تفسير المراغي - ج ١٠

أحمد مصطفى المراغي

١
٢

الجزء العاشر

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (٤١) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (٤٢) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (٤٣) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (٤٤))

٣

تفسير المفردات

الغنم والمغنم والغنيمة : ما يناله الإنسان ويظفر به بلا مقابل مادىّ ، وقولهم الغرم بالغنم : أي يقابل به ، والفيء : كل ما صار إلى المسلمين من أموال أهل الشرك بعد أن تضع الحرب أوزارها ، وتصير الدار دار إسلام ، وهو لكافة المسلمين. وليس فيه الخمس ، والنفل : ما يحصل للإنسان من الغنيمة قبل قسمتها.

المعنى الجملي

لما أمر الله سبحانه بقتال الكفار المعتدين الذين كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم حتى لا تكون فتنة ، ووعد المؤمنين بالنصر عليهم ، وكان ذلك مستتبعا لأخذ الغنائم منهم ناسب أن يذكر بعده ما يرضيه سبحانه فى قسمة الغنائم على الوجه الذي شرعه. والجمهور على أن هذه الآية نزلت فى غزوة بدر ، وعلى أن ابتداء فرض قسمة الغنائم كان بها.

الإيضاح

(وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبى وَالْيَتامى وَالْمَساكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ) أي واعلموا أيها المؤمنون أن كل ما غنمتموه من الكفار المحاربين ، فاجعلوا أوّلا خمسه لله تعالى ينفق فيما يرضيه من مصالح الدين العامة كالدعوة للإسلام ، وإقامة شعائره وعمارة الكعبة وكسوتها ، ثم أعطوا للرسول منه كفايته لنفسه ونسائه مدة سنة ، ثم أعطوا منه ذوى القربى من أهله وعشيرته نسبا وولاء ، وقد خص الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك ببني هاشم وبنى أخيه المطّلب

٤

المسلمين ، دون بنى عبد شمس ونوفل ، ثم المحتاجين من سائر المسلمين ، وهم اليتامى والمساكين وابن السبيل.

روى البخاري عن مطعم بن جبير (من بنى نوفل) قال : مشيت أنا وعثمان بن عفان (من بنى عبد شمس) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : يا رسول الله أعطيت بنى المطلب وتركتنا ، ونحن وهم بمنزلة واحدة. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «إنما بنو المطلب وبنو هاشم شىء واحد».

وسرّ هذا أن قريشا لما كتبت الصحيفة وأخرجت بنى هاشم من مكة وحصرتهم فى الشعب لحمايتهم له صلى الله عليه وسلم دخل معهم فيه بنو المطلب ولم يدخل بنو عبد شمس ولا بنو نوفل ـ إلى ما كان من عداوة بنى أمية بن عبد شمس لبنى هاشم فى الجاهلية والإسلام ، فقد ظل أبو سفيان يقاتل النبي صلى الله عليه وسلم ويؤكّب عليه المشركين وأهل الكتاب إلى أن أظفر الله رسوله ودانت له العرب بفتح مكة ، وكذلك بعد الإسلام خرج معاوية على علىّ وقاتله.

والحكمة فى تقسيم الخمس على هذا النحو ـ أن الدولة التي تدير سياسة الأمة لا بد لها من الملل لتستعين به على القيام بالمصالح العامة كشعائر الدين والدفاع عن الأمة ، وهو ما جعل لله فى الآية ، ثم نفقة رئيس حكومتها ، وهو سهم الرسول فيها ، ثم ما كان لأقوى عصبته وأخلصهم له وأظهرهم تمثيلا لشرفه وكرامته وهو سهم ذوى القربى ، ثم ما يكون لذوى الحاجات من ضعفاء الأمة ، وهم الباقون.

ولا يزال هذا الاعتبار مراعى معمولا به فى كثير من الدول مع اختلاف شئون الاجتماع والمصالح العامة ، فالمال الذي يرصد للمصالح العامة يدخل فى موازين الوزارات المختلفة ما بين جهرية وسرية ، ولا سيما الأمور الحربية ، وكذلك راتب ممثل الدولة من ملك أو رئيس جمهورية منه ما هو خاص بشخصه ، ومنه ما هو لأسرته وعياله ، ومن موازين الدولة ما يبذل لإعانة الجماعات الخيرية والعلمية ونحوهما.

