تفسير المراغي - ج ٢٧

أحمد مصطفى المراغي

١

٢

الجزء السابع والعشرون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (٣١) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (٣٢) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (٣٣) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (٣٤) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (٣٥) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (٣٦) وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (٣٧))

تفسير المفردات

الخطب : الشأن الخطير ، أي فما شأنكم الذي أرسلتم لأجله سوى البشارة ، إلى قوم مجرمين : هم قوم لوط ، من طين : أي من طين متحجر وهو السجيل ، مسومة : أي معلّمة من السّومة وهى العلامة ، للمسرفين : أي المجاوزين الحد فى الفجور ، من المؤمنين : أي ممن آمن بلوط ، غير بيت : أي غير أهل بيت ، والمراد بهم لوط وابنتاه آية : أي علامة دالة على ما أصابهم من العذاب.

٣

المعنى الجملي

تقدم أن قلنا غير مرة إن الذين قسموا القرآن إلى أجزائه الثلاثين نظروا إلى العدّ اللفظي ولم يعنوا بالنظر إلى الترتيب المعنوي ، ومن ثم تجد جزءا قد انتهى وبدىء بآخر أثناء القصة كما هنا.

فبعد أن بشر الملائكة إبراهيم عليه السّلام بالغلام ـ سألهم ما شأنكم وما الذي جئتم لأجله؟ قالوا إنا أرسلنا إلى قوم لوط ، لنهلكهم بحجارة من سجيل بها علامة تدل على أنها أعدت لإهلاكهم ، ثم نأمر من كان فيها من المؤمنين بالخروج من القرية حتى لا يلحقهم العذاب الذي سيصيب الباقين ، وسنترك فيها علامة تدل على ما أصابهم من الرجز ، جزاء فسوقهم وخروجهم من طاعة ربهم.

الإيضاح

(قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ) أي قال إبراهيم لهؤلاء الملائكة : ما شأنكم؟

وفيم أرسلتم؟ وجاء فى سورة هود : «فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ. إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ. يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ».

فأجابوه عما سأل :

(قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ. لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ. مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ) أي قالوا له : إنا أرسلنا إلى قوم لوط بالعذاب لإجرامهم ، وسنلقى عليهم حجارة من طين مطبوخ كالآجرّ وهى فى الصلابة كالحجارة ، وفيها علامات أعدت لهلاك المسرفين.

ولما أراد سبحانه أن يهلك المجرمين ميّز عنهم المؤمنين وأبعدهم منهم كما قال :

(فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ. فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ)

٤

أي بعد أن ذهبت رسلنا إلى قوم لوط ووقعت بينهم وبينهم محاورات لم يدع الحال إلى ذكرها هنا ـ أخرجوا من كان فى القرى من المؤمنين تخليصا لهم من العذاب ، ولم يجدوا فيها سوى بيت واحد أسلم وجهه لله ظاهرا وباطنا ، وانقاد لأوامره واجتنب نواهيه ، وهو بيت لوط ابن أخى إبراهيم عليه السّلام.

عن سعيد بن جبير قال : كانوا ثلاثة عشر.

قال أبو مسلم الأصفهانى : الإسلام الاستسلام لأمر الله والانقياد لحكمه ، فكل مؤمن مسلم ، ومن ذلك قوله تعالى : «قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا».

وقد أوضح الحديث الشريف الفرق بينهما ، فجاء فى الصحيحين وغيرهما من طرق عدة «أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سئل عن الإسلام فقال : أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسوله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتى الزكاة ، وتحج البيت ، وتصوم رمضان. وسئل عن الإيمان؟ فقال : أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وبالقدر خيره وشره».

(وَتَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ) أي وجعلناها عبرة بما أنزلنا بها من العذاب والنكال وحجارة السجيل ، وخسف الأرض بهم حتى صارت قريتهم بحيرة منتنة خبيثة وهى بحيرة طبرية ، لتكون ذكرى لن يخشى الله ويخاف عذابه.

