تفسير المراغي - ج ٢٢

أحمد مصطفى المراغي

١
٢

الجزء الثاني والعشرون

بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

(وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (٣١))

شرح المفردات

يقنت : أي يخشع ويخضع ، وأعتدنا : هيأنا وأعددنا ، كريما : أي سالما من الآفات والعيوب.

المعنى الجملي

بعد أن ذكر زيادة عقابهن إذا أتين بفاحشة مبينة ، أتبعه بذكر ثوابهن إذا هن عملن صالح الأعمال ـ مع ما هيأه لهن من الرزق الكريم فى الدنيا والآخرة ، ففى الدنيا يوفّقن إلى إنفاق ما يرزقن على وجه يكون لهن فيه عظيم الأجر والثواب ، ولا يخشين من أجله العقاب ، وفى الآخرة يرزقن ما لا يحدّ ولا يوصف من غير نكد ولا كدر.

٣

الإيضاح

(وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ) أي ومن تطع منكنّ الله ورسوله وتعمل صالح الأعمال نضاعف لها الأجر والمثوبة ، لكرامتها علينا بوجودها فى بيت النبوة ومنزل الوحى ونور الحكمة وعين الهداية.

(وَأَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً) أي وزيادة على هذا أعددنا لها الكرامة فى الدنيا والآخرة ، أما فى الدنيا فلأنها تكون مرموقة بعين الغبطة لدى نساء العالمين ، منظورا إليها نظرة المهابة والإجلال ، وأما فى الآخرة فلها رفيع الدرجات ، وعظيم المنازل عنده تعالى فى جنات النعيم.

(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (٣٢) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (٣٣) وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (٣٤))

تفسير المفردات

أصل أحد وحد بمعنى الواحد وهو فى النفي عام للمذكر والمؤنث ، والواحد والكثير : أي لستنّ كجماعة واحدة من جماعات النساء ، فإذا استقرئت أمّة النساء جماعة جماعة لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن فى الفضل والمسابقة ، والاتقاء بمعنى الاستقبال ، وهو بهذا المعنى معروف فى اللغة قال النابغة :

سقط النّصيف ولم ترد إسقاطه

فتناولته واتّقتنا باليد

٤

أي استقبلتنا باليد قاله أبو حيان فى البحر ، ومنه قوله تعالى : «أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ» : فلا تخضعن بالقول : أي فلا تجبن بقول خاضع ليّن ، أي إذا استقبلتن أحدا فلا تلنّ الكلام ولا ترققنه ، مرض : أي ريبة وفجور ، قولا معروفا : أي حسنا بعيدا من الريبة غير مطمع لأحد ، قرن : من قرّ يقرّ من باب علم وأصله اقررن دخله الحذف ، والتبرج : إبداء المرأة من محاسنها ما يجب عليها ستره ، والجاهلية الأولى :

هى الجاهلية القديمة جاهلية الكفر قبل الإسلام ، وهناك جاهلية أخرى هى جاهلية الفسوق فى الإسلام ، والرجس : فى الأصل الشيء القذر ؛ والمراد به هنا الإثم المدنّس للعرض ، واذكرن ما يتلى فى بيوتكن : أي وعظن الناس بما يتلى فى بيوتكنّ ، وآيات الله : هى القرآن ، والحكمة : هى السنة وحديث الرسول.

المعنى الجملي

بعد أن أذكر ما اختص به أمهات المؤمنين من مضاعفة العذاب والثواب ، أردف ذلك بيان أن لهن مكانة على بقية النساء ، تم نهاهن عن رخامة الصوت ولين الكلام إذا هن استقبلن أحدا حتى لا يطمع فيهن من فى قلبه نفاق ، ثم أمرهن بالقرار فى بيوتهن ونها هن عن إظهار محاسنهن كما يفعل ذلك أهل الجاهلية الأولى ، ثم أمرهنّ بأهمّ أركان الدين ، وهو إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وطاعة الله ورسوله فيما يأمر وينهى ، لأنه تعالى أذهب الآثام عن أهل البيت وطهرهم تطهيرا ، ثم أمرهن بتعليم غيرهن القرآن وما يسمعنه من النبي صلى الله عليه وسلم من السنة.

