تفسير المراغي - ج ٤

أحمد مصطفى المراغي

١

٢

الجزء الرابع

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (٩٣) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (٩٤) قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (٩٥) إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ (٩٦) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (٩٧))

تفسير المفردات

الطعام : كل ما يطعم ويتناول للغذاء كما قال «أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ» وقالت عائشة رضى الله عنها «مالنا طعام إلا الأسودان :

٣

التمر والماء» وكثر استعماله فى الخبز كما قالوا : أكل الطعام مأدوما ، وفي البرّ ، ومنه حديث أبى سعيد «كنا نخرج زكاة الفطر صاعا من طعام أو صاعا من شعير» والحل : من حل الشيء ضد حرم ، وإسرائيل : لقب نبي الله يعقوب ، ومعناه الأمير المجاهد مع الله ثم شاع إطلاقه على جميع ذريته كما تدل على ذلك الأسفار المنسوبة إلى موسى ، والفرية : الكذب ، والافتراء : اختلاق الكذب ، والحنيف : المائل عن الباطل إلى الحق ، وبكة : من أسماء مكة (أبدلت ميمها باء) وهذا كثير الاستعمال فى الكلام ، قالوا : هذا دائم ودائب ، والآيات : الدلائل والعلامات ، والحج (بكسر الحاء وفتحها وبهما قرىء) القصد.

المعنى الجملي

كانت الآيات من أول السورة إلى هنا في تقرير الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، مع إثبات وحدانية الله تعالى ، وتبع ذلك محاجة أهل الكتاب ودحض شبههم وتفنيد ما استحدثوه في دينهم من بدع وتقاليد لا نص عليها في كتابهم ، أما هذه الآيات فقد جاءت لدفع شبهتين من شبهات اليهود :

(١) أنهم قالوا للنبى صلى الله عليه وسلم : إنك تدّعى أنك على ملة إبراهيم ، فكيف تأكل لحوم الإبل وألبانها مع أن ذلك كان حراما في دين إبراهيم؟ فأنت قد استحللت ما كان محرما عليه ، فلست بمصدّق له ، ولا بموافق له في الدين ، وليس لك أن تقول إنك أولى الناس به ، فرد الله عليهم بأن كل الطعام كان حلالا لبنى إسرائيل ، ولإبراهيم من قبله ، ثم حرم عليهم بعض الطيبات عقوبة لهم.

(٢) أنه لما حوّلت القبلة إلى الكعبة طعنوا في نبوته ، وقالوا إن بيت المقدس أفضل من الكعبة ، وأحق بالاستقبال ، فهو قد وضع قبلها وهو أرض المحشر ، وجميع الأنبياء من ذرية إسحاق كانوا يعظمونه ويصلون إليه ، فلو كنت على ما كانوا عليه لعظّمت ماعظموا ، ولما تحولت عن بيت المقدس ، وعظمت مكانا آخر

٤

وخالفت من تقدّمك من الأنبياء ، فرد الله سبحانه شبهتهم ، بأن أول بيت بنى للعبادة هو البيت الحرام بناه إبراهيم وولده إسماعيل للعبادة.

الإيضاح

أجاب الله سبحانه عن أولى الشبهتين بقوله :

(كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ) أي إن كل الطعام كان حلالا لبنى إسرائيل ، ولإبراهيم من قبله ، ثم حرم عليهم بعض الطيبات في التوراة عقوبة لهم وتأديبا كما يدل على ذلك قوله «فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ» الآية.

والمراد بإسرائيل الشعب كله كما هو شائع في الاستعمال عندهم لا يعقوب فحسب ، كما أن المراد بتحريم الشعب ذلك على نفسه أنه اجترح من السيئات ، وارتكب من الموبقات ما كان سببا في هذا التحريم كما ترشد إلى ذلك الآية التي أسلفناها.

وخلاصة هذا الجواب ـ أن الأصل في الأطعمة الحل ، وما كان تحريم ما حرم على إسرائيل إلا تأديبا لهم على جرائم ومخالفات وقعت منهم ، وكانت سببا فيما نالهم من التحريم لها ، والنبي صلى الله عليه وسلم وأمته لم يجترحوا هذه السيئات فلا تحرم عليهم هذه الطيبات.

ومعنى قوله : من قبل أن تنزل التوراة ، أنه قبل نزول التوراة كان حلّا لبنى إسرائيل كل أنواع المطعومات ؛ أما بعد نزولها ، فقد حرم عليهم أنواع كثيرة بسبب الذنوب التي اقترفوها ، وقد بينتها التوراة وبينت أسباب التحريم وعلله.

(قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) فى دعواكم ، لا تخافون أن تكذبكم نصوصها ، فالحكم بيننا وبينكم كتابكم الناطق بصحة ما يقول القرآن ، فلو جئتم به لكان مؤيدا ما نقول من أن تحريم ما حرم ما كان إلا للتأديب والزجر. وقد جاء في سفر التثنية : قال موسى حين أخذ عليكم العهد بحفظ الشريعة (إنكم شعب

٥

غليظ الرقبة يقاوم الرب) وقد روى أنهم لم يجرءوا على الإتيان بها ، وفلجت حجة القرآن.

وفي هذا أكبر دليل على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، إذ هو قد علم أن ما في التوراة يدل على كذبهم ، وهو لم يقرأها ولا قرأ غيرها من كتب الأولين ، فهذا العلم لم يكن إلا بوحي من الله.

(فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) أي فمن اخترع الكذب على الله وزعم أن التحريم كان على الأنبياء السابقين وأممهم قبل نزول التوراة ـ بعد أن ظهرت له الحجة بأن التحريم إنما كان بسبب ما ارتكب الشعب من الذنوب والخطايا ، وبعد أن طولب المدعون بالإتيان بالتوراة وتلاوتها ، فامتنعوا لئلا يظهر كذبهم ، وأن الله لم يحرم شيئا قبل نزولها ـ فأولئك هم الظالمون لأنفسهم المستحقون لعذاب الله ، لأنهم قد حولوا الحق عن وجهه ، ووضعوا حكم الله فى غير موضعه ، فضلوا وأضلوا أشياعهم بإصرارهم على الباطل ، وعدم تصديقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(قُلْ صَدَقَ اللهُ) فيما أنبأنى به من أن سائر الأطعمة كانت حلالا لبنى إسرائيل ، وأنها إنما حرمت على اليهود جزاء أفعالهم القبيحة ، وبذا قامت عليكم الحجة ، وثبت أنى مبلغ عنه ، إذ ما كان في استطاعتي لولا الوحى أن أعرف صدقكم من كذبكم فيما تحدثون عن أنبيائكم.

(فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً) أي وإذ قد استبان لكم أن ما يدعوكم إليه محمد صلى الله عليه وسلم هو من ملة إبراهيم ، فعليكم أن تتبعوه في استباحة أكل لحوم الإبل وألبانها ، وملته حنيفية سمحاء لا إفراط فيها ولا تفريط.

(وَما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) الذين يدعون مع الله إلها آخر ، أو يعبدون سواه ، كما فعله العرب من عبادة الأوثان ، وفعله اليهود من ادّعائهم أن عزيرا ابن الله ، وفعله النصارى من اعتقادهم أن المسيح ابن الله.

٦

وخلاصة هذا ـ إن محمدا صلوات الله عليه على دين إبراهيم في جزئيات الأحكام وكلياتها ، فأحل ما أحله هو من أكل لحوم الإبل وألبانها ، ودعا إلى التوحيد والبراءة من كل معبود سوى الله ، وما كان إبراهيم صلوات الله عليه إلا على هذا الدين.

ثم أجاب عن الشبهة الثانية فقال :

(إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ) أي إن البيت الذي نستقبله في صلاتنا هو أول بيت وضع معبدا للناس ، بناه إبراهيم وولده إسماعيل عليهما السلام للعبادة ، ثم بنى المسجد الأقصى بعد ذلك بعدة قرون ، بناه سليمان عليه السلام سنة ١٠٠٥ قبل الميلاد فكان جعله قبلة أولى ، وبذا يكون النبي صلى الله عليه وسلم على ملة إبراهيم ويتوجه بعبادته إلى حيث كان يتوجه إبراهيم وإسماعيل صلوات الله عليهما.

والخلاصة ـ إن أول بيوت العبادة الصحيحة التي بناها الأنبياء هو البيت الحرام ، فليس في الأرض موضع بناه الأنبياء أقدم منه فيما يؤثر من تواريخهم ، ويتبع هذا أولية الشرف والتعظيم.

ثم بين فضائله فقال :

(١ ، ٢) (مُبارَكاً وَهُدىً لِلْعالَمِينَ) تطلق البركة على معنيين : أحدهما النموّ والزيادة ، وثانيهما البقاء والدوام كما يقال تبارك الله.

والبركة والهداية من فضائله الحسية والمعنوية.

