الإبداء فهو الذي وجب أن لا تعجزه الإعادة. فكأنه قال : ثم ذاك الذي أنشأ النشأة الأولى هو الذي ينشئ النشأة الآخرة فللتنبيه على هذا المعنى أبرز اسمه وأوقعه مبتدأ اه. يريد أن العدول عن الإضمار إلى الاسم الظاهر لتسجيل وقوع هذا الإنشاء الثاني ، فتكون الجملة مستقلة حتى تكون عنوان اعتقاد بمنزلة المثل لأن في اسم الجلالة إحضارا لجميع الصفات الذاتية التي بها التكوين ، وليفيد وقوع المسند إليه مخبرا عنه بمسند فعلي معنى التقوي.
وجملة (إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) تذييل ، أي قدير على البعث وعلى كل شيء إذا أراده. وإظهار اسم الجلالة لتكون جملة التذييل مستقلة بنفسها فتجري مجرى الأمثال.
و (النَّشْأَةَ) بوزن فعلة : المرة من النّشء وهو الإيجاد ، وكذلك قرأها الجمهور ، عبر عنها بصيغة المرة لأنها نشأة دفعية تخالف النّشء الأول ويقال : النّشاءة بمد بعد الشين بوزن الكآبة ومثلها الرأفة والرآفة.
وقرأ ابن كثير وأبو عمرو النشاءة بالمدّ. ووصفها ب (الْآخِرَةَ) إيماء بأنها مساوية للنشأة الأولى فلا شبهة لهم في إحالة وقوعها. وأما قوله تعالى (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى) [الواقعة : ٦٢] فذلك على سبيل المشاكلة التقديرية لأن قوله قبله (وَنُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ) [الواقعة : ٦١] يتضمن النشأة الآخرة فعبر عن مقابلتها بالنشأة.
(يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (٢١))
لما ذكر النشأة الآخرة أتبع ذكرها بذكر أهم ما تشتمل عليه وما أوجدت لأجله وهو الثواب والعقاب.
وابتدئ بذكر العقاب لأن الخطاب جار مع منكري البعث الذين حظهم فيه هو التعذيب. ومفعولا فعلي المشيئة محذوفان جريا على غالب الاستعمال فيهما. والتقدير : من يشاء تعذيبه ومن يشاء رحمته. والفريقان معلومان من آيات الوعد والوعيد ؛ فأصحاب الوعد شاء الله رحمتهم وأصحاب الوعيد شاء تعذيبهم ، فمن الذين شاء تعذيبهم المشركون ومن الذين شاء رحمتهم المؤمنون ، والمقصود هنا هم الفريقان معا كما دل عليه الخطاب العام في قوله (وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ).
والقلب : الرجوع ، أي وإليه ترجعون.