و (اسْتَحَبُّوا) مبالغة في (أحبوا) مثل استأخر واستكان. وضمن (استحبّوا) معنى (فضّلوا) فعدي بحرف (على) ، أي لأنهم قدّموا نفع الدنيا على نفع الآخرة ، لأنهم قد استقر في قلوبهم أحقّية الإسلام وما رجعوا عنه إلا خوف الفتنة أو رغبة في رفاهية العيش ، فيكون كفرهم أشدّ من كفر المستصحبين للكفر من قبل البعثة.
(وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) سبب ثان للغضب والعذاب ، أي وبأن الله حرمهم الهداية فهم موافونه على الكفر. وقد تقدم تفسير ذلك عند قوله تعالى : (إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ لا يَهْدِيهِمُ اللهُ) [سورة النحل : ١٠٤].
وهو تذييل لما في صيغة (الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) من العموم الشامل للمتحدّث عنهم وغيرهم ، فليس ذلك إظهارا في مقام الإضمار ولكنه عموم بعد خصوص.
وإقحام لفظ (قوم) للدّلالة على أن من كان هذا شأنهم فقد عرفوا به وتمكّن منهم وصار سجيّة حتى كأنهم يجمعهم هذا الوصف.
وقد تقدّم أن جريان وصف أو خبر على لفظ (قوم) يؤذن بأنه من مقوّمات قوميتهم كما في قوله تعالى : (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) في سورة البقرة [١٦٤] ، وقوله تعالى : (وَما تُغْنِي الْآياتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ) في سورة يونس [١٠١].
[١٠٨ ، ١٠٩] (أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (١٠٨) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٠٩))
جملة مبيّنة لجملة (وَأَنَّ اللهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ) [سورة النحل : ١٠٧] بأن حرمانهم الهداية بحرمانهم الانتفاع بوسائلها : من النظر الصادق في دلائل الوحدانية ، ومن الوعي لدعوة الرسول صلىاللهعليهوسلم والقرآن المنزّل عليه ، ومن ثبات القلب على حفظ ما داخله من الإيمان ، حيث انسلخوا منه بعد أن تلبّسوا به.
وافتتاح الجملة باسم الإشارة لتمييزهم أكمل تمييز تبيينا لمعنى الصّلة المتقدمة ، وهي اتصافهم بالارتداد إلى الكفر بعد الإيمان بالقول والاعتقاد.
وأخبر عن اسم الإشارة بالموصول لما فيه من الإيماء إلى وجه بناء الحكم المبين بهذه الجملة. وهو مضمون جملة (فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللهِ وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ) [النحل : ١٠٦].