أما الأولى فهى أنه قد أفيض عليه من بركات الأرض وثمرات كل شىء مع كونه بواد غير ذى زرع كما قال الله تعالى : «يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْءٍ» فترى الأقوات والثمار في مكة كثيرة جيدة ، وأقل ثمنا من كثير من البلاد ذوات الخيرات الوفيرة كمصر والشام.

وأما الثانية فلأن القلوب تهوى إليه ، فتأتى الناس مشاة وركبانا من كل فج عميق لأداء المناسك الدينية من الحج والعمرة ، ويولّون وجوههم شطره في صلاتهم

٧

وربما لا تمضى ساعة من ليل أو نهار إلا وهناك ناس يتوجهون إليه ، ولا شك أن هذه الهداية من أشرف أنواع الهدايات.

وكل هذا ببركة دعوة إبراهيم صلوات الله عليه «رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ، رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ».

(٣) (فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ) أي فيه دلائل واضحات ، أحدها مقام إبراهيم ـ موضع قيامه للصلاة والعبادة ـ وقد عرف ذلك العرب وغيرهم بالنقل المتواتر.

وإبراهيم أبو الأنبياء الذين بقي في الأرض أثرهم ، وجعلت النبوة والملك فيهم ، فأىّ دليل أبين من هذا على كون ذلك البيت من أول بيوت العبادة المعروفة؟

(٤) (وَمَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً) أي وأمن من دخله ، والعرب جميعا قد اتفقوا على احترامه وتعظيمه ، فمن دخله أمن على نفسه من الاعتداء والإيذاء ، وأمن أن يسفك دمه أو تستباح حرماته مادام فيه ، وقد مضوا على ذلك الأجيال الطوال في الجاهلية على كثرة ما بينهم من الأحقاد والضغائن ، واختلاف المنازع والأهواء ، وقد أقر الإسلام هذا ، وكل ذلك بفضل دعوة إبراهيم عليه السلام «رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً».

وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لو ظفرت فيه بقاتل الخطاب ما مسسته حتى يخرج منه. ومن ثم قال أبو حنيفة رحمه الله : من وجب قتله في الحلّ بقصاص أو ردّة أو زنا فالتجأ إلى الحرم لم يتعرّض له ، إلا أنه لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ولا يبايع حتى يضطر إلى الخروج منه.

وفتح مكة بالسيف كان لضرورة تطهير البيت من الشرك وتخصيصه للعبادة ، فقد حلت للنبى صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار لم تحل لأحد قبله ، ولن تحل لأحد بعده كما جاء في الحديث

٨

على أن حل مكة وما يتبعها من أرباضها للنبى صلى الله عليه وسلم ساعة من نهار أمر زائد على أمن البيت ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يستحلّ البيت ساعة ولا مادونها ، بل كان مناديه ينادى : من دخل المسجد الحرام فهو آمن ، ومن دخل داره وأغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل دار أبى سفيان فهو آمن.

وقد أخبر أبو سفيان النبي صلى الله عليه وسلم بقول سعد بن عبادة الأنصاري حامل اللواء له في الطريق : اليوم يوم الملحمة ، اليوم تستحل الكعبة ، فقال صلى الله عليه وسلم «كذب سعد ، هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة ، ويوم تكسى فيه الكعبة»

وما فعله الحجاج من رمى البيت بالمنجنيق ، فهو فعل السياسة التي قد تحمل صاحبها على مخالفة ما يعتقد حرمته ، ويقع به في الظلم والإلحاد ، إذ هو وجنده لم يكونوا معتقدين حلّ ما فعلوا.

(وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً) أي ويجب الحج على المستطيع من هذه الأمة ، وفي هذا تعظيم للبيت أيّما تعظيم ، وما زال الناس من عهد إبراهيم إلى عهد محمد صلوات الله عليهما يحجون البيت عملا بسنة إبراهيم ، جروا على هذا جيلا بعد جيل لم يمنعهم من ذلك شركهم ولا عبادتهم للأوثان والأصنام ، فهى آية متواترة على نسبة هذا البيت إلى ابراهيم.

واستطاعة السبيل إلى الشيء إمكان الوصول إليه كما قال تعالى : «فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ» وقال : «ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ» وتختلف الاستطاعة باختلاف الأشخاص ، واختلاف البعد عن البيت والقرب منه ، وكل مكلف أدرى بنفسه في ذلك.

