والمعنى : إنه يعلم السر وأخفى من السرّ في الأحوال التي يجهر فيها القائل بالقول لإسماع مخاطبه ، أي فهو لا يحتاج إلى الجهر لأنه يعلم السر وأخفى. وهذا أسلوب متبع عند البلغاء شائع في كلامهم بأساليب كثيرة. وذلك في كل شرط لا يقصد به التعليق بل يقصد التحقيق كقول أبي كبير الهذيلي :
فأتت به حوش الفؤاد مبطّنا |
|
سهدا إذا ما نام ليل الهوجل |
أي سهدا في كلّ وقت حين ينام غيره ممن هو هوجل. وقول بشامة بن حزن النهشلي:
إذا الكماة تنحّوا أن يصيبهم |
|
حدّ الظبات وصلناها بأيدينا |
وقول إبراهيم بن كنيف النبهاني :
فإن تكن الأيام جالت صروفها |
|
ببؤسى ونعمى والحوادث تفعل |
فما ليّنت منا قناة صليبة |
|
وما ذللتنا للّتي ليس تجمل |
وقول القطامي :
فمن تكن الحضارة أعجبته |
|
فأيّ رجال بادية ترانا |
فالخطاب في قوله (وَإِنْ تَجْهَرْ) يجوز أن يكون خطابا للنبي صلىاللهعليهوسلم وهو يعم غيره. ويجوز أن يكون لغير معيّن ليعم كلّ مخاطب.
واختير في إثبات سعة علم الله تعالى خصوص علمه بالمسموعات لأنّ السر أخفى الأشياء عن علم الناس في العادة. ولمّا جاء القرآن مذكرا بعلم الله تعالى توجهت أنظار المشركين إلى معرفة مدى علم الله تعالى وتجادلوا في ذلك في مجامعهم. وفي «صحيح البخاري» عن عبد الله بن مسعود قال : اجتمع عند البيت ثقفيان وقرشي أو قرشيان وثقفي كثيرة شحم بطونهم قليلة فقه قلوبهم فقال أحدهم : أترون أنّ الله يسمع ما نقول؟ قال الآخر : يسمع إن جهرنا ولا يسمع إن أخفينا! وقال الآخر : إن كان يسمع إذا جهرنا (أي وهو بعيد عنا) فإنه يسمع إذا أخفينا. فأنزل الله تعالى : (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) [فصلت : ٢٢]. وقد كثر في القرآن أنّ الله يعلم ما يسرّ الناس وما يعلنون ولا أحسب هذه الآية إلا ناظرة إلى مثل ما نظرت الآية الآنفة الذكر. وقال تعالى : (أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