وفى الآية إيماء إلى أن الكفر متى غلب ، والفسق إذا انتشر ، لا تنفع معه عبادة المؤمنين ، أما إذا كان أكثر الخلق على الطريقة المستقيمة وفيهم شرذمة يسيرة يسرقون ويفجرون ، فإن الله لا يأخذ الكثرة الصالحة بذنب العدد القليل من الفاجرين.

(وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (٣٨) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٣٩) فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ

٥

وَهُوَ مُلِيمٌ (٤٠) وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (٤١) ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (٤٢) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (٤٣) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (٤٤) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (٤٥) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (٤٦))

تفسير المفردات

بسلطان مبين : أي بحجة واضحة هى معجزاته الظاهرة كاليد والعصا ، والركن : ما يركن إليه الشيء ويتقوّى به ، والمراد هنا جنوده وأعوانه ووزراؤه كما جاء فى سورة هود «أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ» ، فأخذناه : أي أخذ غضب وانتقام ، نبذناهم : أي طرحناهم ، فى اليمّ : أي فى البحر ، مليم : أي آت بما يلام عليه ، والعقيم : أي التي لا خير فيها ولا بركة ، فلا تلقح شجرا ولا تحمل مطرا ، سميت عقيما لأنها أهلكتهم وقطعت دابرهم ، الرميم : البالي من عظم ونبات وغير ذلك ، فعتوا : أي فاستكبروا عن الامتثال ، والصاعقة : نار تنزل بالاحتكاكات الكهربية ، منتصرين : أي ممتنعين من عذاب الله بغيرهم ممن أهلكهم ، فاسقين : أي خارجين من طاعة الله ، متجاوزين حدوده.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر ما كان من قوم لوط من الفسوق والعصيان ، وما أصابهم من الهلاك جزاء وفاقا لما اجترحوا من السيئات تسلية لرسوله على ما يرى من قومه ـ عطف على ذلك قصص جمع آخرين من الأنبياء لقوا من أقوامهم من الشدائد مثل ما لقى هذا الرسول الكريم ، فحقت على أقوامهم كلمة ربهم ونزل بهم عذاب الاستئصال وصاروا

٦

كأمس الدابر عبرة ومثلا للآخرين ، فذكر أنه أرسل موسى إلى فرعون بشيرا ونذيرا فأبى واستكبر واعتزّ بقوته وجنده ، وقال أنا ربكم الأعلى ، فأغرق هو وقومه فى البحر. وأرسل شعيبا إلى عاد فكذبوه فأهلكهم بريح صرصر عاتية. وأرسل صالحا إلى ثمود فكذبوه فأخذتهم الصاعقة ولم تبق منهم أحدا ، وبعث نوحا إلى قومه فلم يستجيبوا لدعوته فأخذهم الطوفان وهم ظالمون.

الإيضاح

(وَفِي مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ. فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) أي وفى قصص موسى عبرة لقوم يعقلون ، إذ أرسلناه إلى فرعون بحجج ظاهرة ، وآيات باهرة ، فأعرض ونأى ، وكذب ما جاء به ، معتزا بجنده وقوته وجبروته ، وقال حينا تحقيرا لشأن موسى : «إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ» وقال حينا آخر : «إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ». وما مقصده من هذا إلا صرفهم عن النظر والتأمل فيما جاء به من الآيات ، خوفا على ملكه أن ينهار ، وعلى دولته أن يلحقها الدمار ، وإبقاء على ما له من النفوذ والسلطان فى البلاد.

ثم ذكر جزاءه هو وقومه على ما صنع فقال :

(فَأَخَذْناهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ) أي فألقينا فرعون وجنوده فى البحر وهو آت بما يلام عليه من الكفر والطغيان.

وفى هذا إيماء إلى عظمة القدرة على إذلال الجبابرة وسوء عاقبتهم ، جزاء عتوهم واستكبارهم وعصيانهم أمر خالقهم.

ثم ذكر قصص عاد فقال :

(وَفِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ ، ما تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ) أي وفى عاد آية لكل ذى لبّ ، إذ أرسلنا عليهم ريحا صرصرا عاتية

٧

لم تبق منهم ديّارا ولا نافخ نار ، ولا تركت شيئا من الأبنية والعروش إلا جعلته كالشىء الهالك البالي.