الإيضاح

(يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ) أي يا نساء النبي إذا استقصيت النساء جماعة لم يوجد منهن جماعة واحدة تساويكن فى الفضل والكرامة.

والخلاصة ـ إنه لا يشبهكن أحد من النساء ولا يلحقكنّ فى الفضيلة والمنزلة.

٥

(إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً) أي إذا استقبلتن أحدا من الرجال فلا ترقّقن الكلام فيطمع فى الخيانة من فى قلبه فساد وريبة من فسق ونفاق ، وقلن قولا بعيدا عن الريبة غير مطمع لأحد.

وتفسير الاتقاء بهذا المعنى أبلغ فى مدحهن ، إذ لم يعلق فضلهن على التقوى ، ولا نهيهن عن الخضوع بها إذ هن متقيات لله فى أنفسهن ، والتعليق يقتضى بظاهره أنهن لسن متحليات بالتقوى قاله فى البحر ، وقال فى الكشاف : إن المعنى إن أردتن التقوى ، أو إن كنتن متقيات ا ه ، يريد إن اتقيتن مخالفة حكم الله تعالى ورضا رسوله صلى الله عليه وسلم.

وإجمال هذا ـ خاطبن الأجانب بكلام لا ترخيم فيه للصوت ولا تخاطبنهم كما تخاطبن الأزواج.

ولما أمرهن بالقول المعروف أتبعه بذكر الفعل فقال :

(وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) أي الزمن بيوتكن ، فلا تخرجن لغير حاجة ، وهو أمر لهن ولسائر النساء ، أخرج الترمذي والبزّار عن ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : «إن المرأة عورة فإذا خرجت من بيتها استشرفها الشيطان ، وأقرب ما تكون من رحمة ربها وهى فى قعر بيتها».

(وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى) أي ولا تبدين زينتكن ومحاسنكن للرجال كما كان النساء يفعلن ذلك فى الجاهلية قبل الإسلام.

وبعد أن نهاهن عن الشر أمرهن بالخير فقال :

(وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكاةَ وَأَطِعْنَ اللهَ وَرَسُولَهُ) أي وأدّين الصلاة على الوجه القيّم المعتبر شرعا ، وأعطين زكاة أموالكن كما أمركن الله.

وخص هاتين العبادتين بالذكر لما لهما من كبير الآثار فى طهارة النفس وطهارة المال.

٦

وأطعن الله ورسوله فيما تأتين وما تذرن ، واجعلن نصب أعينكن اتباع الأوامر وترك النواهي.

ثم ذكر السبب فى هذه الأوامر والنواهي على وجه عام فقال :

(إِنَّما يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً) إنما يريد الله ليذهب عنكم السوء والفحشاء يا أهل بيت الرسول ويطهركم من دنس الفسق والفجور الذي يعلق بأرباب الذنوب والمعاصي.

وأهل بيته صلى الله عليه وسلم من كان ملازما له من الرجال والنساء والأزواج والإماء والأقارب ، وكلما كان المرء منهم أقرب وبالنبي أخصّ وألزم كان بالارادة أحق وأجدر. وعن ابن عباس قال : «شهدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم تسعة أشهر يأتى كل يوم باب على بن أبى طالب عند وقت كل صلاة فيقول : «السلام عليكم ورحمة الله ، إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ، الصلاة يرحمكم الله ، كل يوم خمس مرات».

ثم بين ما أنعم به عليهن من أن بيوتهن مهابط الوحى بقوله :

(وَاذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللهِ وَالْحِكْمَةِ) أي واذكرن نعمة الله عليكن ، بأن جعلكن فى بيوت تتلى فيها آيات الله وما ينزل على الرسول من أحكام الدين ولم ينزل به قرآن ، فاحمدن الله على ذلك واشكرنه على جزيل فضله عليكن.

