البحر هو الله ـ تعالى جلّ ذكره ـ ؛ لأنّه هو المحدث لتلك الحركات في أجزاء السّفينة ، وإضافة الفعل إلى الفاعل هو الحقيقة ، فيجب أن يكون مسيرا لهم في البرّ والبحر ، إذ لو كان مسيّرا لهم في البرّ بمعنى إعطاء الآلات والأدوات ، لكان مجازا ، فيلزم كون اللفظ الواحد حقيقة ومجازا دفعة واحدة ، وذلك باطل ، على ما تقرر في أصول الفقه ، قال أبو هاشم : «لا يبعد أن يقال : إن الله تعالى تكلّم به مرّتين» ، وهذا باطل ؛ لأن هذا القول لم يقل به أحد من الأئمّة ، ممّن كانوا قبله ، فكان خلافا للإجماع ، فيكون باطلا.
فصل
معنى الآية : (هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ) على ظهور الدّوابّ ، وفي البحر على الفلك ، (حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ) أي : في السفن. والفلك : تكون واحدا ، وجمعا ، (وَجَرَيْنَ بِهِمْ) أي : جرت الفلك بالنّاس ، رجع من الخطاب إلى الغيبة.
والفائدة فيه من وجوه :
أحدها : ما تقدم عن الزمخشري ، وهو المبالغة بذكر حالهم لغيرهم ؛ ليعجبوا منها ، ويستدعي منهم مزيد الإنكار والتّقبيح.
وثانيها : قال الجبّائي : «إنّ مخاطبته ـ سبحانه جلّ ذكره ـ لعباده ، على لسان الرسول ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بمنزلة الخبر عن الغائب ، وكل من أقام الغائب مقام المخاطب ، حسن منه أن يردّه مرة أخرى إلى الغائب».
وثالثها : قال ابن الخطيب : «إن الانتقال من لفظ الغيبة ، إلى لفظ الحضور ، يدلّ على مزيد التقريب ، والإكرام ، وأمّا الانتقال من لفظ الحضور ، إلى لفظ الغيبة ، فإنه يدلّ على المقت ، والتعذيب ، وهو اللّائق بحال هؤلاء ، لأنّ من كان صفته ، أنّه يقابل إحسان الله إليه بالكفر ، أن يكون اللّائق به ذلك». والأول كما في الفاتحة ، فإن قوله : (بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) [الفاتحة : ١ ـ ٣] خطاب غيبة ، ثم قال : (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة : ٥] : وهذا يدل على أن العبد ، كأنه انتقل من مقام الغيبة إلى مقام الحضور ، وهو يوجب علو الدرجة ، وكمال القرب.
ثم قال : (بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ) : لينة ، (وَفَرِحُوا بِها) أي : بالرّيح ، «جاءتها» أي : جاءت الفلك ، أو جاءت الرّيح اللينة كما تقدّم ، (رِيحٌ عاصِفٌ) شديدة ، ولم يقل عاصفة ؛ لاختصاص الرّيح بالعصوف ، وقيل : «الرّيح» يذكّر ويؤنث.
قال الفراء ، والزجاج : يقال : ريح عاصف ، وعاصفة ، وقد عصفت عصوفا وأعصفت فهي معصف ومعصفة ، وعصفت الريح : اشتدت ، وأصل العصف : السّرعة ، يقال : ناقة عاصف ، وعصوف ؛ سريعة ، وإنما قيل : (رِيحٌ عاصِفٌ) لأنّه يراد ذات عصوف ، كما قيل: لابن وتامر ؛ أو لأنه لفظ يذكّر ويؤنّث.