٥

ولكن اليتامى والمساكين وابن السبيل لا تجعل لهم الدول فى هذا العصر حقّا فى أموال الدولة ، وإن كان بعض الدول يعطيهم أموالا من الأوقاف الخيرية التي تتولى أمر استغلالها وإنفاق ريعها على المستحقين له ، وبعضها يخصص إعانات للعمال المتعطلين فى وقت الحاجة فحسب.

وعن ابن عباس أنه قال (فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ) مفتاح كلام أي إنه ذكر على سبيل التبرك وإنما أضافه سبحانه إلى نفسه ، لأنه هو الحاكم فيه فيقسمه كيف شاء ، وليس المراد منه أن لله سهما مفردا ، لأن ما فى السموات والأرض فهو لله ، وبهذا قال الحسن وقتادة وعطاء وإبراهيم النخعي ، فقد قالوا سهم الله وسهم رسوله واحد ، وذكر الله للتعظيم.

(إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللهِ وَما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ) أي إن كنتم آمنتم بما ذكر إيمان إذعان ، فاعلموا أن ما غنمتم من شىء قلّ أو كثر فأن لله خمسة لأنه هو مولاكم وناصركم ، وللرسول الذي هداكم به وفضلكم على غيركم واقطعوا الأطماع عنكم ، وارضوا بحكم الله فى الغنائم ، وبقسمة رسوله فيها.

ويوم الفرقان هو اليوم الذي فرق الله فيه بين الإيمان والكفر وهو يوم بدر الذي التقى فيه الجمعان جمع المؤمنين وجمع المشركين فى الحرب والنزال ، وقد كان ذلك لسبع عشرة خلت من شهر رمضان ، وهو أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(وَاللهُ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) ومن قدرته أن نصركم على قلتكم وجوعكم وضعفكم وبلوغ عدوّكم ثلاثة أضعاف عددكم أو أكثر ، وأيد رسوله وأنجز وعده له.

(إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى) العدوة ـ مثلثة العين ـ جانب الوادي ، والدنيا مؤنث الأدنى وهو الأقرب ، والقصوى مؤنث الأقصى وهو الأبعد.

والمعنى ـ إن كنتم آمنتم بالله وبما أنزلنا على عبدنا فى ذلك اليوم فى الوقت الذي كنتم مرابطين فيه بأقرب الجانبين من الوادي إلى المدينة ، وفيه نزل المطر لا فى غيره والأعداء فى الجانب الأبعد عنها ولا ماء فيه ، وأرضه رخوة تسوخ فيها الأقدام.

٦

(وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ) أي والعير التي خرج المسلمون للقائها فى مكان أسفل من مكانكم وهو ساحل البحر كما تقدم ، إذ كان أبو سفيان قادما بها من الشام.

(وَلَوْ تَواعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ) أي ولو تواعدتم أنتم وهم القتال ، وعلمتم ما لهم وما لكم لاختلفتم فى الميعاد ، كراهة للحرب لقلّتكم ، وعدم إعداد العدة لها ، وانحصار همكم فى العير ، ويأسا من الظفر بها ، ولأن غرض الأكثرين منهم كان إنقاذ العير دون القتال ، لأنهم كانوا يهابون قتال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا يأمنون نصر الله له ، لأن كفر الكثيرين منهم به كان استكبارا وعنادا لا اعتقادا.

(وَلكِنْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) أي ولكن تلاقيتم على غير موعد ولا رغبة فى القتال ليقضى الله أمرا كان فى علمه وحكمته أنه واقع لا محالة ، وهو القتال المفضى إلى خزيهم ونصركم عليهم ، وصدق وعده لرسوله ، وإظهار دينه على الدين كله ولو كره المشركون.

(لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ) البينة الحجة الظاهرة ، أي فعل ذلك ليترتب على قضاء هذا الأمر أن يهلك من الكفار من هلك عن حجة بينة مشاهدة بالبصر ، على حقية الإسلام ، بإنجاز وعده لرسوله ومن معه من المؤمنين ، بحيث تنتفى الشبهة ، ولا يكون هناك مجال للاعتذار عند الله عن إجابة الدعوة ، ويعيش من يعيش من المؤمنين عن حجة شاهدها وعاينها فيزداد يقينا بالإيمان ونشاطا فى الأعمال.

(وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) لا يخفى عليه شىء من أقوال الكافرين والمؤمنين ، ولا من عقائدهم وأفعالهم ، فهو يسمع ما يقول كل فريق منهم من الأقوال الصادرة عن عقيدة ، والأعذار التي يعتذر بها عن تقصيره فى أعماله ، ويعلم ما يكنه من ذلك ومن غيره ، ويجازى كلّا بحسب ما يسمع ويعلم.

والخلاصة ـ إن غزوة بدر قامت بها الحجة البالغة للمؤمنين بنصرهم كما بشرهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وحجته البالغة على الكافرين بخذلانهم وانكسارهم كما

٧

أنذرهم الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا مجال فى ذلك للمكابرة والتأويل.

(إِذْ يُرِيكَهُمُ اللهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً) أي إنه تعالى سميع لما يقول أصحابك ، عليم بما يضمرونه ، إذ يريك الله عدد عدوك وعدوهم قليلا فى الرؤيا المنامية ، فتخبر بها المؤمنين ، وتطمئن قلوبهم ، وتقوى آمالهم بالنصر ، فيجترئون عليهم.

(وَلَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ) أي ولو أراك ربك عدوك وعدوهم كثيرا لفشل أصحابك وخافوا ولم يقدروا على حرب القوم ، ولوقع بينهم النزاع وتفرق الآراء فى أمر القتال ، إذ منهم القوىّ الإيمان والعزيمة ، فيطيع الله ورسوله ويقاتل ، ومنهم الضعيف الذي يثبّط عن القتال بمثل الأعذار التي جادلوا بها الرسول صلى الله عليه وسلم كما تقدم فى قوله «يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ».

(وَلكِنَّ اللهَ سَلَّمَ) أي ولكن الله سلمكم من الفشل والتنازع وتفرق الآراء ، وما يعقب ذلك من الانكسار والخذلان.

(إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ) أي إنه تعالى عليم بما تخفيه الصدور من شعور الجبن والجزع الذي تضيق به فتحجم عن القتال ، ومن شعور الإيمان والتوكل الذي يبعث فى النفس الطمأنينة والصبر فيحملها على الإقدام ، ويسخر لكل منهما الأسباب التي تفضى إلى ما يريده منها.

(وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً ، وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً) الخطاب هنا للرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، أي وفى الوقت الذي يريكم الله الكافرين عند التلاقي معهم عددا قليلا ، بما أودع فى قلوبكم من الإيمان بوعد الله بنصركم وبتثبيتكم بملائكته والاستهانة بهم ، ويقللكم فى أعينهم لقلتكم بالفعل ، ولما كان عندهم من عجب وغرور بأنفسهم حتى لقد قال أبو جهل : إنما أصحاب محمد أكلة جزور (أي لقلتهم يكفيهم جزور واحد فى اليوم).

٨

والخلاصة ـ إنه فعل ذلك ليقدم كل منكم على قتال الآخر ، فهذا واثق بنفسه مدلّ ببأسه ، وهذا متّكل على ربه ، واثق بوعده ، حتى إذا ما التقيتم ثبتكم ، وثبّطهم ليقضى بنصركم عليهم أمرا كان فى علمه مفعولا ، وهو أن تكون كلمة الله هى العليا ، وكلمة الذين كفروا السفلى ، ومن ثم هيأ الأسباب وقدرها تقديرا.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (٤٥) وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (٤٦))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر سبحانه نعمه على رسوله وعلى المؤمنين يوم بدر ـ قفّى على ذلك بذكر أدبين عظيمين إذا التقوا بعدوهم :

(١) الثبات وتوطين النفس على اللقاء مع عدم التواني والتكاسل.