ولا يخفى ما فى هذا من الحث على الانتهاء والائتمار فيما كلّفنه ، كما لا يخفى ما فى تسمية ما نزل عليه من الشرائع بالحكمة ، إذ فيه الحكمة فى صلاح المجتمع فى معاشه ومعاده ، فمن استمسك به رشد ، ومن تركه ضلّ عن طريق الهدى ، وسلك سبيل الردى.

(إِنَّ اللهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً) أي إن الله كان ذا لطف بكنّ ؛ إذ جعلكن فى البيوت التي تتلى فيها آياته وشرائعه ، خبيرا بكنّ إذ اختار كن لرسوله أزواجا.

٧

(إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ وَالْقانِتِينَ وَالْقانِتاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِراتِ وَالْخاشِعِينَ وَالْخاشِعاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِماتِ وَالْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحافِظاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللهَ كَثِيراً وَالذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً (٣٥))

تفسير المفردات

الإسلام : الانقياد والخضوع لأمر الله ، والإيمان : التصديق بما جاء عن الله من أمر ونهى ، والقنوت : هو الطاعة فى سكون ، والصبر : تحمل المشاق على المكاره والعبادات والبعد عن المعاصي ، والخشوع : السكون والطمأنينة ، أعد الله لهم مغفرة : أي هيأ لهم مغفرة تمحو ذنوبهم ، وأجرا عظيما : أي نعيما عند ربهم يوم القيامة.

المعنى الجملي

بعد أن أمر سبحانه نساء نبيه صلى الله عليه وسلم بأشياء ونهاهن عن أخرى ، ذكر هنا ما أعد للمسلمين والمسلمات من الأجر والكرامة عنده فى الدار الآخرة. روى أحمد عن عبد الرحمن بن شيبة قال : «سمعت أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم تقول : قلت للنبى صلى الله عليه وسلم : ما لنا لا نذكر فى القرآن كما يذكر الرجال؟ قالت فلم يرعنى منه ذات يوم إلا نداؤه على المنبر ، وأنا أسرّح رأسى فلففت شعرى ثم خرجت إلى حجرة من حجرهن فجعلت سمعى عند الجريد فإذا هو يقول على المنبر يا أيها الناس إنّ الله يقول فى كتابه : (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِماتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِناتِ ـ إلى قوله : أَعَدَّ اللهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً)».

٨

الإيضاح

ذكر الله سبحانه الأوصاف التي يستحق بها عباده أن يمحو عنهم زلاتهم ويثيبهم بالنعيم المقيم عنده وهى :

(١) إسلام الظاهر بالانقياد لأحكام الدين فى القول والعمل.

(٢) إسلام الباطن بالتصديق التام والإذعان لما فرض الدين من الأحكام وهذا هو الإيمان.

(٣) القنوت وهو دوام العمل فى هدوء وطمأنينة كما قال : «أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَقائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ؟» وقال : «يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ».

فالإسلام والانقياد مرتبة تعقبها مرتبة الإذعان والتصديق وينشأ عن مجموعهما القنوت والخشوع.

(٤) الصدق فى الأقوال والأعمال ، وهو علامة الإيمان كما أن الكذب أمارة النفاق ، فمن صدق نجا ، وفى الحديث «عليكم بالصدق فإنه يهدى إلى البر ، وإن البر يهدى إلى الجنة ، وإياكم والكذب ، فإن الكذب يهدى إلى الفجور ، وإن الفجور يهدى إلى النار» (٥) الصبر على المكاره وتحمل المشاقّ فى أداء العبادات وترك الشهوات.

