حياتهم ثم ليترتب عليه مثال الحياة الأبدية في الآخرة. ولكن لما كان التكليف مبيّنا لأحوال نفوس الناس في الامتثال وممحّصا لدعاويهم وكاشفا عن دخائلهم كان مشتملا على ما يشبه الابتلاء ، وإلا فإن الله تعالى يعلم تفاصيل أحوالهم ، ولكنها لا تظهر للعيان للناس إلا عند تلقي التكاليف فأشبهت الاختبار ، فإطلاق اسم الابتلاء على التكليف مجاز مرسل وتسمية ما يلزم التكليف من إظهار أحوال النفوس ابتلاء استعارة ، ففي قوله : (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ) مجاز مرسل واستعارة.
و (حَتَّى) حرف انتهاء فما بعدها غاية للفعل الذي قبلها وهي هنا مستعملة في معنى لام التعليل تشبيها لعلة الفعل بغايته فإن غاية الفعل باعث لفاعل الفعل في الغالب ، فلذلك كثر استعمال (حَتَّى) بمعنى لام التعليل كقوله تعالى : (هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا) [المنافقون : ٧].
فالمعنى : ولنبلونكم لنعلم المجاهدين منكم والصابرين ، وليس المراد انتهاء البلوى عند ظهور المجاهدين منهم والصابرين.
وعلة الفعل لا يلزم انعكاسها ، أي لا يلزم أن لا يكون للفعل علة غيرها فللتكليف علل وأغراض عديدة منها أن تظهر حال الناس في قبول التكليف ظهورا في الدنيا تترتب عليه معاملات دنيوية.
وعلم الله الذي جعل علة للبلو هو العلم بالأشياء بعد وقوعها المسمى علم الشهادة لأن الله يعلم من سيجاهد ومن يصبر من قبل أن يبلوهم ولكن ذلك علم غيب لأنه قبل حصول المعلوم في عالم الشهادة.
والأحسن أن يكون (حَتَّى نَعْلَمَ) مستعملا في معنى حتى نظهر للناس الدعاوي الحق من الباطلة ، فالعلم كناية عن إظهار الشيء المعلوم بقطع النظر عن كون إظهاره للغير كما هنا أو للمتكلم كقول إياس بن قبيصة الطائي :
وأقبلت والخطّيّ يخطر بيننا |
|
لا علم من جبانها من شجاعها |
أراد ليظهر للناس أنه شجاع ويظهر من هو من القوم جبان ، فالله شرع الجهاد لنصر الدين ومن شرعه يتبين من يجاهد ومن يقعد عن الجهاد ، ويتبين من يصبر على لأواء الحرب ومن ينخزل ويفر ، فلا تروج على الناس دعوى المنافقين صدق الإيمان ويعلم الناس المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.