وقد اختلف في تفسيرها ، فقال بعضهم إنها القدرة على الزاد والراحلة مع أمن الطريق. وقال بعض : إنها صحة البدن والقدرة على المشي ، وقال آخرون هى صحة البدن وزوال الخوف من عدو أو سبع مع القدرة على المال الذي يشترى منه الزاد والراحلة ، وقضاء جميع الديون والودائع ودفع النفقة التي تكفى لمن تجب عليه نفقته حتى العودة من الحج.

٩

وخلاصة ذلك ـ إن هذا الإيجاب مشروط بالاستطاعة وهى تختلف باختلاف الأشخاص والأزمان.

(وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ) المراد بالكفر هنا جحود كون هذا البيت أول بيت وضعه إبراهيم للعبادة بعد أن قامت الأدلة على ذلك ، وعدم الإذعان لما فرضه الله من حجه والتوجه إليه بالعبادة.

وفسر بعضهم الكفر بترك الحج فكأنه قال ومن لم يحج فإن الله غنى عن العالمين ، وعبر عنه بذلك تغليظا وتشديدا على تاركه.

فقد روى أنه صلى الله عليه وسلم قال : «من مات ولم يحج فليمت إن شاء يهوديا أو نصرانيا» وروى عن على أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في خطبة له : «أيها الناس ، إن الله فرض الحج على من استطاع إليه سبيلا ، ومن لم يفعل فليمت على أي حال شاء يهوديّا أو نصرانيا أو مجوسيا» وأثر عن عمر أنه قال : لقد هممت أن أبعث رجالا إلى هذه الأمصار فلينظروا كل من كان له جدة (سعة) ولم يحج ، فيضربوا عليهم الجزية ، ماهم بمسلمين ، ماهم بمسلمين.

ولهذه الأدلة قال كثير من الفقهاء : إن الحج واجب على الفور ، وقال آخرون : إنه واجب على التراخي.

وهذه الجملة تأكيد لما سبق من الوجوب ، فإنه بدأ الآية بأن قال : ولله على الناس ، فأفاد أن ذلك ما كان لجرّ نفع ولا لدفع ضر ، بل كان للعزة الإلهية ، ولكبرياء الربوبية ، وختمها بهذه الجملة المؤكدة لذلك ، ببيان أن فاعل ذلك مستأهل للنعمة برضا الله عنه ، وأن تاركه يسخط عليه سخطا عظيما.

وحسب البيت شرفا أنه حرم آمن ومثابة للناس ومبارك وهدى للعالمين ، وما جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرمته وفضله ، من أنه لا يسفك فيه دم ، ولا يعضد شجره ، ولا يختلى خلاه (لا يقطع نباته) وأن قصده مكفر للذنوب ماح للخطايا ، وأن العبادة التي تؤدى فيه لا تؤدى في غيره ، وأن استلام الحجر

١٠

الأسود فيه رمز إلى مبايعة الله تعالى على إقامة دينه والإخلاص له ، وأن الصلاة فيه بمائة ألف ضعف في غيره.

وكتب الأحاديث والسيرة مليئة ببيان فضله ، ومشيدة بذكره.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (٩٨) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (٩٩))

تفسير المفردات

آيات الله : هى الدلائل الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم والشهيد : العالم بالشيء المطلع عليه ، وتصدون ، من صددته أصده صدا : أي صرفته ، والسبيل : الطريق يذكر ويؤنث ، وتبغونها من بغاه يبغيه : أي طلبه ، والعوج (بكسر العين) الميل عن الاستواء في الأمور المعنوية كالدين والقول (وبفتحها) فى المحسوسات كالحائط والقناة والشجرة ؛ والمراد به هنا الزيغ والتحريف.

المعنى الجملي

بعد أن أورد سبحانه الأدلة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم بما جاء في التوراة والإنجيل من البشارة بمقدمه ، ثم ذكر شبهات القوم وكرّ عليها بالحجة ، ونقضها بما ليس بعده زيادة لمستزيد ـ أردف ذلك خطابهم بالكلام اللين ، وبدأه بعنوان كونهم أهل الكتاب مما يوجب الإيمان به وبما يصدقه ؛ مبالغة في تقبيح حالهم في تكذيبهم له ، إذ هم قد فعلوا ذلك على علم.

أخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم قال : مرّ شاس بن قيس وكان عظيم الكفر شديد الطعن والحرد على المسلمين ـ على نفر من أصحاب رسول الله

١١

صلى الله عليه وسلم من الأوس والخزرج في مجلس لهم يتحدثون فيه ، فغاظه ما رأى من جماعهم وألفتهم وصلاح ذات بينهم على الإسلام بعد الذي كان منهم من العداوة فى الجاهلية فقال : قد اجتمع ملأ بنى قيلة (الأوس والخزرج) بهذه البلاد ، والله مالنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار : فأمر فتى شابا من اليهود ـ وكان معه ـ فقال اعمد إليهم فاجلس معهم وذكّرهم يوم بعاث ، وأنشدهم بعض ما كانوا تقاولوا فيه من الأشعار ففعل (وكان يوم بعاث يوما اقتتلت فيه الأوس والخزرج ، وكان الظفر للأوس على الخزرج) فقيل ، فتكلم القوم عند ذلك ، وتنازعوا وتفاخروا حتى تواثب رجلان من الحي على الركب (أوس بن قيظى أحد بنى حارثة بن الحارث من الأوس ، وجبّار بن صخر أحد بنى سلمة من الخزرج) فتقاولا ثم قال أحدهما لصاحبه : إن شئتم والله رددناها جذعة (شابة فتية ، يعنون الحرب) وغضب الفريقان وقالوا قد فعلنا ، السلاح السلاح ، موعدكم الظاهرة (هى الحرّة ، وهى أرض مستوية بظاهر المدينة) فخرجوا إليها ، وتجاوب الناس ، فانضمت الأوس بعضها إلى بعض ، والخزرج بعضها إلى بعض ، على دعواهم التي كانوا عليها فى الجاهلية ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتى جاءهم فقال : يا معشر المسلمين ، الله الله ، أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم بعد إذ هداكم الله إلى الإسلام وأكرمكم به ، وقطع به عنكم أمر الجاهلية ، واستنقذكم به من الكفر ، وألف بين قلوبكم ترجعون إلى ما كنتم عليه كفارا؟.

فعرف القوم أنها نزغة من الشيطان ، وكيد من عدوهم ، فألقوا السلاح من أيديهم ، وبكوا وعانق الرجال من الأوس والخزرج بعضهم بعضا ، ثم انصرفوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سامعين مطيعين ، قد أطفأ الله عنهم كيد عدو الله شاس بن قيس وما صنع.

وأنزل الله فيه (يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ) إلى آخر الآيتين

١٢

السابقتين ، وأنزل عز وجل في أوس بن قيظى وجبار بن صخر ومن كان معهما (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ ـ إلى قوله ـ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ).

الإيضاح

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللهِ وَاللهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ؟) أي لأى سبب تكفرون بتلك الآيات والله مطلع على أعمالكم ، لا تخفى عليه خافية من أمركم وهو مجازيكم بها؟ وذلك مما يوجب عليكم ألا تجترئوا على الكفر بآياته.

ولا يخفى ما في هذا من التوبيخ والإيماء إلى تعجيزهم عن إقامة العذر على كفرهم ، كأنه قيل هاتوا عذركم إن كان ذلك في مكنتكم.

(قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَداءُ؟) أي لأىّ سبب تصرفون من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم واتبعه عن الإيمان الذي يرقى عقل المؤمن بما فيه من طلب النظر في الكون ، ويرقى روحه بتزكيتها بالأخلاق الطيبة ، والأعمال الصالحة ، وتكذبون بذلك كفرا وعنادا ، وكبرا وحسدا ، وتلقون الشبهات الباطلة في قلوب الضعفاء من المسلمين بغيا وكيدا للنبى صلى الله عليه وسلم ، تبغون لأهل دين الله ولمن هو على سبيل الحق عوجا وضلالا ، وزيغا عن الاستقامة على الهدى والمحجة ، وأنتم عارفون بتقدم البشارة به ، عالمون بصدق نبوته ، ومن كان كذلك فلا يليق به الإصرار على الباطل والضلال والإضلال.

(وَمَا اللهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ) من هذا الصدّ وغيره من الأعمال ، فمجازيكم عليه ، وغير خاف ما في هذا من تهديد ووعيد ، كما يقول الرجل لعبده وقد أنكر عليه اعوجاج أخلاقه : لا يخفى علىّ ما أنت عليه ، وما أنا بغافل عن أمرك.

وإنما ختم هذه الآية بنفي الغفلة ، لأن صدهم عن الإسلام كان بضرب من المكر والكيد ووجوه الحيل ، وختم الآية السابقة بقوله والله شهيد ؛ لأن العمل الذي فيها وهو الكفر ظاهر مشهود.

١٣

وكرر الخطاب بيا أهل الكتاب ، لأن المقصد التوبيخ على ألطف الوجوه ، وهذا أقرب إلى التلطف في صرفهم عن طريق الضلال والإضلال ، وأدل على النصح لهم ، والإشفاق عليهم.