(٦) الخشوع والتواضع لله تعالى بالقلب والجوارح ابتغاء ثوابه وخوفا من عقابه كما جاء فى الحديث «اعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (٧) التصدق بالمال والإحسان إلى المحاويج الذين لا كسب لهم ولا كاسب ، وقد ثبت فى الصحيح «سبعة يظلهم الله فى ظله يوم لا ظل إلا ظله .. ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه» وفى حديث آخر «والصدقة تطفئ الخطية كما يطفىء الماء النار»

٩

(٨) الصوم فإنه نعم العون على كسر الشهوة كما روى ابن ماجه من قوله صلى الله عليه وسلم «والصوم زكاة البدن» أي إنه يزكّيه ويطهره من الأخلاط الرديئة طبعا وشرعا ، وجاء عنه صلى الله عليه وسلم «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء».

(٩) حفظ الفروج عن المحارم والآثام كما جاء فى الآية الأخرى : «وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ، فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ».

(١٠) ذكر الله ذكرا كثيرا بالألسنة والقلوب ، روى عن مجاهد أنه قال : لا يكتب الرجل من الذاكرين الله كثيرا حتى يذكر الله تعالى قائما وقاعدا ومضطجعا.

وأخرج النسائي وابن ماجه وأبو داود وغيرهم عن أبى سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل فصلّيا ركعتين كانا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيرا والذاكرات» : روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : «سبق المفردون ، قالوا وما المفردون؟ قال الذاكرون الله كثيرا والذاكرات».

وروى أحمد عن سهل بن معاذا الجهني عن أبيه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : «إن رجلا سأله فقال : أىّ المجاهدين أعظم أجرا يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم أكثرهم لله تعالى ذكرا ، قال فأىّ الصائمين أكثر أجرا؟ قال صلى الله عليه وسلم أكثرهم لله عز وجل ذكرا ، ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة كل ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثرهم لله ذكرا ، فقال أبو بكر لعمر رضى الله عنهما : ذهب الذاكرون بكل خير ، فقال صلى الله عليه وسلم : أجل».

هؤلاء الذين جمعوا هذه الأوصاف يمحو عنهم ذنوبهم ويؤتيهم الأجر العظيم فى جنات النعيم.

١٠

قصة زينب بنت جحش

زواجها لزيد بن حارثة مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، طلاقها منه ، زواجها لرسول الله صلى الله عليه وسلم لإبطال عادة جاهلية ، وهى إعطاء المتبنّى حكم الابن فى حرمة زواج امرأته بعد طلاقها.

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (٣٦) وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً (٣٧) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً (٣٨) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللهَ وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً (٣٩) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً (٤٠))

تفسير المفردات

تقول ما كان لفلان أن يفعل كذا : أي لا ينبغى له ، والخيرة : الاختيار ، مبينا :أي ظاهر الانحراف عن سنن الصواب ، أنعم الله عليه : أي بالإسلام ، وأنعمت عليه :

١١

أي بالعتق ونيل الحرية ، واتق الله : أي فى أمرها ولا تطلقها ضرارا ، وتخشى الناس : أي تخاف من اعتراضهم وقولهم إن محمدا تزوج امرأة ابنه ، والوطر : الحاجة ؛ والمراد أنه لم يبق له بها حاجة الزوجية فطلقها ، زوجنا كها : أي جعلناها زوجة لك ، والحرج : المشقة ، فرض له : أي قدّر من قولهم فرض للجند كذا أي قدر لهم ، سنة الله : أي سن الله ذلك سنة ، خلوا : أي مضوا ، قدرا مقدورا : أي مقضيا وكائنا لا بد منه

المعنى الجملي

بعد أن أمر الله نبيه أن يخير زوجاته بين البقاء معه والتسريح سراحا جميلا وفهم من هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد ضررا لغيره ، فمن كان ميله إلى شىء مكّنه منه وترك حظ نفسه لحظ غيره ـ ذكر هنا أن زمام الاختيار ليس بيد الإنسان فى كل شىء كما أعطى ذلك للزوجات ، بل هناك أمور لا اختيار لمؤمن ولا مؤمنة فيها وهى ما حكم الله فيه ، فما أمر به فهو المتّبع ، وما أراد النبي صلى الله عليه وسلم فهو الحق ، ومن خالفهما فقد ضل ضلالا مبينا.

