هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم لم يفد القول شيئا ، لأنه كقولك : الذي ضربته ضربته ، والتي أكرمتها أكرمتها ، ولكن لما اتصل ب (أَغْوَيْناهُمْ) الثانية قوله (كَما غَوَيْنا) أفاد الكلام كقولك : الذي ضربته ضربته لأنه جاهل. وقد كان أبو علي امتنع في هذه الآية مما اخترناه غير أن الأمر فيها عندي على ما عرفتك» اه. وقد تقدم بيان كلامه عند قوله تعالى (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ) في سورة الاسراء [٧] ، وقوله (وَإِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ) في سورة الشعراء [١٣٠] ، وقوله (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) في سورة الفرقان [٧٢] ، فإن تلك الآيات تطابق بيت الأحوص لاشتمالهن على (إذا).
و (كَما غَوَيْنا) صفة لمصدر ، أي إغواء يوقع في نفوسهم غيّا مثل الغي الذي في قلوبنا. ووجه الشبه في أنهم تلقوا الغواية من غيرهم فأفاد التشبيه أن المجيبين أغواهم مغوون قبلهم ، وهم يحسبون هذا الجواب يدفع التبعة عنهم ويتوهمون أن السير على قدم الغاوين يبرر الغواية ، وهذا كما حكى عنهم في سورة الشعراء [٩٦ ، ٩٩] : (قالُوا وَهُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ تَاللهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ وَما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ). وحذف مفعول فعل (أَغْوَيْنا) الأول وهو العائد من الصلة إلى الموصول لكثرة حذف أمثاله من كل عائد صلة هو ضمير نصب متصل وناصبه فعل أو وصف شبيه بالفعل ، لأن اسم الموصول مغن عن ذكره ودال عليه فكان حذف العائد اختصارا. وذكر مفعول فعل (أَغْوَيْناهُمْ) الثاني اهتماما بذكره لعدم الاستغناء عنه في الاستعمال.
وجملة (تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ) استئناف. والتبرؤ : تفعل من البراءة وهي انتفاء ما يصم ، فالتبرؤ : معالجة إثبات البراءة وتحقيقها. وهو يتعدى إلى من يحاول إثبات البراءة لأجله بحرف (إلى) الدال على الانتهاء المجازي ؛ يقال : إني أبرأ إلى الله من كذا ، أي أوجه براءتي إلى الله ، كما يتعدى إلى الشيء الذي يصم بحرف (من) الاتصالية التي هي للابتداء المجازي قال تعالى (فَبَرَّأَهُ اللهُ مِمَّا قالُوا) [الأحزاب : ٦٩]. وقد تدخل (من) على اسم ذات باعتبار مضاف مقدر نحو قوله تعالى (وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ) [الأنفال : ٤٨] أي من كفركم. والتقدير : من أعمالكم وشئونكم إما من أعمال خاصة يدل عليها المقام أو من عدة أعمال.
فالمعنى هنا تحقق التبرؤ لديك والمتبرأ منه هو مضمون جملة (ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ) فهي بيان لإجمال التبرؤ.
والمقصود : أنهم يتبرءون من أن يكونوا هم المزعوم أنهم شركاء وإنما قصارى