المثل برزق الدواب ، وللمناسبة في قوله تعالى : (إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ) [العنكبوت : ٥٦] من توقع الذين يهاجرون من مكة أن لا يجدوا رزقا في البلاد التي يهاجرون إليها ، وهو أيضا مناسب لوقوعه عقب ذكر التوكل في قوله : (وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ) [العنكبوت : ٥٩] ، وفي الحديث : «لو توكلتم على الله حق توكّله لرزقتم كما ترزق الطير تغدو خماصا وتروح بطانا». ولعل ما في هذه الآية وما في الحديث مقصود به المؤمنون الأولون ؛ ضمن الله لهم رزقهم لتوكلهم عليه في تركهم أموالهم بمكة للهجرة إلى الله ورسوله. وتوكلهم هو حق التوكل ، أي أكمله وأحزمه فلا يضع نفسه في هذه المرتبة من لم يعمل عملهم.
وتقدم الكلام على (كَأَيِّنْ) عند قوله تعالى : وكأين من نبيء (قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ) في سورة آل عمران [١٤٦].
وقوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) خبر غير مقصود منه إفادة الحكم ، بل هو مستعمل مجازا مركبا في لازم معناه وهو الاستدلال على ضمان رزق المتوكلين من المؤمنين. وتمثيله للتقريب بضمان رزق الدوابّ الكثيرة التي تسير في الأرض لا تحمل رزقها ، وهي السوائم الوحشية ، والقرينة على هذا الاستعمال هو قوله : (اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ) الذي هو استئناف بياني لبيان وجه سوق قوله : (وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) ولذلك عطف (وَإِيَّاكُمْ) على ضمير (دَابَّةٍ). والمقصود : التمثيل في التيسير والإلهام للأسباب الموصلة وإن كانت وسائل الرزق مختلفة.
والحمل في قوله : (لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا) يجوز أن يكون مستعملا في حقيقته ، أي تسير غير حاملة رزقها لا كما تسير دواب القوافل حاملة رزقها ، وهو علفها فوق ظهورها بل تسير تأكل من نبات الأرض. ويجوز أن يستعمل مجازا في التكلف له ، مثل قول جرير :
حمّلت أمرا عظيما فاصطبرت له
أي لا تتكلف لرزقها. وهذا حال معظم الدواب عدا النملة والفأرة ، قيل وبعض الطير كالعقعق.
وتقديم المسند إليه على الخبر الفعلي في قوله : (اللهُ يَرْزُقُها) دون أن يقول : يرزقها الله ، ليفيد بالتقديم معنى الاختصاص ، أي الله يرزقها لا غيره ، فلما ذا تعبدون أصناما ليس بيدها رزق.
وجملة : (وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) عطف على جملة : (اللهُ يَرْزُقُها وَإِيَّاكُمْ). فالمعنى :