(٢) ذكر الله كثيرا وهو ذكره بألسنتهم وقلوبهم ، تنبيها إلى أن الإنسان يجب ألا يخلو قلبه من ذكره فى أشد الأوقات خرجا. وقد طلب إلينا الثبات والطاعة لله ورسوله حتى لا نفشل وتدول علينا الدّولة.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا) أي إذا لقيتم فئة من أعدائكم الكفار فاثبتوا لهم ولا تفروا أمامهم ، فإن الثبات قوة معنوية طالما كانت السبب فى النصر والغلب بين الأفراد والجيوش ، انظر إلى الرجلين الجلدين يتصارعان فيعيا كل منهما وتضعف قوته ، ويتوقع كل لحظة أن يقع صريعا ، ولكن قد يخطر له أن خصمه

٩

ربما وقع قبله فيثبت إلى اللحظة الأخيرة ، فيكون له الفلج والفوز على خصمه ، وهكذا فى الحروب ، فإن من أهم أسباب النصر فيها الثبات وعدم اليأس ، بل الثبات نافع فى كل أعمال البشر ، فهو الوسيلة فى الفوز والنجاح فيها.

(وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً) أي وأكثروا من ذكر الله فى أثناء القتال فى قلوبكم بذكر قدرته ووعده بنصر رسله والمؤمنين ونصر كل من يتبع سنتهم بنصر دينه وإقامة سننه ، وبأن النصر بيده ومن عنده يؤتيه من يشاء ، وبألسنتكم بالتكبير ونحوه وبالدعاء والتضرع إليه مع اليقين بأنه لا يعجزه شىء.

(لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) أي إن الثبات وذكر الله هما وسيلتان من وسائل الفوز ؛ ويعدّان للفلاح فى القتال فى الدنيا ، وفى نيل الثواب فى الآخرة.

وفى ذلك إيماء إلى أنه يجب على العبد ألا يفتر عن ذكر الله أكثر ما يكون ، همّا ، وأشغل ما يكون قلبا ، وأن تكون نفسه مجتمعة لذلك وإن كانت متوزّعة عن غيره.

(وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ) أي وأطيعوا الله فيما أمركم به من الأسباب الموجبة للفلاح فى القتال وفى غيره ، وأطيعوا رسوله كذلك ، فهو المبيّن لكلام ربه ، والمنفّذ له بالقول والعمل والحكم ، وهو القائد الأعظم فى القتال ، فطاعته هى جماع النظام ، والنظام ركن من أركان الظفر ، وهو المشارك لكم فى الرأى والتدبير والاستشارة فى الأمور.

(وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) أي ولا يكن منكم تنازع واختلاف ، فإن ذلك مدعاة للفشل والخيبة وذهاب القوة ، فيتغلب عليكم العدو.

وأصل الريح الهواء المتحرك ثم استعيرت للقوة والغلبة ، لأنه لا يوجد فى الأجسام ما هو أقوى منها ، فهى تهيج البحار وتقتلع الأشجار وتهدم الدور والقلاع ، ومن ثم يقال هبت رياح فلان إذا جرى أمره على ما يريد كما يقال : ركدت رياحه إذا ضعف أمره وولّت دولته.

١٠

(وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) أي واصبروا على الشدائد وعلى ما تلاقونه من بأس العدو واستعداده وكثرة عدده ، فالله مع الصابرين يمدّهم بمعونته وتأييده ، ومن كان الله معينا له فلا يغلبه غالب.

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٧) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (٤٨) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (٤٩))

تفسير المفردات

الذين خرجوا : هم أهل مكة حين خرجوا لحماية العير ، والبطر : إظهار الفخر والاستعلاء بنعمة القوة أو الغنى أو الرياسة ، ويعرف ذلك فى الحركات المتكلّفة والكلام الشاذ ، والرئاء : أن يعمل المرء ما يحب أن يراه الناس منه ليثنوا عليه ويعجبوا به ، وتراءت الفئتان : قربت كل منهما من الأخرى ، وصارت بحيث تراها وتعرف حالها ونكص : رجع القهقرى وتولى إلى الوراء ، والمنافق من يظهر الإسلام ويسرّ الكفر ، والذين فى قلوبهم مرض : هم ضعاف الإيمان تملأ قلوبهم الشكوك والشبهات ، فتزلزل اعتقادهم حينا وتسكن حينا آخر.

١١

المعنى الجملي

بعد أن أمر سبحانه عباده المؤمنين بما أمر به من جلائل الصفات ومحاسن الآداب التي تكون سبب الظفر فى القتال ، ونهاهم عن التنازع ـ قفّى على ذلك بنهيهم عما كان عليه مشركو قريش حين خرجوا لحماية العير من البطر والكبرياء والصد عن سبيل الله.

