والثالث : أنّه معترض بين «تصديق» ، وبين (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ).
قال الزمخشري (١) : «فإن قلت : بم اتّصل قوله : (لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ)؟.
قلت : هو داخل في حيّز الاستدراك ، كأنّه قيل : ولكن تصديقا ، وتفصيلا منتفيا عنه الريب ، كائنا من ربّ العالمين ، ويجوز أن يراد به : ولكن كان تصديقا من ربّ العالمين ، وتفصيلا منه ، لا ريب في ذلك ، فيكون (مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) : متعلّقا ب «تصديق» ، و «تفصيل» ، ويكون (لا رَيْبَ فِيهِ) : اعتراضا ، كما تقول : زيد ـ لا شكّ فيه ـ كريم». انتهى.
قوله : (مِنْ رَبِّ) : يجوز فيه أوجه :
أحدها : أن يكون متعلّقا ب «تصديق» أو ب «تفصيل» وتكون المسألة من باب التنازع ، إذ يصحّ أن يتعلّق بكلّ من العاملين ، من جهة المعنى ، وهذا هو الذي أراد الزمخشري ، بقوله : فيكون (مِنْ رَبِّ) : متعلقا ب «تصديق» ، و «تفصيل» ، يعني : أنه متعلّق بكل منهما ، من حيث المعنى ، وأمّا من حيث الإعراب ، فلا يتعلّق إلّا بأحدهما ، وأمّا الآخر فيعمل في ضميره ، كما تقدّم تحريره ، والإعمال هنا حينئذ إنّما هو للثّاني ، بدليل الحذف من الأول.
والوجه الثاني : أن (مِنْ رَبِّ) : حال ثانية.
والثالث : أنّه متعلّق بذلك الفعل المقدّر ، أي : أنزل للتّصديق من ربّ العالمين.
فصل
المعنى : وما ينبغي لمثل هذا القرآن ، أن يفترى من دون الله ، كقوله : (وَما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ) [آل عمران : ١٦١] ، وقيل : «أن» بمعنى : اللّام ، أي : وما كان هذا القرآن ليفترى ، كقوله : (وَما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً) [التوبة : ١٢٢] ، و (ما كانَ اللهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ) [آل عمران : ١٧٩] ، و (وَما كانَ اللهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ) [آل عمران : ١٧٩] أي : ليس وصفه هذا القرآن وصف شيء يمكن أن يفترى على الله ، والافتراء : الافتعال ، من أفريت الأديم : إذا قدّرته للقطع ، ثم استعمل في الكذب ، كما استعمل قولهم : اختلق فلان الحديث في الكذب ، ثم إنّه ـ تعالى ـ احتجّ على صحّة الدّعوى بأمور :
الأول : قوله : (وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ) أي : إن محمّدا ـ عليه الصلاة والسّلام ـ كان رجلا أمّيّا ، لم يتعلّم العلم ، وما كانت مكّة بلدة العلماء ، وليس فيها شيء من كتب العلم ، ثم إنّه ـ عليه الصلاة والسّلام ـ أتى بهذا القرآن المشتمل على أقاصيص الأولين ، والقوم كانوا في غاية العداوة له ، فلو لم تكن هذه الأقاصيص موافقة لما في التّوراة ، والإنجيل ، لقدحوا فيه وبالغوا في الطّعن ، فلمّا لم يقل أحد ذلك ، مع شدّة حرصهم على
__________________
(١) ينظر : الكشاف ٢ / ٣٤٧.