ولعلّه لأجل هذا أو شيء آخر عدل المحقق العراقي «قده» عن المبنى الثاني المشهور إلى المبنى الثالث في تصوير العلم الإجمالي ، فذهب إلى انّ العلم الإجمالي ليس متعلقا بالفرد المردّد ، وليس متعلقا بالجامع ، بل هو متعلق بالواقع وقد ذكر أنّه بلغه أنّ بعض أهل الفضل من المعاصرين يذهب إلى تعلقه بالجامع وأنّه لا تفاوت بينه وبين العلم التفصيلي في حيثيّة العلميّة ، وإنّما الفرق بينهما في المعلوم ، حيث أنّه في التفصيلي صورة الفرد ، وفي الإجمالي صورة الجامع مع الشك في الخصوصية الفردية.
ثمّ انّ المحقق عقّب على هذا الكلام ، بأنّه غير تام : بل الصحيح هو انّ العلم الإجمالي والتفصيلي لا يختلفان من جانب المعلوم ، بل يختلفان من جانب نفس العلم مع كون المعلوم فيهما معا هو الواقع ، كالتفصيلي ، أي بالفرد المعيّن ، لكن فرق بين نفس العلمين ، فالتفصيلي عبارة عن مرآة صافية لهذا الواقع لا غبار عليها ، بينما العلم الإجمالي مرآة عليها غبار وإجمال يكتنف هذا الواقع ، بما يوجب الشك في تطبيقه ، وإلّا فكلاهما مرآة للواقع ، ويقرب هذا بمثال عرفي ، فالتفصيلي والإجمالي يشبهان بالإحساس ، فتارة نحسّ بزيد وهو أمامنا ، وأخرى نحسّ به وهو بعيد عنّا وكأنّه شبح ، فحينما نراه قريبا ، نعلم بأنّه زيد بلا شك ، وحينما نراه من بعيد كالشبح ، فنحن أيضا نرى واقعا يحتمل أن يكون زيدا ، ويحتمل أن يكون عمروا ، لكن في كلتا الحالتين الإحساس متعلق بالواقع وهو ذلك الفرد المعيّن ، وعليه : فلا فرق بين التفصيلي والإجمالي من ناحية المعلوم ، وإنّما الاختلاف من ناحية نفس العلم ، بعكس ما جاء في المبنى الثاني.
وكأنّ المحقّق العراقي «قده» طرح هذا التصور لهذا المبنى بنحو الاستبداد من دون أن يتصدّى لإقامة برهان عليه.