الإيضاح

(وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ) أي عليكم أن تمتثلوا ما أمرتم به وتنتهوا عما نهيتم عنه ، ولا تكونوا كأعدائكم المشركين الذين خرجوا من ديارهم فى مكة وغيرها من الأماكن التي استنفرهم منها أبو سفيان بطرين بما أوتوا من قوة ونعم لا يستحقونها ، مرائين الناس بها ليعجبوا بها ويثنوا عليهم بالغنى والقوة والشجاعة.

(وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ) أي وهم بخروجهم يصدون عن سبيل الله وهو الإسلام بحملهم الناس على عداوة الرسول صلى الله عليه وسلم ، والإعراض عن تبليغ دعوته ، وتعذيب من أجابها إذا لم يكن لهم من يمنعهم ويحميهم من قرابة أو حلف أو جوار.

(وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ) أي والله عليم بما جاءوا لأجله ، ومن ثم فهو يجازيهم عليه فى الدنيا والآخرة بمقتضى سننه فى ترتيب الجزاء على الأعمال وصفات النفوس.

وفى هذا زجر وتهديد على الرياء والتصنع والبطر والكبرياء ، وأنه سيجازى عليها أشد الجزاء.

قال البغوي : نزلت فى المشركين حين أقبلوا إلى بدر ولهم بغى وفخر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادّك

١٢

وتكذّب رسولك ، اللهم فنصرك الذي وعدتني» قالوا ولما رأى أبو سفيان أنه قد أحرز عيره أرسل إلى قريش : إنكم إنما خرجتم لتمنعوا عيركم ، فقد نجاها الله فارجعوا ، فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نرد بدرا ـ وكان موسما من مواسم العرب يجتمع لهم بها سوق كل عام ـ فنقيم ثلاثا فننحر الجزور ونطعم الطعام ونسقى الخمر وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب ، فلا يزالون يهابوننا أبدا ، فوافوها فسقوا كئوس المنايا مكان الخمر ، وناحت عليهم النوائح مكان القيان.

فنهى الله عباده المؤمنين أن يكونوا مثلهم وأمرهم بإخلاص النية والحسبة فى نصر دينه ومؤازة رسوله صلى الله عليه وسلم.

(وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ لَكُمْ) أي واذكر أيها الرسول للمؤمنين حين زين الشيطان لهؤلاء المشركين أعمالهم بوسوسته ، وقال لهم بما ألقاه فى روعهم ، وخيّل إليهم أنهم لا يغلبون لكثرة عددهم وعددهم ، وأوهمهم أن اتباعهم إياه فيما يظنون أنها قربات ، مجير لهم حتى قالوا : اللهم انصر أهدى الفئتين وأفضل الدينين.

(فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ) أي فلما قرب كل من الفريقين المتقاتلين من الآخر وصار بحيث يراه ويعرف حاله ، وقبل أن يصطلى نار القتال معه ـ نكص على عقبيه أي رجع القهقرى وتولّى إلى الوراء وهى الجهة التي فيها العقبان ، والمراد أنه كفّ عن تزيينه لهم وتغريره بهم.

(وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ) أي تبرأ منهم وأيس من حالهم لما رأى إمداد الله تعالى المسلمين بالملائكة.

(وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ) قد تكون هذه العبارة من كلام الشيطان ، وقد تكون من كلامه تعالى.

والخلاصة ـ إن جند الشيطان كانوا منبثّين فى المشركين يوسوسون لهم بملابستهم لأرواحهم الخبيثة بما يغريهم ويغرّهم ، كما كان الملائكة منبثين فى المؤمنين يلهمونهم

١٣

بملابستهم لأرواحهم الطيبة ما يثبتون به قلوبهم ويزيدهم ثقة بوعد الله بنصرهم ، فلما تراءت الفئتان وأوشكا أن يتلاحما فرّ الشيطان بجنوده من بين المشركين ، لئلا تصل إليهم الملائكة الملابسة للمؤمنين (وهما ضدان لا يجتمعان ، ولو اجتمعا لقضى أقواهما وهم الملائكة على أضعفهما وهم الشياطين).

