هذا الكلام من الأهواء لفرّوا منهم فرارهم من الأسد (١).
وقال مالك رحمهالله : لا تجوز شهادة أهل البدع والأهواء ، فقال بعض أصحابه في تأويل (٢) ذلك : إنه أراد بأهل الأهواء أهل الكلام على أي مذهب كانوا ، ومنها أنه يؤدي إلى الشك ، وإلى التردّد فيصير زنديقا بعد ما كان صديقا ... فروي عن أحمد بن حنبل رحمهالله أنه قال : علماء الكلام زنادقة ، وقال أيضا : لا يصلح صاحب الكلام أبدا ولا تكاد ترى أحدا نظر في الكلام إلا وفي قلبه دغل ، ولقد بالغ فيه حتى هجر الحارث بن أسد المحاسبي مع زهده وورعه بسبب تصنيفه كتابا في الرد على المبتدعة وقال : ويحك ألست تحكي بدعتهم أولا ثم ترد عليهم؟ ألست تحمل الناس بتصنيفك على مطالعة البدعة والتفكّر في الشبهة فيدعوهم ذلك إلى الرأي والبحث والفتنة؟
هذا وفي كتاب الخلاصة (٣) تعلم علم الكلام والنظر فيه والمناظرة وراء قدر الحاجة منهيّ عنه ، وتعلم علم النجوم قدر ما يعلم به مواقيت الصلاة والقبلة لا بأس به والزيادة حرام ، ثم تكلمه على الإنصاف لا يكره بلا تعنت واعتساف ، وإن تكلم من يريد التعنت ويريد أن يطرحه لا يكره ، قال : وسمعت القاضي الإمام : إن أراد تخجيل الخصم يكفر. قال : وعندي لا يكفر. ويخشى عليه الكفر. انتهى كلام صاحب الخلاصة.
وخلاصة الكلام وسلالة المرام أن العقائد الصحيحة وما يقويها من الأدلة الصريحة كما تؤثر في قلوب أهل الدين وتثمر كمال الإيمان واليقين كذلك العقائد الباطلة تؤثّر في القلب وتقسّيه وتبعده عن حضور الرب وتسوده وتضعف يقينه وتزلزل دينه ، بل هي أقوى أسباب سوء الخاتمة نسأل الله العفو والعافية. ألا ترى إن الشيطان إذا أراد أن يسلب إيمان العبد بربه فإنه لا يسلبه منه إلا بإلقاء العقائد الباطلة في قلبه ، ومنها الخوض في علم الكلام وترك العلم بأحكام الإسلام المستفادة من الكتاب والسّنة وإجماع الأمة حتى أن بعضهم يجتهد ثلاثين سنة ليصير كلاميا ، ثم يدرس فيه ويتكلم بما يوافقه ويدفع ما ينافيه ولو سئل عن معنى آية أو حديث أو مسألة مهمة من الفروع المتعلقة بالطهارة والصلاة والصوم كان جاهلا عنها وساكتا فيها مع أن جميع العقائد الثابتة موجودة في الكتاب قطعيّا ، وفي السّنّة ظنيّا ولذا قال الله تعالى : (هذا بَلاغٌ
__________________
(١) انظر إحياء علوم الدين للغزالي ١ / ٩٥.
(٢) في الإحياء ١ / ٩٥ تأويله.
(٣) هو الخلاصة في اختصار النوادر لأبي الليث السمرقندي واختصره مطهر بن حسن اليزيدي وسمّاه الخلاصة.