لانجرارها ، وتقديم الجارّ للأول واجب ؛ لأنّه جرّ ما له صدر الكلام ، ومتعلّق الإذن محذوف ، يجوز أن يكون القعود ، أي : لم أذنت لهم في القعود ، ويدل عليه السّياق من اعتذارهم عن تخلّفهم عنه عليهالسلام. ويجوز أن يكون الخروج ، أي : لم أذنت لهم في الخروج ، لأنّ خروجهم فيه مفسدة من التخذيل ، وغيره ، يدلّ عليه : «لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلّا خبالا».
قوله : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ) يجوز في «حتى» أن تكون للغاية ، ويجوز أن تكون للتعليل ، وعلى كلا التقديرين فهي جارّة ، إمّا بمعنى «إلى» ، وإمّا بمعنى اللام ، و «أن» مضمرة بعدها ، ناصبة للفعل ، وهي متعلقة بمحذوف.
قال أبو البقاء : «تقديره : هلّا أخّرتهم إلى أن يتبيّن ، أو ليتبيّن ، وقوله : (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) يدلّ على المحذوف ، ولا يجوز أن تتعلّق «حتّى» ب «أذنت» لأنّ ذلك يوجب أن يكون أذن لهم إلى هذه الغاية ، أو لأجل التّبيين ، وذلك لا يعاتب عليه» وقال الحوفيّ : «حتى غاية لما تضمّنه الاستفهام ، أي : ما كان له أن يأذن لهم ، حتى يتبيّن له العذر». وفي هذه العبارة بعض غضاضة.
فصل
احتجّوا بهذه الآية على أنّ الرسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ ؛ كان يحكم بمقتضى الاجتهاد في بعض الوقائع ، ولدخوله عليه الصلاة والسّلام تحت قوله تعالى : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) [الحشر : ٢] والرسول ـ عليه الصّلاة والسّلام ـ كان سيدا لهم ، ثمّ أكّدوا ذلك بهذه الآية فقالوا : إمّا أن يقال : إنه تعالى أذن له في ذلك الإذن ، أو منعه عنه ، أو ما أذن له فيه وما منعه عنه والأول باطل ، وإلّا امتنع أن يقول له : (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ) ، والثاني باطل ؛ لأنه يلزم منه أن يقال : إنّه حكم بغير ما أنزل الله ، فيدخل تحت قوله : (وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللهُ) [المائدة : ٤٤ ـ ٤٧] الآيات. وذلك باطل بصريح القول.
فلم يبق إلّا أنّه عليه الصلاة والسّلام أذن في تلك الواقعة من تلقاء نفسه ، فإمّا أن يكون ذلك عن اجتهاد ، أو لا ، والثاني باطل ؛ لأنه حكم بمجرد التشهي وهو باطل كقوله تعالى : (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ) [مريم : ٥٩] فلم يبق إلّا أنه عليه الصّلاة والسّلام أذن في تلك الواقعة بالاجتهاد.
فإن قيل : الآية تدلّ على أنّه لا يجوز له الاجتهاد ؛ لأنه تعالى منعه بقوله : (لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ)؟ فالجواب : أنه تعالى ما منعه من الإذن مطلقا ، لقوله تعالى : (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكاذِبِينَ) [التوبة : ٤٣] والحكم الممدود إلى غاية ب «حتّى» يجب انتهاؤه عند حصول الغاية فدلّ على صحة قولنا.
فإن قالوا : لم لا يجوز أن يكون المراد من ذلك التّبيين هو التّبيين بطريق الوحي؟.