وقد نزلت هذه الآيات فى زينب بنت جحش بنت عمة النبي صلى الله عليه وسلم أميمة بنت عبد المطلب وقد خطبها رسول الله صلى الله عليه وسلم على مولاه زيد بن حارثة فأبت وأبى أخوها عبد الله بن جحش فنزل : وما كان لمؤمن ولا مؤمنة إلخ فلما نزلت قالا رضينا يا رسول الله فأنكحها إياه وساق عنه إليها مهرها ستين درهما وخمارا وملحفة ودرعا وإزارا وخمسين مدّا من طعام وثلاثين صاعا من تمر.

والحكمة فى هذا الزواج الذي لم يبال فيه النبي بإباء زينب ورغبتها عن زيد ، أن التصاق الأدعياء بالبيوت واتصالهم بأنسابها كان أمرا تدين به العرب وتعده أصلا ترجع إليه فى الحسب والشرف ، وكانوا يعطون ، الدعىّ جميع حقوق الأبن وجرون عليه الأحكام التي يعطونها للابن حتى الميراث وحرمة النسب ـ فأراد الله

١٢

محو ذلك بالإسلام حتى لا يعرف إلا النسب الصريح ومن ثم قال فى أول السورة «وما جعل أدعياء كم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحقّ وهو يهدى السّبيل. ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله» وبهذا حرم على المسلمين أن ينسبوا الدعىّ إلى من تبناه ، وأن يكون للمتبنّى إلا حق المولى والأخ فى الدين وحظر عليهم أن يقتطعوا له من حقوق الابن لا قليلا ولا كثيرا.

وما رسخ فى النفوس بحكم العادة لا يمكن التخلص منه إلا بإرادة قوية تسخر بسلطانها ، ولا تجعل لها حكما فى الأعمال إذا كانت المصلحة فى خلاف ذلك ، ومن ثم ألهم الله رسوله أن يلغى هذا الحكم بالعمل كما ألغى بالقول فى أحد عتقاه. ومن ثمّ أرغم بنت عمته لتتزوج بزيد وهو متبناه ليكون هذا الزواج مقدمة لتشريع إلهى جديد.

ذلك أنه بعد أن تزوجها زيد شمخت بأنفها عليه وجعلت تفخر عليه بنسبها ، فاشتكى منها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم المرة بعد المرة وهو عليه السلام يغلبه الحياء فى تنفيذ حكم الله ويقول لزيد : أمسك عليك زوجك واتق الله ، إلى أن غلب حكم الله وسمح لزيد بطلاقها ، ثم تزوجها بعد ذلك ليمزّق حجاب تلك العادة كما قال : «لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً» ثم أكد هذا بقوله : «ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً»

الإيضاح

(وَما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) أي ليس لمؤمن ولا مؤمنة إذا قضى الله ورسوله قضاء أن يتخيروا من أمرهم غير الذي قضى فيهم ويخالفوا أمر الله ورسوله وقضاءهما ويعصياهما

١٣

والخلاصة ـ لا ينبغى لمؤمن ولا مؤمنة أن يختارا أمرا قضى الرسول بغيره ثم أكد ما سلف بقوله :

(وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً) أي ومن يعص الله ورسوله فيما امرا ونهيا فقد جار عن قصد السبيل وسلك غير طريق الهدى والرشاد ، وقد علمت فيما سلف سبب نزول هذه الآية.

ونحو الآية قوله : «فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ».

ثمّ ذكّر الله نبيه بما وقع منه ليزيده تثبيتا على الحق ، وليدفع عنه ما حاك فى صدور ضعاف العقول ومرضى القلوب فقال :

(وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللهَ) أي واذكر أيها الرسول حين قولك لمولاك الذي أنعم الله عليه فوفّقه للاسلام ، وأنعمت عليه بحسن تربيته وعتقه وتقريبه منك : أمسك عليك زوجك زينب ، واتق الله فى أمرها ، ولا تطلقها ضرارا ، وتعللا بتكبرها وشموخا بأنفها ، فإن الطلاق يشينها ، وربما لا يجد بعدها خيرا منها.