والآية الأولى لكفهم عن الضلال ، والثانية لكفهم عن الإضلال.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (١٠٠) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٠١) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (١٠٢) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (١٠٣))

شرح المفردات

اعتصم بالشيء : تمسك به فمنع نفسه من الوقوع في الهلاك كما قال تعالى حكاية عن زليخا «وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ» والتقاة : التقوى كالتؤدة من اتأد ، والحق : من حق الشيء ؛ بمعنى وجب وثبت ، والأصل اتقاء حقا ، وحبل الله : كتابه من اعتصم به كان مستمسكا بأقوى سبب ، متحرزا من السقوط في قعر جهنم ، وشفا الحفرة : طرفها ، وبه يضرب المثل في القرب من الهلاك ، فيقال أشفى على الهلاك ، أي وصل إلى شفاه.

١٤

المعنى الجملي

بعد أن وبخ سبحانه أهل الكتاب على كفرهم وصدهم عن سبيل الله ، وأقام الحجج عليهم وأزال شبهاتهم ـ خاطب المؤمنين محذّرا لهم من إغوائهم وإضلالهم : مبينا لهم أن مثل هؤلاء لا ينبغى أن يطاعوا ، ولا أن يسمع لهم قول ، فهم دعاة الفتنة وحمالو حطبها ، ثم أمرهم بعد ذلك بتقواه والتمسك بحبله المتين ، ثم بتذكر نعمته عليهم ؛ وفعل الإنسان إما عن رهبة وإما عن رغبة ، والرهبة مقدمة على الرغبة ، وقد أشار إلى الأولى بقوله : (اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) ، وإلى الثانية بقوله : (وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ).

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ) أي إنكم أيها المؤمنون إذا أصغيتم إلى ما يلقيه إليكم هؤلاء اليهود مما يثير الفتنة ، ولنتم لهم فى القول ، واستجبتم لما يدعونكم إليه ـ ردوكم إلى الكفر بعد الإيمان كما قال تعالى : «وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ» والكفر يوجب الهلاك فى الدنيا والدين ؛ أما فى الدنيا فبوقوع العداوة والبغضاء ، وهيجان الفتنة المؤدى إلى سفك الدماء ، وأما فى الدين فلا حاجة إلى بيانه.

(وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ؟) أي ومن أين يتطرق إليكم الكفر ، والحال أن القرآن يتلى عليكم على لسان رسوله غضا طريّا ، وبين أظهركم ، رسول الله صلى الله عليه وسلم ينبهكم ويعظكم ، ويبين لكم ما أنزل إليكم ، ولكم فى سنته خير أسوة تغذّى إيمانكم ، وتنير قلوبكم ، فلا ينبغى لمثلكم أن تلتفتوا إلى قولهم ، بل الواجب عليكم أن ترجعوا عند كل شبهة تسمعونها من

١٥

هؤلاء اليهود إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يكشف عنها ، ويزيل ما علق بقلوبكم منها.

(وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) أي ومن يستمسك بدين الله وكتابه ورسوله ، فقد حصل له الهدى إلى الصراط المستقيم لا محالة ، كما تقول إذا جئت فلانا فقد أفلحت ، إذ هو حينئذ لا تخفى عليه المهالك ، ولا تروج لديه الشبهات.

قال قتادة : ذكر فى الآية أمرين يمنعان من الوقوع فى الكفر : أحدهما تلاوة كتاب الله ، وثانيهما كون الرسول فيهم ، أما الرسول صلى الله عليه وسلم فقد مضى إلى رحمة الله ورضوانه ، وأما الكتاب فباق على وجه الدهر.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ) أي يجب عليكم تقواه حقا ، بأن تقوموا بالواجبات ، وتجتنبوا المنهيات.

ونحو الآية قوله : «فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ» أي بالغوا فى تقواه جهد المستطاع.

وعن ابن مسعود أنه قال : تقوى الله أن يطاع فلا يعصى ، ويشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى.

وعن ابن عباس أنه قال : هى أن يجاهدوا فى الله حق جهاده ، ولا تأخذهم فى الله لومة لائم ، ويقوموا لله بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأمهاتهم.

(وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) أي ولا تموتن إلا ونفوسكم مخلصة لله ، لا تجعلون شركة لسواه أي لا تكوننّ على حال سوى الإسلام إذا أدرككم الموت.

والخلاصة ـ استمروا على الإسلام ، وحافظوا على أداء الواجبات ، وترك المنهيات حتى الموت.

وقد جاء هذا فى مقابلة قوله : (يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ).

(وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا) أي تمسكوا بكتاب الله وعهده الذي عهد به إليكم ، وفيه أمركم بالألفة والاجتماع على طاعته وطاعة رسوله ، والانتهاء إلى أمره.

١٦

وقد جعل الدين فى سلطانه على النفوس ، وتصرفه فيها بحسب نواميسه وأصوله ، وما يترتب على ذلك من جريان الأعمال بحسب هديه ـ كأنه حبل متين يأخذ به الآخذ فيأمن السقوط فى الهاوية ، كأنّ الآخذين به قوم على نشز أي مرتفع من الأرض يخشى عليهم السقوط منه ، فيأخذون بحبل موثّق يجمعون به قوتهم ، فينجون من السقوط.

وفى الحديث «القرآن حبل الله المتين ، لا تنقضى عجائبه ، ولا يخلق على كثرة الردّ ، من قال به صدق ، ومن عمل به رشد ، ومن اعتصم به هدى إلى صراط مستقيم»

وجاء فى معنى الآية قوله تعالى : «وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ» فحبل الله فى هذه الآية هو صراطه المستقيم ، كما أن أنواع التفرق هى السبل التي نهى عنها فيها.

ومن السبل المفرقة فى الدين إحداث الشيع والمذاهب كما قال : «إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ» ومنها العصبية الجنسية كما بين الأوس والخزرج كما تقدم ذلك ، وقد روى أبو داود عن مطعم بن جبير (ليس منّا من دعا إلى عصبية).

وقد سار على هذا النهج أهل أوربا فى العصر الحديث فاعتصموا بالعصبية الجنسية كما كانت العرب تفعل ذلك فى الجاهلية وسرى ذلك إلى بعض البلاد الإسلامية ، فحاول أهلها أن يجعلوا فى المسلمين جنسيات وطنية. فدعا الترك إلى العصبية التركية ، والمصريون إلى الجنسية المصرية ، والعراقيون إلى الجنسية العراقية ، ظنا منهم أن ذلك مما ينهض بالوطن ، وليس الأمر كما يظنون ، فإن الوطن لا يرقى إلا باتحاد كل المقيمين فيه لإحيائه ، لا فى تفرقهم ووقوع الشحناء والبغضاء بينهم ، فالدين يأمر باتحاد كل قوم تضمهم أرض واحدة ، وإن اختلفت أديانهم وأجناسهم ، ويأمر بالاعتصام بحبل الله المتين بين جميع الأقوام.

(وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ

١٧

إِخْواناً) أي واذكروا أيها المؤمنون النعمة التي أنعم الله عليكم بها حين كنتم أعداء يقتل بعضكم بعضا ، ويأكل قويكم ضعيفكم ، فجاء الإسلام فألف بينكم وجمع جمعكم ، وجعلكم إخوانا ، حتى قاسم الأنصار المهاجرين أموالهم وديارهم ، وكان بعضهم يؤثر غيره على نفسه وهو فى خصاصة وحاجة إليه ، وأطفأ الحروب التي تطاولت بين الأوس والخزرج مائة وعشرين سنة ، وأنقذهم مما هو أدهى وأمر وهو عذاب الآخرة.

(وَكُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها) أي وكنتم بوثنيتكم وشرككم بالله ، كأنكم على طرف حفرة يوشك أن ينهار بكم فى النار ، فليس بين الشرك والهلاك فى النار إلا الموت ، والموت أقرب غائب ينتظر ، فأنقذكم الإسلام منها.

وفى هذه الآيات جماع المنن التي أنعم بها عليهم ، فقد أخرجهم بالإسلام من الشرك ومخازيه ، وألف بين قلوبهم حتى صاروا سادة البشر ، حين كانوا يعملون بكتابه وأنقذهم بذلك من النار ، فسعدوا بالحسنيين.

فانظر إلى آيات الله ، ودلائل قدرته ، كيف حوّل قوما متخاذلين تملأ قلوبهم الإحن والعداوات ، ويتربص كل منهما بالآخر ريب المنون ـ إلى جماعات متصافية القلوب ، مليئة بالحب والإخلاص ، وجهتهم جميعا واحدة ، هى حكم الله ورفعة دينه ، ونشره بين البشر.

(كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) أي كما بين لكم ربكم فى هذه الآيات ما يضمره لكم اليهود من غشكم ، وبين لكم ما أمركم به ، وما نهاكم عنه ، وبين لكم الحال التي كنتم عليها فى الجاهلية ، وما صرتم إليه فى الإسلام ، ليعرفكم فى كل ذلك مواقع نعمه ـ كذلك يبين سائر حججه فى تنزيله على لسان رسوله ، ليعدّكم للاهتداء الدائم ، حتى لا تعودوا إلى عمل الجاهلية من التفرق والعدوان.