وبعدئذ ذكر قصص ثمود فقال :

(وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ ، ... فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ) أي وفى ثمود عظة لمن تدبر وفكر فى آيات ربه ، إذ قال لهم نبيهم : «تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ» ثم يحل بكم من العذاب ما لا قبل لكم به ، فكذبوه واستكبروا وعتوا عن أمر ربهم ، فأرسل عليهم صاعقة من السماء أهلكتهم جميعا وهم ينظرون إليها ـ جزاء ما اكتسبت أيديهم من الآثام ، وارتكاب الخطايا والأوزار.

(فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ. وَما كانُوا مُنْتَصِرِينَ) أي فما استطاعوا هربا ولم يجدوا مفرّا ولا نصيرا يدفع عنهم عذاب الله.

ثم ذكر موجزا لقصص قوم نوح فقال :

(وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ) أي وأهلكنا قوم نوح بالطوفان قبل هؤلاء ، بسبب فسقهم وفجورهم وانتهاكهم حرمات الله.

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (٤٧) وَالْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (٤٨) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (٤٩) فَفِرُّوا إِلَى اللهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥٠) وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (٥١))

تفسير المفردات

الأيد والآد : القوة ، لموسعون : أي لذو سعة يخلقها وخلق غيرها ؛ من الوسع بمعنى الطاقة ، فرشناها : أي بسطناها ومهدناها من مهدت الفراش إذا بسطته ووطّأته ،

٨

وتمهيد الأمور : تسويتها وإصلاحها ، ومن كل شىء : أي ومن كل جنس من الحيوان ، زوجين : أي ذكر وأنثى ، ففروا إلى الله : أي اعتصموا بحبل الله وأقروا بوحدانيته ، إنى لكم منه نذير مبين : أي إنى لكم من عقابه منذر ومخوّف.

المعنى الجملي

بعد أن أثبت الحشر وأقام الأدلة على أنه كائن لا محالة ـ أرشد إلى وحدانية الله وعظيم قدرته ، فبين أنه خلق السماء بغير عمد ، وبسط الأرض ودحاها ، لتصلح لسكنى الإنسان والحيوان ، وخلق من كل نوع من أنواع الحيوان زوجين ذكرا وأنثى ، ليستمر بقاء الأنواع إلى أن يشاء الله فناء العالم ، ثم أمرهم أن يعتصموا بحبل الله وأنذرهم شديد عقابه ، وحذرهم أن يجعلوا مع الله ندّا وشريكا.

الإيضاح

(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ) أي ولقد بنينا السماء ببديع قدرتنا ، وعظيم سلطاننا ، وإنا لقادرون على ذلك لا يمسنا نصب ولا لغوب.

وفى ذلك تعريض باليهود الذين قالوا : أن الله خلق السموات والأرض فى ستة أيام واستراح فى اليوم السابع مستلقيا على عرشه.

(وَالْأَرْضَ فَرَشْناها) أي ومهدنا الأرض ، وجعلناها صالحة لسكنى الإنسان والحيوان ، وجعلنا فيها الأرزاق والأقوات ، من الحيوان والنبات وغيرهما مما يكفل بقاءهما إلى حين ، ووضعنا فيها من المعادن فى ظاهرها وباطنها ما فيه زينة لكم ، فتبنون المساكن من حجارتها ، وتتخذون الحلىّ من ذهبها وفضتها وأحجارها الكريمة ، وتصنعون آلات الحرب والسفن والطائرات من حديدها ومعادنها الأخرى.

٩

وفى الآية إشارة إلى أن دحو الأرض كان بعد خلق السماء ، لأن بناء البيت يكون قبل الفرش ، وهذا ما يثبته العلم الحديث الآن ، وقد تقدم ذكر ذلك غير مرة.

ثم مدح سبحانه نفسه على ما صنع فقال :

(فَنِعْمَ الْماهِدُونَ) أي فنعم ما فعلنا ، وما أجمل ما خلقنا ، مما فيه عظة لمن يتذكر ويتدبر.

(وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) أي وإنا خلقنا لكل ما خلقنا من الخلق ثانيا له ، مخالفا له فى مبناه والمراد منه ، وكل منهما زوج للآخر ، فخلقنا السعادة والشقاوة ، والهدى والضلال ، والليل والنهار ، والسماء والأرض ، والسواد والبياض ـ لتتذكروا وتعتبروا فتعلموا أن الله ربكم الذي ينبغى لكم أن تعبدوه وحده لا شريك له ـ هو الذي يقدر على خلق الشيء وخلافه ، وابتداع زوجين من كل شىء لا ما لا يقدر على ذلك.

(فَفِرُّوا إِلَى اللهِ) أي فالجئوا إلى الله واعتمدوا عليه فى جميع أموركم ، واتبعوا أوامره ، واعملوا على طاعته ، ثم علل الأمر بالفرار إليه بقوله :

(إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي إنى لكم نذير من الله أنذركم عقابه ، وأخوّفكم عذابه الذي أحله بهؤلاء الأمم التي قص عليكم قصصها ، وإنى مبيّن لكم ما يجب عليكم أن تحذروه.

ثم ذكر أعظم ما يجب أن يفر المرء منه ، وهو الشرك فقال :

(وَلا تَجْعَلُوا مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ) أي ولا تجعلوا مع معبودكم الذي خلقكم معبودا آخر سواه ، فإن العبادة لا تصلح لغيره.

ثم علل هذا النهى بقوله :

(إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) أي إنى لكم نذير ومخوف من عقابه على عبادتكم غيره.

١٠

ونحو الآية قوله تعالى : «فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ ، فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً».

(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (٥٢) أَتَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (٥٣) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (٥٤) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (٥٥) وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (٥٦) ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (٥٧) إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (٥٨) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (٥٩) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (٦٠))

تفسير المفردات

فتول عنهم : أي أعرض عن جدلهم ، وذكّر : أي دم على التذكير والموعظة ، إلا ليعبدون : أي إلا لآمرهم بعبادتي لا لاحتياجى إليهم ، المتين : أي الشديد القوة ، ذنوبا : أي نصيبا من العذاب ، وأصل الذنوب : الدلو العظيمة الممتلئة ماء ، أصحابهم : أي نظرائهم ، فويل للذين كفروا : أي هلاك لهم.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر أن هؤلاء المشركين فى قول مختلف مضطرب لا يلتئم بعضه مع بعض فبينما هم يقولون : خالق السموات والأرض هو الله إذا بهم يعبدون الأصنام والأوثان ، وطورا يقولون : محمد ساحر ، وطورا آخر يقولون هو كاهن إلى نحو ذلك.

١١

قفىّ على ذلك بأن ذكر أن قومه ليسوا بدعا فى الأمم ، فكما كذبت قريش نبيها فعلت الأمم التي كذبت رسلها ، فأحل الله بهم نقمته كقوم نوح وعاد وثمود ، ثم عجّب من حالهم وقال : أتواصى بعضهم مع بعض بذلك؟ ثم قال : لا بل هم قوم طغاة متعدّون حدود الله ، لا يأتمرون بأمره ولا ينتهون بنهيه ، ثم أمر رسوله أن يعرض عن جدلهم ومرائهم ، فإنه قد بلّغ ما أمر به ولم يقصّر فيه ، فلا يلام على ذلك ، وأن يذكّر من تنفعه الذكرى ولديه استعداد لقبول الإرشاد والهداية ، ثم أردف هذا أن ذكر أنه ما خلق الجن والإنس إلا ليأمرهم ويكلفهم بعبادته ، لا لاحتياجه إليهم فى تحصيل رزق ولا إحضار طعام ، فالله هو الرزاق ذو القوة. ثم ختم السورة بتهديد أهل مكة بأنه سيصيبهم من العذاب مثل ما أصاب من قبلهم من الأمم السالفة ، فأولى لهم ألا يستعجلوه بقولهم : «مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ» ، فقد حقت عليهم كلمة ربك فى اليوم الذي يوعدون ، وسيقع عليهم من العذاب ما لا مردّ له ، ولا يجدون له دافعا.

