كونها أوثانا فقد سبق في قوله (إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثاناً) [العنكبوت : ١٧] أي ما اتخذتم أوثانا إلا لأجل مودّة بعضكم بعضا. ووجه الحصر أنه لم تبق لهم شبهة في عبادة الأوثان بعد مشاهدة دلالة صدق الرسول الذي جاء بإبطالها فتمحض أن يكون سبب بقائهم على عبادة الأوثان هو مودة بعضهم بعضا الداعية لإباءة المخالفة. والمودة : المحبة والإلف. ويتعين أن يكون ضمير (بَيْنِكُمْ) شاملا للأوثان.
والمودة : المحبة. فهؤلاء القوم يحب بعضهم بعضا فلا يخالفه وإن لاح له أنه على ضلال ، ويحبون الأوثان فلا يتركون عبادتها وإن ظهرت لبعضهم دلالة بطلان إلهيتها قال تعالى (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ) [البقرة : ١٦٥].
قال الفخر : أي مودة بين الأوثان وعبدتها فإن من غلبت عليه اللذات الجسمية لا يلتفت إلى اللذات العقلية كالمجنون إذا احتاج إلى قضاء حاجة من أكل أو شرب أو إراقة ماء وهو بين مجمع من الأكابر لا يلتفت إلى اللذة العقلية من الحياء وحسن السيرة بل يحصّل ما فيه لذة جسمه. فهم كانوا قليلي العقول فغلبت عليهم اللذات الجسمية فلم يتسع عقلهم لمعبود غير جسماني ورأوا تلك الأصنام مزينة بألوان وجواهر فأحبوها.
وفعل (اتَّخَذْتُمْ) مراد به الاستمرار والبقاء على اتخاذها بعد وضوح حجة بطلان استحقاقها العبادة.
وقرأ نافع وابن عامر وأبو بكر عن عاصم وأبو جعفر وخلف (مَوَدَّةَ) منصوبا منونا بدون إضافة ، و (بَيْنِكُمْ) منصوبا على الظرفية. وقرأ حمزة وحفص عن عاصم وروح عن يعقوب (مَوَدَّةَ) منصوبا غير منون بل مضافا إلى (بَيْنِكُمْ) ، و (بَيْنِكُمْ) مجرور أو هو من إضافة المظروف إلى الظرف. وقرأه ابن كثير وأبو عمرو والكسائي ورويس عن يعقوب مرفوعا مضافا على أن تكون (ما) في (إِنَّمَا) موصولة وحقها أن تكتب مفصولة ، و (مَوَدَّةَ) خبر (إن) تكون كتابة (إِنَّمَا) متصلة من قبيل الرسم غير القياسي فيكون الإخبار عنها بأنها مودة إخبارا مجازيا عقليا باعتبار أن الاتخاذ سبب عن المودة. ولما في المجاز من المبالغة كان فيه تأكيد للخبر بعد تأكيده ب (إن) فيقوم التأكيدان مقام الحصر إذ ليس الحصر إلا تأكيدا على تأكيد كما قال السكاكي ، أي لأنه بمنزلة إعادة الخبر حيث يثبت ثم يؤكد بنفي ما عداه.
والخبر مستعمل في غير إفادة الحكم بل في التنبيه على الخطأ بقرينة قوله عقبه (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً). ونظيره جملة صلة الموصول في