قوله تعالى : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) الآية.
لمّا شرح الوعد والوعيد قال لرسوله (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ) وهذه كلمة جامعة لكلّ ما يتعلّق بالعقائد والأعمال ، سواء كان مختصّا به ، أو متعلقا بتبليغ الوحي وبيان الشّرائع ، ولا شكّ أنّ البقاء على الاستقامة الحقيقيّة مشكل جدّا.
قال ابن الخطيب : وأنا أضرب لذلك مثلا يقرب صعوبة هذا المعنى إلى العقل السّليم ، وهو أنّ الخطّ المستقيم الفاصل بين الظّلّ وبين الضّوء جزء واحد لا يقبل القسمة في العرض ، وذلك الخط ممّا لا يدركه الحس ، فإنّه إذا قرب طرف الظل من طرف الضّوء اشتبه البعض بالبعض في الحسّ ، فلم يقع الحس على إدراك ذلك الخط بعينه بحيث يتميز عن كلّ ما سواه.
وإذا عرفت هذا في المثال فاعرف مثاله في جميع أبواب العبودية.
فأولها : معرفة الله وتحصيل هذه المعرفة على وجه يبقى العقل مصونا في طرف الإثبات عن التّشبيه ، وفي طرف النّفي عن التّعطيل في غاية الصعوبة ، واعتبر سائر مقامات المعرفة من نفسك ، وأيضا فالقوّة الغضبية والقوّة الشهوانية حصل لكل واحدة منهما طرف إفراط وتفريط ، وهما مذمومان ، والفاصل هو المتوسط بينهما بحيث لا يميل إلى أحد الجانبين ، والوقوف عليه صعب ؛ فثبت أنّ معرفة الصّراط المستقيم في غاية الصّعوبة ، وبتقدير معرفته فالبقاء عليه والعمل به أصعب ، ولما كان هذا المقام في غاية الصعوبة ، لا جرم قال ابن عبّاس ـ رضي الله عنه ـ : ما نزلت على رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم وشرّف وكرم وبجّل ومجّد وعظّم ـ في جميع القرآن آية أشق من هذه ، ولهذا قال عليه الصلاة والسّلام : «شيّبتني هود وأخواتها» (١) وروي عن بعضهم قال : رأيت رسول اللهصلىاللهعليهوسلم في المنام ، فقلت له : روي عنك أنك قلت : «شيّبتني هود وأخواتها» فقال «نعم» قلت : وبأي آية؟ فقال قوله : (فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ)(٢).
قوله : (كَما أُمِرْتَ) الكاف في محلّ النصب ، إمّا على النّعت لمصدر محذوف ، كما هو المشهور عند المعربين. قال الزمخشريّ : أي : استقم استقامة مثل الاستقامة الّتي
__________________
(١) أخرجه الترمذي في «الشمائل» رقم (٤١) وأبو يعلى (٢ / ١٨٤) رقم (٨٨) والبغوي في «شرح السنة» (٧ / ٣٧٥) والطبراني في «المعجم الكبير» (٢٢ / ١٢٣) رقم (٣١٨) من حديث أبي جحيفة.
وله شاهد من حديث أبي بكر :
أخرجه أبو يعلى (١ / ١٠٢) رقم (١٠٧) وذكره الهيثمي في «مجمع الزوائد» (٧ / ٣٧) وقال : رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح ورواه أبو يعلى إلّا أن عكرمة لم يدرك أبا بكر.
وله شاهد آخر من حديث ابن عباس :
أخرجه الترمذي (٣٢٩٣) والحاكم (٢ / ٤٧٦) وصححه.
(٢) ذكره السيوطي في «الدر المنثور» (٣ / ٥٧٨) وعزاه إلى البيهقي في شعب الإيمان.