الإيضاح

(كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ) أي كما كذبك قومك من قريش وقالوا ساحر أو مجنون ـ فعلت الأمم التي كذبت رسلها من قبلهم وقالوا مثل مقالتهم ، فهم ليسوا ببدع فى الأمم ، ولا أنت ببدع فى الرسل ، فكلهم قد كذّبوا وأوذوا فصبروا حتى أتاهم نصر الله.

وفى هذا تسلية لرسوله صلّى الله عليه وسلّم على احتمال الأذى والإعراض عن جدلهم ، فإنهم قد أبطرتهم النعمة وغرّهم الإمهال ، فلا تجدى فيهم العظة ولا تنفعهم الذكرى.

ثم تعجب من إجماعهم على إنكار نبوة محمد صلّى الله عليه وسلّم فقال :

١٢

(أَتَواصَوْا بِهِ؟) أي أأوصى أولهم آخرهم بتكذيب محمد صلّى الله عليه وسلّم فقبلوا ذلك منهم؟

ثم عدل عن أنّ الذي جمعهم على هذا القول هو التواصي ، إلى أن الذي جمعهم على ذلك هو الطغيان فقال :

(بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ) أي بل الذي جمعهم على ذلك هو الطغيان وتجاوز حدود الدين والعقل ، فقال متأخرهم مثل مقالة متقدمهم.

ثم سلى رسوله بقوله :

(فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ) أي فأعرض عنهم أيها الرسول ، ولا تأسف على تخلفهم عن الإسلام فإنك لم تأل جهدا فى الدعوة ، وهم ما زادوا إلا عتوا واستكبارا ، وطغيانا وإعراضا.

(وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) أي دم على العظة والنصح ، فإن الذكرى تنفع من فى قلوبهم استعداد للهداية والرشاد.

أخرج ابن جرير وابن أبى حاتم والبيهقي وجماعة من طريق مجاهد عن على كرم الله وجهه قال : لما نزلت «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ» لم يبق منا أحد إلا أيقن بالهلكة ، إذ أمر النبي صلّى الله عليه وسلّم أن يتولى عنا ، فنزلت «وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ» فطابت أنفسنا.

وبعد أن بين حالهم فى التكذيب ذكر سوء صنيعهم حيث تركوا عبادة الذي خلقهم للعبادة بقوله :

(وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) أي وما خلقتهم إلا ليعرفونى ، إذ لو لا خلقهم لم يعرفوا وجودى ولا توحيدى ، يرشد إلى ذلك ما جاء فى الحديث القدسي «كنت كنزا مخفيا فأردت أن أعرف ، فخلقت الخلق فبى عرفونى» قاله مجاهد ، وروى عنه أيضا أن المعنى : إلا لآمرهم وأنهاهم ، ويدل عليه قوله : «وَما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلَّا هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ» واختاره الزجاج ،

١٣

ويرى جمع من المفسرين أن المعنى : إلا ليخضعوا لى ويتذللوا ، فكل مخلوق من الجن والإنس خاضع لقضاء الله ، متذلل لمشيئته ، منقاد لما قدره عليه ، خلقهم على ما أراد ، ورزقهم كما قضى ، لا يملك أحد منهم لنفسه نفعا ولا ضرا.

وهذه الجملة مؤكدة للأمر بالتذكير وفيها تعليل له ، فإن خلقهم لما ذكر يدعوه إلى تذكيرهم ويوجب عليهم التذكر والاتعاظ.

ثم ذكر أن شأنه مع عبيده ليس كشأن السادة مع عبيدهم فقال :

(ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ) أي إننى ما أريد أن أستعين بهم لجلب منفعة ولا دفع مضرة ، فلا أصرّفهم فى تحصيل الأرزاق والمطاعم كما يفعل الموالي مع عبيدهم.