وفى التعبير بأنعمت عليه إيماء إلى وجه العتب بذكر الحال التي تنافى ما صدر منه عليه السلام من إظهار خلاف ما فى نفسه ، إذ هذا إنما يكون حين الاستحياء والاحتشام ، وكلاهما مما لا ينبغى أن يكون مع زيد مولاه (وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللهُ مُبْدِيهِ) أي وأنت تعلم أن الطلاق لا بد منه ، بما ألهمك الله أن تمتثل أمره بنفسك لتكون أسوة لمن معك ولمن يأتى بعدك ، وإنما غلبك فى فى ذلك الحياء وخشية أن يقولوا تزوج محمد مطلّقة متبناه ، فأنت تخفى فى نفسك ما الله به من الحكم الذي ألهمك (وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ) أي وتخاف من اعتراض الناس والله

١٤

الذي أمرك بهذا كله أحق وحده بأن تخشاه ، فكان عليك أن تمضى فى الأمر قدما ، تعجيلا لتنفيذ كلمته وتقرير شرعه.

ثم زاد الأمر بيانا بقوله :

(فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً) أي فلما قضى زيد منها حاجته وملّها ثم طلقها جعلناها زوجا لك ، لترتفع الوحشة من نفوس المؤمنين ولا يجدوا فى أنفسهم حرجا من أن يتزوجوا نساء كنّ من قبل أزواجا لأدعيائهم.

(وَكانَ أَمْرُ اللهِ مَفْعُولاً) أي وكان ما قضى الله من قضاء كائنا لا محالة ؛ أي إن قضاء الله فى زينب أن يتزوجها رسول الله كائن ماض لا بد منه.

روى البخاري والترمذي «أن زينب رضى الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم تقول : زوجكن أهلوكنّ وزوّجنى الله تعالى من فوق سبع سموات» وأخرج ابن جرير عن الشعبي قال : «كانت تقول للنبى صلى الله عليه وسلم إنى لأدلّ عليك بثلاث ما من نسائك امرأة تدلّ بهن : إن جدى وجدك واحد ، وإنى أنكحك الله إياى من السماء ، وإن السفير لجبريل عليه السلام».

ثم أكد ما سلف بقوله :

(ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللهُ لَهُ) أي ليس على النبي حرج فيما أحل الله له من نكاح امرأة من تبناه بعد فراقه إياها.

ثم بين أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بدعا فى الرسل فيما أباح له من الزوجات والسراري فقال :

(سُنَّةَ اللهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ) أي إن الله سن بك أيها الرسول سنة أسلافك من الأنبياء الذين مضوا من قبل فيما أباح لهم من الزوجات والسراري ، فقد كان لسليمان وداود وغيرهما عدد كثير منهن.

وفى هذا ردّ على اليهود الذين عابوه صلى الله عليه وسلم (وحاشاه) بكثرة الأزواج.

١٥

(وَكانَ أَمْرُ اللهِ قَدَراً مَقْدُوراً) أي وكان أمر الله الذي يقدره كائنا لا محالة وواقعا لا محيد عنه ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن.

ثم وصف الذين خلوا بصفات الكمال والتقوى وإخلاص العبادة له وتبليغ رسالته فقال :

(الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللهَ) أي هؤلاء الذين جعل محمد متبعا سنتهم وسالكا سبيلهم هم الذين يبلغون رسالات ربهم إلى من أرسلوا إليهم ، ويخافون الله فى تركهم تبليغ ذلك ، ولا يخافون سواه.

والخلاصة ـ كن من أولئك الرسل الكرام ، ولا تخش أحدا غير ربك ، فإنه يحميك ممن يريدك بسوء أو يمسك بأذى.

(وَكَفى بِاللهِ حَسِيباً) أي وكفى الله ناصرا ومعينا وحافظا لأعمال عباده ومحاسبا لهم عليها.

