ثم لمّا بيّن كيفية أخذ الأمم الظّالمة أكّده بقوله : (إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) فوصف ذلك العذاب بالإيلام وبالشدّة.
قوله تعالى : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (١٠٣) وَما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (١٠٤) يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (١٠٥) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (١٠٦) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (١٠٧) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَالْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (١٠٨) فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ) (١٠٩)
ثم قال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ) قال القفال : تقرير الكلام أن يقال : إنّ هؤلاء إنّما عذبوا في الدّنيا لتكذيبهم الأنبياء ، وإشراكهم بالله ، فإذا عذّبوا في الدّنيا على ذلك وهي دار العمل ؛ فلأن يعذّبوا عليه في الآخرة التي هي دار الجزاء ، كان أولى. وهذا قول كثير من المفسّرين.
قال ابن الخطيب (١) : وعلى هذا الوجه الذي ذكره القفال يكون ظهور عذاب الاستئصال في الدّنيا دليلا على أنّ القول بالقيامة والبعث حقّ ، وظاهر الآية يقتضي أنّ العلم بأنّ القيامة حق كالشرط في حصول الاعتبار بعذاب الاستئصال ، وهذا المعنى كالمضاد لما ذكره القفال ؛ لأنّ القفال يجعل العلم بعذاب الاستئصال أصلا للعلم بأنّ القيامة حق ؛ فبطل ما ذكره القفال ، والأصوب عندي أن يقال : العلم بأنّ القيامة حق موقوف على العلم بأنّ لوجود السموات والأرض فاعل مختار لا موجب بالذّات ، وما لم يعلم الإنسان أنّ إله العالم فاعل مختار وقادر على كل الممكنات ، وأنّ جميع الحوادث الواقعة في السموات والأرض لا تحصل إلا بتكوينه وقضائه ، لا يمكنه أن يعتبر بعذاب الاستئصال ؛ لأنّ الذين يذهبون إلى أنّ المؤثّر في وجود هذا العالم موجب بالذّات ، لا فاعل مختار ، يزعمون أنّ هذه الأحوال التي ظهرت في أيّام الأنبياء ؛ كالغرق ، والخسف ، والمسخ ، والصّيحة كلها إنما حدثت بسبب قرانات الكواكب وإيصال بعضها ببعض ، وإذا كان الأمر كذلك ، فحينئذ لا يكون حصولها دالّا على صدق الأنبياء.
فأما المؤمن بالقيامة ؛ فلا يتم له ذلك الإيمان إلا إذا اعتقد أنّ إله العالم فاعل مختار ، وأنه عالم بجميع الجزئيات ، وإذا كان كذلك لزم القطع بأن حدوث هذه الوقائع العظيمة إنّما كان بسبب أنّ إله العالم خلقها وأوجدها لا بسبب طوالع الكواكب
__________________
(١) ينظر : تفسير الفخر الرازي ١٧ / ٤٧.