ثم علل هذا بقوله :

(إِنَّ اللهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ) أي إنه تعالى غير محتاج إليهم بل هم الفقراء إليه فى جميع أحوالهم ، لأنه خالقهم ورازقهم ، وهو ذو القدرة والقوة الغالب على أمره ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

روى أحمد عن أبى هريرة رضى الله عنه قال : قال رسول الله صلّى الله عليه وسلم «يقول الله تعالى : يا ابن آدم تفرّغ لعبادتى أملأ صدرك غنى وأسدّ فقرك ، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلا ولم أسدّ فقرك».

ولما أقسم سبحانه على الصدق فى وعيدهم ـ أخبر بإيقاع هذا الوعيد بهم يوم القيامة فقال :

(فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ) أي فإن للذين ظلموا أنفسهم باشتغالهم بغير ما خلقوا له من العبادة ، وإشراكهم بالله عز وجل وتكذيبهم رسوله نصيبا من العذاب مثل نصيب نظرائهم من الأمم السالفة التي كذبت رسلها.

(فَلا يَسْتَعْجِلُونِ) أي فلا يطلبوا منى أن أعجل بالإتيان به ، فإنى لا أخاف

١٤

الفوت ، ولا يلحقنى عجز ، وهذا جواب عن قولهم : «فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ».

ونحو الآية قوله : «أَتى أَمْرُ اللهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ».

(فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ) أي فويل لهم من حلول ذلك العذاب الذي وعدوه يوم القيامة حين لا تغنى نفس عن نفس شيئا ولا هم ينصرون.

خلاصة ما تضمنته السورة الكريمة

(١) دلائل البعث من العجائب الطبيعية والعلوم النفسية.

(٢) جزاء المتقين بما يلقونه من النعيم يوم القيامة.

(٣) أخبار الأمم السالفة التي كذبت رسلها.

(٤) تسلية النبي صلّى الله عليه وسلّم على ما يلقاه من أذى قومه.

(٥) الفرار إلى الله من هذه الدنيا المحفوفة بالمخاطر.

(٦) النهى عن الإشراك بالله.

(٧) إخبار رسوله بأن قومه ليسوا ببدع فى التكذيب بك فقد كذب رسل من قبلك.

(٨) أمره صلّى الله عليه وسلّم بالإعراض عنهم ، وتذكير من تنفعه الذكرى من المؤمنين.

(٩) إخباره بأن الله ما خلق الجن والإنس إلا ليعبدوه.

(١٠) وعيد الكافرين بأن العذاب سيحل بهم يوم القيامة.

(١١) إن المشركين سينالهم نصيب من العذاب مثل نصيب نظرائهم من المكذبين.

١٥

سورة الطور

هى مكية وعدد آياتها تسع وأربعون ، نزلت بعد السجدة.

عن أم سلمة «أنها سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يصلى إلى جنب البيت بالطور وكتاب مسطور» أخرجه البخاري وغيره.

ومناسبتها لما قبلها :

(١) إن فى ابتداء كل منهما وصف حال المتقين.

(٢) إن فى نهاية كل منهما وعيد للكافرين.

(٣) إن كلا منهما بدئت بقسم بآية من آياته تعالى الكونية التي تتعلق بالمعاش أو المعاد ، ففى الأولى أقسم بالرياح الذاريات التي تنفع الإنسان فى معاشه ، وهنا أقسم بالطور الذي أنزل فيه التوراة النافعة للناس فى معادهم.

(٤) فى كل منهما أمر النبي بالتذكير والإعراض عما يقول الجاحدون من قول مختلف.

(٥) تضمنت كلتاهما الحجاج على التوحيد والبعث ، إلى نحو ذلك من المعاني المتشابهة فى السورتين.

