و (مِنْ) في قوله : (مِنْ ذُنُوبِكُمْ) الأظهر أنها للتعليل فتتعلق بفعل (أَجِيبُوا) باعتبار أنه مجاب بفعل (يَغْفِرْ) ، ويجوز أن تكون تبعيضية ، أي يغفر لكم بعض ذنوبكم فيكون ذلك احترازا في الوعد لأنهم لم يتحققوا تفصيل ما يغفر من الذنوب وما لا يغفر إذ كانوا قد سمعوا بعض القرآن ولم يحيطوا بما فيه. ويجوز أن تكون زائدة للتوكيد على رأي جماعة ممن يرون زيادة (مِنْ) في الإثبات كما تزاد في النفي. وأما (مِنْ) التي في قوله : (وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) فهي لتعدية فعل (يُجِرْكُمْ) لأنه يقال : أجاره من ظلم فلان ، بمعنى منعه وأبعده.
وحكاية الله هذا عن الجن تقرير لما قالوه فيدل على أن للجن إدراكا للمعاني وعلى أن ما تدل عليه أدلة العقل من الإلهيات واجب على الجن اعتقاده لأن مناط التكليف بالإلهيات العقلية هو الإدراك ، وأنه يجب اعتقاد المدركات إذا توجهت مداركهم إليها أو إذا نبهوا إليها كما دلت عليه قصة إبليس. وهؤلاء قد نبهوا إليها بصرفهم إلى استماع القرآن وهم قد نبّهوا قومهم إليها بإبلاغ ما سمعوه من القرآن وعلى حسب هذا المعنى يترتب الجزاء بالعقاب كما قال تعالى : (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) [السجدة : ١٣] ، وقال في خطاب الشيطان (لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ) [ص : ٨٥] ، فأما فروع الشريعة فغير لائقة بجنس الجنّ. وظاهر الآية أن هؤلاء الذين بلغتهم دعوة القرآن مؤاخذون إذا لم يعملوا بها وأنهم يعذبون. واختلفوا في جزاء الجن على الإحسان فقال أبو حنيفة : ليس للجن ثواب إلا أن يجاروا من عذاب النار ثم يقال لهم كونوا ترابا مثل البهائم ، وقال مالك والشافعي وابن أبي ليلى والضحاك : كما يجازون على الإساءة يجازون على الإحسان فيدخلون الجنة. وحكى الفخر أن مناظرة جرت في هذه المسألة بين أبي حنيفة ومالك ولم أره لغيره. وهذه مسألة لا جدوى لها ولا يجب على المسلم اعتقاد شيء منها سوى أن العالم إذا مرّت بها الآيات يتعيّن عليه فهمها.
ومعنى (فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ) أنه لا ينجو من عقاب الله على عدم إجابته داعيه ، فمفعول (بِمُعْجِزٍ) مقدر دلّ عليه المضاف إليه في قوله : (داعِيَ اللهِ) أي فليس بمعجز الله ، وقال في سورة الجن [١٢] (أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً) وهو نفي لأن يكون يعجز طالبه ، أي ناجيا من قدرة الله عليه. والكلام كناية عن المؤاخذة بالعقاب.
والمقصود من قوله : (فِي الْأَرْضِ) تعميم الجهات فجرى على أسلوب استعمال الكلام العربي وإلا فإن مكان الجن غير معيّن. و (لَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ) ، أي لا نصير