ولما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب قالوا تزوج حليلة ابنه فأنزل الله :

(ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَلكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخاتَمَ النَّبِيِّينَ) أي ما كان لك أن تخشى أحدا من الناس بزواج امرأة متبناك لا ابنك ، فإنك لست أبا لأحد من الناس ، ولكنك رسول الله فى تبليغ رسالته إلى الخلق ، فأنت أب لكل فرد فى الأمة فيما يرجع إلى التوقير والتعظيم ووجوب الشفقة عليهم كما هو دأب كل رسول مع أمته.

وخلاصة ذلك ـ ليس محمد بأب لأحد منكم أبوة شرعية يترتب عليها حرمة المصاهرة ونحوها ، ولكنه أب للمؤمنين جميعا فيما يجب عليهم من توقيره وإجلاله وتعظيمه ؛ كما أن عليه أن يشفق عليهم ويحرص على ما فيه خيرهم وفائدتهم فى المعاش والمعاد وما فيه سعادتهم فى الدنيا والآخرة.

١٦

أولاد النبي صلى الله عليه وسلم

ولد للنبى صلى الله عليه وسلم من خديجة ثلاثة ذكور : القاسم والطيب والطاهر ، وماتوا صغارا لم يبلغ أحد منهم الحلم ، وولد له إبراهيم من مارية القبطية ومات رضيعا ، وولد له من خديجة أربع بنات : زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة ، والثلاث الأول متن فى حياته صلى الله عليه وسلم. وماتت فاطمة بعد أن قبض صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى بستة شهور.

(وَكانَ اللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً) فيعلم من الأجدر بالبدء به من الأنبياء ، ومن الأحق بأن يكون خاتمهم ، وبعلم المصالح فى ذلك.

ونحو الآية قوله : «اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ».

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً (٤١) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً (٤٢) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (٤٣) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (٤٤))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر ما ينبغى أن يكون عليه النبي صلى الله عليه وسلم مع ربه من تقواه وإخلاصه له فى السر والعلن ، وما ينبغى أن يكون عليه مع أهله وأقار به من راحتهم وإيثارهم على نفسه فيما يطلبون كما يومئ إلى ذلك قوله : (يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ) إلخ ، أرشد عباده إلى تعظيمه تعالى وإجلاله بذكره والتسبيح له بكرة وأصيلا ، فهو الذي يرحمهم ، وملائكته يستغفرون لهم ، كى يخرجهم من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان ، وكان بعباده المؤمنين رحيما.

١٧

الإيضاح

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللهَ ذِكْراً كَثِيراً) أي أيها الذين صدقوا الله ورسوله ، اذكروا الله بقلوبكم وألسنتكم وجوارحكم ذكرا كثيرا فى جميع أحوالكم جهد الطاقة ، لأنه المنعم عليكم بأنواع النعم ، وصنوف المنن.

(وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً) أي ونزهوه عما لا يليق به طرفى النهار ، لأن وقت البكرة وقت القيام من النوم وهو يعدّ كأنه حياة جديدة بعد موت ، ووقت الأصيل وقت الانتهاء من العمل اليومي ، فيكون الذكر شكرا له على توفيقه لأداء الأعمال ، والقيام بالسعي على الأرزاق فلم يبق إلا السعى إلى ما يقربه من ربه بالعمل للآخرة.

ثم ذكر السبب فى هذا الذكر والتسبيح فقال :

(هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ) أي إن ربكم الذي تذكرونه الذكر الكثير وتسبحونه بكرة وأصيلا ـ هو الذي يرحمكم ويثنى عليكم فى الملإ من عباده ، وتستغفر لكم ملائكته.

وفى هذا من التحريض على ذكره والتسبيح له مالا يخفى.

(لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ) أي إنه برحمته وهدايته ودعاء الملائكة لكم ـ أخرجكم من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان.

(وَكانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً) فى الدنيا والآخرة ، أما فى الدنيا فانه هداهم إلى الحق الذي جهله غيرهم ، وبصصّرهم الطريق الذي حاد عنه سواهم من الدعاة إلى الكفر ، وأما فى الآخرة فإنه آمنهم من الفزع الأكبر وأمر الملائكة أن يتلقوهم بالبشارة بالفوز بالجنة والنجاة من النار ، وهذا ما أشار إليه بقوله :

(تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ) أي تحييهم الملائكة بذلك إذا دخلوا الجنة ، كما قال تعالى : «وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ. سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ».

١٨

(وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً) أي وهيأ لهم ثوابا حسنا فى الآخرة يأتيهم بلا طلب بما يتمتعون به من لذات المآكل والمشارب والملابس والمساكن فى فسيح الجنات مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر.

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً (٤٥) وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً (٤٦) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً (٤٧) وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً (٤٨))

المعنى الجملي

بعد أن ذكر عز اسمه تأديبه لنبيه فى ابتداء السورة ، وذكر ما ينبغى أن يكون عليه مع أهله ـ ذكر ما ينبغى أن يكون عليه مع الخلق كافة.

الإيضاح

(يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً) أي يا أيها الرسول إنا بعثناك شاهدا على من بعثت إليهم تراقب أحوالهم ، وترى أعمالهم ، وتتحمل الشهادة بما صدر منهم من تصديق وتكذيب ، وسائر ما يفعلون من الهدى والضلال ، وتؤدّى ذلك يوم القيامة ، وأرسلناك مبشرا لهم بالجنة إن صدّقوك ، وعملوا بما جئتهم به من عند ربك ، ومنذرا لهم بالنار يدخلونها فيعذبون فيها إن هم كذبوك وخالفوا ما أمرتهم به ونهيتهم عنه.

(وَداعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِراجاً مُنِيراً) أي وداعيا الخلق إلى الإقرار بوحدانيته تعالى ، سائر ما يجب له من صفات الكمال ، وإلى عبادته ، ومراقبته فى السر والعلن ـ

١٩

وسراجا منيرا يستضىء بك الضالون فى ظلمات الجهل والغواية ، ويقتبس من نورك المهتدون ، فيسلكون مناهج الرشد والسعادة.

(وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً) أي وراقب أحوال أمتك ، وبشر المؤمنين بأن لهم فضلا كبيرا على سائر الأمم ، فإنهم سيغيّرون نظم المجتمع من ظلم وجور إلى عدل وصلاح ، ويدخلون الأمم المتعثّرة فى أثواب الضلال ، فى زمرة الأمم التي عليها صلاح البشر فى مستأنف الزمان.

أخرج ابن جرير وعكرمة عن الحسن أنه قال : لما نزل قوله : «لِيَغْفِرَ لَكَ اللهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَما تَأَخَّرَ» قالوا : يا رسول الله قد علمنا ما يفعل بك فماذا يفعل بنا؟

فأنزل الله : «وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللهِ فَضْلاً كَبِيراً».

ولما أمره الله بما يسرّ نهاه عما يضر ، فقال :

(وَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَالْمُنافِقِينَ وَدَعْ أَذاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ وَكَفى بِاللهِ وَكِيلاً) أي ولا تطع قول كافر ولا منافق فى أمر الدعوة ، وألن الجانب فى التبليغ ، وارفق فى الإنذار ، واصفح عن أذاهم ، واصبر على ما ينالك منهم ، وفوّض أمورك إلى الله ، وثق به فإنه كافيك جميع من دونك ، حتى يأتيك أمره وقضاؤه ، وهو حسبك فى جميع أمورك ، وكالئك وراعيك.

(يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (٤٩))

تفسير المفردات

النكاح هنا : العقد ، والمس معروف ؛ والمراد به قربان المرأة ، ومن أدب القرآن الكريم التعبير عنه بالملامسة والمماسة ، والقربان والتغشى والإتيان ، والعدة : الشيء

٢٠