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَالطُّورِ (١) وَكِتابٍ مَسْطُورٍ (٢) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (٣) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (٤) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (٥) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (٦) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (٧) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (٨) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (٩) وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (١٠) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (١١) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ

١٦

يَلْعَبُونَ (١٢) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (١٣) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (١٤) أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (١٥) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (١٦))

تفسير المفردات

الطور بالسريانية : الجبل ، والمراد به طور سينين ، وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام ، والمراد بالكتاب هنا : ما كتب من الكتب السماوية كالقرآن والتوراة والإنجيل ، والمسطور : أي المكتوب على طريق منظم ، والسطر ترتيب الحروف المكتوبة ، والرّق : (بالفتح والكسر) جلد رقيق يكتب فيه ، والمنشور : المفتوح الذي لا ختم عليه ، والبيت المعمور : هو الكعبة المعمورة بالحجاج والمجاورين ، والسقف المرفوع : هو السماء ، والمسجور : أي الموقد المحمى ، من سجر النار أي أوقدها وعنى به باطن الأرض وهو الذي دل عليه الكشف الحديث ولم تعرفه الأمم قديما ، وقد أشارت إليه الأحاديث ، فعن عبد الله بن عمر : «لا يركبنّ رجل البحر إلا غازيا أو معتمرا أو حاجا ، فإن تحت البحر نارا ، وتحت النار بحرا».

وقد أثبت علماء طبقات الأرض (الجيلوجيا) أن الأرض كلها كبطيخة وقشرتها كقشرة البطيخة ؛ أي إن نسبة قشرة الأرض إلى النار التي فى باطنها كنسبة قشرة البطيخة إلى باطنها الذي يؤكل ، فنحن الآن فوق نار عظيمة : أي فوق بحر مملوء نارا ، وهذا البحر مغطى من جميع جهاته بالقشرة الأرضية المحكمة السد عليه ، ومن حين إلى آخر تتصاعد من ذلك البحر نار تظهر فى الزلازل والبراكين كبركان فيزوف الذي هاج بإيطاليا سنة ١٩٠٩ م وابتلع مدينة مسّينا ، والزلزلة التي حدثت باليابان سنة ١٩٢٥ م وخربت مدنا بأكملها.

١٧

وتمور : أي تضطرب وترتجّ وهى فى مكانها ، وأصل المور التردد فى الذهاب والمجيء ، وقد يطلق على السير مطلقا كما قال الأعشى :

كأن مشيتها من بيت جارتها

مور السحابة لا ريث ولا عجل

وأصل الخوض : السير فى الماء ثم استعمل فى الشروع فى كل شىء وغلب فى الخوض فى الباطل ، كالإحضار فإنه عام فى كل شىء ثم غلب استعماله فى الإحضار للعذاب ، يدعّون : أي يدفعون دفعا عنيفا شديدا بأن تغلّ أيديهم إلى أعناقهم وتجمع نواصيهم إلى أقدامهم ويدفعون إلى النار ويطرحون فيها.

المعنى الجملي

أقسم سبحانه بمخلوقاته العظيمة ، الدالة على كمال قدرته ، وبديع صنعته ، وعدّ منها أماكن ثلاثة : الطور ، والبيت المعمور ، والبحر المسجور ـ لأنبياء ثلاثة كانوا ينفردون للخلوة بربهم ، والخلاص من الخلق لمناجاة الخالق ، فانتقل موسى إلى الطور وخاطب ربه وقال «أَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا» وقال «رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» وانتقل محمد إلى البيت المعمور وناجى ربه وقال «سلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، لا أحصى ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك» ، وكلم يونس ربه فى البحر وقال : «لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ».

وقرن الكتاب بالطور لأن موسى كان ينزل عليه الكتاب وهو به ، وقرن السقف المرفوع بالبيت المعمور ليعلم عظمة شأن محمد صلّى الله عليه وسلم ، وأقسم بكل هذا على أن العذاب يوم القيامة نازل بأعدائه الذين يخوضون فى الباطل ويتخذون الدين هزوا ولعبا ، فيدفعون إلى النار دفعا عنيفا ويقال لهم : هذه هى النار التي كنتم بها تكذبون ، ادخلوها وقاسوا شدائدها ، وسواء عليكم أجزعتم أم صبرتم مالكم منها مهرب ولا خلاص.

