّل هول يوم القيامة بحال لو كان للرجل ناقة عشراء لعطلها واشتغل بنفسه قاله القرطبي.

(وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ) أي ماتت وهلكت ، تقول العرب إذا أضرّت السنة بالناس وأصابتهم بالقحط والجدب ، حشرتهم السنة : أي أهلكتهم ، وهلاكها يكون من هول ذلك الحادث العظيم.

(وَإِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ) أي فجر الزلزال ما بينها حتى اختلطت وعادت بحرا واحدا وهذا على نحو ما جاء فى قوله : «وَإِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ».

وقد يكون المراد من تسجيرها إضرامها نارا. فإن ما فى باطن الأرض من النار يظهر بتشققها وتمزّق طبقاتها العليا ، وحينئذ يصير الماء بخارا ، ولا يبقى إلا النار.

٥٤

وقد أثبت البحث العلمي غليان البراكين ، وهى جبال النار التي فى باطن الأرض ، وتشهد لذلك الزلازل الشديدة التي تشق الأرض والجبال فى بعض الأطراف كما حدث فى مسّينا بإيطاليا سنة ١٩٠٩ م ، وحدث فى اليابان بعد ذلك.

وجاء فى بعض الأخبار «إن البحر غطاء جهنم».

وبعد أن عدد ما يحدث من مقدمات الفناء وبطلان الحياة فى الأرض وامتناع المعيشة فيها ـ أخذ يذكر ما يكون بعد ذلك من البعث والنشور فقال :

(وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ) أي وإذا زوجت الأرواح بأبدانها حين النشأة الآخرة ، قاله عكرمة والضحاك والشعبي.

وفى هذا إيماء إلى أن النفوس كانت باقية من حين الموت إلى حين المعاد ، فبعد أن كانت منفردة عن البدن تعود إليه.

(وَإِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ. بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ؟) أي وإذا سئلت الموءودة بين يدى وائدها عن السبب الذي لأجله قتلت ، ليكون جوابها أشد وقعا على الوائد ، فإنها ستجيب أنها قتلت بلا ذنب جنته.

وقد افتنّ العرب فى الوأد ، فمنهم من كان إذا ولدت له بنت وأراد أن يستحييها ولا يقتلها ، أمسكها مهانة إلى أن تقدر على الرعي ، ثم ألبسها جبة من صوف أو شعر وأرسلها فى البادية ترعى إبله ، وإن أراد أن يقتلها تركها حتى إذا كانت سداسية قال لأمها : طيبيها وزينيها حتى أذهب بها إلى أحمائها ، وقد حفر لها بئرا فى الصحراء حتى إذا بلغها قال لها انظري فيها ، ثم يدفعها من خلفها ويهيل عليها التراب حتى تسوى البئر بالأرض ، ومنهم من كان يفعل ما هو أنكى وأقسى من ذلك.

فيالله ، ما أعظم هذه القسوة بقتل البريئات بغير جرم سوى خوف الفقر أو العار ، وكيف استبدلت الرحمة بالفظاظة ، والرأفة بالغلظة ، بعد أن خالط الإسلام قلوبهم ، ومحا وصمة هذا الخزي عنهم.

٥٥

(وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ) أي وإذا صحف الأعمال ظهرت للعاملين فى موقف الحساب حتى لا يرتابوا فيها ، ولا ينبغى أن نبحث عن تلك الصحف ، لنعلم أهي على مثال الأوراق التي نكتب فيها فى الدنيا ، أم تشبه الألواح أو نحو ذلك مما جرى استعماله فى الكتابة ، فإن ذلك مما لا يصل إليه علمنا ، ولم يجئ نص قاطع عن المعصوم صلى الله عليه وسلم يفسر ذلك.

(وَإِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ) فلم يبق غطاء ولا سماء ، ولم يوجد ما يطلق عليه اسم الأعلى والأسفل.

(وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ) أي وإذا جهنم التي يعاقب فيها أهل الكفر والطغيان أوقدت إيقادا شديدا ، فيكون ألم من يدخل فيها من أشد الآلام التي تحدث عن مسّ النيران للأجسام الحية ، وقد جاء فى سورة البقرة : «وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ».

(وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ) أي وإذا الجنة أدنيت من أهلها : أي أعدت لنزولهم.

ونحو الآية قوله تعالى : «وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ».

(عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ) أي إذا حصل كل ما تقدم من الأحداث السالفة ، تعلم كل نفس ما كان من عملها متقبلا وما كان منه مردودا عليها ، فكثير من الناس كانوا فى الحياة الدنيا مغرورين بما تزينه لهم الشياطين ، وسيجدون أعمالهم يوم القيامة غير مقبولة ولا مرضىّ عنها ، بل هى مبعدة من الله مستحقة لغضبه ؛ فالذين يعملون أعمالهم رئاء الناس ليس لهم من عملهم إلا الجهد والمشقة ، ولا تكون متقبلة عند ربهم ، فعلينا أن ننظر إلى الأعمال بمنظار الشرع ، ونزنها بميزانه الصحيح.

والله لا يتقبل من الأعمال إلا ما صدر عن قلب ملىء بالإيمان ، عامر بحبه والرغبة فى رضاه ، والحرص على أداء واجباته التي فرضها عليه.

٥٦

(فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (١٥) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (١٦) وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (١٧) وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (١٨) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (١٩) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (٢٠) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (٢١) وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (٢٢) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (٢٣) وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (٢٤) وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (٢٥) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (٢٦) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (٢٧) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (٢٨) وَما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (٢٩))

تفسير المفردات

الخنس : واحدها خانس ، وهو المنقبض المستخفى ؛ يقال خنس فلان بين القوم إذا انقبض واختفى ، والكنّس واحدها كانس أو كانسة من قولهم : كنس الظبى إذا دخل كناسه وهو بيته الذي يتخذه من أغصان الشجر ؛ والمراد بالخنس الجوار الكنس : جميع الكواكب ، وخنوسها : غيبوبتها عن البصر نهارا ، وكنوسها : ظهورها للبصر ليلا ، فهى تظهر فى أفلاكها ، كما تظهر الظباء فى كنسها.

وعسعس : أي أدبر ، وتنفس : أسفر وظهر نوره ، قال علقمة بن قرط :

حتى إذا الصبح لها تنفّسا

وانجاب عنها ليلها وعسعسا

والرسول : هو جبريل عليه السلام ، وكريم : أي عزيز على الله ، ذى قوة : أي فى حفظه ، مكين : أي ذى مكانة وجاه عند ربه يعطيه ما سأله ؛ يقال مكن فلان لدى فلان إذا كانت له عنده حظوة ومنزلة ، ثمّ (بفتح الثاء) أي هناك ، أمين : أي على وحيه ورسالاته ، صاحبكم : هو محمد صلى الله عليه وسلم ، بالأفق المبين :

٥٧

أي بالأفق الواضح ، وضنين : أي بخيل ، رجيم : أي مرجوم مطرود من رحمة الله ، فأين تذهبون : أي أىّ مسلك تسلكون وقد قامت عليكم الحجة ، أن يستقيم : أي على الطريق الواضح.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر من أحوال يوم القيامة وأهوالها ما ذكر ، وبيّن أن الناس حينئذ يقفون على حقائق أعمالهم فى النشأة الأولى ، ويستبين لهم ما هو مقبول منها وما هو مردود عليهم ـ أردف ذلك بيان أن ما يحدّثهم به الرسول صلى الله عليه وسلم هو القرآن الذي أنزل عليه وهو آيات بينات من الهدى ، وأن ما رميتموه به من المعايب كقولكم : إنه ساحر أو مجنون ، أو كذاب ، أو شاعر ما هو إلا محض افتراء ، وأن لجاجكم فى عداوته وتألّبكم عليه ما هو إلا عناد واستكبار ، وأنكم فى قرارة نفوسكم عالمون حقيقة أمره ، ودخيلة دعوته.

الإيضاح

(فَلا أُقْسِمُ) تقدم أن قلنا إن هذه عبارة للعرب فى القسم تريد بها تأكيد الخبر كأنه فى ثبوته وظهوره لا يحتاج إلى قسم ، وكأنه يقول : أنا لا أقسم بكذا وكذا على إثبات ما أذكره ، ولا على وجوده فهو واضح جلىّ ليس فى حاجة إلى الحلف ؛ والمراد به القسم المؤكد.

(بِالْخُنَّسِ. الْجَوارِ الْكُنَّسِ) أي بالكواكب جميعها ، وهى تخنس بالنهار فتغيب عن العيون ، وتكنس بالليل : أي تطلع فى أماكنها كالوحش فى كنسها ؛ وقد أقسم بها سبحانه ، لما فى حركاتها وظهورها طورا واختفائها طورا آخر من الدلائل على قدرة مصرّفها ، وبديع صنعه ، وإحكام نظامه.