فخوف الشيطان إنما كان من إحراق الملائكة لجنوده لا على المشركين ، كما يقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق متلاش أمامه لا يبقى منه شىء.

(إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ) أي وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم حين يقول المنافقون ومن فى حكمهم من مرضى القلوب : ما حمل هؤلاء المؤمنين على الإقدام على ما أقدموا عليه مع قلة عددهم وكثرة عدوهم ـ إلا غرورهم بدينهم ، ولا غرو أن تصدر هذه المقالة ممن حرم الإيمان الكامل والثقة بالله والتوكل عليه.

روى عن مجاهد أنه قال : هم فئة من قريش ، قيس بن الوليد بن المغيرة والحارث ابن زمعة بن الأسود بن المطلب ويعلى بن أمية والعاص بن منبّه ، خرجوا مع قريش من مكة وهم على الارتياب فحبسهم ارتيابهم ، فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : غرّ هؤلاء دينهم حتى أقدموا على ما أقدموا عليه مع قلة عددهم وكثرة عدوهم.

(وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) أي ومن يكل أمره إلى الله ويؤمن إيمان اطمئنان بأنه ناصره ومعينه ، وأنه لا يعجزه شىء ولا يمتنع عليه شىء أراده ـ يكفه ما يهمه وينصره على أعدائه وإن كثر عددهم وعظم استعدادهم ، لأنه العزيز الغالب على أمره ، الحكيم الذي يضع كل أمر فى موضعه بمقتضى سننه فى نظام العالم ، ومن ذلك أن ينصر الحق على الباطل.

١٤

(وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (٥٠) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (٥١) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (٥٢) ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (٥٣) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (٥٤))

تفسير المفردات

أدبارهم ، أي ظهورهم وأقفيتهم ، وعذاب الحريق : عذاب النار بعد البعث ، والدأب : العادة المستمرة.

المعنى الجملي

بعد أن بين سبحانه حال هؤلاء الكفار من خروجهم إلى قتال المؤمنين بطرا ورئاء الناس ، ومن تزيين الشيطان لهم أعمالهم ـ قفّى على ذلك بذكر أحوالهم حين موتهم وبيان العذاب الذي يصل إليهم فى ذلك الوقت.

الإيضاح

(وَلَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبارَهُمْ وَذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ) أي لو عاينت أيها الرسول حال الكفار حين يتوفاهم الملائكة ،

١٥

فينزعون أرواحهم من أجسادهم ضار بين وجوههم وأقفيتهم ، قائلين لهم : ذوقوا عذاب النار الذي كنتم به تكذبون (وهذا الضرب والكلام من عالم الغيب ، فلا يقتضى أن يراه الذين يحضرون وفاتهم ، ولا أن يسمعوا كلامهم حين يقولون ذلك لهم) لو رأيت ذلك لرأيت أمرا عظيما هائلا يردّ الكافر عن كفره ، والظالم عن ظلمه إذا هو علم عاقبة أمره.

وقد روى أن ضرب الوجوه والأدبار كان ببدر ، كان المؤمنون يضربون من أقبل من المشركين من وجوههم والملائكة يضربونهم من أدبارهم.

(ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ) أي هذا العذاب الذي ذقتموه بسبب ما كسبت أيديكم من سىء الأعمال فى حياتكم الدنيا من كفر وظلم ، وهذا يشمل القول والعمل.

ونسب ذلك إلى الأيدى وإن كان قد يقع من الأيدى والأرجل وسائر الحواس أو بتدبير العقل ، من أجل أن العادة قد جرت بأن أكثر الأعمال البدنية تزاول بها.

(وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ) أي وبأن الله لا يظلم أحدا من عبيده ، فلا يعذب أحدا منهم إلا بجرم اجترمه ، ولا يعاقبه إلا بمعصيته إياه وقد وقع ذلك منكم ، فأنتم الظالمون لأنفسكم فلوموها ، ولا لوم إلا عليها.

روى مسلم عن أبى ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم : «إن الله يقول يا عبادى إنى حرمت الظلم على نفسى وجعلته بينكم محرما ، فلا تظالموا ؛ يا عبادى إنما هى أعمالكم أحصيها لكم ، فمن وجد خيرا فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنّ إلا نفسه».