والاختلاف الذي يقع بين البشر ضربان :

(١) ضرب لا يسلم منه الناس ، ولا يمكن الاحتراس منه ، وهو الخلاف

١٨

فى الرأى والفهم ، وهو مما فطر عليه البشر ، وإلى ذلك الإشارة بقوله : «وَلا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ» إذ أن العقول والأفهام ليست متساوية ، فالأسرة الواحدة تختلف أفهام أفرادها فى الشيء الواحد ، كما يختلف حبهم له ، وميلهم إليه. وهذا ضرب لا ضرر فيه.

(٢) ضرب جدّت الشرائع فى هدمه ومحوه ، وهو تحكيم الرأى والهوى فى أمور الدين وشئون الحياة.

وهاك مثلا يتضح لك به ما تقدم ـ قد اختلف الأئمة المجتهدون فى فهم كثير من نصوص الدين من كتاب وسنة ، وما كان فى ذلك من حرج ، فما لك نشأ فى المدينة ورأى ما كان عليه أهلها من صلاح وسلامة قلب ، فقال : إن عمل أهلها أصل من أصول الدين ، لأنهم لقرب عهدهم من النبي صلى الله عليه وسلم لا يتفقون على غير ما مضت عليه السنة فى العمل ، وأبو حنيفة نشأ فى العراق وأهلها أهل شقاق ونفاق ، فلم يجعل عملهم ولا عمل غيرهم حجة ، ولو اجتمع هذان الإمامان لعذر كل منهما صاحبه فيما رأى ، لأنه بذل جهده فى بيان وجه الحق مع الإخلاص لله ، وإرادة الخير والطاعة لأمره ، ولكن جاءت بعد هؤلاء فرق من المسلمين قلدتهم فيما نقل عنهم ، ولم تقلدهم فى سيرتهم ، وحكموا الرأى والهوى فى الدين ، وتفرقوا شيعا ، كل فريق يتعصب لرأى فيما وقع من أوجه الخلاف ، ويعادى المخالف له حتى حدث من ذلك ما نرى ، وما ذاك إلا لأن الحق لم يكن هو مطلب المتعصبين ، فليس من المعقول أن أبا حنيفة أصاب فى كل ما خالف فيه غيره من الأئمة ، وأن الشافعي ومالكا أخطئا فى جميع ما خالفا فيه أبا حنيفة.

وإذا فكيف يمضى نحو أربعة عشر قرنا ولا يستبين لفقهاء مذهبه وجه الصواب فى بعض المسائل الخلافية ، فيرجحون بعض آراء المذاهب الأخرى على مذهبه فى تلك المسائل ، ويرجعون إلى الصواب فيها.

١٩

وهذا الضرب من الخلاف وهو تحكيم الرأى والهوى كان مصدر شقاء أمم كثيرة فهوت بعد رفعتها ؛ وذلت بعد عزتها ، وضعفت بعد قوتها.

وقد حدث مثل هذا فى الفرق الإسلامية فى علم الكلام ، فإن أبدى أحدهم رأيا فى مسألة بادر مخالفه إلى الرد عليه ، وتفنيد مذهبه وتضليله ، ويقابله الآخر بمثل صنيعه ، ولو حاول كل منهما محادثة الآخر ، والاطلاع على أدلته ، ووزنها بميزان الإنصاف والحق لما حدث مثل هذا الخلاف ، بل افتنع كل واحد منهما بما رأى مخالفه.

والمسلم ما دام محافظا على نصوص دينه لا يخل بواحد منها ، مع احترامه لرسوله المفسر لكتابه لا يخرج من جماعة المسلمين لمخالفته سواه.

فإذا تحكم الرأى والهوى ولعن بعضهم بعضا ، وكفر بعضهم بعضا ، فقد باء بها من قالها كما ورد فى الحديث.

وكذلك الحال فى الاختلاف فى المعاملة فى المسائل السياسية والدينية ، لا ينبغى أن يكون مفرقا بين جماعة المؤمنين ، بل عليهم أن يرجعوا فى النزاع إلى حكم الله وآراء أولى العلم منهم ، وبذلك نتقى غائلة الخلاف ، ونكون فى وفاق ، ونصير ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه.

(وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (١٠٤) وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (١٠٥) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦)

٢٠