٥٨

ويرى بعض العلماء أن المراد بها الدرارىّ الخمسة وهى : عطارد ، والزّهرة ، والمرّيخ ، والمشترى ، وزحل ، لأنها تجرى مع الشمس ، ثم ترى راجعة حتى تختفى فى ضوئها ، فرجوعها فى رأى العين هو خنوسها ، واختفاؤها هو كنوسها.

(وَاللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ) أي والليل إذا أدبر وولى ، وفى إدباره زوال الغمّة التي تغمر الأحياء ، بانسدال الظلمة وانحسارها.

(وَالصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ) أي والصبح إذا أسفر وظهر نوره ، وفى ذلك بشرى للأنفس بحياة جديدة فى نهار جديد ، إذ تنطلق الإرادات ، لتحصيل الرغبات ، وسدّ الحاجات ، واستدراك ما فات ، والاستعداد لما هو آت.

ثم ذكر المحلوف عليه فقال :

(إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ) أي إن ما أخبركم به محمد صلى الله عليه وسلم من أمر الساعة ليس بكهانة ولا اختلاق ، بل هو قول نزل به جبريل وحيا من ربه ، وإنما كان قوله لأنه هو الذي حمله إلى النبي صلى الله عليه وسلم : وقد وصف هذا الرسول بخمسة أوصاف :

(١) (كَرِيمٍ) أي عزيز على ربه ، إذ أعطاه أفضل العطايا ، وهى الهداية والإرشاد ، وأمره أن يوصلها إلى أنبيائه ليبلغوها لعباده.

(٢) (ذِي قُوَّةٍ) فى الحفظ والبعد عن النسيان والخطأ ، وقد جاء فى آية أخرى : «عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى».

(٣) (عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ) أي ذى جاه ومنزلة عند ربه يعطيه ما سأل.

(٤) (مُطاعٍ ثَمَّ) أي هو مطاع عند الله فى ملائكته المقربين ، فهم يصدرون عن أمره ، ويرجعون إلى رأيه.

(٥) (أَمِينٍ) على وحي ربه ورسالاته ، قد عصمه من الخيانة فيما يأمره به ، وجنّبه الزلل فيما يقوم به من الأعمال.

وبعد أن وصف الرسول وصف المرسل إليه فقال :

٥٩

(وَما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ) أي وليس محمد صلى الله عليه وسلم بالمجنون كما كانت ترميه قريش بذلك حين كانت تسمع منه غريب الأخبار عن اليوم الآخر مما لم يكن معروفا لهم كما حكى عنهم فى قوله : «أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ. ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ» وقوله : «أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ» وقوله : «قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَفُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ».

وفى التعبير (بِصاحِبِكُمْ) استدلال عليهم ، وإقامة للحجة على كذبهم فى دعواهم ، فإنه إذا كان صاحبهم ، وكانوا قد خالطوه وعاشروه ، وعرفوا عنه ما لم يعرفه سواهم من استقامة ، وصدق لهجة ، وكمال عقل ، ووفور حلم ، وتفوّق على جميع الأنداد والأتراب فى صفات الخير ـ لم يكن ادّعاؤهم عليه ما يناقض ذلك إلا باطلا من القول وزورا.

(وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ) أي وإن محمدا صلى الله عليه وسلم رأى جبريل بالأفق الأعلى ، وقد تمثل له جبريل فى مثال يظهر ويبصر ، فتجلى لعينيه ، وأعلم أنه جبريل فعرفه.

وقد ذكرت هذه الرؤية فى سورة النجم فى قوله : «ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى. أَفَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى. وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى».

(وَما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ) أي وليس محمد بالمتهم على القرآن وما فيه من قصص وأنباء وأحكام ، بل هو ثقة أمين لا يأتى به من عند نفسه ، ولا يبدل منه حرفا بحرف ، ولا معنى بمعنى ، إذ لم يعرف عنه الكذب فى ماضى حياته ، فهو غير متّهم فيما يحكيه عن رؤية جبريل وسماع الشرائع منه.

ثم نفى عنه فرية أخرى كانوا يتقوّلونها عليه فقال :

(وَما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ) أي وما هذا الذي يتكلم به محمد بقول ألقاه

٦٠