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللهِ فَأَخَذَهُمُ اللهُ بِذُنُوبِهِمْ) أي فعل هؤلاء المشركين من قريش الذين قتلوا ببدر كعادة قوم فرعون وفعلهم وفعل من قبلهم من الأمم الخالية ، كفروا بآيات ربهم فأخذهم بذنوبهم أخذ عزيز مقتدر ولم يظلم أحدا منهم مثقال ذرة ، ونصر رسله والمؤمنين.

١٦

وكما كانت سنته تعالى فى أولئك أن أخذهم بذنوبهم ، فسنته فى هؤلاء كذلك فقد نصر رسوله والمؤمنين فى بدر ، وأهلك هؤلاء بذنوبهم.

(إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ) أي إن الله قوىّ لا يغلبه غالب ، ولا يفوته هارب ، شديد العقاب لمن استحق عقابه وكفر بآياته وجحد حججه ، وقد جعل لكل شىء أجلا.

روى البخاري ومسلم وابن ماجه عن أبى موسى الأشعري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال «إن الله تعالى ليملى للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته».

(ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ) أي ذلك الذي ذكر من أخذه لقريش بكفرها بنعم الله عليها ، إذ بعث فيهم رسولا منهم يتلو عليهم آياته ، فكذبوه وأخرجوه من بينهم وحاربوه ، كأخذه للأمم قبلهم بذنوبهم ـ فقد جرت سنة الله ألا يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم من الأحوال التي استحقوا بها تلك النعمة.

وفى الآية إيماء إلى أن نعم الله على الأمم والأفراد منوطة ابتداء ودواما بأخلاق وصفات وأعمال تقتضيها ، فما دامت هذه الشئون ثابتة لهم متمكنة منهم ، كانت تلك النعم ثابتة لهم ، والله لا ينتزعها منهم بغير ظلم منهم ولا جرم ، فإذا هم غيّروا ما بأنفسهم من تلك العقائد والأخلاق وما يلزم ذلك من محاسن الأعمال ، غيّر الله حالهم وسلب نعمتهم منهم فصار الغنى فقيرا والعزيز ذليلا والقوى ضعيفا.

وليست سعادة الأمم وقوتها وغلبتها منوطة بسعة الثروة ولا كثرة العدد كما كان يظن بعض المشركين وحكاه الله عنهم بقوله «وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ».

وكذلك لا يحابى الله تعالى بعض الشعوب والأمم بنسبها وفضل بعض أجدادها على غيرهم بنبوّة أو ما دونها فيؤتيهم الملك والسيادة لأجل الأنبياء الذين ينسبون إليهم كما كان شأن بنى إسرائيل فى غرورهم وتفضيل أنفسهم على جميع الشعوب بنسبهم ،

١٧

وهكذا شأن النصارى والمسلمين من بعدهم ، إذ اتبعوا سنتهم واغتروا بدينهم وإن كانوا من أشد المخالفين له.

(وَإِنَّ اللهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ) أي إنه تعالى سميع لما يقول مكذبو الرسل ، عليم بما يأتون وما يذرون ، وهو مجازيهم على ما يقولون ويعملون إن خيرا فخير ، وإن شرا فشر.

(كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ) أي حتى يغيروا ما بأنفسهم تغييرا مماثلا لدأب آل فرعون ، فهم قد كذبوا كما كذب أولئك فحل بهم مثل ما حل بأولئك السابقين.

والدأب الأول فى بيان كفرهم بجحد ما قامت عليه أدلة الرسل من وحدانية الله ووجوب إفراده بالعبادة ، وفى تعذيب الله إياهم فى الآخرة ، فهو دأب وعادة فيما يتعلق بحقه تعالى من حيث ذاته وصفاته ، وفى الجزاء الدائم على الكفر به الذي يبتدىء بالموت وينتهى بدخول النار.

والدأب الثاني فى تكذيبهم بآيات ربهم ونعمه من حيث إنه هو المربي لهم ، ويدخل فى ذلك تكذيب الرسل وعنادهم وإيذائهم وكفر النعم المتعلقة ببعثتهم ، وفى الجزاء على ذلك بتغيير حالهم وعذابهم فى الدنيا.

