كانت الآيات السابقة جارية على حكاية تكذيب المشركين نبوءة محمد صلىاللهعليهوسلم وإنكارهم أنه مرسل من عند الله وأن القرآن وحي الله إليه ، ابتداء من قوله تعالى : (وَإِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ) [سورة النحل : ٢٤] ، وردّ مزاعمهم الباطلة بالأدلّة القارعة لهم متخلّلا بما أدمج في أثنائه من معان أخرى تتعلّق بذلك ، فعاد هنا إلى إبطال شبهتهم في إنكار نبوءته من أنه بشر لا يليق بأن يكون سفيرا بين الله والناس ، إبطالا بقياس التّمثيل بالرّسل الأسبقين الذين لا تنكر قريش رسالتهم مثل نوح وإبراهيم ـ عليهماالسلام ـ. وهذا ينظر إلى قوله في أول السورة (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) [سورة النحل : ١].
وقد غيّر أسلوب نظم الكلام هنا بتوجيه الخطاب إلى النبي صلىاللهعليهوسلم بعد أن كان جاريا على أسلوب الغيبة ابتداء من قوله تعالى : (فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ) [سورة النحل : ٢٢] ، وقوله تعالى (وَقالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا) [سورة النحل : ٣٥] الآية ، تأنيسا للنبي ـ عليه الصلاة والسلام ـ لأن فيما مضى من الكلام آنفا حكاية تكذيبهم إيّاه تصريحا وتعريضا ، فأقبل الله على الرسول صلىاللهعليهوسلم بالخطاب لما في هذا الكلام من تنويه منزلته بأنه في منزلة الرسل الأولين ـ عليهم الصلاة والسلام ـ.
وفي هذا الخطاب تعريض بالمشركين ، ولذلك التفت إلى خطابهم بقوله تعالى : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ).
وصيغة القصر لقلب اعتقاد المشركين وقولهم : (أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً) [سورة الإسراء : ٩٤] ، فقصر الإرسال على التعلّق برجال موصوفين بأنهم يوحى إليهم.
ثم أشهد على المشركين بشواهد الأمم الماضية وأقبل عليهم بالخطاب توبيخا لهم لأن التوبيخ يناسبه الخطاب لكونه أوقع في نفس الموبّخ ، فاحتجّ عليهم بقوله : (فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) إلخ. فهذا احتجاج بأهل الأديان السابقين أهل الكتب اليهود والنصارى والصابئة.
و (الذِّكْرِ) : كتاب الشريعة. وقد تقدم عند قوله تعالى : (وَقالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ) في أول سورة الحجر [٦].
وفي قوله تعالى : (إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ) إيماء إلى أنهم يعلمون ذلك ولكنهم قصدوا المكابرة والتمويه لتضليل الدهماء ، فلذلك جيء في الشرط بحرف (إِنْ) التي ترد في