أقرب بالعلم والسمع «مجيب» دعاء المحتاجين بفضله ، ورحمته.
ولمّا قرّر صالح هذه الدلائل (قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا) أي : كنّا نرجو أن تكون سيّدا فينا. وقيل : كنّا نرجو أن تعود إلى ديننا ، وذلك أنّه كان رجلا قوي الخاطر وكان من قبيلتهم ، فقوي رجاؤهم في أن ينصر دينهم ، ويقرّر طريقتهم ، فلمّا دعاهم إلى الله وترك الأصنام زعموا أنّ رجاءهم انقطع منه فقالوا : .. (أَتَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا) من الآلهة ، فتمسّكوا بطريق التقليد. ونظير تعجّبهم هذا ما حكاه الله ـ تعالى ـ عن كفّار مكّة في قولهم : (أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ).
قوله : (وَإِنَّنا لَفِي شَكٍّ) مما تدعونا إليه مريب هذا هو الأصل ، ويجوز «وإنا» بنون واحدة مشدّدة كما في السورة الأخرى [إبراهيم : ٩]. وينبغي أن يكون المحذوف النّون الثّانية من «إنّ» ؛ لأنّه قد عهد حذفها دون اجتماعها مع «نا» ، فحذفها مع «نا» أولى ، وأيضا فإنّ حذف بعض الأسماء ليس بسهل وقال الفرّاء : «من قال «إنّنا» أخرج الحرف على أصله ؛ لأنّ كتابة المتكلمين «نا» فاجتمع ثلاث نونات ، ومن قال : «إنا» استثقل اجتماعها ؛ فأسقط الثالثة ، وأبقى الأوليين» انتهى. وقد تقدّم الكلام في ذلك.
قوله : «مريب» اسم فاعل من «أراب» يجوز أن يكون متعدّيا من «أرابه» ، أي : أوقعه في الرّيبة ، أو قاصرا م ن «أراب الرجل» أي : صار ذا ريبة. ووصف الشّكّ بكونه مريبا بالمعنيين المتقدمين مجازا.
والشّك : أن يبقى الإنسان متوقفا بين النّفي والإثبات ، والمريب : هو الذي يظن به السوء والمعنى : أنّه لم يترجّح في اعتقادهم فساد قوله وهذا مبالغة في تزييف كلامه.
قوله : (أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ) تقدّم نظيره [يونس : ٥٠] ، والمفعول الثّاني هنا محذوفق تقديره : أأعصيه ويدل عليه (إِنْ عَصَيْتُهُ). وقال ابن عطيّة : هي من رؤية القلب ، والشّرط الذي بعده وجوابه يسدّ مسدّ مفعولين ل «أرأيتم».
قال أبو حيّان (١) : «والذي تقرّر أنّ «أرأيت» ضمّن معنى «أخبرني» ، وعلى تقدير أن لا يضمّن ، فجملة الشّرط والجواب لا تسدّ مسدّ مفعولي «علمت» وأخواتها».
قوله : (إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي) ورد بحرف الشّك ، وكان على يقين تام في أمره إلّا أنّ خطاب المخالف على هذا الوجه أقرب إلى القبول ؛ فكأنه قال : قدّروا أنّي على بيّنة من ربّي وأنّي نبيّ على الحقيقة ، وانظروا إن تابعتكم ، وعصيت أمر ربّي ، فمن يمنعني من عذاب الله فما تزيدونني على هذا التقدير غير تخسير.
قوله : (غَيْرَ تَخْسِيرٍ) الظاهر أنّ «غير» مفعول ثان ل «تزيدونني».
قال أبو البقاء (٢) : الأقوى هنا أن تكون «غير» استثناء في المعنى ، وهي مفعول ثان
__________________
(١) ينظر : البحر المحيط ٥ / ٢٤٠.
(٢) ينظر : الإملاء ٢ / ٤١.