١٨

الإيضاح

(وَالطُّورِ. وَكِتابٍ مَسْطُورٍ. فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ) أقسم سبحانه بهذا الجبل العظيم الشأن الذي كلم فوقه موسى ، وأنزل عليه التوراة التي كتبت بنظام بديع ، مرتب الحروف ، فى رق منشور ، يسهل على كل أحد أن يطلع على ما فيها من حكم وأحكام ، وآداب وأخلاق.

(وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ) أي والكعبة التي يعمرها عشرات الآلاف الذين يهرعون إليها كل عام من أرجاء المعمورة ، وينسلون إليها من كل حدب ، كما يعمرها المجاورون لها تبركا بالعبادة فيها ، وطلبا لقبولها عند ربهم.

(وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ) أي والعالم العلوي وما حوى من شموس وأقمار ، وكواكب ثابتة وسيارات ، وما فيه من عرشه وكرسيه وملائكته الذين لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون ، وما فيه من عوالم لا يحصى عدتها إلا هو ، ومن جنود لا يعلم حقيقتها إلا من ذرأها كما قال «وَما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ».

(وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ) أي والبحر المحبوس من أن يفيض فيغرق جميع ما على الأرض ولا يبقى ولا يذر من حيوان ونبات ، فيفسد نظام العالم وتعدم الحكمة التي لأجلها خلق.

وقد يكون المعنى ـ والبحر الموقد فى باطن الأرض بمنزلة التنّور المحمى ، وقد بينا هذا فيما سبق.

ثم ذكر ما أقسم عليه فقال :

(إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ. ما لَهُ مِنْ دافِعٍ) أي إن عذاب يوم القيامة لمحيط بالكافرين المكذبين بالرسل ، لا يدفعه عنهم دافع ، ولا يجدون من دونه مهربا ، جزاء ما دنّسوا به أنفسهم من الشرك والآثام ، ودسّوا به أرواحهم من التكذيب بالرسل واليوم الآخر.

١٩

(يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً) أي ليس للعذاب دافع فى ذلك اليوم الذي ترتجّ فيه السماء وهى فى أماكنها ، وتتحققون أنه لا مانع من عذاب الله ولا مهرب منه.

(وَتَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً) أي وتزول الجبال من أماكنها ، وتسير عن مواضعها كسير السحاب ، وتطير فى الهواء ثم تقع على الأرض مفتتة كالرمل ثم تصير كالعهن (الصوف المندوف) ثم تطيرها الرياح فتكون هباء منثورا كما دل على ذلك ما جاء فى سورة النمل والحكمة فى مور السماء وسير الجبال ـ الإعلام والإنذار بأن لا رجوع ولا عودة إلى الدنيا لخرابها وعمارة الآخرة.

ثم بين من سيقع عليه العذاب حينئذ فقال :

(فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ. الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ) أي فإذا حدث ما ذكر من مور السماء وسير الجبال فهلاك يومئذ للمكذبين الذين يخوضون فى الباطل ، ويندفعون لاهين ، لا يذكرون حسابا ، ولا يخافون عقابا.

(يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا) أي يوم يدفعون ويساقون إلى نار جهنم دفعا عنيفا.

فإذا دنوا منها قال لهم خزنتها تقريعا وتوبيخا :

(هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ) أي هذه النار التي تشاهدونها هى التي كنتم بها تكذبون فى الدنيا ، وتكذيبهم بها تكذيب للرسول الذي جاء بخبرها ، وللوحى الناطق بها.

ثم تهكم بهم وأنّبهم فقال :

(أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ؟) كان المشركون فى الدنيا ينسبون إلى محمد صلى الله عليه وسلّم أنه يسحر العقول ويغطى الأبصار ، فأنبهم على ما قالوا مستهزئا بهم وقال لهم : هل ما ترونه بأعينكم مما كنتم تنبئون به فى الدنيا من العذاب ـ حق ، أو سحرتم أيضا كما كان يفعل بكم محمد فى الدنيا ، أو قد غطّيت أبصاركم فلا ترى شيئا؟ بلى إنه لحق فلم تسحر أعينكم ولم تغطّ أبصاركم.

٢٠