قلنا : لا يخلو تعبّدهم له بالسجود من أن يكون على سبيل القبلة والجهة من غير أن يقترن به تعظيم وتقديم أو يكون على ما ذكرناه ، فإن كان الأوّل لم يجز أنفة إبليس من السجود وتكبّره عنه وقوله : (أَرَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ) (١) وقوله : (أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ) (٢).
والقرآن كلّه ناطق بأنّ امتناع إبليس من السجود إنّما هو لاعتقاده التفضيل به والتكرمة ، ولو لم يكن الأمر على هذا لوجب أن يرد الله تعالى عليه ويعلمه أنّه ما أمره بالسجود على جهة تعظيمه له عليه ولا تفضيله ، بل على الوجه الأخر الذي لا حظّ للتفضيل والتعظيم فيه وما جاز إغفال ذلك ، وهو سبب معصية إبليس وضلالته ، فلمّا لم يقع ذلك دلّ على أنّ الأمر بالسجود لم يكن إلّا على جهة التفضيل والتعظيم ، وكيف يقع شكّ في أنّ الأمر على ما ذكرناه وكلّ من أراد تعظيم آدم عليهالسلام ووصفه بما يقتضي الفخر والشرف نعته باسجاد الملائكة ، وجعل ذلك من أعظم فضائله ، وهذا ممّا لا شبهة فيه.
فأمّا اعتماد بعض أصحابنا في تفضيل الأنبياء على الملائكة على أنّ المشقّة في طاعات الأنبياء عليهمالسلام أكثر وأوفر ، من حيث كانت لهم شهوات في القبائح ونفار عن فعل الواجبات. فليس بمعتمد ؛ لأنّا نقطع على أنّ مشاقّ الأنبياء أعظم من مشاقّ الملائكة في التكليف ، والشكّ في مثل ذلك واجب وليس كلّ شيء لم يظهر لنا ثبوته وجب القطع على انتفائه.
ونحن نعلم على الجملة أنّ الملائكة إذا كانوا مكلّفين فلا بدّ أن تكون عليهم مشاقّ في تكليفهم ، ولو لا ذلك ما استحقّوا ثوابا على طاعاتهم ، والتكليف إنّما يحسن في كلّ مكلّف تعريضا للثواب ، ولا يكون التكليف عليهم شاقّا إلّا ويكون لهم شهوات فيما حظر عليهم ونفار عما أوجب عليهم.
وإذا كان الأمر على هذا فمن أين يعلم أنّ مشاق الأنبياء عليهمالسلام أكثر من مشاقّ الملائكة؟ وإذا كانت المشقّة عامّة لتكليف الامة ، ولا طريق إلى القطع
__________________
(١) سورة الإسراء ، الآية : ٦٢.
(٢) سورة الأعراف ، الآية : ١٢.