وخلاصة ذلك ـ إن مادوّنه التاريخ من دأب الأمم وعادتها فى الكفر والتكذيب والظلم فى الأرض ، ومن عقاب الله إياها ـ جار على سننه تعالى المطردة فى الأمم ، ولا يظلم ربك أحدا بسلب نعمة منهم ولا بإيقاع أذى بهم ، وإنما عقابه لهم أثر طبيعى لكفرهم وظلمهم لأنفسهم.

وأما عذاب الاستئصال بعذاب سماوىّ فهو خاص بمن طلبوا الآيات من الرسل وأنذروهم العذاب إذا هم كفروا بها بعد مجيئها ثم فعلوا ذلك.

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (٥٥) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ (٥٦) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (٥٧) وَإِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (٥٨) وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (٥٩))

١٨

تفسير المفردات

الدابة : لفظ غلب استعماله فى ذوات الأربع ، وأصله كل مادب على وجه الأرض ، وهو المراد هنا ، عند الله : أي فى حكمه وعلمه ، والذين عاهدت منهم : هم طوائف من يهود المدينة. وثقفه : أدركه وظفر به ، فشرد بهم : أي نكّل بهم تنكيلا يشرّد غيرهم من ناقضى العهد ، من خلفهم : هم كفار مكة وأعوانهم من مشركى القبائل الموالية لهم ، والنبذ : الطرح ، على سواء : أي على طريق واضح لاخداع فيه ولا خيانة ولا ظلم ، سبقوا : أي أفلتوا من الظفر بهم ، لا يعجزون : أي لا يجدون الله عاجزا عن إدراكهم ، بل سيجزيهم على كفرهم.

المعنى الجملي

بعد أن بين حال مشركى قريش فى قتالهم له ببدر ـ قفّى على ذلك بذكر حال فريق آخر من الكفار الذين عادوا النبي صلى الله عليه وسلم وقاتلوه وهم اليهود الذين كانوا فى بلاد الحجاز.

قال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآيات فى ستة رهط من اليهود منهم ابن تابوت ، وقال مجاهد : نزلت فى يهود المدينة وكان زعيمهم الطاغوت كعب بن الأشرف ، وهو فيهم كأبى جهل فى مشركى مكة. ثم ذكر سبحانه ما يجب أن يعمل مع أمثالهم من الخونة ، وبين أن الرسول آمن من عاقبة كيدهم ومكرهم.

١٩

الإيضاح

(إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ. الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لا يَتَّقُونَ) أي إن شر ما يدب على وجه الأرض فى حكم الله وعدله هم الكافرون الذين اجتمعت فيهم صفتان :

(١) الإصرار على الكفر والرسوخ فيه بحيث لا يرجى إيمان جملتهم أو إيمان جمهورهم ، لأنهم إما رؤساء حاسدون للرسول صلى الله عليه وسلم معاندون له جاحدون بآياته المؤيدة لرسالته على علم منهم ، وفيهم يقول سبحانه : «يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ» وإما مقلدون جامدون على التقليد لا ينظرون فى الدلائل والآيات.

وقد لقبهم الله بالدواب وهو اللفظ الذي غلب استعماله فى ذوات الأربع ، لإفادة أنهم ليسوا من شرار البشر فقط ، بل هم أضل من العجماوات ، لأن لها منافع وهؤلاء لا خير فيهم ولا نفع لغيرهم منهم كما قال تعالى فى أمثالهم : «أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ؟ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً».

(٢) نقض العهد ، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم عقد مع يهود المدينة عقب هجرته إليهم عهدا أقرّهم فيه على دينهم وأمّنهم على أنفسهم وأموالهم ، فنقض كل منهم عهده.

روى عن ابن عباس أنهم بنو قريظة نقضوا عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعانوا عليه بالسلاح فى يوم بدر ثم قالوا : نسينا وأخطأنا ، فعاهدهم الثانية فنقضوا العهد ومالئوا الكفار على رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الخندق وركب زعيمهم كعب بن الأشرف إلى مكة فخالفهم على محاربة النبي صلى الله عليه وسلم.

وقوله : وهم لا يتقون ، أي لا يتقون الله فى نقض العهد ولا فيما قد يترتب عليه من قتالهم والظفر بهم.

٢٠